التعليم مسئولية الدولة والثقافة مسئولية الفرد
الأهرام – العدد ٣٢٦٦٢
١٤ مايو ١٩٧٦
كان لي قريب شاعر هو المرحوم توفيق عوضي أباظة، ولعله من أرَقِّ مَن عرفتُ من الشعراء، أذكر له شعرًا كثيرًا، فهو يقول مثلًا لصديق له يذاكره أيام أنس عاشاها معًا:
وقد أُهدِيَ إليه مرةً عمامة، فهو يقول لمَن أهداها له:
وكان قريبي هذا فلاحًا يعمل بالفأس، فهو يرسل برقية إلى أبي يقول فيها:
قريبي هذا لم يدخل أيَّ مدرسة، وإنما عَلَّم نفسه ثم ثقَّف نفسه بنفسه، وكان خطه جميلًا ولكنه كان بطيئًا في الكتابة بشكل ملحوظ، لأن يده أُصيبَت بكسر في بواكير طفولته، ولكن هذا البطء في الكتابة لم يمنعه أن ينقل ديوان المتنبي جميعًا؛ لأنه لا يقوى على شرائه، لقد كان مُولَعًا بالشعر فلم يقف شيء في طريقه.
وأخونا الأستاذ أمين يوسف غراب لم يختلف إلى مدرسة قط، وإنما عَلَّم نفسه، وقرأ قراءة واسعة في القصص العربي والأجنبي المترجم، حتى استطاع أن يصنع هذا الاسم الذي حقَّقه واستطاع أن يترك بصمات على القصة القصيرة في مصر.
وإذا ألقينا نظرنا إلى أدباء العالم القدامى منهم والمحدثين، وجدنا أن الغالبية الكاثرة منهم لم تتلقَّ من التعليم أكثر مما تلقَّاه رفاق جيلهم، ولكنهم هم ثقَّفوا أنفسهم واستطاعوا أن يكونوا عمالقة في فنونهم وآدابهم.
فالواقع أن الثقافة مسئولية الفرد وليست مسئولية الدولة، فعلى الدولة يقع عبء التعليم، ولكن التثقيف واجب الراغب فيه، وهو حين يريد ذلك لا يقف شيء في سبيله.
تستطيع الدولة أن تقرِّب مناهل الثقافة للراغبين، ولكن الفرد وحده هو مَن يُثقِّف نفسه، وعليه أن يسعى إلى الثقافة في مظانِّها جميعًا.
وليس الأمر بعسير، فحتى الفقير المُعدِم يستطيع أن يختلف إلى المكتبات العامة المصرية وغير المصرية، ويصيب من الثقافة المتاحة له ما يطيب له أن يصيب.
والدعوى بأن المكتبات ليست كاملة لا تصلح اعتذارًا له، فإنه لن يقرأ جميع ما في المكتبة حتى يتبين أوجُه النقص فيها.
ولكن هذا الحديث لا ينفي مسئولية الدولة نفيًا تامًّا.
فأنا أذكر أننا حين كنا طلبة في المدارس الثانوية كانت مكتبات المدارس حافلة بالكتب، وأذكر أنني قرأت من مكتبة المدرسة تيمور جميعه، وبعض كتب توفيق الحكيم التي كانت نافذة من السوق، وغير هذين، فقد كانت كتب جميع الأدباء الكبار في المكتبة، بل كان بها أيضًا الكثير من كتب النشء الحديث في ذلك الوقت، وكانت كتب التراث جميعًا في مكتبات المدارس، وأذكر مثلًا أنني قرأت العمدة لابن رشيق من مكتبة المدرسة، وقرأت منها أيضًا كتب المنفلوطي، وأنا لا أستطيع أن أتصوَّر أن المدارس اليوم تخلو تمامًا من المكتبات، وأن الميزانية المدرجة لها لشراء كتب تُستنفَد في أشياء أخرى لا شك أنها أقل أهمية من إتاحة الثقافة للطلبة، وهكذا أصبح من الطبيعي أن يعرف الطلبة كُتَّابهم من خلال أعمالهم في السينما والتليفزيون والراديو، دون أن يقرءوا هذه الأعمال في كتبها الأصلية.