عاشق الليل
الأهرام – العدد ٣٢٧٢٩
٢٠ يوليو ١٩٧٦
من مفكرة ثروت أباظة
سبحان الخالق العظيم! جعل كلَّ فرد من الناس نمطًا مستقلًّا بذاته، له مشاعره الخاصة وشكله الخاص وأفكاره التي تتخلج في أعماق نفسه، لا يعرف أسرارها إلا الخالق سبحانه، ثم جعل لكل إنسان بصماته الخاصة التي لا يتماثل فيها اثنان في العالم، كأن هذه البصمة هي توقيعٌ لفنان انتهى من عمله الفني.
من هذا الشتات من الأفكار ومن المشاعر ومن التركيب الخِلْقي والخُلقي تتكوَّن الشعوب، ومن هذه الشعوب تتكون البشرية.
فكل نظرية لا تدخل في حسبانها أن للإنسان مشاعر ورغبات وآمال وآلام وعواطف تضطرب بين الحب الجارف بلا حدود، والكره القاتل لا يرده شيء، نظرية لم تُخلَق للإنسان، وقد تصدق على الآلة الصماء بلا مشاعر لها ولا آمال ولا آلام.
في قريتي أنماط الناس على كل صِنف ولون، ولكن بعض أشخاص لا يستطيع النظر أن يعبرهم بغير إنعام وتمعُّن.
عبد الحليم حسون: عرفتُه أولَ ما عرفتُه خفيرًا نظاميًّا في القرية، وكان عمدة القرية معجبًا به أشد الإعجاب؛ فهو أول مَن يتسلَّم سلاحه في صفار الشمس، وهو آخِر مَن يُسلِّمه بعد أن يصلي الفجر.
ولا يأتي جزء من الليل على عبد الحليم إلا وهو يقظ لا ينام، فعبد الحليم يحب الليل ولا يطيق أن يفلت منه لحظة دون أن يعيشها بأكملها، بأعماقها جميعًا، ويستمتع بكل ما في الليل، وهو يستمتع بالليل على أي صورة له، فهو يحبه أسود قاتم الظلمة معتمًا، وهو يحبه والنجوم على صدر سمائه، وهو يحبه والقمر يحيله إلى هذا اللون الأزرق الذي يشيع في النفوس، الحب للحب، والهوى للهوى، والشفافية الشاعرة الرقراقة، ويسعد بغلالة القمر نسجَتْها يد الفنان الأعظم، ويُلقي عبد الحليم نفسه في هذه الغلالة سعيدًا، لا يدري لسعادته سببًا ولا يريد أن يدري، وكأنما أدرك بحِسِّه البدائي الصادق أن التغلغل في أسباب السعادة يدمر السعادة، إنما هي لحظة إشراق تومض، فهو بها في نشوة ولا يعنيه من بعدُ من أين جاءت هذه الإشراقة، وكم ستمكث ومتى ستولي عنه؟ وإنما هو يلقي نفسه إليها، فالدنيا جميعًا هي لحظته تلك، وليكن بعد ذلك ما يكون.
وما عرفت في حياتي شخصًا يقدِّس الحرية مثلما يقدسها عبد الحليم.
أحبَّ وتزوَّج وأنجبَ بنتًا، وما إن جاءت البنت حتى تكشَّفت زوجة عبد الحليم على حقيقتها، لقد أرادت أن تفرض سيطرتها عليه، فلا يفلت إلا من يدها، ولا يخرج إلا بإذنها، ولا يصادق إلا بأمر منها.
واتخذ قراره الحاسم.
الوقت شتاء، ولكن لا يهمه، وهو يسهر الليل كلَّه في درك الخفر، وللجسم حقوق لا بد أن تُؤدَّى … فإذا خرج من بيته فإلى أين يأوي؟
لم يفكر، كان قد اتخذ قراره.
لم يعُد بعد ذلك إلى بيته، والتمس من حقلٍ شجرةً ونام، وأصبحت الشجرة بيته.
وحاولت الزوجة أن تسترده بكل الوسائل التي تعرفها المرأة فلم تفلح، فحاولت أن تسترده بالوسائل التي تعرفها القرية ففشلت.
– إن ما بيني وبينكِ ورقة الزواج، أستطيع أن أجعلها في أي لحظة ورقة الطلاق، وأنا لا أريد أن أفعل هذا من تلقاء نفسي من أجل بنتنا، لن أطلقكِ إلا إذا طلبتِ هذا.
– عُد وافعل ما تشاء.
– إن المرأة التي تحب أن تسيطر لا تصلح لي.
– قلت افعل ما تشاء.
– أنا لا أريد إلا أن أكون حرًّا.
– فكن حرًّا.
– لن أكون حرًّا إلا وأنا بعيد عنكِ …
– وبيتك؟
– ما دمتِ فيه فهو ليس بيتي.
– وأنا كيف أعيش؟
– هذا شأنك، ما دمتِ تعرفين كيف تسيطرين فلا بد أنكِ تعرفين كيف تعيشين.
– وبنتك؟!
– لن ينقص ابنتي شيء إلا أن أكون أنا موجودًا.
