عقائد الأدباء
يستشهد بأقوال الأدباء في العقيدة لأنهم دارسون، ولأنهم موضوع دراسة.
هم دارسون لأنهم يفكرون في عقائدهم ويمحصونها ويقبلون منها ما يقبل ويرفضون منها ما يرفض، أو ينشئون لأنفسهم عقائدهم المختارة حين يرفضون كل ما ورثوه من المعتقدات.
وهم موضوع دراسة لأنهم يمثلون شعور عصرهم ويعبرون عنه. فمن أراد أن يدرس المعتقدات في عصر من العصور فمن أقرب وسائله أن يراجع أقوال أدبائه عن أنفسهم وعن أبناء عصرهم، فيعرف منها أنماطًا صالحة لتصوير تلك المعتقدات.
ومن المتفق عليه أن العقيدة حاجة إنسانية في ضمائر المعتقدين، فهي من هذه الناحية شعور نلتمسه — أقرب ملتمس — في أقوال الأدباء، أي في أقوال الذين يشعرون ويعبرون عن الشعور، وهذه هي وظيفة الأدب في كل زمن. فلا أدب لمن لا يشعر ولا يحسن التعبير عن شعوره وعن كل شعور يحكيه.
فإذا كانت العقيدة موضوع امتحان ودراسة في نظر العلم فهي في ميدان الأدب موضوع تجربة وتصوير.
وتنتهي وظيفة العالم حين يقول: علمي يقبل هذه العقيدة أو يرفضها، فإذا تحدث بعد ذلك عن العقيدة كما يشعر بها أو يفكر فيها فهو والأدب سواء في هذا الحق: حق الشعور والتفكير.
•••
ومن أدباء القرن العشرين في الغرب من نروي كلامه عن العقيدة لأنه صاحب رأي فيها.
ومنهم من نروي كلامه لأنه صورة معبرة تدل على مجرى الشعور بين أمثاله، وكلهم يضيفون إلى صفتهم الأدبية صفة المطلع المستفيد من علوم عصره ومباحث علمائه، فهم مثال صادق لزمانهم على كلتا الحالتين.
•••
في مقدمة الأدباء العالميين الممثلين لزمانهم في القرن العشرين (برنارد شو) الكاتب الأيرلندي العالمي الذي عاش من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، وصاحب التطور في مذهب التطور نفسه خلال هذه المدة، فخرج من تجاربه ومطالعاته بمذهبه عن القوة الحيوية، وهي في مذهبه تحل محل الإله في الأديان.
ومذهبه كما لخصناه في رسالتنا عنه أن لا يؤمن بالمادية المطلقة ولا يقول بأن الوجود كله مادة مسيطرة على الفكر والحياة.
بل يؤمن بقوة غير مادية يسميها القوة الحيوية ويقول إنها تتطور بإرادتها، وإن المادة عدو لها في تطورها، وإن ارتقاء هذه القوة في معارج الفكر إنما يأتي من طريق واحد: وهو طريق الخطأ والتصحيح والتكرار والمثابرة، ولا نهاية للارتقاء الذي تبلغه الحياة من هذا الطريق. فإنها تسلكه وتتطلع في كل مرحلة من مراحله إلى القدرة المطلقة والعلم المطلق، وقد تبلغهما في زمن من الأزمان بعد الملايين التي لا تحصى من السنين …
… وأول خطوة من خطوات التطور عنده أن القوة الحية تلبست بالأجساد المادية لتعمل وتستفيد من معاركة المادة وإملاء إرادتها عليها، فأصبحت القوة الحيوية أفرادًا متفرقة بعد أن كانت جملة مجتمعة لا تفرق بين أجزائها.
وظهر الفكر وتقدم من علاج الإرادة الحية للمادة التي تقاومها وتعاديها.
فكل معالجة تتقرر فيها تجربة ثابتة، وكل تجربة ثابتة تجري مجرى العادة، وكل عادة تتجمع مع العادات الأخرى فتهتدي بها الحياة وتتعود التفكير.
