حواديت وملحوظة

الأهرام – العدد ٣٢٧٠٨
٢٩ يونيو ١٩٧٦

الحَرُّ شديد شديد، والحديث الجاد ثقيل على المتحدث والمستمع معًا، فما عليَّ لو حكيتُ لك بضع حواديت، وما عليك لو أنك قرأت ما أكتبه لك للتسلية ولإزجاء الوقت.

هاتان حكايتان من صنع الحياة، ولعلك تريد أن تسأل: فلماذا لا تصوغهما في قصتَين وهذه بضاعتك؟

يبدو أني لا أجد فيهما شيئًا أستطيع أن أصوغ منه قصة، فالحياة قد صاغت كلًّا منهما ولم تترك لي مجالًا لاجتهاد.

ثم أنا أخشى إذا صغتهما أو صغت واحدة منهما أن تسألني بطريقتك المعهودة: «ماذا تريد أن تقول بقصتك» وأنت محق، فإنه لا بد لي أن أريد شيئًا من قصتي، أما الحياة فإنها تؤلف كما تشاء ولا يجرؤ أحد أن يسألها ماذا تريدين؟ فهي غير حريصة على إرضائك ولا على إرضاء أحد، وهي ليست ملزمة أن تقدِّم لك حكمتها عن كل قصة تؤلفها، فللحياة حكمتها ا لكلية الخالدة وليس يعنيها أن تكون لكل حكاية صغيرة لها حكمة قائمة بذاتها.

الحكاية الأولى: صداقة ساعات

عن صديقنا علي، كان منذ أيام في النادي، وتعرف هناك بصديق جديد هو خيري، وحدث بينهما هذا الشيء الذي يحدث كثيرًا بلا معنى ولا تبرير، فقد أحسَّ كلٌّ منهما أنه يعرف الآخَر منذ سنوات، وفي لحظات أصبحا صديقَين حميمَين.

– أين تسهر الليلة؟

– عند عصام.

– الله … أنا الآخَر مدعوٌّ عنده.

– نذهب معًا.

– لا بأس، أتركُ سيارتي هنا ونذهب معًا.

وذهبا وظلَّا رفيقَين طوال السهرة، وازدادت الصداقة بينهما قوة، حتى قارب موعد الرحيل فقالت ربة البيت: إلهام ستأتي الآن.

وقال خيري لعلي: أظن أنه حان موعد قيامنا.

وقال علي: مستحيل لا بد أن أبقى.

– لماذا؟

– لأرى إلهام هذه.

– أتعرفها؟

– دون أن …

– كيف؟

– إنها صديقة لصيقة لابن عمي.

– ماذا تقصد بصديقة لصيقة؟

– أي معنى تريد أن تفهمه.

– ولكنها متزوجة.

– وتريد أن تترك زوجها لتتزوج ابن عمي المجنون بها، والذي ينفق عليها عن جنون أيضًا.

– هل أنت واثق؟

– أقول لكم إنه ابن عمي.

ومرَّت صاحبة البيت بالصديقَين: علي، أريدك.

– وقام إليها وهمست: ماذا تقول لخيري عن إلهام؟

– حكايات.

– سمعتك تتكلم عن إلهام.

– من ضمن الحكايات.

– ماذا قلت له؟

– أروي له عن حكايتها مع شريف ابن عمي.

– نهارك أسود.

– لماذا؟

– لأنه هو زوجها وهما مختلفان في هذه الأيام.

– ماذا؟

– ما سمعت.

– أين باب الخروج؟

وهكذا لم تستغرق الصداقة الجديدة أكثر من ساعات في حياة الصديقَين، أي حكمة في هذا لا أدري؟ أستطيع طبعًا أن أستخرج لك بعض حِكَم سخيفة: لا تتحدث عن النساء إذا كنت لا تعرف من تتحدث إليه معرفة وثيقة، أو حكمة أخرى أكثر سخافة: لا تتعجل بالصداقة أو ما شئت، ولكن المؤكد أن الحياة لم تقصد إلى أي حكمة تريد أن تسمعها، أو أحاول أنا أن أفتعلها افتعالًا.

الحكاية الثانية: الزواج والقدر

لعلني لم أعرف في حياتي شخصًا أحبَّ زوجته قدر ما كان عبد الحميد يحب زوجته، فقد كان دائم الفخر بها والإكرام لها، وكان سعيدًا أنها تفصِّل له قمصانه، وأنها أيضًا تعاونه على العيش بالتدبير، وكان يرى فيها الجمال الذي لا يراه في أحد سواها … ولم يكن عبد الحميد ساذجًا ولا عبيطًا، وإنما مارس الحياة ومارسَتْه، وعرف فيما قبل الزواج كلَّ ما يعرفه الشباب قبل الزواج من لهو ومتعة، بل ولعله بالغ بعض الشيء في لهوه ومتعته، حتى إذا تزوج أصبح لا يعرف غير زوجته وعمله والصلاة والصوم والعبادة أعمق ما تكون العبادة.

