الحصان الذي نفق
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: ٢١٢٦
١٣ ديسمبر ١٩٧٥
لم يكن يُسري فقيرًا في القرية، ولكنه كان تائهًا في زحامها، مُحتقَرًا بين أهلها، لا يشعر به أحدٌ، رغم جهده الجهيد أن يشعر الناس به، فقد كان لا يترك وسيلةً يذكِّر بها الناس أنه حي، وأنه يسعى بينهم، وأنه ليس نكرة من النكرات إلا سعى إليها حثيثًا، وقد كان يحصل دائمًا على هزء الناس والسخرية به، إلا أنه لم يستطع قط أن يحصل منهم على ما يريد من شعورٍ بوجوده، وأنه حي.
ولم يكن غناه فادحًا، ولكنه — مع ذلك — كان يدعو إلى الولائم في كثير من الأحيان، وكان الناس يلبون دعوته، ولكنهم ما إن يأكلوا ويتركوا بيته حتى ينسوا أمره، وكأنه لم يكن.
ولم يكن يُسري مؤمنًا بالله، وما كان يصلي، ولكنه مع هذا حريص على أن يشهد صلاة الجمعة مرتديًا أجمل ما عنده من الملابس، لا ينسى رباط عنقه الأحمر، مقتنعًا أن اللون الأحمر هو أكثر الألوان استدعاء للأنظار، ولكن الأنظار — مع ذلك — كانت تأخذه، فهو موجود بغير وجود، حاضر خير منه الغائب.
وكان يُسري يحرص أيضًا على أن يخطب الناس بعد كل صلاة جمعة، ولم يكن طبعًا يستطيع أن يحدثهم عن عدم إيمانه، فهو مع كل حرصه على أن يذكِّر الناس بوجوده، أكثر حرصًا على أن يظل على قيد الحياة … أية حياة، ولو أنه أطلعَ الناس على ما يعتمل في نفسه من عدم إيمان لأصبح موته بأيديهم أمرًا مُحقَّقًا.
وإنما كان يسري يخطب الناس في وجوب إعطاء الفقراء والمساكين والإحسان إليهم، ولكن لم يقدر له أبدًا أن يكمل خطبة إلى النهاية التي يريد أن تنتهي إليها، فما هي إلا جملة وأخرى حتى يصبح المسجد فارغًا من الناس أجمعين.
فما كان أحد من أهل القرية ليلقي إليه سمعًا وهم يعلمون أن الإحسان عنده كلام، والشفقة بالمساكين عنده شقشقة، وكفاهم دليلًا على ذلك ما يعانيه منه عبد السميع ومحمدين وشفيق الذين يستأجرون أرضه، فإن أحدًا في القرية لا يعاني من الفقر والذلة والهوان والقهر ما يعانيه هؤلاء الثلاثة الذين قُدِّر لهم أن يكونوا أُجَراء عنده، ويا طالما عرضوا أنفسهم على المُلَّاك الآخَرين، ولكنَّ أحدًا لم يستطع أن يُغيثهم، فالمستأجرون في القرية يرثون الأرض عن آبائهم، ولا يستطيع مالكٌ — بل ولا يجب — أن يُخرج أحدًا من أرضه ليُعطيها إلى آخَر.
وقد ضاق محمدين بمالك أرضه يُسري، وضاق بالقرية جميعًا فتركها، وتسمت أرض الله في بلاد الله، ولم تعُد القرية تعلم عنه شيئًا.
وظل عبد السميع وشفيق يستأجران أرض يُسري وحدهما، بعد أن حاول أن يجِد مستأجرًا آخَر بدلًا من محمدين فذهبت محاولاته سُدى.
فالكلام منه إذن عن وجوب الإحسان خليقٌ أن يجعل أهل القرية ينصرفون عنه، وحتى إن لم يتوافر هذا السبب، فقد كان أهل القرية سينصرفون عنه أيضًا لأنهم لا يشعرون أن له وجودًا أو مكانًا.
