فرصة كافية للقدر
الأهرام – العدد ٣٢٧٤٣
٣ أغسطس ١٩٧٦
لم يكن مجرد النجاح في بكالوريوس الهندسة هو كل ما يصبو إليه، فقد كان يعلم أن البعثة إلى إنجلترا في ذلك العام مقصورة على الأول فقط، فإن لم يكن هو الأول فمعنى ذلك أنه لن يذهب إلى هذه البعثة، ومعنى ذلك أن تنهار آماله كلها، وبقلب واجف عنيف الوجيب انتظرَ النتيجة وظهرت.
لم يكن الأول، وإنما كان ثاني دفعته.
لم يحس أنه نجح، لقد تساوى هذا النجاح الرائع بالنسبة إليه مع السقوط، فما كان يبغي أن يكون مجرد مهندس، إنما هو يريد من الحياة أن يكون دائمًا على قمتها.
وقد تمثَّلَت القمة عنده على شكل دكتوراه في الهندسة، واسم شامخ ضخم عملاق يمكنه أن يبني فلا يبني إلى الأبنية الشامخة العملاقة.
من أين له بهذا اليوم؟ والسبيل إلى البعثة مقطوع، وليس لدى أبيه أو ذويه وفرة من المال تتيح له ما تتيحه الحكومة للأول، وانهارت الحياة عنده وتصدَّع أمام ناظريه بنيان المستقبل.
كان شابًّا جميلًا، حسن السمت، بهي الطلعة، وكانت له قبل النتيجة ابتسامة عذبة تأمر من يراه أن يعجب به، فحين ذوَت منه هذه الابتسامة بقي له على رغم أنفه جمال الشباب وحسن السمت وبهاء الطلعة.
وتواثبت إلى أذنه همسة وشوشَه بها صديق لأبيه: هل جربَّتَ كل الوسائل؟
– وهل هناك وسائل؟ لا بد أن أكون الأول، أو لا بعثة.
– يا بني لكل هدف أبواب كثيرة.
– إلا البعثة.
– وفي مقدمة هذه الأهداف هذه البعثة.
– كيف يا عمي … كيف؟! بعثة قررت الوزارة أن تكون من الأول فقط نظرًا لظروف الحرب العالمية، وأنا لست الأول، من أين تأتي الأبواب الأخرى؟
– قل لي … مَن المشرف على البعثات؟
– فلان بك.
– هل أنت متأكد أنه فلان بك؟
– نعم.
– إنه صديقي.
– وماذا يستطيع أن يفعل؟
– قل لي.
– أقول لك.
– ألم تتخرج؟
– أهذا ما تريدني أن أقوله؟
– ألا ترغب في الزواج؟
– يا نهار أسود من الحبر … أي زواج يا عمي … أقول لك بعثة وتقول لي زواج.
– الزواج هو البعثة.
– ماذا؟
– ما سمعت.
– بعثة إلى أين؟
– إلى لندن طبعًا.
– أتزوج.
– فلان بك عنده بنت … غاية في الأدب ومتخرجة في كلية الآداب.
– آداب حقوق لا يهم … أراها.
– لماذا؟
– أليس معنى كلامك أنني سأتزوجها؟
– طبعًا.
– ألا يرى الإنسان عروسه؟
– عادة من الطبيعي أن يرى الإنسان عروسه ليعرف إن كانت جميلة أم قبيحة، توافقه أو لا توافقه.
– أنت تعرف إذن أنني لا بد أن أراها.
– نعم وأعرف أيضًا أنك تتزوج من أجل مسألة أخرى بالمرة.
– بمعنى.
– يعني لا لزوم أن تراها مطلقًا.
– عمياني؟!
– بالعكس، على السكين … أنت لا تتزوج زوجة تختارها بمحض إرادتك، أنت تتزوج بنت فلان بك لتذهب إلى البعثة، مقدمات ونتيجة، كل ما يهمك من أمرها أن تكون بنت فلان بك ولا شيء آخَر، وأنا أضمن لك أنها بنته، وسأكلمه على أساس أنك رأيتها فعلًا.