وكنا حين نلتقي بعبد الحميد نصبح على ثقة أن الحديث لن ينقضي، أو يأتي بذكر زوجته مرتين أو ثلاثًا على الأقل، ولما كان يكبرنا في السن فقد كنا نخجل أن نعلِّق على حديثه هذا بغير ما يحب.

حتى كان يوم سمعنا فيه عجبًا، لم تكن زوج عبد الحميد أهلًا لهذا الحب وهذا الوفاء.

وقد اكتشف هو الحقيقة المروعة، ولكنه ظل ثابتًا كالطود واجدًا في صلاته وصيامه ملاذه الذي يلوذ به من النكبة النكباء التي تزلزل الجبال الشم.

كانت زوجته في ريعان العمر، ولم يكن هو يسبقها في العمر بسنوات كثيرة، فكان عدم وفائها لا تبرير له إلا أنها نوع من النساء لا يعرف كيف يكون وفيًّا، طلَّق زوجته، ومشت الحياة.

وعرفت سيدة فاضلة تصلح زوجة لعبد الحميد، إلا أنني أخشى أن أتدخل في مثل هذه الأمور؛ فإن الصِّلة بين الزوج وزوجه صِلة لا مثيل لها في الصِّلات، وأخشى أن تكثر بينهما المشاجرات فيلعنني كلٌّ منهما في كلِّ مشاجرة وأنا لا أحب أن أُلعَن بغير مناسبة.

إلا أنني استخرت الله وقلت أقوم بالتجربة.

عرضت الأمر على عبد الحميد فرحَّبَ، وعرضتُ الأمر على السيدة وأهلها، فقالوا لا بد للعريس أن يعلم أنها لا تُنجب، فقد تزوجَّتْ من قبلُ ولم تنجب.

سألته فقال: وأنا أيضًا تزوجت من قبلُ ولم أنجب، ولا حاجة بي إلى الإنجاب، وتزوجا، منذ خمسة وعشرين عامًا تزوجا.

وقبل أن ينقضي العام الأول جاءني عبد الحميد.

– لن تصدق.

– ماذا؟

– زوجتي.

– مالها؟

– حامل.

– غير معقول!

– تلك إرادة الله.

– أجاد أنت؟

– تلك إرادة الله.

ثم أنجبت فتاة أسمياها اسمًا حبيبًا إليَّ، وكأنهما أرادا أن يشيرا إلى أنهما يلعناني كثيرًا، والفتاة الآن في السنوات الأخيرة من الجامعة.

ولكن الحكاية لم تنتهِ بعدُ.

لم يمُرَّ على زواج عبد الحميد عام وبعض عام حتى جاءني.

– لن تصدق.

– ماذا؟

– زوجتي الأولى.

– مالها؟

– ماتت.

– كيف؟

– مسكينة … ماتت لأن زوجها رفض أن يأتي لها بطبيب!

– زوجها؟

– نعم، فقد تزوجت الفتى الذي كانت تعرفه.

– إذن؟

– مسكينة … يرحمها الله!

وانحدرت من عينه دمعتان؛ فهو وفيٌّ غاية الوفاء حتى لمَن لم يفِ له. في هذه الحكاية انقلبت الحياة إلى قصاص ميلودرامي، الحكمة عنده يقولها بصوت جهير حتى لا تحتاج مني إلى توضيح … ومع ذلك لو كنت أنا الذي ألَّفتُ هذه القصة لما نجوتُ منك، ولظللتَ تقول ما لهذا الكاتب أصبح ساذجًا لا يعرف حتى كيف يروي قصته في فنية أو بعض إتقانَ! لهذا تركتُ الحياة تُقدِّمها إليك، لم أتدخل أنا، وهل ترى أني أستطيع أن أتدخل؟

ليست حكاية وإنما ملحوظة

فاز الحزب الشيوعي الإيطالي بحوالي سبعين كرسيًّا في الانتخابات الجديدة، ولكن العجيبة أن الحزب الشيوعي نالَ هذه الكراسي لأنه قدَّم للناخبين برنامجًا ضد الشيوعية.

وعلى الذي يَعجب معي من هذه الملحوظة أن يرجع إلى الوعود التي قدَّمها الحزب الشيوعي إلى الناخبين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