كان هذا الشعور بالضياع والإهمال يملأ نفس يُسري، ويجعل نفسه تفيض مرارة وحقدًا، فهو حاقد على كل غني له بين القرية توقير واحترام، وهو حاقد على كل متعلِّم يسمع الناس له في اقتناع وإكبار، وهو أشد حقدًا على المحترمين في القرية دون أن يكون لاحترامهم سبب ظاهر إلا أنهم محترمون، ولعل بعضهم لم يُصِب من العلم إلا قليلًا، ولكن أهل القرية يحترمونهم ويقصدون إليهم إن طلبوا الرأي، وينزلون عنه عندما يشيرون عليهم به.
نار من الحقد تفتك به … نار من داخله، لا سبيل أن يصل إليها شيء إلا ما يزيدها أوارًا واشتعالًا.
يخرج يُسري في كل يوم إلى ظاهر القرية، وينظر إليها في كُره شديد، وألم عميق، ومرارة قاتلة، ويظل قابعًا منزويًا كوحش كسير يحاول أن يتربَّص بأعدائه المصائب، فتخذله الذلة ويقعد به الهوان، وبينما هو كذلك سمع جوادًا يركض ويهز الأرض بأقدامه، واقترب الصوت، واقترب، حتى تكشف عن الحصان وراكبه، أما الحصان فمجنون أرعن، وأما صاحبه فخائف هالع.
– أين أنا؟
– لا أدري.
– ألا تعرف اسم القرية التي أنت منها؟
– المنشية.
– من أين أنت قادم؟
– لا شأن لك … أتشتري هذا الحصان؟
– ماذا؟
– ألم تسمع؟ لا وقت عندي للدلع.
حصان … أيشتري هو حصانًا، وما البأس؟ وأي شيء سيجعل أهل القرية يحسون به خيرًا من هذا الحصان … الحصان جاء … الحصان ذهب … ليس في القرية مَن يملك حصانًا … ولكنهم لن يقولوا يُسري جاء أو ذهب … الحصان فقط، لا بأس أيضًا … يكفي أن يذكِّرهم الحصان به.
– ولكن هذا الحصان مخيف! ألا تراه لا يكف عن الحركة العنيفة؟
– هذا دليل الحيوية.
– الكثير منها يقتل.
– أنت صاحبه؛ اخدمه يخدمك.
– ولكن لماذا تريد أن تبيعه؟
– أهو تحقيق؟
– لعلك سرقته.
– وافرض.
– قد يراه صاحبه فأخسره.
– اسمع، الأمر المؤكد أن صاحبه لن يحاول أن يسترده.
– إذن فأنت صاحبه.
– ها أنا ذا … أركبه أمامك وأعرضه عليك، ولا وقت عندي للكلام الكثير، أتشتري أم أمشي؟
– كم تريد فيه؟
واشترى يُسري الحصان وحاول أن يركبه، فنفضه الحصان نفضة عنيفة إلى الأرض أحسَّ معها أن عظامه تنسحق، فسحب الحصان ومشى يتكفأ حتى بلغ منزله في عتمة من الليل، وأدخل الحصان إلى حجرة نومه الخاصة، وذهب إلى حيث السكر، فأحضر جميع ما في البيت منه.
وبعد أسبوع استطاع أن يركب الحصان بعد أن أنِسَ إليه.
وفعلًا بدأت القرية تتكلم عن الحصان، ولكنها — كما توقَّع يُسري — لم تتكلم عن يُسري.
كان يُسري يربط الحصان في الغيط مع جاموسته، ويذهب إلى ما يبتغي من أعمال، وبينما هو جالس في بيته، إذا بشخص يعدو إليه.
– يُسري.
– نعم.
– حصانك قتلَ عبد السميع.
– ماذا؟
حاول عبد السميع أن يركبه فجرى حتى ألقاه في الترعة وأغرقه.
وأصبحت الحكاية أحدوثة في القرية لفترة طويلة، ويُسري سعيد كلَّ السعادة بموت عبد السميع الذي جعل الناس يتحدثون عن حصانه كلَّ هذا الحديث.
فإن الحادث في القرية شيء عظيم، فهو ريح شديدة العصف تمُرُّ على الماء الراكد من أثر الملالة، فالناس لا يجدون في القرية ما يتحدثون عنه، فإذا مرَّ بحياتهم حدثٌ كهذا أصبح تاريخًا يعتبر الذين عاصروه خالدين في حياة القرية وتاريخها.
