الليل ومحطة القذافي
حين يخلو بك الليل قد لا تجد ما تفعله إلا أن تعبث بمؤشر الراديو، وفي الظلام لا يرى المؤشر طريقه، وقد يقف حيث لا يريد، فلم يكن غريبًا أن أجد محطة القذافي تطل من الراديو.
عجيب أمر هذا القذافي؛ فهو ديكتاتور كأوضح ما تكون صورة الديكتاتور، يستأثر بالحكم وحده بلا نصيح ولا مشير، ويقذف الرعب في قلوب الأحرار من بني وطنه، وهو بحكمه المتشنِّج يُرغِم أهل الرأي والكفاءة أن يتركوا البلاد إلى غير رجعة، وهو لا يسكت عنهم في البلاد التي لجئوا إليها، يخاف أن يكشفوا من أمره ما يريد أن يستره، فيتعقَّبهم بقابض الأرواح والأموال، ويدبِّر مع القتلة المحترفين مؤامراته في اغتيالٍ للزعماء الذين يكرمون أنفسهم عن إطلاق الشعارات الكاذبة، ورفع اللافتات الخادعة، والذين لا يبرح بهم الشوق العارم إلى الزعامة العربية.
ولا شكَّ أن المال الذي يجري بين يدَيه يجعله يتصوَّر أنه بماله لا بد له أن يكون زعيم العرب أجمعين، فأمثاله من الزعماء الشغوفين بحب العظمة لا يفكرون في خير بلادهم وإنما يفكرون في أمجادهم الشخصية، ولتذهب بلادهم إلى الجحيم.
وينسى هؤلاء أن المال الذي يدمرون هو مال بلادهم وليس مالهم هم، وإن هذا المال يجب أن يُستثمَر ليعود على بلادهم بالتقدُّم والازدهار.
ينسون هذا جميعه، أو يقصدون أن ينسوه ليذكروا شيئًا واحدًا هو أن يوسعوا رقعة زعامتهم المزعومة، مهما يحل ببلادهم من دمار.
وفي سبيل هذا تُسفَك الدماء وتنهار الدول، وتُستشرى الفتن وتُحطَّم الوحدة، ويُهدَم الكيان العربي الذي الْتأمَ شملُه وارتأبَ صدعُه في حرب رمضان.
ويزداد القذافي غضبًا حين ينتصر الزعماء الآخرون بالعمل لا بالألفاظ، وبالحرب لا بالهتاف، وبالدم لا بالصراخ.
ولذلك فمصر تنال من أدبه واهتمامه أوفى نصيب، فهي أشد الدول إثارة لمكنون صدره لا لشيء إلا لأنها انتصرت.
كان يجب عليها أن تنهزم حتى يرضى القذافي وأعوانه والمتحدثون بآماله وأمواله، والراكبون حصانه بعد أن نفقَتْ من تحتهم الأحصنة الأخرى، فهم يعجزون أن يسيروا في زحام الناس إلا بِخَيل الآخَرين، فإن عزت الخيل فلا بأس بالحمير يتوكئون عليها ويهتفون بنهيقها، وقديمًا قال الحكيم العربي «الذليل بغير قيد متقيد، كالكلب إذا لم يسُدْ بحث عن سيد».
الخبرة والإدارة
صديقي رجل عالم تخرَّج في كلية العلوم، وكان فيها من النابهين، فأبى أن يقفَ به العلم عند شهادة التخرُّج، فأخذ سمته إلى إنجلترا وظلَّ بها حتى حصل على الدكتوراه في صناعة الأقمشة، وعاد إلى القاهرة.
إلى هنا وإخالكم ستكملون أنتم القصة وتقولون أي جديد فيما ستروي؟ لا بد أنه عاد ليجد نفسه مُعيَّنًا بمصنع للسيارات، أو في الإدارة القانونية لإحدى المصالح الحكومية أو الشركات.
والعجيب أنني سأخلف ظنكم، فإن صاحبي قد عاد ووجد مكانًا في شركة من شركات النسيج، وعُيِّن خبيرًا فنيًّا فيما تخصَّص فيه، وقد شاء الحظ أن يقف إلى جانبه مرة أخرى فوجد رئيس الشركة زميلًا له رافقه في المدرسة الثانوية، ثم انشعبت بهم الطرق فدرس صاحبي في كلية العلوم ودرس زميله في كلية الآداب قسم تاريخ.
