لبنان … دولة تنتحر!
الأهرام – العدد ٣٢٧٣٦
٢٧ يوليو ١٩٧٦
حين اغتصب أبناء صهيون أرض فلسطين العربية أنشئوا بذلك جريمة لم يعرفها العالَم منذ اغتصب أبناء أمريكا أرض الهنود الحمر، مع فارق كبير، كان الهنود الحمر آنذاك شعبًا متأخِّرًا عن ركب الحياة، واستطاع الوافدون من طريدي الشعوب وسفاحيها ولصوصها أن يأخذوا منهم أرضهم غصبًا وعنوة، ولكنهم مع ذلك لم يشردوهم في أقطار الأرض وسمحوا لهم بالبقاء، وإن كان بقاءً مُفزعًا أسقطوا فيه كرامتهم وامتهنوا إنسانيتهم.
أما اليهود فقد استلبوا الأرض العربية بعون من الدول الكبرى، وبالخداع وبالسلاح وبكل وسيلة بعيدة عن كل معنى من معاني الشرف أو الخلق.
وشُرد أبناء فلسطين في عرض الحياة وتكوَّن شعب بلا مأوى.
ولكن لماذا ننتظر من اليهود غير ذلك وهم أعداء للعرب منذ ظهور الإسلام، كانوا طوال تاريخهم الأسود عونًا على النبي ودينه، ثم حربًا على أتباع النبي ودينه.
والغدر من العدو أمر منطقي لا يدعو للدهشة.
وليس أمر الدول الكبرى بمختلِف عن أمر الصهاينة، فهم لم ينسوا عداءهم للعرب، وما زالت في نفوسهم منه غصة لا تنقضي أبد الدهر، لعلَّ الموقف الوحيد الذي يدعو إلى الدهشة هو تأييد دولة تلغي فكرة الدين من أساسها، ولكنها مع ذلك تقبل أن تقوم دولةٌ العمادُ الأول فيها والأخير هو الدين اليهودي.
ولهذا فقد كان عجيبًا أن تكون روسيا هي ثانية الدول التي تعترف بقيام دولة إسرائيل بعد أمريكا.
وعلى أية حال، فالغدر من العدو أمر طبيعي.
ولكن الأمر العجيب هو غدر الأخ بأخيه، واللبناني باللبناني، والعربي بالعربي.
كيف استطاعت نفوسهم أن تقبل هذا الإفناء لأهلهم وذويهم ودولتهم، مَن ينتقم مِنْ مَنْ؟ ومَن ينتقم لِمَنْ؟
هناك أيدٍ خَفية، وهي أيدٍ ثقيلة تُحرِّكها أكبر دولتَين في العصر الحديث، ولكن كيف استطاعت هاتان الدولتان أن تحرِّضا شعبًا أن ينتحر.
مَن يستطيع أن يتصوَّر أن تُخطِّط أمريكا لتمزيق لبنان، وتُقدِّم روسيا السلاح ليُنفَّذ به تخطيط أمريكا؟ الدولتان اللتان تقفان على طرفَي النقيض من العالَم تتفقان؟ ثم يتبلور اتفاقهما أولَ ما يتبلور على لبنان وشعب لبنان؟ ويدفعان الشعب السوري ليكون أداتهما معًا، وهما — لا شك — قد أغرياه أن يأخذ جزءًا من لبنان بدلًا من الجولان، ويستطيع بذلك زعماء سوريا أن يقيموا الأفراح ويطلقوا الحناجر بالخطب التي يقوم عليها حكمهم أنهم قد انتصروا وكسبوا لسوريا أرضًا جديدة، لعل الشعب ينسى أرضه القديمة.
ولعل الشعب يرضى، وهم يأملون ألا يفكر الشعب أن أرض لبنان لا يمكن أن تكون لسوريا، فالدولتان عربيتان، والإنسان لا يكسب شيئًا إذا نقل مبلغًا من المال من جيبه في اليمين إلى جيبه في الشمال، ولكن الأرض تكون كسبًا إذا استولينا عليها من عدو اغتصبها، كأرض سيناء التي استرجعناها، وكقناة السويس التي استردَّتْها الجيوش العربية.
لهفي على لبنان، يحيط به الظلم الفادح من الدولتَين الكبيرتَين، والطمع والجشع من الدولة الشقيقة، ولعب الأطفال ومجانين الزعامة ومخبولي الانقلابات … لهفي على لبنان!
