كلمة تقديم
تجدد البحث في الحضارة الأوروبية الحديثة في مسألة العقيدة الدينية، وشعر كثير من المفكرين أبناء القرن العشرين بخواء النفس من جراء مبادئ الإنكار والتعطيل التي شاعت خلال القرن التاسع عشر، واجتهد بعضهم في التوفيق بين أصول العلم وأصول الإيمان، وحاول آخرون أن يتخذوا لهم ديانة خاصة يطمئنون إليها بعقولهم وضمائرهم ويجدون عندها راحة القلب والبصيرة، وأسفرت هذه البحوث عن اتجاه جديد لا يزال في مفتتح الطريق، فما هو هذا الاتجاه الجديد؟ وإلى أين تنتهي هذه الطريق؟
هل لها مرحلة أخرى ينتظرها الباحثون والمفكرون؟ وهل تستقيم الخطى بعد هذه الخطوة المترددة على منهاج واضح المعالم والغايات؟
في الصفحات التالية جواب هذا السؤال. ونرجو أن يكون جوابًا شاملًا لوجهات النظر المختلفة، بما يستطاع من الإيجاز في هذا الحيز المحدود.
وظاهرٌ مما تقدم، ومن عنوان الكتاب، أننا نقصر القول على القرن العشرين، فلا نعرض لآراء المفكرين التي سلفت قبل شيوع المباحث الأخيرة في العلوم ومذاهب الأخلاق، ولا نتحدث عن العقائد الموروثة التي يتساوى فيها حكم القرن العشرين وما تقدمه من القرون، فليس للتفكير الخاص بالقرن العشرين علاقة بهذا الموضوع.
كذلك لا نتعرض لأقوال المنكرين الذين جزموا بالإنكار وأوهموا أنفسهم أنه هو الحل الأخير لمسألة الدين ومسألة الحياة والوجود على العموم، فإن الاعتقاد هو الذي نعنيه وهو الذي تجددت له أسباب في القرن العشرين لم تكن ظاهرة في القرون القريبة التي سبقته … أما الإنكار فلا جديد عليه من علوم القرن العشرين أو من حوادثه وكشوفه أو من تقديراته وفروضه، فمن كان منكرًا قبل هذا القرن فأسباب الإنكار فيما مضى هي أسباب الإنكار فيما حضر، وليس عليها من طارئ جديد يتعلل به المنكرون.
إن الإنكار نفي، والنفي لا يزداد ولا ينتظر الزيادة، وإنما تكون الزيادة في جانب الإثبات والتقرير، فما كان محاولة غامضة في زمن من الأزمان يصبح محاولة واضحة في زمن آخر، ثم يصبح محاولة ناجحة أو متفائلة بالنجاح في زمن يليه، ثم ينتقل من المحاولة الضعيفة إلى محاولة قوية، ومن المحاولة المتفرقة إلى المحاولة المجتمعة، ومن المحاولة جملةً إلى الثبوت والقرار على وجه من الوجوه.
فقد انتهى إنكار المنكرين عند النفي الحاسم ووقف عنده فلا مزيد عليه.
أما العقيدة فهي التي تحاول وتجتهد، وهي التي تفتح الأبواب الجديدة بابًا بعد باب، وهي التي تلتمس الطريق ولا تقف عند الغاية التي لا طريق بعدها، كما فعل المنكرون.
ومما لا شك فيه أن الحضارة الغربية ألجأت مفكريها إلى محاولات جديدة في مسألة العقيدة الدينية، ولا تزال تدفعهم في هذا الطريق وتستحدث لهم في كل فترة من الزمن وجهة يتابعونها ويترقبون ما وراءها. وقد تختلف الوجهات غاية الاختلاف بين فترة وفترة أو بين مفكر ومفكر، ولكنه اختلاف كاختلاف الإبرة المغناطيسية في السفن التي تعبر المحيط المجهول: هذه إلى اليمين وهذه إلى الشمال، وهذه مترددة وهذه عائدة بعد التردد، وكل إبرة في كل سفينة لها حركاتها ولها رجعاتها، ولكنها لا تختلف إلا لأنها تحاول جميعًا أن تصل إلى قطب واحد: هو قطب الشمال، وإن تباعدت مواقع السفن وانعزل بعضها عن بعض في آفاق البحار.
مثل المفكرين الذين تختلف وجهاتهم في مسألة العقيدة الدينية، هو مثل الإبر المغناطيسية التي تختلف حركاتها في السفن السابحة لأنها تسبح في المشرق والمغرب وفي الشمال والجنوب وتتحول من جانب على الكرة الأرضية إلى جانب يقابله أو يوازيه، والمهم في هذه الحركات جميعًا أن كل سفينة من السفن تحمل إبرتها وأن كل إبرة منها تنجذب إلى قطبها، ولو لم تكن هنالك إبرة ولم يكن هنالك قطب لما اختلفت الوجهة ولا اختلفت الدلالة على الطريق.
والفرق بين السفن التي تحمل الإبرة والسفن التي لا تحملها، هو كالفرق بين الضمير الذي يطلب الإيمان والضمير الذي تعطل وانتهى إلى التعطيل، فليست السفن التي خلت من الإبرة أهدى من السفن التي تتردد فيها الإبرة ذات اليمين وذات الشمال، وليس الدليل الذي يتردد وهو يتجه إلى القطب أضل من الدليل الذي لا يتردد ولا يشعر للقطب بوجود. بل الواقع أن عكس ذلك هو الصحيح.
كذلك طلاب العقيدة حين يحومون في بحر الظلمات حول قطب واحد: تختلف الوجهات لأنها على وفاق نحو الغاية القصوى، ولو لم تختلف لما كانت هناك حركة ولا كان هنالك اتجاه.
ذلك هو أقرب الأمثلة إلى تصوير الوجهات المختلفة في طلب العقيدة الدينية، ولعلنا نتابع هذه الوجهات على بصيرة من أمرها حين نعرف معنى العقيدة الدينية كما يطلبها أولئك المفكرون، فإننا إذا عرفنا معنى هذه العقيدة عندهم عرفنا ما يطلبونه وعرفنا من أين يطلبونه، وقد نعرف من ثمة ما هي العقبات التي وقفت لهم في الطريق فلم يجدوا كل ما طلبوه.