حديث إلى مولانا الإمام الأكبر
الأهرام – العدد ٣٢٦٧٣
٢٥ مايو سنة ١٩٧٦
من مفكرة ثروت أباظة
أنا من الكثيرين الذين يكنون للإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود كلَّ إجلال وإعجاب وتقدير، فهو رجل فيه كبرياء العلماء وتواضعهم، ينظر إلى الدنيا مستصغرًا، وينظر إلى وظيفته في الحياة مكبرًا، وهو عفُّ الضمير واليد واللسان، عالِم واسع العلم تتيح له ثقافاته المتعددة أن تكون نظرته شاملة عميقة، وهو لا شك من المعالم الإسلامية التي تشرف مصر في جميع محافل العالم، ولهذا جميعه أتيح لنفسي أن ألقي بالمشورة في ساحته فيما يتصل بفيلم محمد رسول الله الذي منع الأزهر عرضه، وقد كنت أتمنى أن يشاهده مولانا الإمام الأكبر ليُدلي برأيه بناءً على المشاهدة، ففكرة عرض فيلم إسلامي ليست ممنوعة في ذاتها، فقد ظهرت قبل اليوم أفلام أخرى لا تختلف في مضمونها عن هذا الفيلم، وإن يفضلها في الإخراج وروعته، ظهرت أفلام «ظهور الإسلام» و«فجر الإسلام» و«الشيماء أخت الرسول» وجميعها ظهرت بموافقة من الأزهر، كما أن الأزهر وافق لي على فيلم كلفتني به مؤسسة السينما، وإن كانت لم تنتجه بعد بعنوان «قلوب في السماء» … وهو فيلم إسلامي، وظهر أيضًا فيلم بأكمله عن «خالد بن الوليد» وآخَر عن «بلال مؤذن الرسول» وهما من الصحابة وكانت القاعدة التي يطبقها الأزهر ألا يظهر أحد من العشرة المبشرين بالجنة.
ومثل هذه الأفلام تتيح للشباب أن يعرف تاريخ دينه من الوسيلة الإعلامية التي يقصد إليها، وقد كانت هناك مفاوضة معي أن أشترك مع كتَّاب هذا الفيلم، ثم انقطعت هذه المفاوضة، وإني أشهد الله والحق أنني ما كنت لأستطيع أن أضيف أو أعدل مشهدًا أو كلمة من مشاهد الفيلم أو حواره.
وإني أرى الأعداء يتربصون بديننا من داخل الوطن، ويلبسون عباءة الإسلام ويمسكون خنجره، ثم يوجهون عدوانهم إلى الدين والوطن … وأنا رجل مؤمن عميق الإيمان لم يختلج في نفسي شك إلا الذي يؤدي كلَّ الاطمئنان إلى قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، ولكن هذا لا يمنعنا أن نرد كيد الكائدين ومكر الماكرين.
وهم في كيدهم يحاولون أن يجعلوا ديننا السمح الذي أُمرنا أن نوغل فيه برفق — يبدو دينا عسرًا عنيفًا يتمثَّل أمام الذين لا يعرفونه وسيلة تضييق وأخذ بالخناق، فينهار اقتصادنا وتتحطم آمالنا في الانتعاش المالي، فإن المذهب الذي يلحدون إليه لا يلتقط أنفاسه إلا من العفن، ولا يتفرع وينمو إلا في الدمار، ولا تنبت جذوره إلا في الأرض الخراب.
وبعدُ يا مولانا الإمام، فإن أخشى ما أخشاه أعداء يتخفون في ثوب الأصدقاء، ولكنني في نفس الوقت مطمئن إلى صدق نظرتك وجلاء بصيرتك، وقد ارتضيناك لديننا إمامًا، وشأننا وإياك في هذا الدين أن تأمر فنأتمر، وتنهى فننتهي، وتسمح فنترخص، وأنت بما ارتضيناك له جدير.
