سقوط الفعل الماضي
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: ٢١١٨
١٨ أكتوبر ١٩٧٥
في اللغة العربية فعلٌ يُسمَّى الفعل الماضي، يُطلق على ما تم فعلًا من أحداثٍ، فيُقال قرأتُ الدرس، أي إن فعل القراءة تم فعلًا ونفذ، وأصبح من الأحداث التي مضى عليها الزمن، واتخذ موقعه من التاريخ.
والملاحظ أن هذا الفعل اندثر تمامًا من بيانات الوزراء، بل وكاد يندثر معه الفعل المضارع أيضًا، فأنت لا تقرأ بيانًا يقول تم، وهو فعل ماضٍ، أو يتم، وهو فعل مضارع، إنما الفعل صاحب الحظوة الذي لا يخلو منه حديث لوزير أو بيان لمسئول، هو الفعل الذي يدل على الاستقبال، أي إن العمل سيتم في يوم من الأيام التي لم تطلع شمسها بعدُ، والتي لا يعرف أحدٌ متى تطلع، وهذا الفعل كريه للشعب، لا يحبه ولا يشتهي أن يسمعه؛ لأن فيه معنى الوعد، ومصر وشعبها عاشت على الوعود الزائفة أجيالًا طويلة، حتى أصبحت تكره الوعود وتكره تبعًا لها فعل المستقبل، فقد وعدها الإنجليز وأخلفوا لها الوعد سنوات طويلة من عمرها، ووعدها كلُّ رئيس وزراء، ووعدها كل مسئول، فكرهَتْ مصر الوعد!
أثار في نفسي هذا الحديثَ وعدٌ أخير طال به الأمد، وهو وعدٌ هيِّن التنفيذ ميسور التحقيق، ولكن حب فعل الاستقبال وكره الفعل الماضي، حال (فعل ماضٍ) ويحول (فعل مضارع) دون تنفيذه، يتصل هذا الوعد بشأن التليفونات عندنا؛ لأنهم يستطيعون بقوة سحرية خارقة — كالعادة — أن يجعلوا هذه التليفونات تنطق من حين إلى حين، وفي اعتقادي أنه لو اجتمع الشياطين ومجامع السحرة لعجزوا عن تحقيق هذه المعجزة، فإن القائمين بشأن التليفونات يعملون بأدوات يجب أن تُعدم منذ سنوات طويلة، فلو أن هذه الأدوات ذهبت إلى بلد حديث لراح أهل العلم فيها يدورون حولها كأعجوبة من عجائب التاريخ، ومع ذلك فهي تعمل عندنا، وقد أخبرني المهندس مقبل البدراوي أنه يحتاج إلى خمسين مليون جنيه، وهي في عرف الدول ليست مبلغًا مهولًا مخيفًا، والتليفونات ليست شيئًا تعود فائدته على أبناء مصر، فقد تعوَّد أبناء مصر أن يُصبروا أنفسهم على الشدائد، ولكن المهم الآن هو هذا الانفتاح الذي يقع بأجمعه في أفعال استقبال لا نهاية لها، لا يُعقل أن يأتي راغب في الانفتاح ويرفع السماعة ويجلس بجانبها ساعات حتى يصيبها الور، فالوقت عند هؤلاء ليس سلعة مُلقاة على الطريق، إنه يعني مالًا، والمال عندهم كميات ضخمة، ليسوا على استعداد أن يُضحوا بها في سبيل ور التليفون المصري.
تُرى هل أسمح لأمل هزيل أن يداعب نفسي، فيعلن وزير المالية أو وزير الخزانة بيانًا مُصدَّرًا بفعل (ماضٍ): تسلَّمَت مصلحة التليفونات مبلغ خمسين مليون جنيه لإحياء آلة قديمة عندنا كانت فيما مضى تصل الناس بعضهم ببعض، وأصبحت اليوم آنية لا تصلح حتى للزهور؟!