القانون هو الحياة والحرية
الأهرام – العدد ٣٢٧١٥
٦ يوليو ١٩٧٦
من القواعد القانونية الأساسية أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، ومعنى ذلك أن القانون وحده هو الذي يُنشئ العقوبات على الجرائم، وهذه العقوبات هي في الواقع التي تُحدِّد الأعمال المجرمة والتي لا يُجرِّمها المجتمع، وإذن فالنصوص وحدها هي التي تجعل الفعل جريمة أو غير جريمة.
والمجتمع بغير عقوبة مجتمع بلا قانون، والمجتمع بلا قانون فوضى، فتوقيع العقوبة وحده هو الذي ينقذ المجتمع ويجعله صالحًا أن يعاش.
ولا حياة بغير قانون، إذا اختفى القانون اندحر الاقتصاد وسقطت الحياة جميعًا.
وإننا نتكلم كلَّ يوم عن العقاب والثواب، ثم لا نرى إلا الثواب دون العقاب، نسمع عن السرقات ولكن المحاكم تتراخى في إصدار الأحكام، ولا جناح عليها ولا تثريب، فإن القضايا تثقل كاهلها وتضطر تحت أثقال القضايا أن تتأخر في نظر قضايا المال العام فيزداد اللصوص جرأة عليه، ويزداد الصمت صمتًا، والتستُّر تستُّرًا، لا بد أن تنشأ محاكم خاصة، ومن قضائنا نفسه لا من غيره، وتتفرغ هذه المحاكم لقضايا الأموال العامة، وأرجو أن تكون أحكامها محاطة بكل الظروف المشدَّدة والقانون لا يحتاج إلى تعديل.
فالعقوبة على السارق الذي كان مُؤتَمنًا على الشيء المسروق أشد بطبيعتها من العقوبة على من لم يكن مُؤتَمنًا عليه.
بهذه الأحكام سيرتدع المجرمون، وبشيء آخَر لعله أكثر أهمية، أن يحاسب مجلسُ الشعب كلَّ مَن يعرف عنه فسادًا، ولكن تُرى هل يستطيع أعضاء مجلس الشعب أن يُحاسَبوا على الفساد، أو على الأقل هل يستطيع الموظفون منهم أن يُحاسِبوا وزراءهم؟ فمن عجب ينبت صوت يقول إنه ليس من الحتم أن نأخذ بما تأخذ به الدساتير الأخرى من عدم السماح لعضو مجلس الشعب بالجمع بين الوظيفة وعضوية المجلس، ولو أنعمَ صاحب هذا الرأي النظر متجرِّدًا من كل الدوافع فيما عدا الحق الذي يعرفه ويحيد عنه، لوجد أننا لا ندعو هذه الدعوى لمجرِّد إجماع الدساتير عليها، وإنما لأن الموظَّف عند الوزير لا يستطيع مساءلة الوزير، والقوانين لا بد لها أن تراعي المشاعر البشرية الطبيعية.
أما القول بأن أعضاء مجلس الشعب سيلقون التشريد والهوان إذا هم لم يجمعوا بين عضوية المجلس وبين الوظيفة، فأمر يدعو إلى الدهشة، إن كان المقصود أنهم بعد انتهاء مدة عضويتهم سيلقون هذا التشريد وهذا الهوان، فما أيسر أن تهيئ الدولة لهم العودة إلى الوظائف التي كانوا يشغلونها مع العلاوات المستحقة أيضًا، أما إذا كان المقصود أن التشريد سيحيق بهم وهم أعضاء فهو أمر بعيد الاحتمال، فإن مُرتَّب عضو مجلس الشعب أصبح في ذاته حصانة ضد التشريد والهوان، وخاصة إذا نظرنا إلى التسهيلات العديدة التي يحصل عليها أعضاء مجلس الشعب على أنه لا حرج على الدولة أن ترفع مكافأة عضو مجلس الشعب إلى ضعفها أو ثلاثة أضعافها، بشرط ألا يجمع بين الوظيفة والعضوية، إن الجمع بينهما إلغاء تام للديمقراطية وعدم الجمع تثبيت لركن من أهم أركان الديمقراطية التي تقوم على محاسبة السلطة التشريعية للسلطة التنفيذية.
خطاب في البريد
سيدة لم تذكر اسمها، ولكني أقدِّم حالتها إلى وزير عُرف بين الناس بالعدل المطلق وبالإنسانية، وهو الفريق الجمسي.
إنها زوجة تزوَّجت زوجها وهو مُعفى من التجنيد واطمأنت بهما الحياة وأنجبا ثلاثة أطفال، ولكن بعد ثلاث عشرة سنة فوجئا بقانون ظهر وطُبِّق بأثر رجعي مؤداه أن يرتفع سن المطلوبين للجندية إلى الخامسة والثلاثين، وهكذا وجد الشاب الذي مضى على زواجه ثلاثة عشر عامًا نفسه مطلوبًا للجندية، ووجدَتِ الأسرة نفسها ضائعة كهباءة هائمة، وسارعت زوجته تكتب مأساتها إلى مجلس الشعب وأرسلت صورة من خطابها إليَّ.