ولكن المادة من طبعها أن تعوق الفكر وتصده عن الانطلاق بغير قيد ولا حائل، وينتهي هذا التعويق بتنبيه إرادة الحياة إلى طلب الخلاص من هذه العوائق واعتماد الحياة على الفكر المجرد مستقلًّا من الأجسام، فلا تزال تطلب وتكرر الطلب، وتخطئ وتصحح الخطأ، وتثابر على الطلب والتصحيح حتى تبلغ ما تريد.
ويومئذ لا يبقى من هذه الأجساد الحية غير الفكر الحي المجرد المطلق من جميع القيود.
… وليس في مذهب شو مطلب بعيد على الإرادة، فسوف تتحقق الحياة بالفكر المجرد كما تحقق الفكر نفسه، وكما تحقق الحس والنظر والسمع وسائر الحواس بالمحاولة بعد المحاولة والتصحيح بعد التصحيح.
… ويزعم شو أن التطور الخلاق صالح لأن يصبح ديانة جديدة لأبناء القرن العشرين، وكما قيل عن المعري إنه سئل عن قرآنه فقال: اتركوه حتى تصقله الألسنة في المحاريب. كذلك يقول شو عن ديانته هذه إنها لا تشيع بين جمهرة الناس حتى تنشأ حولها أساطيرها وأماثيلها ومعجزاتها، ولكنها مع هذا خير من الديانات العتيقة وخير من الشكوكية وخير من المادية العمياء، وخير من مذهب داروين العتيق والحديث … ولا يصلح الإنسان على كل حال بغير إيمان.
•••
وبين نوابغ الكتاب الإنجليز في العصر الحاضر الدوس هكسلي صاحب المشاركات المعروفة في الشعر والقصة والفلسفة، وهو صاحب نزعة صوفية واضحة في جميع كتبه، وديانته الصوفية عامة في غير عقيدة محدودة يجمعها مسلك عملي في الحياة قائم على القناعة والإقلال جهد الطاقة من علاقات المرء بالدنيا وهمومها، قطعًا للشواغل السفلى وتوسيعًا لمنادح النفس في التماس مطالبها العليا وتوفير حظها من المتعة بالحق والجمال.
إن تفسير الكون بالقياس والتعقيب هو أنجح أحابيل الشيطان؛ لأن حجته التي تقوم عليها جميع المذاهب الوضعية المادية هي أن الشيء يساوي نفسه (س = س، والأمة وليدة الإقليم الجغرافي، والفرد محكوم بظروفه، ومطالب الشعب السياسية تتوقف على حاجاته الاقتصادية، والفيل له جلد فيل لأنه ضروري له في اجتياز أشجار الغاب بغير ضرر يصيبه … إلخ إلخ)، ومثل هذا التفسير لغايات الطبيعة هو عند الأحمق مفتاح كل باب بغير استثناء سر من الأسرار.
وقد نجح الشيطان في تزويغ الأصول الأولى من المسألة كلها وهي أصول الخلق، والكينونة ووجود الله، وإنما تتحقق الروحانية بالإلحاح كل الإلحاح على المسألة من جانبها هذا.
إن الإنسان — وهو لفة قصيرة بين العالم العلوي والعالم السفلي — لا يفلح في شيء فلاحه في توليد الشرارة التي تنقدح من هذا الالتقاء بين العالمين: شرارة الفكر التي تصهر جميع الأخلاط.
كل تقدم فهو انفصال قد تتابع من النشأة الأولى، فالنبات يبقى مغروسًا في البقعة الصغيرة من تربته، والحيوان يتجول في صقع محدود، والإنسان هو الذي يفارق ويعود.
وهذه الهجرة — وإن حسبناها مجازًا من مجازات الروح — إنما هي حالة لا مرجع منها، وليس على معالم الطريق إلا كلمة واحدة تقودنا من أعلى إلى أعلى: نحو الوطن.
ويل للإنسان — شك أو آمن — إذا فقد القدرة على جيشان الروح. فكل من جمد على يقين قانع فهو فريسة الشيطان، أو هو شر من فريسة الشيطان: هو ممزق سياسة.