طبعًا اندهش صاحبي حين وجد شركة النسيج تضع على رأسها مُتخرِّجًا في كلية الآداب قسم تاريخ، فهو فيما تعلَّم في القاهرة أو إنجلترا لم يدرس أن هناك صلة ما بين التاريخ وصناعة الأقمشة، ويقول: حتى إذا كان هناك تاريخ لصناعة النسيج، فأنا أعتقد أنه ليس ضمن برنامج كلية الآداب قسم التاريخ، فما أعتقد أن قسم التاريخ يُدرِّس تاريخ الصناعات وإنما يدرس تاريخ الدول، المهم أن فرحتي بوجود زميلي جعلتني أتغاضى عن هذا التناقض، وفرحتي بعملي جعلتني أنصرف إليه بكل خبرتي.
بدأت عملي وإذا بصديقي ورئيسي يريد أن يتدخل في أدق خصائص عملي، ودهشت أول الأمر.
نعم هو أنيق، وهو لا شك ذو خبرة واسعة في اختيار لون القماش الذي يُفصِّل منه حُلته، واختيار لون القميص الذي يتماشى مع هذه الحُلة، ثم هو ذو خبرة فائقة في اختيار الكرافتة التي تواكب الحُلة والقميص جميعًا، ولكنه من المؤكد لا يستطيع أن يعرف ممَّ صُنعت الحلة أو القميص أو الكرافتة.
ولا تقل لي أي عجيبة أن يتدخل رئيس في أعمال شركته، فهو يعلم كما نعلم — وإن ظن أننا لا نعلم — أنه وصل إلى منصبه هذا بوسائل بعيدة كلَّ البعد عن إتقان صناعة النسيج، وهو يعلم — ويظننا لا نعلم — أنه عُيِّن أول ما عُيِّن بهذه الشركة لأسباب لا تتصل مطلقًا بخبرته في النسيج، وإن كانت وثيقة الصلة بخبرات أخرى يستطيع كثير من الناس أن يتقنوها ويعف كثير آخرون أن يتخذوها وسيلة في الحياة.
فصديقي خبير من أكبر خبراء فن النفاق، وهو في نفاقه يستغني تمامًا عن الحياء، ولم يكن عجيبًا أن يجد آذانًا تصغي لنفاقه؛ لأن هذه الآذان نفسها كانت مُعيَّنة في مناصب وصلت إليها بخبرة النفاق وامتهان الكرامة، ولا صلة لها بإتقان العمل أو الخبرة فيه.
وأرى في عينَيك سؤالًا: وأي عجيبة فيما تروي؟ … نعم أنا أحس أنك تسخر مني في نفسك قائلًا: لقد غاب الفتى فترة خارج البلاد وعاد إليها لا يدري من أمرها أمرًا، هوِّن عليك ولا تعجل بالتذاكي والتحليل.
كل هذا الذي رويتُ ليس عجيبًا، ولكن كان من المنتظر أن يعرف صديقي حقيقة خبرته ويترك الأمور تسير في شركته بخبرة الآخَرين وذكائه هو، فلا يتعرض لما يفهم حتى لا ينكشف أمام أهل الخبرة، وهو يتمشى تمامًا مع بعض الذكاء الذي يجب أن يتوفر عند المنافقين.
وأحسَّ رئيسي ما يدور في نفسي من سخرية بجهله، فزاد على جهله التعالي والتعاظُم مُصِرًّا أن يُذكِّرني دائمًا أنه رئيسي وأنني مرءوس، فسكرتيرته تمنعني من الدخول، وحين أحتال على ذلك وأطلبه بالتليفون تأبى أن توصلني به، مدعية أنه مشغول بوفد أو اجتماع، أو بما شئت من هذه الحجج التي لا تتقن السكرتيرات غيرها مع الابتسامة الإكليشيه الباردة، فإن رَجَوْتها أن يطلبني حين يفرغ من وفده أو اجتماعه أو ما شاءت أن تختلقه له من معاذير، وعدت في أدب مصطنع ثم لا طلب، والعمل يحتاج إلى التشاور ولكن كرامة العالم تحول دون ذلك.
وأنا في حيرة.
وانصرف صاحبي بعد أن ألقى إليَّ بِحَيْرته، وتسألني أنت أيها القارئ ما اسم الشركة وما اسم الرئيس، لا إله إلا الله، أتريدني أن أصرِّح لك بكلِّ شيءٍ، ألا تعرف الأدب الرمزي أيها القارئ، لا شك أنك تعرفه فقد مرنت عليه سنوات طوالًا، وما عليك لو أنك وضعت كلامي هذا في إطار الأدب الرمزي، فإنك بذلك تستطيع أن تُطبِّقه على من شئت!