– أنت تعرف كم تحبك.
– أنا طول الليل في الدرك تستطيع أن تأتي إليَّ عندما تشاء، وهي تعرف كيف تجدني دائمًا.
– أليس هناك أمل؟
– أما أنا فأملي كله أن أكون حرًّا، وقد صرت حرًّا.
وهكذا اتخذ عبد الحليم قراره، ونفَّذه، ولم يُجْدِ معه حديثُ زوجته، ولا شفاعة أصدقائه، ولم تَجِد زوجته سبيلًا إلا أن تلجأ إلى العمدة تستعينه على زوجها.
– ارجع يا ولدي إلى زوجتك.
– وما دخل هذا في عملي يا حضرة العمدة؟
– إنني آمرك.
– سعادتك تستطيع أن تأمرني بما شئت فيما يتصل بعملي، أما ما يتصل بزوجتي فلا يأمرني أحد.
– حتى ولا أنا؟
– وما دخلك أنت يا حضرة العمدة فيما بين الزوج وزوجته.
– أنا عمدة البلد يا ولد … هل جُننت؟
– يا حضرة العمدة، أبقى الله عليك العمودية، ولكن هل تستطيع بالعمودية أن تجعلني أَقْبل زوجتي … وإذا كانت كريهة إليَّ؟ هل تستطيع أن تجعلها حبيبة يا حضرة العمدة؟ الله وحده هو الذي يملك القلوب … والصِّلة بين الزوج والزوجة لا يعرف أسرارها إلا الزوج والزوجة، إنها صِلة لا مثيل لها في العالم، ولا تكون بين اثنين آخَرَين أبدًا، فلا هي نفس الصلة بين الابن وأبيه، ولا هي الصلة بين الابن وأمه، ولا بين البنت وأمها … صلة عجيبة أنشأها سبحانه على نظام خاص فكيف تتصور أن تتدخل فيها بأوامرك يا حضرة العمدة؟
– الله … الله … الله … ما كل هذه الفصاحة؟!
– ولكني على حق.
– إذن فأنت مرفوت.
– سبحانه … لا يترك أحدًا جائعًا.
لم يكن المرتب يعني عبد الحليم … فهو يعرف أنه سيعيش، ولكنه حزين أنه حُرم من الليل … ولم يدُم حزنه طويلًا … لقد كنت أسهر لأني خفير، فماذا بي لو سهرت لأني حر، سيضحك مني الناس، ولكن ما شأن الناس بي؟ لقد رفَتَني العمدة لأعود إلى بيتي، ولكن ما الحرية إذا أنا لم أغتصبها اغتصابًا.
ومنذ ذلك اليوم وعبد الحليم لا ينام في البيت أبدًا، في الشتاء العاصف والريح تعوي، فيختلط صوتها مع صوت الذئاب، والمطر ينهمر فيدق الأرض وكأنه عديد من الحصى الغليظة، وطرقات القرية وحقولها لا يبدو فيها أنس أو وميض من نور، تجد عبد الحليم في العراء، كل ما فعله لنفسه ليتقي لذعة البرد كيس فارغ من أكياس القطن مُبطَّن بقشِّ الأرز يغمر عبد الحليم نفسه في داخله وينظر إلى الليل، فهو يحبه أيضًا حين يعصف وينهمر مطره وتعوي ذئابه ورياحه.
وتمر الأيام لتصبح سنوات، وتكبر ابنة عبد الحليم ويأتي لها مَن يريد الزواج بها، وتتزوج في بيت عبد الحليم مع زوجها حتى لا تترك أمها وحيدة.
وتمُرُّ أيام أخرى وتموت زوجة عبد الحليم.
وتقصد البنت إلى أبيها.
– أبي قد كبرت ولم تعُد تستطيع أن تظل على هذه الحال.
– وما هذه الحال؟
– تحتاج إلى لقمة طيبة، وهدمة نظيفة، ونومة هادئة.
– أما اللقمة فأنا كما تعلمين لا يُغريني الطعام، وأما الهدمة …
– أعرف … أعرف، إنك أنظف إنسان في القرية، ولكنك يا أبي أنت الذي تغسل جلبابك كلَّ ليلة.
– مَن يريد أن يكون حرًّا لا بد أن يكون نظيفًا.
– والنومة الهادئة.
– أتحسبين يا ابنتي أنني أنا في العراء لأني لا أجد بيتًا.
– أتحب أن تنام في العراء؟
– قولي لي … كيف أعيش منذ تركت الخدمة؟
– تؤدي الطلبات لأصدقائك في البلاد الأخرى وفي البندر مقابل أجر ضئيل.
– يكفي لقمتي وسيجارتي.
– وما شأن هذا بنومك في العراء؟
– هل أعدم سقفًا عند أصدقائي هؤلاء، إنما أريد أن أرى الليل وأقيم فيه، إنه يُخيَّل لي أن الليل نفسه لا ينام إلا إذا رآني أنام تحت سمائه … أنا يا ابنتي مخلص لأصدقائي كما تعرفين … الليل هو أحب أصدقائي إليَّ، وهو أيضًا أوفى الأصدقاء لي.