شريعة الحضارة هي شريعة الغاب
الأهرام – العدد ٣٢٧٧١
٣١ أغسطس ١٩٧٦
شريعة الغاب فيما تعرف هي التي تكون الغلبة فيها للأقوى، وهي التي كانت سائدة حين كان الإنسان غريزة بلا حسٍّ، ومَطالب جسمانية بلا مشاعر، وحيوانًا يوشك أن يكون أعجميًّا بلا روحانية أو فن أو بعض سمُوٍّ.
وكان الإنسان في هذه الفترة لا يدرك معنى إلا أن يأكل ويتوالد، فإذا تزعَّمَ منهم زعيم فبالقوة وحدها يتزعَّم، حتى إذا علَتْ به السن وأنْهَكَته الأيام غلبَه على أمره زعيمٌ آخَر، وقد يكون هذا الزعيم ابنه، فأرفقُ ما يصنعه بأبيه أن يرمي به إلى عقر الدار كمية من الهمل يُلقى إليه بالطعام إلقاء، فإذا حدثت مجاعة وقلَّ الصيد فأول مَن يُحرَم من الطعام هو ذلك الأب وليلقفه الموت ما دام ضعيفًا ولا يستطيع أن يحصل على قُوتِه.
القوة وحدها هي السيد ولا سيد غيرها، والعقل لا عمل له، والمعاني الأخرى التي عرفتها البشرية فيما بعدُ غيبٌ محجب لا يدري أحد من الناس عنه شيئًا، بل قد نعرف عن الغيب خبرًا أما هذه المعاني فقد كانت شيئًا غير معروف على إطلاقه.
ومرَّت الأزمان، وادَّعى الإنسان أنه تحضَّر وعرفَ الرقي والسمو والرفعة، وأشرق العلم بأضوائه الساطعة، وتسابقت الفنون على ألوانها وأشكالها المختلفة من موسيقى إلى أدب إلى فن تشكيلي إلى تمثيل، وادَّعى الإنسان أنه أصبح ذا مشاعر رفيعة يعرف الحب ويعرف الوفاء ويعرف طاعة الآباء والبر بهم ويعرف الصداقة ويعرف أسمى ما بلغته البشرية من التضحية من أجل الوطن أو الصديق أو الأب أو الابن.
ولعل هذه المعاني تكون حقيقة في حياة أفراد، وصلات بعض البشرية ببعض، ولكن أين هذه المعاني من صلات الدول بعضها ببعض؟
لم تستطع هذه المعاني أن تمنع الحروب، فشملت عهود التاريخ جميعًا مستمرةً متلاحقة حتى لا يستطيع الإنسان أن يذكر فترة من التاريخ مرَّت دون حروب مستطيلة متلاحقة سنوات عددًا، أو تنكمش لتنتهي في فترة وجيزة لتتبعها حروب أخرى، وتأخذ حرب برقاب حرب أخرى.
حتى كانت الحرب العالمية الأخيرة، وانفجرت القنبلة الذرية لتمحق مدينتين في اليابان إن وجد مفجرهما عذرًا هشًّا للقنبلة الأولى مدعيًا أنه ينهي بها حربًا عالمية، استحال عليه أن يجد العذر للقنبلة الثانية، التي كان عنها في غناء شديد، إلا أن يكون ميراثه من عهد الغاب هو الذي سيطر عليه وهو يلقيها، بل لعلَّه كان أكثر همجية من عهد الغاب، لأن الإنسان الأول كان يقتل ليأكل ولم يكن يقتل لمجرد القتل.
واستطاعت هذه القنبلة حين استقرت آمنة عند الدولتين الكبريين أن توقف الحروب العالمية، ولكن هل توقفت الحروب العالمية بسبب السمو الإنساني أم بسبب خوف كل دولة من الاثنتين، مما قد تلحقه به الأخرى؟ المؤكد أن المعاني السامية لا شأن لها بتوقف الحروب الكبرى، ولو أن إحدى الدولتين أصابت القنبلة الذرية دون الأخرى لسيطرت على العالم أبشع ما تكون السيطرة.
وحين ضمنت الدولتان الكبريان ألَّا حرب بينهما، قسمتا العالم بينهما، فأما إحداهما فتجتذب أنصارها من الدول بسكب المال عليها، وإشعارها دائمًا أنها تحتاج إليها.
وأما الأخرى فقد سلكت طريقًا مختلفًا كلَّ الاختلاف، فهي تسلب الدول الواقعة في حوزتها مالها، وتفرض عليها نظامها فرضًا لا رحمة فيه ولا شفقة، حتى إذا حاولت دولة كالمجر أن تثور انطلقت إليها الدبابات الروسية تدوس الأطفال وتفعصهم كالهوام والحشرات، وإذا حاولت دولة أخرى أن تغيِّر بعض الأنظمة فيها تهطل عليها خمس دول تتزعمهم روسيا بالسلاح وتسحق محاولة التغيير.
وتنتشر الحروب الصغيرة لتعوض العالم عن الحروب الكبرى، فهو عالَم دموي قوي الأواصر بأجداده من عصر الغاب فهو بذلك أصبح لا يستطيع العيش إلا على الدماء … وويل للمغلوب!
