إنها باقية مع الخلود
الأهرام – العدد ٣٢٧٥٠
١٠ أغسطس ١٩٧٦
ركبت الأجيال سبعة آلاف عام، وأشعت حضارتها إلى التاريخ، ومشت بالبشرية خطواتها الأولى، كانت البشرية تتعثر في بقايا العصر الحجري، توشك أن تُجمِّدها آثار العصر الجليدي، وشقَّت مصر بهذه البشرية سدود الجهل، ونفَذت بالعالم إلى مشارف النور، وأخذت بيده إلى أبواب العلم، فعرف منها الفلك والطب والفلسفة والتوحيد والموسيقى والأدب، لكل هذا نحن المنشئون والبانون … حول نيلنا تخلجت أقدام الحضارة، ثم اشتدت ثم انتشرت إلى العالم أجمع، وأتاحت لشاعرنا شوقي أن يقول:
فحين زلزل التاريخ زلزالًا، وحين تسنمت حضارات أخرى قمم العالم … بقي المصري ابن العروق الضاربة في أغوار الزمن ثابتًا كالطود يمرُّ به الظلم والجور والإفلاس فيُخرِج آهته في ضحكة، ويضرب بأقدامه في أرض أجداده، ويبقى وينزل الظلم عن عنفوانه وينكسر الجور وتنقضي أزمان وتأتي أزمان … وتبقى مصر.
واليوم نشكو من النور والماء … ومن التليفون ومن المواصلات … ومن الغلاء والفقر … ويقولون لا تذكروا التاريخ وإنما انظروا إلى الحاضر … هراء … إننا بهذا التاريخ نعيش هذا الحاضر.
لو أن آلات النور ومواسير الماء هذه في بلد آخَر ما عملت على الإطلاق، ولو أن شبكات التليفون ووسائل المواصلات هذه في دولة أخرى لصمتت التليفونات جميعًا كأنها أحجار، ولألقي بهذه السيارات وزميلاتها من وسائل النقل إلى أقرب بحر تصل إليه أو تُحمل إليه، ولو أن هذا الغلاء مع هذا الفقر في بلد آخَر لانتحر الناس، لقد كنت في إيطاليا واشتريت قطعة الجاتوه بخمسة وسبعين قرشًا، وقطعة الشوكولاتة التي تشتري مثلها هنا بعشرة قروش بخمسة وسبعين قرشًا أيضًا، ولكنهم هناك يصيبون من الدخل ما يُمكِّنهم من شراء مثل هذه الأشياء بهذه الأثمان الباهظة، ومع ذلك فهم في أزمة طاحنة، وتُقدِّم لهم أمريكا بلايين من الدولارات.
إن القائمين عندنا على النور والماء وعلى التليفونات والمواصلات عباقرة، يندر أن يكون لهم مثيل في العالم … فما زلنا نغمز زرًّا فيضيء نورًا، وما زلنا بعد الجهد نسمع صوتًا في التليفون على الطرف الآخَر … ولكن هذه الآلات التي يمكنون بها لنا أن نرى في الليل ونخاطب الآخرين في التليفون، إنما هي آلات عفا عليها الزمان وأصبحت جزءًا من التاريخ، إن أكرمها مكرم وشاء أن يكون ذا وفاء، فعليه أن يضعها في متحف من متاحف القرن الماضي.
إن هؤلاء العباقرة الذين يشرفون في مصر على الماء والنور والكهرباء يستحقون كلَّ إجلال وتكريم، لقد انتهبت حربنا من أجل العرب أموالنا، قدَّمناها غارقة في دمائنا وفي آمال شبابنا، وفي ترمُّل الزوجات في نضرة شبابهن، وفي يتْم الأطفال في بواكير أعمارهم … وقدَّمنا معها هناءنا في بلادنا، لا تستقيم لنا وسائل الحياة الضرورية من ماء وكهرباء وتليفون ومواصلات، وبهذا الذي قدمنا ارتفع سعر البترول أضعافًا مضاعفة، وغرق أبناء الرمال في الماس، وأبناء البترول اليوم في نعيم لم تسمع به البشرية، وما كانت تشتهي أن تسمع … ومع كل هذا فمصر باقية، ولتصمت التليفونات فلا تتكلم، وليظلم النور فلا يضيء، وما بهم ونحن نضيء للعرب أجمعين عقولهم وطريقهم، ولينقطع ماء البيوت … إننا نستطيع أن نعيش بلا تليفون وبنور قلوبنا وبماء نيلنا … ونبقى.
إن مصر الحديثة التي أشعت النور إلى جميع البلاد العربية والتي ما زالت حتى اليوم وهي في محنتها تُعلِّم أبناء العرب في كل أنحاء العالم العربي ستبقى، وستثبت ركائزها في أركان التاريخ، وسواء عندنا شعر العالم العربي بواجبه نحونا أو لم يشعر، ستبقى مع الخلود ستبقى.