والسيدة ذات كرامة، فهي لم تذكر اسمها أو اسم زوجها جاعلة من الأزمة التي تعانيها مشكلة عامة جديرة بالاهتمام، دون نظر إلى أسماء، وإني واثق أن الفريق الوزير سيجد حلًّا لهذه المشكلة التي لا شك أن كثيرًا من الأسر تعاني منها عناءً شديدًا.
رجال الفكر والتماثيل
يُعتبر رجال الفكر في جميع أنحاء العالم المصابيح التي سارت البشرية على هداها، وكلما زادت الحضارة في دولة زاد اعتزازها برجال الفكر والأدب فيها.
وما من دولة زُرتُها في أوروبا الشرقية أو الغربية إلا وجدتُ تماثيل الأدباء ورجال الفكر تُرَصِّع ميادينها، شهادة على أنها دولة ذات سَبْق في ميادين الفكر والفن.
البلد الوحيد الذي تتخفى فيه تماثيل رجال الأدب والفن وراء الجدران هي مصر، تماثيل قليلة ومستورة أيضًا، وكأنما نخجل أن بلادنا قد ولدتْ رفاعة رافع الطهطاوي، ومحمود سامي البارودي، وأحمد شوقي، وطه حسين، وسيد درويش وغيرهم ممَّن تركوا بصماتِ فنِّهم على الفن العربي جميعه.
وقد ذكَّرني ما كتبه القصَّاص الرائد يوسف جوهر في مفكرته يوم الأحد الماضي بهذا التقصير الذي نُصرُّ أن تكافئ به مصابيح حياتنا الفكرية والفنية، والذين على مشرق هداهم سار الأدب والفن في مصر وفي البلاد العربية جميعًا.
وفوجئتُ في مفكرة الأستاذ يوسف جوهر أن قاعدة تمثال ميدان التحرير خالية، وكأني لا أمرُّ في ميدان التحرير عشرات المرات في اليوم الواحد، ولكن الفراغ دائمًا لا يوحي بشيء … كانت القاعدة الخالية تتمثَّل لي وكأننا نبني تمثالًا للفراغ أو للإجداب أو للاشيء، وعندنا العمالقة والروَّادُّ والشموس.
وإنني أتقدم باقتراح أن نقيم على هذه القاعدة الخالية تمثالًا لآخِر مَن تركنا من الخالدين! وهو الدكتور طه حسين.
لن نخلد طه حسين بتمثال في ميدان التحرير، وإنما سنخلد العبقرية المصرية التي تخرَّج الأدب العربي الحديث على يدَيها.
بمثله تشرف مصر، ومثله في مصر ممَّن يستحقون التماثيل المُعلَنة كثيرون، علينا أن نجد لتماثيلهم الميادين في الأيام القادمة، وإنما المهم أن نبدأ.
لا تستوي الحسنة ولا السيئة
أمرَ السيد محافظ القاهرة ألا تسير لحوم الذبائح مكشوفة في الشوارع، وهو أمر جدير بأن يُهنَّأ عليه السيد المحافظ، والحديث عن بشاعة هذا المنظر ومجافاته للذوق يجعل الموضوع وكأنه يحتاج إلى نقاش، أو كأنما يختلف فيه رأي ورأي.
والقائمون بالعمل التنفيذي بشر يضيقون بالهجوم ويسعدون بالمديح، وكان من الطبيعي أن تؤيد الصحافة هذا العمل من السيد المحافظ، ومَن لا يريد أن يؤيد فلا جناح عليه إذا هو صمتَ، أما أن يتخذه بعض رسَّامي الكاريكاتير مادة للسخرية فهو أمر يدعو إلى الدهشة والألم في نفس الوقت.
لماذا تستوي الحسنات والسيئات، وكيف يُقبل هؤلاء البشر من القائمين على السلطة التنفيذية على أعمالهم إذا هم وجدوا أعمالهم جميعًا — الطيب منها وغير الطيب — محل نقد وسخرية؟
إني أهنئ السيد المحافظ على هذا الأمر الذي أصدره، وأتمنى لو زاد وأمَرَ أن تُغَطَّى عربات القمامة التي نفتح عليها عيوننا في الصباح فتُذكِّرنا بتأخُّرنا وتقدُّم العالم.
إن كان لا بد أن تكون القمامة في عربة صدئة يجرها حمار أكثر صدأ، فلا أقل من غطاء يذود عن العين والنفس والمشاعر ما تكره.
وبالمناسبة فهمتُ أنه لا سبيل إلى إلغاء عربات الكارو فجأةً دون تمهيد، لأن التموين يعتمد عليها، وفهمت أنه لا بد من عامٍ أو عامَين حتى يمكن إلغاؤها.
ولكن أليس من المستطاع أن تُحدَّد لها مواعيد سير أو مواعيد عدم سير، وهذه الدراجات غير البخارية التي تحمل فوقها سيارات نقل والتي تتسبب هي وأخواتها من عربات الكارو في اختناق المرور والناس جميعًا.
ويكفي أن أقول إنني أقطع الطريق من بيتنا إلى الأهرام في عشر دقائق ماشيًا وأقطعه في خمس وأربعين دقيقة بالسيارة، حتى نعرف فضل العربات الكارو وما يسمونها بالتريسكلات على أعصابنا، ولا حاجة بنا أن نقول أوقاتنا، فقد أصبح هذا الوقت سيفًا يقطعنا دائمًا ولا نملك أن نقطعه.