ويل للتاريخ من هؤلاء المؤرخين
الأهرام – العدد ٣٢٦٩٤
١٥ يوليو ١٩٧٦
في زميلة صباحية كتب الدكتور عبد العظيم رمضان مقالًا يقول فيه: إن ما نراه الآن من ابتذال وعنف وانحرافات، إنما تفرضه بقوة واقتدار أوضاعُ العلاقات الإنتاجية في المجتمع … وإننا لا نستطيع أن نغيِّر قيم المجتمع إلا بتغيير علاقاته الإنتاجية.
ثم راح يضرب المثَل على ذلك أن قيم الامتلاك للمال أو العقار، خلقَت مجتمع الجنس الجماعي وتبادُل الزوجات.
أما النظام الاشتراكي الذي تسوده علاقات الملكية العامة للشعب، فمن الطبيعي أن تختفي منه قيم الامتلاك لحد بعيد، وأن تختفي معها الأمراض الاجتماعية الناشئة عنها … ولا غرابة أن تختفي جرائم الجنس والرشوة والتلاعب بأقوات الشعب، وخلو الرجل، وتشتد القوانين في ذلك حتى تصل إلى الحكم بالإعدام …
أما بالنسبة للنظام الاقتصادي الإسلامي، حيث المال مال الله ولكل إنسان حق فيه وليس لأحد أن يستأثر (هكذا يقول المؤرخ الأمين) وتختفي منه بالتالي العلاقات الرأسمالية المستغلة، فمن الطبيعي أن يفرز قيمًا أخرى يتضمَّنه قانونه الأعظم وهو القرآن الكريم.
ويسوق الأستاذ الجليل رأيًا فريدًا أن مصادرة الأموال حق على كلِّ زيادة غير معقولة في الأموال، حتى ولو كانت لمجرد الشبهة كما فعل عمر مع سعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وأبي هريرة وعمرو بن العاص؛ إذ أخذ نصف أموالهم دون مقابل وضمَّها إلى بيت المال.
ثم يزداد الدكتور إيغالًا فيما ذهب إليه قائلًا بأن أصحاب الفضيلة في بلادنا يشنون غزوات دون كيشوتيه ضد الشيوعية غافلين — كما يرى — أن الشيوعية هي التي تحمل روح الإسلام وتعاليمه.
ذلك هو مُجمَل ما قال الأستاذ الدكتور المؤرخ، وأنا الآن حائر معه، بأي أسلوب أجيبه، هل آخذ كلامه مأخذ الجد وأفنِّده بما يعرفه، أم أضحك منه وأترك كلَّ مسلم وغير مسلم يشاركني في الضحك.
فبناء على رأي الأستاذ أصبح حتمًا علينا أن نُسميها روسيا الإسلامية لا روسيا السوفيتية، وحتمًا آخَر علينا أن نولي وجوهنا نحن المسلمين شطر الكرملين ليكون قبلتنا بدلًا من الكعبة التي يلتف حولها أولئك الذين يحاربون الشيوعية عن غفلة منهم بما تحمله تعاليم الكرملين من إسلام.
المجتمع الرأسمالي فاسد، وما شأن هذا بتعاليم الإسلام؟ ثم إننا نعرف فساده لأنه ينتقد نفسه حتى لنعرف كلَّ خافية من أمره، أما المجتمع الشيوعي فيُغلَق، ومَن يتنفس فيه بكلمة حق فمصيرُه الموت أو الطرد أو التشريد أو الهوان، ولو قلنا إن الكُتَّاب مثل يسترناك وسلجستير ينشدون الحرية كلَّ الحرية وأنهم ليسوا المقياس الذي يعتمد عليه، فماذا نحن قائلون عن ساخاروف أبي القنبلة الذرية الذي وصف المجتمع الروسي وصفًا أقلَّ ما يُقال فيه أنه يتنافى أو يتجافى مع وصف مؤرخنا المصري الصميم.
وهل صحيح أن غريزة الامتلاك مُحِيَت من النظام الاشتراكي، فماذا عن حمَّام السباحة المغطى ذي الماء الدافئ الذي كان يملكه خروشوف؟ وماذا عن رئيسهم الآخَر الذي يهوى جمع السيارات، وكأنها طوابع بريد؟ وماذا عن الامتيازات الطبقية التي ينعم بها أعضاء الحزب بصورة لا مثيل لها في أعتى الدول الرأسمالية.
وما حكاية عمر هذه؟ هل أنت مؤمن بها حقًّا أم هو تحطيم لكل شريف رفيع من مثلنا، إن ما طبقه عمر هو قانون: «من أين لك هذا؟» وطبَّقه على عماله وبالطريقة التي رأى عمر أنها عادلة، والتي لم يكن لها بديل في ذلك العهد، أما لو كانت الأموال تُصادَر لمجرَّد أنها زائدة لصادر عبد الرحمن بن عوف الذي ترك ذهبًا كان يُقسَّم بالفئوس ووزع على أولاده العشرة أو الأحد عشر — لا أذكر — فأصبحوا جميعًا أغنى أغنياء العرب ولم يصادرهم عمر، وأنت مؤرِّخ وتعرف خطبة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم …» وأنت مؤرخ ولا بد لك أن تكون قد قرأتَ وما بي حاجة أن أذكرك … َهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [سورة الزخرف: ٣٢] ادعُ إلى الشيوعية أيها الأستاذ ما شاءت لك أمانتك العلمية أن تدعو، ولكني أستحلفك — ولا أدري بماذا، ولنقل بربك ماركس وبنبيك لينين — أن تدع الإسلام وتبحث لك عن طريق إن كان هناك لك طريق.