من العاملين وإليهم …
جاءني خطاب من أحد العمال يقول فيه: «إنني من خلال ملاحظتي، ومن خلال استعمالي لوسائل النقل العام، لاحظت أن بعض العاملين بالمؤسسة يتعاملون مع الجمهور باستهتار شديد، فمثلًا تُقبِل السيارة على محطتها وهي غير مزدحمة، ولكن السائق في الكثير من المرات يتوقف في منتصف الطريق والعربة شديدة الازدحام ليشرب كوب شاي أو عصير قصب، رغم وجود هذه الأشياء بنهاية الخط، ومثل هذه الأشياء تجعل الأزمة تبدو وكأن ليس لها حل على الإطلاق، حتى لو زيدت السيارات، وأُصلِحَت الطرق … فإن العيب الأساسي هم العاملون بمؤسسة النقل العام، بل إن تصرفاتهم هذه تضغط على أعصاب الجمهور وتستفزه إلى درجة اليأس …»
وقد أحببت أن أنقل الخطاب الذي جاء إليَّ بعباراته، فكلنا نعلم أن البلاد تمر بأزمة طاحنة، وكلنا نعرف أن السيارات العامة غير كافية وأن التليفونات غير صالحة، وأن الخدمات العامة جميعها ناقصة لدرجة مثيرة، ولكن هذا جميعه يهون إذا لم يتسرب اليأس إلى قلوبنا، وإني أذكر أنني كنت أتحدث إلى وزير سابق قبل أن يخرج من الوزارة، وقلت له في أثناء الحديث عن شأنٍ من الشئون العامة إن هذا الأمر لا بد أن يُصلَح، فقال: «نصلح إيه ولا ايه». والواقع أن الكلمة صدمتني من وزير مسئول، وأذكر أنني قلت إن كل سفر طويل يبدأ بخطوة … والواقع أنني لا أرى الخطوة أبدًا، بل أحيانًا أراها إلى الوراء، تستطيع الأيام أن تدمِّر التليفونات والكهرباء والطرق والمواصلات، لكن ويل لنا وللأيام إن هي دمرت نفوسنا، إننا أشبه بمَن يدخل بيتًا قائم الجدران راسيَ الأسس، ولكن الأثاث بداخله جميعه حطام، ولا بد لنا أن نبدأ برفع الحطام لنضع الأثاث الجديد، فإنه لا أمل لنا يُرجى إذ ظللنا نبكي الأثاث المطحون أو إذا هالنا الأمر وتولانا اليأس، فلا سبيل لنا إلى تجديده أبدًا.
وكم أكره هذا الكلام وما أكتبه، فإن النصائح الموجهة إلى الجماعات كلمات ضائعة فكل إنسان يعرفها، وترديدها ثقيل على نفس الكاتب والقارئ جميعًا، ولكن نحتاج إليها لنصل إلى ما نريد، فإنني أوجِّه هذا الكلام إلى كل مسئول، والمسئولون أقل عددًا من العاملين بطبيعة الأمر، وإن هؤلاء المسئولين إذا لم يلجئوا إلى القواعد العامة التي تؤكدها التشريعات السماوية، والقوانين الوضعية، فلا أمل لنا ولا لهم، لا بد من العقاب والثواب، ولا بد أن يكون العقاب في أيام محنتنا هذه شديدًا رادعًا، وإننا لنعلم أن عمر بن الخطاب شدَّد العقوبة على الذين يخفون الطعام في عام الرمادة وهي سنة القحط الشديد الذي ألمَّ بالناس في أثناء حكمه.
وقد سُمي عام الرمادة؛ لأن وجوه الناس أصبحت في لون الرماد من شدة الجوع، وقد استطاع عمر أن ينجو بالناس من الأزمة دون أن تُلحِق أذى بنفوسهم، وإن ألحقت بأجسامهم الجوع والهزال وبوجوههم لون الرماد.
ونحن هنا نستقبل ما نحن فيه بنوع من اليأس اللامبالي … ولكن هذا اليأس هو الذي يجعلنا لا نتحطم في داخلنا، ولكن إذا ألمَّ بنا اليأس إلمامًا يجعلنا لا نُقبِل على إصلاح ما بنا، فعلى مستقبلنا العفاء.
