شيئًا لله يا رئيسة الديوان!

الأهرام – العدد ٣٢٧٦٤
٢٤ أغسطس ١٩٧٦

فكري … شاب موظَّف بإحدى الشركات، لا تلقاه إلا وابتسامة مُشرِقة تسبقه إليك، وترحيب يبين منه الحب والشوق للناس جميعًا.

وفكري يحب أن يؤدي لك أيَّ خدمة تقصده فيها، وهو يسعد بأداء هذه الخدمات سعادة لا تُوصَف ولا يقبل في سبيل خدماته أيَّ مقابل، إلا أن فكري يحب أن يتحدَّث فيروي لك أنباءه جميعًا وأنباء الأصدقاء المشتركين الذين يسعى دائمًا إلى معرفة أخبارهم، فهو حريص على أن يطمئن على أصدقائه ما أمكنته الفرصة حرصًا لا يبتعثه إلا الحب والوفاء والأخوة الصادقة.

ومتعة فكري في حياته هي صلته هذه بأصدقائه وحديثه إليهم، وتحسُّ وهو يحادثك عنهم أنه يمارس هواية يعشقها بحبه كله وروحه كلها، تحسُّ في وجهه وفي عينَيه متعة الفنان يمارس فنه، وفنه هو حب الأصدقاء والحديث إلى الأصدقاء وعن الأصدقاء.

لقيتُ فكري يومًا، فإذا عينان منطفئتان، ووجه قاتم لا بِشْر فيه، وحين تصافَحْنا وسألتُه كيف أنت؟ أجابتني منه دمعتان تصرخان بالألم الحبيس يعلو ضجيجه في صمت.

ماذا بك … فكري ماذا بك؟ وأشار إلى لسانه وحرَّكَه في فمه حركة لا يستقيم معها لسان، ولا تصدر منه كلمة … لماذا؟ أشار إلى السماء وضرب كفًّا بكف، ولم أجد شيئًا أقوله فالحديث الصامت الذي ألقاه لا يسمح لي أن أجد شيئًا أقوله.

وفي يوم وجدتُ فكري يدلف إليَّ في مكتبي بنادي القصة، وقد عاد إليه إشراقه وابتسامته، ولا غَرْو؛ فقد عاد إليه لسانه وروى وأفاض.

طلع عليه الصباح فإذا لسانه لا ينطق، لم يكن في ليلته السابقة تعرَّض لكدر أو إثارة، وإنما كانت ليلة مثل كلِّ الليالي، صلَّى العشاء وقرأ في القرآن ونام، ثم أصبح وقد أمسك لسانه عن الحديث، مرَّ بالأطباء جميعًا من أعصاب إلى باطنة إلى شرايين … لا شيء به … أعصاب أضربت عن العمل دون طلبات … وتوالت الأدوية، ومرَّت الأيام بلا فائدة ثم هو يقول إنه نام في ليلة وقد عصره الألم عصرًا بعد أن صلَّى العشاء، وأفاض في الدعاء والرجاء، وتجلَّت له السيدة زينب في الحلم تدعوه إليها، فقام قبل الفجر وقصد مقام السيدة أم هاشم، وارتمى على عتبتها ونذر لله النذور، وقبل أن يكمل صلاة الفجر كان يقرأ سورة الفتح بصوت مرتفع، وعاد لسانه إلى انطلاق، انحبست الدموع من عينَيه واتَّجه إلى مقام السيدة يقدِّم الشكر ويفي بالنذر.

تُرى كم من المثقفين سيقرءون هذا الكلام ويسخرون، هؤلاء لم يُحسنوا الثقافة، فعلوم الروحانيات مُعترَف بها في أعظم الدول تقدُّمًا.

وقد شهدتُ في التليفزيون الأمريكي شخصًا يشفي الناس بقوة دينية خارقة، وحسبتُ يومذاك أنه برنامج إعلاني، إلا أنني رأيته منذ قريب يُعرض بالقاهرة، والبرامج الإعلانية لا تُباع.