تسرق إسرائيل فلسطين، وتتوالى الحروب بين مصر وإسرائيل، ونُهزم هزيمة ٦٧، فإذا العالم المتحضِّر جميعًا يشيح عنا بوجهه، ويبدأ التعايش السلمي على أشلاء الجثث المصرية في سيناء، وتتفق الدولتان الكبريان أول اتفاق لهما على أن يتركا المنطقة في حالة استرخاء عسكري. ولِمَ لا وقد غلبت دولة أخرى غلبة ساحقة، وأصبح من المؤكد أن مصر لن تستطيع أن ترفع رأسها إلى أبد الآبدين، فلا خوف إذن من المنطقة، وخير ما يصلح لها هو الاسترخاء العسكري، فما دمت لا تستطيع أن تغلب مُت، هذا هو منطق الحضارة الرفيعة في قمة مجدها لا تختلف في شيء عن منطق الغاب السحيق البعد في غياهب التاريخ … اغلبْ أو مُت … وما الاسترخاء على الهزيمة؟ أليس هو الموت؟ وما البأس بك أن تموت ما دمت لا تستطيع أن تنتصر، على هذا تتفق الدولتان … الدولة التي تكتب على عُملتها «بالله نحن نؤمن» والأخرى التي ترفع شعار المادية وتعتمد فلسفتها على الشعار الذي رفعوه «بالله نحن نلحد» أقصى الروحانية وأقصى المادية … كلاهما اتفق على أن الاسترخاء هو الأخلق بالمنطقة والأجمل بها والأحرى.
وتشمخ علينا الأنوف أننا هُزمنا، وتتعالى نغمات الاحتقار من الصديق قبل العدو، ونرتكس في الذل والمهانة والإحباط، ونمشي في البلاد العربية التي استمدت ثقافتها وحضارتها من ثقافتنا وحضارتنا منكسي الرءوس، انكسرت منا العيون وذلت الرقاب وانهزمت نفوسنا داخل نفوسنا، فكان كلُّ فرد منا يحس أنه هو نفسه هزيمة ٦٧، لا يحملها وإنما يمثِّلها، فهي هو، وهو هي.
وننتفض لنحقق أول نصر عربي في العصر الحديث، فإن الدولة التي تمثل قمة الحضارة تلتفت إلينا في دهشة، إكبارًا، ويصبح العجب إعجابًا، والتعجُّب إجلالًا، وتنتصر نفوسنا داخل نفوسنا، ويمثِّل كلٌّ منا انتصار ٧٣ وكأنه هو الانتصار، ألم تستطع الدول المتحضرة أن تذكر حضارتنا حين كان العالم في جهل ومجاهل؟
ولم تستطع أن تذكر تزعمنا الثقافي للمنطقة جميعًا حتى ونحن في أشد أوقات الهزيمة والاندحار.
ولم تستطع أن تذكر أننا مهد النبوات، وأرض الرسالات، ومشرق الفكر الديني، وأغنى بلاد العالم بالآثار، ففيمَ إذن يكتبون على عملتهم «بالله نحن نؤمن»؟
إنها شريعة الغاب، لم تترك نفس الإنسان حتى وهو في أرقى عهود حضارته وسموقه … أينسون كلَّ هذا ولا يلفتهم إلينا إلا أننا حققنا النصر الأخير؟ ألم يكن تاريخنا جميعًا نصرًا لنا وللإنسانية؟
ويل للإنسان من الإنسان!
توعية الجماهير
لا أعرف شعارًا أسخف من شعار توعية الجماهير هذا، ولعل جمعية تنظيم الأسرة هي أعظم دليل على ما أذهب إليه، فهذه الجمعية — فيما أعتقد — قامت لتبثَّ الوعي بين الجماهير أن يحددوا النسل حتى لا ينوء رب الأسرة بعدد كبير من الأولاد، ويصبح وهو لا يستطيع الإنفاق عليهم، وحتى لا ينوء الوطن بأبنائه فيصبح وهو غير قادر على القيام بشأنهم.
ومنذ قامت هذه الجمعية والأطفال ينسلون إلى الحياة زرافات، ولا أقول وحدانا.
وتنظر حواليك فتجد الأسرات، كلما كانت جاهلة كثر فيها النسل، وكلما ازدادت بها الثقافة قلَّ فيها الأطفال.
والأسر المثقفة لا صلة لها بجمعية تنظيم الأسرة ولا بالشعارات التي ترفعها، ومن عجب أن تحاول هذه الجمعية بثَّ دعايتها عن طريق التليفزيون، بينما المقصودون بهذه الدعاية لا يكادون يجدون طعام يومهم، فما خطبك بالتليفزيون؟
وكنا ظننا أن انتشار الراديو في القرى سيجعل الفلاح يجد ملهاة أخرى غير إنجاب الأطفال، فإذا بالأمر يزداد سوءًا، ويلازم داره مع الراديو ويزداد الإنجاب.
وجمعية تنظيم الأسرة — فيما أعتقد — ذات ميزانية، وإلا فمن أين تنفق على رعايتها وعلى مرتبات الموظفين بها.
تُرى أيعتقد القائمون بأمر هذه الجمعية أنهم حققوا أيَّ نجاح بدعايتهم وبتوعيتهم للجماهير، وإن كان هذا ظنهم فأين أثره؟
الحقيقة أن الوعي يأتي من داخل الإنسان، وهو لا يأتي من فراغ، وإنما يأتي من تفكير، والتفكير لا يكون إلا مع شيء — ولو يسير — من الثقافة، والثقافة لا تكون إلا مع شيء — ولو قليل — من العلم، والعلم لا يكون إلا بتعلُّم القراءة والكتابة، فلو شاءت هذه الجمعية أن تكون ذات نفع فلتنسَ ولو إلى حين مشكلة تحديد النسل، ولتنفق جهدها ومالها في مشكلة تحديد الجهل.
فإذا قرأ الأمي فَكَّر، وإذا فَكَّر سيعرف هو من تلقاء نفسه كيف يحدِّد نسله وتصل الجمعية إلى ما تنشده.