حيرة مع مليم ناقص
الأهرام – العدد ٣٢٦٨٠
١ يونيو سنة ١٩٧٦
من مفكرة ثروت أباظة
كانت المدارس تبدأ قبل أن يجمع الفلاحون القطن، فكان أبي يرسلنا إلى القاهرة، ويبقى هو في القرية ليشرف على جمع القطن، وكانت مدبرة منزلنا سيدة كبيرة السن، وكان زوجها صديقًا لأبي، فحين مات عنها عاشت هي معنا ترعى أمري أنا وإخوتي، وكانت مصاريف المنزل ومصاريف أيدينا في يدها، وبطبيعة الحال فرتكتُ أنا مصروفي في لحظات، وأصبحتُ يا مولاي كما خلقتني، وجاءني صديقي إحسان عفيفي، وهو اليوم الدكتور إحسان عفيفي، وقال إن فيلمًا جديدًا ظهر للوريل وهاردي ومعروض في سينما متروبول، وعملت الحسبة وتبيَّنت أنني أريد خمسة قروش لأذهب إلى السينما وأركب الترام ذهابًا وإيابًا، فتذكرة السينما صالة درجة أولى ثلاثة قروش ونصف القرش، والترام ستة مليمات ذهابًا ومثلها إيابًا، ويبقى معي ثلاثة مليمات، ذهبتُ إلى أم عبده وطلبتُ منها القروش الخمسة، وطبعًا سألتني فيمَ تريدها؟ فقلت لها أشتري كتابًا — وكانت بعض الكتب في ذلك الحين تُباع بخمسة قروش — وتظاهرَتْ أم عبده أنها صدَّقت ونفحَتني القروش الخمسة!
بكرنا في يوم الجمعة أنا وإحسان ذاهبَين إلى السينما، وركبنا ترام ٣٣ إلى العتبة، ودفع إحسان لي تذكرة الترام، وحين حاولت أن أحتجَّ قال ادفع أنت لي عند عودتنا، فابتلعت احتجاجي، كنت يومذاك في الابتدائية بمدرسة العباسية، وكان إحسان بالسنة الأولى الثانوية بمدرسة فاروق الأول الثانوية، وهكذا كنت لا أعرف أحدًا من أساتذته.
وقفنا عند شبَّاك التذاكر، فرأى أستاذًا له مع آنسة يقفان عند شبَّاك البلكون، فطار عقله وهتف بي في جنون فرحان: أستاذ الإنجليزي معه واحدة، ويقطعان بلكون، لا بد أن نقطع بلكون معهما.
– تقطع معهما؟!
– نعم.
– كيف؟
– كذا.
– بكم تذكرة البلكون؟
– بأربعة قروش ونصف.
– وكيف أرجع؟ تذكرة الترام بستة مليمات، ولن يبقى معي إلا قرش تعريفة.
– ولا يهمك أن أقطع لك تذكرة الترام.
كانت تلك هي المرة الأولى في حياتي التي أعرف فيها القلق!
قطعنا تذكرة البلكون، وظللت طول الفيلم والهواجس تنهش عقلي، وأحاول أن أردها بضآلة الفرق بين ما معي وما أحتاج إليه من أجل تذكرة الترام.
لم أتمتع بالفيلم، مع أنه كان من أحسن أفلام لوريل وهاردي، وانتهى الفيلم وأُضيئَت الأنوار والتفت إلى إحسان، ليس هناك إحسان، امَّحى، ألغاه الوجود، أصبح كأنه لم يولد، لا إحسان على الإطلاق.
وقفتُ بباب السينما حتى أغلقوا الأبواب ولا إحسان!
ماذا أفعل؟
الأتوبيس بقرش تعريفة، ولكنني ساكن جديد بحي العباسية ولا أعرف إلى بيتي طريقًا إلا من محطة الترام، أما أين ينتهي بي الأتوبيس وكيف أذهب إلى بيتي، فلا أعرف، مشيت إلى شارع فؤاد لأسأل عن محطة الأتوبيس فوجدتها.
هل الأتوبيس الذي يقف هنا يذهب إلى شارع فاروق؟
– لا، ولكن ترام ٣٣ هو الذي يذهب، ومن محطة الترام هذه تستطيع أن تركبه.
المصيبة أن محطة الترام كانت أمام محطة الأتوبيس مباشرة في شارع فؤاد نفسه، ووجدت نفسي أقول في بلاهة.
– ولكني أريد أن أركب الأتوبيس.