ولقد تكون ثورة اليائس حينًا من الأحيان أقرب إلى القداسة من صلاة الجمود.
إن التجربة الصوفية التي لا معدى للإنسان عنها ساعة احتضاره تنم عن وحشة غير مفهومة لا مهرب للروح من عبورها، لعلها في انتظار تحصين يعززها مما فوق الطبيعة.
إن الله أعظم جدًّا من أن يحتوي كلام الإنسان برهانًا على وجوده، وأن صفته العامة — وهي الخير الذي لا نهاية له — لتثبتها بالبرهان الواقع حياة مخلوقاته، إذ هي تؤثر أن تكون على ألا تكون، كيفما كانت محنتها بالخوف والمرض والعذاب والموت.
القانون هو حماية للإنسان من الإنسان، وضعها الإنسان في سبيل الله.
إن الله هو الزمن كله: هو الأبدية.
ومن هنا تتمثل الشيطانية في تمزيق الزمن: فالشيطانية الرجعية تثني على الماضي، والشيطانية الثورية تثني على المستقبل.
كيف كنا قادرين على أن نموت لو لم نكن خالدين؟
وقد احتوى كتاب ويرفل «بين السماء والأرض» نتفًا من هذا القبيل عن العقائد الروحية والخلقية، تفارق المراسم التقليدية في بعض تعبيراتها، ولكنها تعود فتلاقيها حول محيطها وعند غايتها، مما يجعلها مزيجًا عجيبًا من التجديد والمحافظة، ومن الصبغة العالمية والصبغة القومية في أضيق حدود العصبية.
ومن المفيد — وقد لوحظ أن عقائد الأدباء هي في ذاتها موضوع دراسة — أن نستخرج من أقوال ويرفل دلالتها على مصادر الاعتقاد في طائفة من الملل والمذاهب.
فقد تواتر أن العقيدة عند الإسرائيلي تصاحب روح القبيلة أو تستمد العصبية منها، وربما فارق المفكر الإسرائيلي تراثه القديم من باب واحد ليعود إليه آخر الأمر من أبواب شتى، ولو كانت في ظاهرها أبواب إلحاد ومروق. ويصدق هذا كثيرًا على ويرفل كما يصدق أحيانًا على سائر المفكرين من بني إسرائيل، وقد عبر عن ذلك في كلماته التي يفسر بها معنى شعب الله المختار، وقال في إحدى تلك الكلمات: «إن إسرائيل أكثر من أمة: إنها دروشة تاريخية وبيولوجية من شذاذ متفرقين على الرغم من الآحاد الموسرين هنا وهناك، ومن دخل هذه الدروشة بالميلاد طوعًا لأمر الله لن يفك من عقالها إلا في اليوم الأخير قبل ختام الزمان.»
وعقيدة الرجل أن هذه الهجرة الدائمة هي رسالة القوم، وأنه من خفايا الأسرار التي لا تدرك في التاريخ الإنساني أن حب الاستقرار هو الخدعة التي يؤتى اليهود من قبلها كلما حاولوا أن يؤسسوا لهم وطنًا. وقد حاولوا في القدم، قبل عصر المسيح؛ أن يحسبوا مصريين أو بابليين أو يونانيين كما يرى من كل صفحة من صفحات العهد القديم، فمزقت عنهم ستورهم وبرزت جلودهم المعذبة عارية من تحتها كرة بعد كرة، وهذه محاولاتهم في العصر الحديث تسمى تارة بحركة الاستنارة أو حركة العالمية أو التحرر أو الاشتراكية أو القومية وتنتهي إلى المذابح الأوروبية والبولونية. ولم يبق أمامهم الساعة إلا مقر من مقرين تتزاحم عليهما جموع إسرائيل في إصرار وإلحاح كما يتزاحم النمل في طلب النجاة، ولا بد للإنسان على كل حال من أن يعيش.