ولكن حصان يُسري لم يترك لهم فرصة طويلة يلوكون فيها حادث القتل الذي ارتكبه، بل هو يعاجلهم.
– يُسري.
– نعم.
– حصانك.
– ما له؟
– فقأ عين عبد الشافي بن سعيد أبو عرابي.
– ماذا؟
وفي هذه المرة يذهب سعيد إلى يُسري ويمسك بخناقه، مُقسِمًا بأغلظ الأيمان بأنه قاتل الحصان أو قاتل يُسري، ويتجمع الناس ويحولون بين سعيد ويُسري وتبدأ المفاوضات، ويُسري سعيد، فقد أحسَّ الناس به هو أخيرًا، وها هم أولاء يجتمعون حوله ويفاوضونه ويفاوضهم.
وتتوالى أحداث الحصان، فهو يقطع حبله ويعتدي على براسيم الآخَرين، وهو ينطلق في القرية في جنون أحمق، يكسر أرجل الناس أو أبوابهم، أو يوقع ما يعرشون به على بهائمهم، أو هو يعتدي على هذه البهائم فيجعل أصحابها يعودون بها إلى السكن، ولعلَّ أشد ما آلَم الناس من الحصان وصاحبه ما فعله الحصان بالمُصلَّى التي أقامها أجداد أجدادهم هناك عند مجرى النيل، فقد دخلها الحصان فهدم قواعدها، ومزَّق الحصير فيها، ولعل هذا الحادث بالذات هو أسعد ما سعد به يُسري حتى لقد أغدق في مساء هذا الحادث على حصانه من السكر قدرًا لم يشهده الحصان من قبل.
أصبح يُسري هو شغل القرية الشاغل، وأصبح الناس يبتعدون عن مكان الحصان قدر جهدهم، وألقى الحصان على القرية ظلًّا من الرعب ثقيلًا، وليس أفتك بالإنسان من الخوف، ولا يزري بالإنسان شيء قدر شعوره أن الذعر والهلع يحيط به من كل جانب، وما أشد الهول حين يكون العدو حيوانًا أعجم لا يعقل ولا يفهم، وإنما يخرب لوجه الخراب بلا هدف ولا فكرة ولا غاية ينتهي إليها، ويُسري سعيد، فليمُتِ الناس من الخوف أو من الغضب، فلقد أصبح هو شيئًا يُذكر، ومقصدًا يُسعى إليه.
وفي يوم صحا يسري من نومه وذهب مسرعًا إلى حصانه؛ مجده وعزه وأمله الذي تحقَّق، وذِكره الذي ذاع، واسمه الذي انتشر، ماذا …؟ ما الذي جعل الحصان في هذا الشكل الذي هو عليه؟ لا يمكن … غير معقول … لقد مات الحصان … مات … كيف؟ … لا يهم … أمسمومًا مات، لا يهم … هل مات من كثرة السكر؟ لا يهم، لقد مات … أحسَّ يُسري أن اسمه هو هذا المُمدَّد جسدًا من غير روح … وعما قريب يصبح عدمًا بلا جسد ولا روح … لا يمكن … غير معقول … إن حصاني لا يموت … إنه لا يموت … لا يموت، وفجأة انتفضت في جسم يُسري المرارة التي اختزنها قبل أن يعرف الحصان، وانتشر في جسده الحقد الذي دفنه فيه طوال عهد الحصان، ووجد نفسه يحمل الحصان الميت ويخرج به من البيت، مُحطِّمًا باب البيت، صارخًا في الناس وهو يَعْدو في كل مُتَّجَه … إنه لم يمُتْ، إن حصاني لا يموت … لا يموت … لا يموت.
وما هي إلَّا صرخات قليلة … وخطوات أقلَّ من العَدْو الأحمق العربيد المجنون حتى انهار يُسري، ومن فوقه الحصان يكتم أنفاسه القليلة الباقية.
واختلط الجسدان حتى لا يستطيع أحد أن يستبين أحدهما من الآخَر، وقبل أن يدركه أحد، تلحق روحه بروح الحصان الذي نفق، ويتجمع حوله أهل القرية، ولا تلتقي نظرات ولا كلمات، وإنما يشيع أمن إنساني فارقَ الإنسان فيهم حينًا ثم عاد.