بيوت كالعتيق
رحم الله شوقي حين قال في قصيدته الخالدة «مصائر الأيام» يصف معاهد الدراسة:
فالمفروض إذن أن يكون الجميع في رحاب المعاهد الدراسية سواسية، فلا يزهو طالب على طالب بثراء أبيه، ولا تدل طالبة على الأخرى بغنى ذويها.
ولكن ما تقيمه المعاهد من مساواة يهدمه شارع الشواربي ليذهب الفتيان والفتيات وقد ارتدَوْا وارتدين من الملابس أغلاها وأفخرها، ويكلف الأبناء والبنات آباءهم وآباءهن عنتًا من أمرهم، فكل شاب وكل فتاة خاصة لا يحب أو تحب أن يشعر بالمهانة عند المقارنة بالآخَرين والأخريات.
ومن الآباء، بل أغلب الآباء لا يستطيعون أن يدخلوا هذه المنافسة فبحسبهم أن يوفروا لأبنائهم وبناتهم ما يستر، وبحسبهم أن يوفروا لهم المأكل والمسكن والمواصلات والكتب والدروس الخصوصية، وهيهات لهذه الأشياء أن تتوفر إلا بالجهد والاقتراض وإراقة ماء الوجه وغير ذلك مما يضطر له الآباء اضطرارًا.
وحين يجد الأبناء والبنات أن الآباء لن يستطيعوا أن يواجهوا مطالبهم من الملبس الفاخر الذي يطاولون ويطاولن به الزملاء والزميلات يتولى الفتيان والفتيات الأمر.
ونسمع الكثير من القصص التي ينكسر لها القلب ونصبح كلنا شفقة على مصير الجيل الجديد الذي ينحرف، وما كلمة ينحرف إلا لفظة هزيلة ضامرة لا تمثل ما يتردى فيه الشباب من سرقات والفتيات من أعمال أخرى أعف عن ذكرها.
ماذا علينا لو وحَّدنا الزي في الجامعة، ولنجعل منه عدة نماذج تناسب مختلف الأشكال والأطوال والأحجام، لعلنا بهذا نحدُّ من الإسراف المخجل الذي يُضطَّر له الآباء ليُرضوا به غرور البنات والأبناء، ولعل توحيد الزي هذا يجعل فتاة في الجامعة تشعر أنها ذاهبة إلى معهد، وليس إلى حفلة راقصة أو حفلة تنكرية، فلا تجعل من وجهها خشبة رسام تنسبك عليها الألوان عمياء زاعقة، ولا تبالغ في تصفيف شعرها مما يكلف الآباء عنتًا آخَر هم في غنى عنه بما تلقيه عليهم الحياة من إعنات وجهد ومشقة.
عامل في قطاع خاص
دخلت إلى محل نظارات مصري شهير بالإسكندرية، وانتقيت علبة أحتاجها لنظارتي، وأعطيته خمسة جنيهات ليعطيني الباقي، ووضعت العلبة في جيبي، وفي انتظار الباقي سألت البائع الشاب عن نوعٍ آخَر من العلب، فقال إنه سيكون لديه في الغد، فقلت: إذن أنتظر إلى الغد.
– أمرك.
وأعطاني الجنيهات الخمسة وانصرفت.
وجلست أشرب قهوة في مقهى قريب من المحل، وبالصدفة المحضة وضعتُ يدي في جيبي، فإذا بي أجد العلبة.
وأدركت طبعًا أن الشاب البائع نسي أن يطلبها، فقمتُ مسرعًا إليه وفتحت باب المحل لتستقبلني ابتسامة عريضة على وجه الشاب البائع.
– وفيم أتعبت نفسك؟
– إذن فأنت تعرف أن العلبة معي.
– طبعًا.
– ولماذا لم تطلبها؟
– أترضى لي أن أذكرك بهذا؟
لقد فضل الشاب أن يسكت ولا يذكرني أنني وضعت العلبة في جيبي دون أن أدفع ثمنها حتى لا أشعر بالحرج.
هذا المحل من أنجح المحلات، وصاحبه شهير، وله زبائن كثيرون، ليس غريبًا أن ينجح لأنه يختار بائعه بهذه الكياسة وهذا الأدب.
أفكر جديًّا، لو كان هذا حصل مع محل للقطاع العام، أتراني كنت الآن أكتب هذه المفكرة؟ أم كنت سأكتب مفكرة أخرى عن القبض عليَّ وتسليمي للنيابة العامة بتهمة اختلاس علبة نظارة؟