هذان المقران هما الديمقراطية الأمريكية أو الصعلكة الروسية، وإن قشعريرة الروح من أن تصير إسرائيل إلى أي مصير غير أن تظل إسرائيل؛ لن تستطيع الوقوف أمام هاتين القوتين.
ومهما يستكثر المؤرخ من أمثلة العقائد التي يدين بها المفكرون الإسرائيليون في العصر الحديث، فلن يجد في كل مائة مثال إلا مثلًا أو مثلين يشذان عن هذه القاعدة، وتطرد الأمثلة دائمًا على أن «الجامعة العصبية» لا تلبث أن تملأ فراغ العقيدة من جوانح الإسرائيليين كلما انطلقوا من شعائر دينهم الموروث، فالتعب الذي يحتمله المفكر الأوروبي كي يستعيض عقيدته باسم الإنسانية أو الحضارة أو الروح الكونية؛ يحل محله تعب واحد سريع إلى نفس المفكر الإسرائيلي، وهو الجامعة الإسرائيلية أو رسالة إسرائيل كما يترسمها في مستقبل قريب أو بعيد.
وهذه الظاهرة المتكررة هي إحدى الظواهر التي يرقبها الباحثون المخصصون لشئون العقيدة، ليقرنوا بينها وبين عوامل الاعتقاد في عقول المحدثين والأقدمين.
ولهذه القاعدة شذوذها كما تقدم، ولكنه شذوذ ضخم يكاد أن يلغيها لو كان الشذوذ يلغي قاعدته، فقد تمثل في أديب واحد أوشك أن يحلق وحده في سماء الأدب الصوفي بين قومه من مطلع القرن العشرين إلى منتصفه إذ توفي (سنة ١٩٤٩).
•••
وننتقل من هذا الشاعر الروائي «الحبر» كما وصفوه إلى كاتب روائي عاش زمنًا بين أسرار الشرق ثم قنع بأن يعيش في عالم معطل الأسرار، وهو إدوارد مورجان فورستر مؤلف كتاب (مجاز إلى الهند) وصاحب المقالات النقدية عن أدب الهند وأدب اليونان الحديثين.
ويعد «فورستر» بين أعلام القصة والنقد الفني في اللغة الإنجليزية، ويمتاز على نظرائه بذلك الاطلاع على الأدب الحديث في اليونان والهند، حيث ساح وعمل أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد لخص عقيدته في مجموعة مقالاته، فصرح في أول مقالة بأنه لا يعتقد في الاعتقاد. ولكنه في عصر الاعتقاد حيث تحيط به العقائد المناضلة مدفوع بحكم الوقاية إلى صوغ عقيدة له تغنيه حيث لا تغني السماحة وطيب الطوية والعطف بإحسان.
وبعد أن أشار إلى الإيمان بالبطولة بديلًا من العقائد المتداعية؛ قال إنه ضعيف الثقة بالأبطال لأنهم يمسحون ما حولهم وينكسون جميع الرءوس إلى جانبهم ويحفون أنفسهم أحيانًا ببحر من الدماء إن لم يكن صحراء من الخلاء.
ثم ترجى أن ينبغ من الغيب محل مرموق، فقال: «إنه حين يجيء — إن جاء — لا يعظ الناس بكتاب جديد، ولكنه يستغني عن ذلك بتوجيه العلية من ذوي المزايا الخلقية، وأن يعمد إلى ما هو موجود من العزائم الصالحة والشمائل الطيبة فيجندها للعمل الناجز، أو هو بعبارة أخرى سيأتي بترتيب جديد. وقد قيل لنا في شئون الاقتصاد إنها لو وضع لها ترتيب جديد لما كان هناك محل للفاقة ولما هلك الناس جوعًا في مكان ونبذوا الفاضل من الغلات في مكان آخر، فمثل هذا التغيير مطلوب في ميادين الأخلاق السياسية، وليس هذا بالمطلب الجديد. فإنه قد طلب بالأسلوب اللاهوتي على لسان جاكوبون داتودي قبل ستمائة سنة حيث يقول: «يا من تحبونني، رتبوا حبكم على وفاق!» ولكنه طلب لم يستجب، ولا إخاله سيجاب غدًا، ومع هذا أرى أن الخلاص إنما يأتي من هذا الطريق لا من طريق تغيير طبائع القلوب، فليس الأمل أن يصبح الإنسان أحسن من هذا الإنسان، بل الأمل أن يرتب ما فيه من الخلق الصالح وأن يحسن توزيعه فيغلق على العنف صندوقه ويفسح الوقت لكشف أسرار الكون وطبعه منه بطابع كريم. أما الآن فإنه يكشف أسراره اتفاقًا على أوقات متفرقات كأنه يغتنم الفرصة من التفات القوة العنيفة إلى ناحية أخرى، وتبدو ملكاته الإلهية المبدعة كأنها محصول عرضي يقتلع ساعة تدق الطبول وتطن القاذفات.»