وقد يقول قائل إنها حالة نفسية وثقة من المريض أنه سيُشفى، وما البأس؟ وفيما تُضارُّ الثقافة إذا اطمأنَّ إنسان إلى معنى كريم هو وفاء لأهل بيت رسول الله وللعارفين بالله المتقربين إليه.

ولا شك أن المغالاة في هذا سخف، بل إن المتصوفة يرفضون تصوُّف المجاذيب لأن المجذوب لا يدرك، أما أن يؤمن إنسان بأن إنسانًا آخَر من الأتقياء يستحق أن يُزار قبره وتقرأ له الفاتحة وتُوزَّع الصدقات على الفقراء اللائذين بساحته، فإنه لا يمس الثقافة في شيء، فإن قائلًا لم يقل إن هذا يُغني عن العلم، بل إن صديقنا فكري مع إيمانه بمقام الأولياء لم يقصد إليهم بادئ ذي بدء، وإنما قصد إلى الأطباء ولكن السيدة زينب — رضي الله عنها — هي التي شفَتْه وليحلل مدعي الثقافة هذا الشفاء بما يحلو له من التحليل.

كثيرًا ما يكون إلى جانبي أستاذنا توفيق الحكيم — وهو من أعظم المثقفين في العصر الحاضر — ونمرُّ على مقام سيدي بشر بالإسكندرية، فما ينسى الحكيم مرةً أن يقرأ له الفاتحة، بل لقد نذَرَ في مرة منذ سنوات أن يذبح له خروفًا إذا شفي مريض عزيز من أهل بيته، وشفي المريض، وما زال الحكيم يذبح خروفًا في كل عام ويوزِّعه على فقراء سيدي بشر، وقد مرَّت السنون الطوال على هذا النذر، وثمن الخروف في هذه السنوات وصل إلى مبلغ لا شك أن أستاذنا الحكيم يتأثر بدفعه تأثُّرًا شديدًا، ولكنه مع ذلك لا يتردَّد.

وإخواننا المسيحيون في مصر لهم أيضًا مَن يتبرَّكون به، مثل ماري جرجس، وسانت تريز، ودميانه، بل ما أظن الشموع في الكنائس العالمية إلا صورة من هذا التقرُّب.

ويبدو لي أن هذا الذي نشهده في مصر هو في أصله عادة مصرية قديمة لم تُبارح المصريين من قبل ظهور الأديان، وأيًّا ما كان الأمر، فإن كثيرًا من الناس تجد في نفوسها طمأنينة وانشراحًا في رحاب بيوت الله، وإلى جوار قوم أقل ما يُقال فيهم أنهم كانوا في حياتهم يُحسنون أن يعبدوا الله — جل جلاله — ولو لم يكرمهم الناس إلا لهذا لكان هذا حسبهم وحسب الناس.

متسولون على أرصفة الشهرة

بعض الشباب وجدوا في أيديهم أقلامًا، ووجدوا أنفسهم في مجلات قبل أن يُنضجهم الزمن وتتقدَّم بهم السن بعض الشيء، ونظروا إلى ما قدَّموه في ميدان الأدب فوجدوه هزيلًا لا يقيم أديبًا ولا شبهة أديب، ونظروا إلى داخل أنفسهم فلم يجدوا شيئًا، فالماء الشحيح الذي قدَّموه في نهر الأدب هو كل ما كانوا يملكون، ولا يملكون غيره ليقدموه، وقد كانوا في بداية حياتهم يتوقون إلى الشهرة، وقد ظنوا أنهم بلغوها بكتاب يُصدِرونه أو كتابَين، ولكن الشهرة أخلفَت ظنَّهم وظلوا في بؤرة الجهل، الجهل منهم والجهل بهم، ونزلَتْ عليهم أستار الضياع فلا هم كسبوا صنعةً، ولا هم أصبحوا أدباء، ولا هم أصابوا شهرة — أي شهرة — مساكين هؤلاء الناس، لقد أقاموا دكاكينهم على أرصفة الشهرة، يشتمون كلَّ شهير، ويحطمون كلَّ التقاليد، ويحرقون كلَّ كريم في حياتنا الأدبية، وَيْلَهم لو أبصروا لوجدوا أنهم يشتمون أنفسهم لا المشاهير، ويحطمون كيانهم هم لا التقاليد، ويحرقون فلا يحرقون إلا البقية الباقية من إنسانيتهم!

