لا حياة لأدب بغير تراث
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: ٢١٢٥
٦ ديسمبر ١٩٧٥
إن تراثنا الأدبي يشرف أي أدب ينتسب إليه، وقد فشت بين شداة الأدب موجة تنأى بهم عن تراثهم الأصيل، وولوا وجوههم شطر الأدب الأجنبي وحده.
ولشداة الأدب عذرهم؛ فقد مرَّت فترة طويلة سيطرت فيها على الصحافة فئةٌ تهدف أولَ ما تهدف إلى تحطيم التراث بادئةً بالدين، منتهية إلى التراث الأخلاقي والاجتماعي، واقفة ومطيلة الوقوف عند الأدب العربي، محاولة أن تمحوه من سماء مصر، ليُمحى بعد ذلك من سماء الوطن العربي أجمع.
وهؤلاء الشداة كما يقول شوقي:
فاضطُروا أن يصطنعوا ما ليس فيهم، ويعتنقوا غير ما يؤمنون به، لتجد أعمالهم سبيلها إلى النور.
ولكن القارئ لم يقبل هذا، فصحح مسار الأعمال، فإذا هي تجد سبيلها إلى الظلام، ويصبح هؤلاء الشداة في عماية كاملة من الجهل والتجهيل.
ذلك أنه لا حياة لأدب لا ينتسب إلى أعراقه الأصيلة، ولا يركن إلى أصوله العريقة.
فحتى القصة والمسرحية — وهما الوافدتان على التراث الأدبي العربي — لا سبيل لهما أن يزدهرا وتسمق فروعهما إلى السماء، إن لم يكن الكاتب فيهما ناظرًا إلى أدبه في أسلوبه، وإلى وطنه في موضوعه.
وإذا نظرنا إلى الآداب الأخرى وجدنا الأدباء المحدثين جميعًا يدورون حول آدابهم القديمة، فشكسبير وديكنز وهاردي وغيرهم ما زالوا أحياء بقوةٍ وجبروتٍ في الأدب الإنجليزي، وكورني وراسين وفولتير وبلزاك ودوديه وغيرهم ما زالوا يتصدرون الأدب الفرنسي، وتولستوي ودستيوفسكي وجوركي وغيرهم ما زالوا أئمة الأدب الروسي، رغم أنه أصبح أدبًا سوفيتيًّا، وانكمش من أدبٍ عالَمي إلى أدب محلي.
وقد كان نتيجةَ هذه الفترة الحالكة من تاريخ الصحافة المصرية والحياة المصرية جميعًا أن أصبحَتْ كتب التراث عزيزة المنال، فارتفعت أسعارها، حتى أصبح الشاب لا يطيق أن يقتنيها، ولهذا رأيت حين توليت العمل بهذه الدار أن أعيد طبع بعض كتب التراث ما وسعني الجهد، وقد بدأت بكتاب البخلاء للجاحظ، وقام الأستاذ عباس خضر مشكورًا بتحقيقه، وهو الآن على وشك الصدور.
وحين تفاوضت مع الأستاذ عثمان غنيمي، المدير المالي لمجلة الإذاعة حول سعر الكتاب، حدث شيء غريب، حاولت أنا أن أبيع الكتاب بسعر التكلفة، فإذا بالرجل الذي ينتمي إلى عالم المال والحساب يقول إننا نقدم خدمة عامة، فلا بأس علينا لو خسرنا بعض الشيء في البيع، وخجلت من نفسي ووافقت المدير المالي أن نبيع الكتاب، بأقل من ثمن التكلفة، وسيصدر الكتاب في جزأين متتابعين، الأول في شهر يناير، والثاني بعده مباشرة.
تُرى هل تستطيع دور النشر أن تُعين على هذا الهدف، فتشاركنا في إعادة طبع التراث، وإتاحته في أسعار مُيسَّرة إلى الطلبة وشداة الأدب؟! لكَم أرجو ذلك!