وقبل أن أنهي حديثي هذا إليك، لي سؤال:
إن كان الإسلام حافلًا بتعاليم الشيوعية، ففيمَ أتعبَ ماركس نفسه، ومن بعده لينين؟ وفيمَ قتل ستالين أحد عشر مليونًا من الكادحين من الشعب الروسي ليثبت دعائم الشيوعية؟ ألم يكن ماركس قد درس الإسلام فيما درس من شرائع ليضع نظريته التي تنفي الفرد عن الحياة نفيًا تامًّا؟ وإن كان قد درسه ووجده — كما ترى — شيوعيًّا في روحه ومجتمعه، فلماذا احتاج إلى إنشاء نظرية جديدة؟ لماذا لم يدعُ إلى الإسلام فتُحَل المشكلة ونحقن الدماء؟ وعلى أية حال إن الوقت لم يفُتْ، يستطيع الأستاذ المؤرخ أن يدعو إلى مجتمع إسلامي ويترك المجتمعات الملحدة دون أن يحتاج إلى هذا التعسُّف في استخلاص النظريات وتحميل الوقائع التاريخية لما لم يخطر على بالٍ أنها ستحمله.
تحية إلى طالب أديب
جاءني خطاب من الطالب الأديب أحمد عبد المنعم القاضي، وكم أنا شاكر له أن أرسل هذا الخطاب، فإن مثل هذه اللغة وهذا الإلمام بالأدب العربي والثقافة عامة تجعل ظلام اليأس الذي يملأ نفوسنا ينعم بشعاع من الأمل أنْ بين الشباب مَن هو على وعيٍ حقيقيٍّ بأدبه وبدينه وبثقافة بلاده وثقافة عصره.
وإني أريد أن أهمس في أذن أديبنا الشاب، ما إليكَ قصدتُ حين قلت إن الشباب يحتاج إلى مَن يبسط لهم دينهم عن طريق العلم الذي يُقبِلون عليه، فلو كان الشباب جميعًا مثلك لوجدوا هم طريقهم دون تبسيط، إنما أنا أقصد تمامًا ذلك الشباب الذي جعل فيلمًا مثل «خلي بالك من زوزو» مستمرًّا في العرض لمدة تزيد على ١٣ شهرًا، ذلك الشباب الذي لا يعرف أن ابن النفيس — كما ذكرت — هو مكتشف الدورة الدموية، والذي لا يعرف أيضًا أنَّ ابن حيان هو أول الباحثين في الكيمياء الحديثة، والذي لا يعرف الصِّلة بين الكرسي وآية الكرسي.
فأنت أيها الأخ الأديب لا تُمثِّل جيلك، أستطيع أن أتبين هذا من معلوماتك ومن لغتك على السواء، ولعلك تتفق معي في الرأي إذا عرفتَ أن خطابك هو أول خطاب يصل إليَّ من طالب جامعي ليس فيه خطأ إملائي ولا خطأ نحوي، مما جعلني أقرأه عدة مرات فرحًا به، باعثًا في نفسي — كما قلت في أول حديثي — إليكَ شعاع أمل في ظلام يأس.
وكما كنت تريد أن تضحكني بأمثلتك دعني أضحكك بمثال من هذه الخطابات، فقد جاءني البريد منذ أيام بخطاب شديد اللهجة يهاجمني أنا ونجيب محفوظ ويوسف إدريس، ويقول إننا جميعًا نكتب ونظَرُنا إلى السينما، فهو لا يعجب بها، وأن هذا شأنه مع كتب نجيب ويوسف جميعًا، ثم هو يتساءل في جدية: أين أيها الأساتذة القصص البوليسية ولماذا لا تكتبونها لو أنكم حقًّا جادون؟
واللغة طبعًا من عندي، فلا شك أنك أدركتَ أنه لم يستطع أن يُقيم سطرًا واحدًا دون خطأ إملائي أو لغوي.
هذا الشباب الذي لا يعرف قيمة الرواية البوليسية في أدب الرواية هو يا أخي النموذج الذي أتحدث عنه، ومرةً أخرى أحييك.
لا بد للقانون أن يستقر
… قرأت خبرًا هذا الأسبوع أن هناك اتجاهًا جديدًا إلى تغيير قانون الجمارك بالنسبة للسيارات بعد أن تبيَّن للمسئولين أن القانون الحالي يُتيح فرصة لبعض الناس أن تشتري بغير سبب.
وقد يكون ما تبيَّن للمسئولين صحيحًا، ولكن لماذا لم يُقَدِّر المسئولون هذا حين وضعوا القانون بادئ ذي بدء، إن الشرط الأول في القانون أن يتمتَّع بالدوام والاستمرار، وكثرة تغيير القوانين معناها أننا نعيش في بلد بلا قانون على الإطلاق.
وإن بقاء القانون مع استغلال بعض الناس له خيرٌ ألف مرة من تغييره في كلِّ شهر مرة.
إن مثل هذه القوانين تُمثِّل اقتصاد البلاد والحالة القانونية فيها، ولا يمكن أن نتصور أموالًا تأتي إلينا وهي تشعر أنها قادمة إلى بلد لا يستقر فيها القانون على حال.
إن المشرِّعين عندنا يعرفون تمامًا معنى أن يتغيَّر القانون، ومهما يكن الضرر المتحقِّق من قانون ما، فإنه أقلَّ أثرًا من الاضطراب العام الذي يجعل المال الأجنبي مذعورًا، فهونا ما، فليس الأمر بهذا القدر من السهولة، إنه مستقبل شعب بأكمله، ولا بد أن يعي المسئولون الذين يغيرون القوانين أيَّ خطر يشيع من هذا التغيير الذي لا تبدو له نهاية.