خطابان مع البريد
خطابان حملهما إليَّ البريد: أما أحدهما فقد أورثني الأسى والأسف والشعور بالذنب، فقد أحسستُ أننا نحن الذين نكتب بقسوة عن جهل الشباب وعدم معرفتهم بلغتهم، قوم نبتسر الأحكام ونتعجل الاتهام دون تقَصٍّ للأسباب التي تعجز الشباب، وتقف عقبةً دون بلوغهم إلى مناهل أدبهم ومصادره وموارده!
الخطاب من طالبٍ في إسنا، ويمتاز الخطاب بأسلوب سلِس، قريب المأخذ، يدل على أن صاحبه يستطيع أن يكتب ما بنفسه، وفي الخطاب بطبيعة الحال نصيب لا يُستهان به من الأخطاء النحوية، بل والإملائية أيضًا، ولكن الخطاب يحمل الاعتذار عن الأخطاء، وهو اعتذار قاطع لا تملك أمامه حيلة ولا تطيق له دفعًا.
إنه يقول إنه مُبعد تمامًا عن الوسائل التي يستطيع بها أن يحصل على كتاب، فالكتب مرتفعة الثمن ولا يستطيع أن يشتريها، ولا مكتبات هناك، لا في المدرسة ولا في البلد جميعًا، ويتردَّد الطالب كثيرًا قبل أن يقول إنه لم يقرأ في حياته إلا كتابًا واحدًا وجده عند صديق له، وحين أراد أن يُعيد قراءته وجدَ زميله قد أعاره لآخَر وتاه الكتاب في خِضَم الحاجة إلى الثقافة التي تغمر الشباب هناك.
أي شيطان جاهل قال للمشرفين على الشباب عندنا أنهم مسئولون عن الكرة والألعاب، وليسوا مسئولين عن الكتاب والثقافة؟ وأي شيطان جاهل قال لنظَّار المدارس أن عمل المدارس هو تعليم الطلبة المناهج فقط، إن الدولة لا تشتري من الكتب التي تصدر شيئًا … وإنما يفرض على الناشر أن يقدم خمس نسخ للمكتبة العامة … فلماذا لا يفرض على المدارس أن تشتري نسختين من الكتب الهامة التي تصدر؟ وكيف يجوز أن نترك الشباب يضرب في هذا الليل من الحاجة إلى الكتب وعدم القدرة على شرائها؟
أما الخطاب الآخَر فهو من طالب في الطب، وقد أرسله إليَّ كمشرف على الصفحة الأدبية، الخطاب نقيض للخطاب الأول … فلقد فوجئت بنثر رفيع يقدم به لقصيدة رائعة من الشعر الأصيل … وصاحب الخطاب اسمه ياسر الوزير … بطب عين شمس … لعل الأستاذ ياسر أو الدكتور ياسر قادر على أن يشتري الكتب، أو لعل وجوده بالقاهرة قد يسَّر له الحصول على ما يشتهي من الثقافة، أو لعل — وهذا هو الأقرب — إصراره على أن يتثقَّف هو الذي جعله يبلغ من الثقافة هذا القَدْر الذي أهنئه عليه، وإني أعِدُه أن أنشر القصيدة، وإن كنت حرصت أن أشير إليها وإليه الآن، فما ذلك إلا عن حرص مني ألا يظن أن كتابه قد لقي ما لا يستحق من التقدير.
وخطاب ثالث إلى الأستاذ توفيق الحكيم
بكرت في الصباح إلى بترو، حيث أجتمع بأستاذنا توفيق الحكيم، والأستاذ الجليل إبراهيم فرج، والأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، ورئيس النيابة سعيد العشماوي، وأستاذنا نجيب محفوظ حين يكون بالإسكندرية …
ولكنني اليوم وجدت أستاذنا توفيق الحكيم وحده، وقبل أن أقول صباح الخير بادرَني هو بقوله: الناس أصابها الجنون ولا شك (ومصمص بشفتيه على عادته).
قلت جازعًا: خيرًا … ماذا حصل؟
– خذ يا سيدي …
وأعطاني خطابًا وقرأت:
«باسم جمعية … الخيرية بالشرقية أرسل هذه الرسالة إلى سيادتكم، ولنا أمل كبير في سيادتكم في التكرُّم بمد يد المساعدة إلى الجمعية والمساهمة بتبرُّع مالي من سيادتكم …»
ولم أعد في حاجة طبعًا أن أكمل الرسالة … فكل ما سيأتي بعد هذا أقل جنونًا بلا شك من هذا الجنون … وأي جنون أكثر من طلب تبرُّع مالي من توفيق الحكيم.
وخجلت لأن المرسل من الشرقية، فقد أعاد هذا إلى ذهني ما نُرمَى به نحن أهل الشرقية من سذاجة … وأيُّ سذاجة أبعد من طلب تبرُّع مالي من توفيق الحكيم.
رددتُ الخطاب إليه واعتذرتُ عن ابن إقليمي، ولكن أيُّ اعتذار يصلح لهذا الجرم الفادح، لقد رأى الخطاب كل أعضاء الندوة من أصلاء وزائرين وبقيت طوال الجلسة شاعرًا بالحرج والأسف والأسى التي ألقاني إليها شرقاويٌّ طيبٌّ يطلب تبرُّعًا ماليًّا من توفيق الحكيم، وحسبي الله ونعم الوكيل …