ونظر إليَّ محدثي يبحث عن لهجة أجنبية في كلامي فلا يجد، فليس من المعقول أن يفعل هذا إلا سائح، ولستُ به، لا كلامي ولا منظري يدلان على ذلك، طبعًا لم يخطر له على بال أن معي تعريفة وليس معي ستة مليمات، فالمليم لا يستطيع أن يكون فرقًا بأي حال، وعلى أية صورة.
وجدت على محطة الأتوبيس صديقًا لي في مدرسة المنيرة، ولكن ماذا أقول له، هاتِ مليمًا؟ أهذا معقول؟ تواريت عنه حتى لا يراني وجاء الأتوبيس وركبت وسألني الكمساري: أين تريد أن تذهب؟
– العباسية.
– أي عباسية؟
– العباسية القريبة من شارع الجنزوري.
– تحتاج إلى قرش صاغ.
مصيبة لم تقدر على المليم فكيف تقدر على التعريفة كاملًا.
– اذهب بي إلى آخر محطة يوصل إليها هذا التعريفة.
وأدرك الركاب الأزمة، وللأسف لم يكن الأتوبيس مزدحِمًا، فكان كلامي يرن في أسماعهم جميعًا، والتفتوا إلى صبي يرتدي من الملابس ما يدل على أنه ميسور الحال وليس معه إلا تعريفة، أي شعب عظيم هذا، في لحظة واحدة سَرَت في الأتوبيس معانٍ كثيرة كلها رفيعة وشريفة وجميلة، فأنا عند الكبير منهم ابن، وعند الصغير أخ، وتسارعوا جميعًا إليَّ، منهم مَن يريد أن يدفع لي فآبى خجلًا شاكرًا، ومنهم مَن يريد أن يصحبني إلى البيت فيزداد خجلي، وأطلب إليهم في لعثمة أن يدلوني على طريق البيت فقط.
ويصل الأتوبيس عند شارع أحمد سعيد، ويأتي إليَّ الكمساري أن أنزل هنا، وينزل معي بعض الركاب، ويقومون جميعًا بإرشادي إلى الطريق.
وأسير وأصل إلى شارع الجنزوري، وألتقي في منتصفه بإحسان عفيفي، عاد إلى الحياة من جديد بعد أن حُلَّت المشكلة، كانت على وجهه ابتسامة معتذِرة لا تُغني شيئًا.
– أين أنت؟
واحتجزتُ دمعي حتى لا يراه، وذهبت إلى البيت وتلقاني أم عبده.
– أنا أعرف أن القروش الخمسة التي أخذتها لم تكن لكتاب، أنت ذهبت إلى السينما.
لم ينقصني إلا أم عبده أيضًا … النهاية، تُرى هل استفدت شيئًا من البحث عن المليم؟ لا أظن.
خطاب من البريد
كتب إليَّ أحمد يوسف سعد من الإسكندرية خطابًا على جانب كبير من الأهمية، فهو غاضب من أخبار متفرقة تظهر في الجرائد تنمُّ عن الفوضى، ويعطي مثلًا على ذلك أنه نشر في الأهرام منذ شهرين تقريبًا، أن كافوري حضر كمستثمر، وعرض توريد سيارات ثلاجة لنقل سمك بحيرة ناصر، ورفض المسئولون بحجة أنهم لا يعانون اختناقات في نقل أسماك بحيرة ناصر، ثم عاد الأهرام بعد مضي فترة لا تتجاوز شهرًا من نشر هذا الخبر فنشر أيضًا: تُجري الآن الجهات المسئولة البحث عن أسرع وسيلة لنقل سمك أسوان.
ولقد طلبت من قسم المعلومات في الأهرام أن يبحث عن هذين الخبرَين فلم يُوفَّق إلى ذلك، فلعل الأستاذ أحمد يوسف سعد يذكر لنا التاريخين حتى نتمكن من عرض هذه القصة التي أراها أنا غاية في الأهمية … وأعتقد أن كثيرًا من الشعب يرى ذلك معي.
حديث إلى الدكتور يوسف إدريس
شأني مع الدكتور يوسف إدريس عجيب؛ فما جلسنا معًا وقال آراء إلا اتفقتُ معه فيها، وما قرأت له شيئًا يعرض فيه آراءه إلا اختلفتُ معه.