إن أول بوادر الأمل أن نطبق قانون الثواب والعقاب … وأن يعم هذا القانون جميع مرافق حياتنا، وأنا غير يائس … فمنذ قريب روى لي صديق كريم أن خطابًا جاءه من مهندس ريٍّ في بلدته يطلب إليه أن يرفع ماسورة تروي حديقته منذ زمن طويل، وذهب الصديق إلى وكيل الوزارة المختص فوجده رجلًا غاية في الكياسة والأدب ولطف الحديث، واستمع إلى شكواه واطَّلع على الخطاب وطلب المهندس الذي صدر الخطاب من إدارته، وبكل هدوء قال له: يُجرى تحقيق فوري مع المهندس الذي أرسل هذا الخطاب لأني أشم فيه رائحة أرفضها!
أنا في انتظار التحقيق بعد يومَين.
إذن، فهناك رؤساء يعرفون أن في توقيع العقوبة على المخطئ إنصافًا للناس جميعًا، وإنصافًا للعاملين الذين يؤدون واجبهم، وإرضاءً لوجه الله.
بغير توقيع العقوبة لا أمل في إصلاح، وإن انهمرت على أرض مصر كل وسائل الخدمات الحضارية، وإن رئيسًا لا يوقع العقوبة يسيء إلى مصر قدر ما يسيء العدو، وهو أشد على مستقبل مصر خطرًا من كل عدو يتهددها أو يتآمر عليها.
ويل للإنسان من نفسه
في بعض الأحيان يسلط القدر الإنسان على نفسه، فيكون هو شر عدو يلاقيه، وشر أنواع العداء أن يعتقد الإنسان أنه قمة رفيعة باذخة، بينما لا يظن الناس به هذا الظن، حينئذٍ هو في دوار مخيف آخذ؛ لأن الحقيقة دائمًا واحدة، ولكنها عنده مزدوجة، هو يراها من ناحية، والناس جميعًا يرونها من ناحية أخرى.
هو يرى أن كلَّ تكريم أقل مما يستحق، والناس ترى أن كلَّ تكريم له أكثر مما يستحق … حينئذ يُصاب هذا المسكين بنوع من الترفُّع يقضي على البقية الباقية له عند الناس، فإن كان كاتبًا كتب ما لا يفهمه الناس؛ لأن الناس في رأيه غوغاء وسائمة، وعليهم هم أن يفهموا ما يكتبه وليس عليه أن يكتب ما يفهمون.
وإن كان تاجرًا نظر إلى الزبائن في تكبُّر وترفُّع، فهم عنه هاربون، وهم من بضاعته نافرون، وإن كان يبيع لهم أنسام الحياة.
وهكذا سيكون أمره إن مررتَ به على كل مناحي العمل في الحياة، وهو شر ما يكون مع زوجته وأولاده.
فإن كانت زوجته ذكية وحاولت أن تُرضي غروره تعذَّر عليها هذا واستحال؛ لأنها مهما تبذل له من إرضاءٍ لغروره فلن يرضى، فهو فوق كل تكريم وأرفع من كل تعظيم، وحسب زوجته الله ونعم الوكيل.
أما مع أولاده فالمصيبة أدهى وأمَرُّ …
فإن الأولاد في هذه الأيام لا يحبون أن يصدقوا أن آباءهم قمم، كما كان أبناء الجيل الماضي ينظرون إلى آبائهم، فحين يرى الأبناء أباهم منتفخًا كالديك الرومي ولا يجدون ما يبرر هذا الانتفاخ — إن أمكن وجود مبرر لغروره عامة — فإن الأبناء تصاب بنوع من الاحتقار لآبائهم، وويل لأب يحتقره أبناؤه.
وعلى كل حال، فإن عقاب هذا النوع من الناس يكمن في الخُلق الذي يتخلقون به، فهم في صراع دائم بين واقعَين: واقع يتوهمونه وواقع يراه الناس، وبين هذَين الواقعَين يعيش هؤلاء في حريق، خفَّف الله عنهم ومنحهم على بلواهم الصبر إنه قريب مجيب.