مساكين هؤلاء الناس؛ سيظلون ينبحون على أمل أن يصبحوا كلابًا شهيرة ما داموا قد فشلوا أن يصبحوا آدميين على شيء من المكانة، ومع ذلك، فالكلاب النابحة لا تصيب شهرة لأن كلَّ الكلاب تستطيع أن تنبح.

خطاب من الدكتور وحيد رأفت

كتب الأستاذ الكبير الدكتور وحيد رأفت هذا الخطاب إليَّ، ويشرفني أن أضع الخطاب كما جاءني؛ فكاتبه أكبر من التعريف، وما يكتبه أكبر من التلخيص ومن التعليق أيضًا.

٣ أغسطس ١٩٧٦
بعد التحية

«استوقفت نظرتي في الأهرام، الثالث من أغسطس، كلمتُكم المعادة إلى السيد وزير الحربية حول تجنيد الشباب بعد سن الثلاثين، وإشارتكم فيها إلى الرسائل التي انهالت على الأهرام من أسر مصرية عديدة تُطالب بإعادة النظر في هذا الأمر، ولعلكم تذكرون أن قانون الخدمة العسكرية الإلزامية كان ينص في الأصل على انتهاء هذا الإلزام ببلوغ سن الثلاثين، ثم في تمديدها إلى الخامسة والثلاثين.

وهو تعديل غير حكيم وغير ضروري، أما عدم حكمته فلأن الشاب بعد الثلاثين وقد تقدَّمت به السن انشغلَ بمشاكل الحياة، فلن يكون أهلًا لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية على وجهٍ مُرضٍ كابن الثامنة عشر أو الخامسة والعشرين مثلًا، وأما عدم ضرورة التعديل المذكور فلأن التجنيد ومعسكرات التدريب غير جادة، وترتَّبَ على ذلك أن جزءًا كبيرًا من هؤلاء المجندين إلزاميًّا أصبح لا يؤدي الخدمة إلا صوريًّا أو بصورة ناقصة لا تُحقِّق الغرض المنشود من فرضها أصلًا! كما توافقني على أن رفع سن التجنيد الإلزامي إلى الخامسة والثلاثين أدَّى إلى أن نفرًا ليس بالقليل من أبنائنا ممَّن أتيحت لهم فرص السفر إلى الخارج قبل أداء الخدمة الإلزامية أصبحوا يتحرجون من العودة إلى الوطن قبل بلوغ الخامسة والثلاثين، حتى لا تلاحقهم الإدارات المعنية بتنظيم أعمال التجنيد، ومن بين هؤلاء المواطنين مَن أسعفه الحظ، أو ساعدته دراساته ومواهبه في العثور على عمل مُجزٍ يؤمَّن مستقبله، ومن بينهم مَن تزوج وأنجب، ولا يصح في الأذهان أن يرضى مثل هؤلاء عن طيب خاطر بالتضحية بوظائفهم وأعمالهم ومستقبلهم والانفصال عن زوجاتهم وأولادهم لغرض أداء الخدمة العسكرية والإلزامية في تلك السن، وربما لأجل غير مسمى قد يمتد لبضع سنين كما كان الحال فعلًا في السنوات الأخيرة.

لذلك، فقد أحسنتم صنعًا بتنبيه السيد وزير الحربية ومعاونيه إلى هذا الأمر الهام.»

انتهى …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