– توكل على الله.
– أنت متأكد؟
– تمامًا، لكن لا بد من احتياط بسيط.
– مثل ماذا؟
– مثل أن تُعرِّف فلان بك المقدمات والنتيجة.
– ترى ذلك ضروريًّا؟
– لا بد وإلا تزوجتُ ولم أذهب إلى البعثة، فبدلًا من أن نكحلها نعميها.
– ليس من المحتم أن يعرف المسألة بكل هذه الصراحة.
– هذا متروك للباقتك … إنما لا بد أن يعرف على كل حال.
وتم الزواج …
ولكن هل يترك القدر مسألة كهذه دون أن يتدخل بسخرية عنيفة. كانت الفتاة غير جميلة — وهذه حقيقة لم تكن تحتاج مني أن أذكرها، فلا شك أن كلَّ قارئ عرفها، ولقد رآها الفتى عاشق البعثة أشد قبحًا من حقيقتها، وليس في ذلك أيضًا شيء غريب، فإنها ستلازمه ليله ونهاره بل وفي العصر وفي المغرب أيضًا، ولكنه مع ذلك قبِلَها حبًّا في البعثة وإحياءً للمستقبل الذي انهار أمام عينَيه، وقد تمت الخطبة على أساس أنها سترافقه في البعثة وتدرس هي أيضًا في لندن، ولكن الأمر العجيب الذي تفضَّلَ القدر فتدخل به قبل أن يتم الزواج كان له أعظم الأثر في حياة المهندس العظيم.
كان يومًا في زيارة لخطيبته قبيل الزواج بأيام قلائل، فإذا فلان بك: مبروك يا باشمهندس.
– الله يبارك فيك يا عمي … خير.
كنت سأسعى سعيًا عنيفًا لأجعل البعثة من اثنين حتى تتمكن من الذهاب إلى لندن.
– وهل نجح المسعى؟
– لم أعد في حاجة إليه.
– لماذا … ماذا حدث؟
– اعتذر الأول عن عدم الذهاب فأصبحتَ أنت المرشح الوحيد للبعثة بفضل مجهودك وحدَه دون أي سعي مني أو من غيري.
خرج المهندس في ذلك اليوم وقد أصابه دوار متلاطم أخاذ … ماذا عليه لو كان انتظر … وماذا لو فسخ الخطبة الآن، تُلغى البعثة جميعًا، وما ذنب الفتاة، وما ذنب فلان بك؟
إنهما الآن زوجان، وأبناؤهما تخرجوا في الجامعة، ولكن الدكتور المهندس تعلَّم منذ ذلك اليوم أن يترك فرصةً كافية للقدر قبل أن يتخذ أي قرار.
كلمة إلى السيد وزير الحربية
كنت قد توجهت إلى السيد نائب رئيس الوزراء ووزير الحربية الفريق أول الجمسي بكلمة في مفكرة ٦ يوليه، أرجوه فيها أن ينظر بعين العدل للشباب الذي يُندب للخدمة بعد أن قارب الثلاثين وكوَّن حياته على أنه معفيٌّ من الخدمة، وكان هذا الرجاء يبعثه خطاب من سيدة ذات أبناء ثلاثة لم تقُل اسمها، ومنذ ذلك اليوم والخطابات تنهال على جريدة الأهرام تطلب مني أن أعيد تذكرة الوزير الإنسان، وإني على ثقة أن مثل هذا الأمر لا يحتاج إلى إعادة الكلام فيه، وعلى ثقة أيضًا أن الوزير الإنسان لن يألو جهدًا في سبيل تحقيق العدالة لهذه الأسر التي تبينت من كثرة الخطابات أنها كثيرة، وأنها تعاني أشد المعاناة من إبعاد عائلها عنها فترة التجنيد.