أقرب مثَل على ذلك ما كتبه في مفكرته يوم الجمعة الماضي، لقد تناولَتِ المفكرة جميعها فيلم الكرنك وقصته، وقد شاء الدكتور أن يرفض رواية نجيب محفوظ الكرنك ويحتفي غاية الاحتفاء بفيلم الكرنك الذي ما زال وسيظل قصة نجيب محفوظ أيضًا، وقد عانيت من هذا بصورة أبشع، ومن كتَّاب بعينهم عندما ظهر فيلم شيء من الخوف عن روايتي شيء من الخوف أيضًا، ولكن ذلك تاريخ ماضٍ، وإن كان أخونا الدكتور يوسف يُجدِّده مع أستاذنا نجيب محفوظ، فهو يقول كقاعدة عامة: «لعل من أحسن مَن يتعرض لنقد القصص هو مَن يكتبها»، والقاعدة مقبولة بشرط واحد، هو ألا يفرض القصَّاص نفسه على القصَّاص الآخَر، فكل قصَّاص له طابِعُه، فإذا كتب عن قصَّاص آخَر فحتم عليه أن ينظر إلى طابع القصَّاص الذي يكتب عنه، ولونه واتجاهه الفني، غير فارِضٍ نفسَه عليه.
ويعود الدكتور يوسف ليقول: «حين صدرت — رواية الكرنك — وقرأتُها في حينها، وجدته شِبه ريبورتاج صحفي أكثر منها حياة داخلية روائية عميقة عوَّدَنا إياها نجيب محفوظ في معظم أعماله».
ولما كنت أكتب الرواية، وهي عملي الأساسي، فقد أصبحتُ لا أهتز في كثير أو قليل من كلمات الحياة الداخلية والعمق والمستوى والأبعاد والشكل، وغير ذلك من الألقاب التي أُلغِيَت من الناس وأُلصِقَت بالأعمال الفنية.
إنما الذي أعرفه، والذي لا شك أن الدكتور يوسف إدريس يعرفه كلَّ المعرفة، أن الكاتب إذا اختار الشخص الأول في سرد قصته أصبح حرًّا أن يضع على لسان هذا الشخص كلَّ ما يريد أن يقول في صراحة تامة لا رمز فيها ولا مواراة، وبغير خفوت أو مداورة فنية.
وقد كنا جميعًا نلجأ إلى الشخص الثالث حين كانت الحياة السياسية تفرض علينا الرمز، حتى جاءت الحرية، وأصبح الرمز سذاجة فنية تدعو إلى الضحك والسخرية.
فيمَ الرمز وقد أتاحت لك الحرية أن تقول ما تشاء؟
لقد كنا نرمز لأننا نخاف على أنفسنا، فلو كنا كذلك ما كتبنا، وإنما كنا نرمز لأننا نريد لكلامنا أن يرى النور ويقرأه الناس.
وهذا الكلام الذي يُقال لنجيب محفوظ عجيب، وهو الذي كتب ثرثرة فوق النيل وميرامار واللص والكلاب، ومجموعة القصص غير المعقولة، وغيرها كثير، وهو أستاذ الرواية المصرية.
أما النقاد الذين يشير إليهم الدكتور يوسف إدريس، فهو يعرف اتجاههم تمامًا وما تحولوا إليه من رفض لكل عمل يشير إلى هذه الفترة بالطريقة التي تناولتها الكرنك بها، وبعدُ، فالذي لا شك فيه أنه لولا رواية نجيب الخالدة الكرنك، ولولا نجيب الشامخ، لما وجد هذا المخرج البرعم الذي ما زال يفض غلاف الجدة عن نفسه.
وحديث إلى أستاذنا توفيق الحكيم
لقد جاء في كلمة أستاذنا الأسبوعية التي نُشرت السبت الماضي بعنوان مأساة العظماء، أن التاريخ يحاسب الزعيم، حتى ولو لم يكن مخطئًا، ولكن يا سيدي الأستاذ اسمح لي أن أقول إن الزعيم المفرد هو المخطئ دائمًا، وأن في الشاهد الذي تفضَّلت فسُقتَه الدليل على ذلك.
فقد قلت إن المخطئ في موقعة واترلو هو جوروشي وليس نابليون.
ولكن يا سيدي الأستاذ مَن الذي اختار جوروشي هذا؟ إن الذي اختاره هو نابليون، والذي يختار شخصًا لمهمة عليه وحده أن يتحمل مسئوليته، فالتاريخ إذن يا سيدي لم يظلم حين ألصق التهمة بنابليون، فإنه هو صاحبها وليس غيره.