ثم قال إنه ضعيف الرجاء في تحقيق هذه النبوة بالوسائل الدينية الحاضرة، وإلى أن يفلح علماء النفس وعلماء الحياة في خلق لحام جديد يربط بين الناس سيظل كل إنسان فردًا راضيًا بما قسم له قانعًا بصفوة ما يتأتى له من مؤونة قليلة الصفاء.
•••
«وقد ذكرت كلمة الروح مرات، والواقع أنني أرى للقوة الروحية والنفسية مكانًا هامًّا في الكون … وأعتقد بصفة خاصة أن المقاربة بين الروحي والمادي تصدق في تجارب الجماعات كما تصدق في تجارب الآحاد …»
ثم ختم رسالته قائلًا: «وإلى هنا لم أقل شيئًا عن الله بالمعنى الشائع لهذه الكلمة، لأنني أجد من العسير علي أن أقرر معنى يقينيًّا أو مقاربًا لليقين في هذا الموضوع.»
ومضى يناقش الفلاسفة في صفات الله، ولا يرى كيف يكون التوفيق بين القدرة الكاملة وما يعتري الكون من الآفات والعيوب، ويرجح أن المادة عائقة للمقاصد الإلهية، وأن الإنسان مطالب بأن يجتهد اجتهاده لتغليب تلك المقاصد على ما عداها.
وجملة ما يفهم من فلسفة رومان — وهو فيلسوف درس الفلسفة زمنًا — أن روح الإنسان وروح الأمة ملاذ صالح للمقاربة بين المقاصد الإلهية والمقاصد الدنيوية، وأن الإجماع اللدني الذي يهتدي إليه الناس بداهة وارتجالًا غير مصطنع ولا مدير هو أصدق ما يشعر به الإنسان من وحي الله.
•••
ومن النادر جدًّا أن يشتهر في أمم الشمال (السكندنافية) أديب معطل كل التعطيل، ولكنك تلمح في كتابات المفكرين منهم لواعج القلق التي تشبه لواعج العاطفة السوارة: فهي شوق غير مستقر وغير ضعيف وغير مفارق، ولا حيلة فيه لصاحبه إلا كحيلة المحب الذي يقنع بما في أعماق وجدانه من الشوق، ثم لا يحاول أن يسلط عليه أنوار النهار، وكأنما عودتهم أجواء بلادهم أن يعيشوا تحت السحاب ويسكنوا إلى الليل الطويل، فليس من اللازم عندهم جو الوضوح والإشراف.
وقد تردد منذ سنتين اسم كاتبهم السويدي «لاجر كفيت» صاحب رواية «باراباس»، ذلك اللص الذي اختاره الأحبار والشعب للعفو عنه بديلًا من السيد المسيح، وليس إيمان «لاجر كفيت» كإيمان البسطاء في الرواية، ولكنه يستلهم الإيمان من تلك البساطة ويروض حيرته الذهنية البادية من خلل السطور على الاقتداء بهؤلاء البسطاء، فإن كان ذهنه يعجز عن حل مشكلاته فاللوم عليه، ولعله لا يضيره أن يعيش بذلك الذهن الحائر ما دام يحس في الأعماق تلك الذخيرة المحتجبة المضطربة، وما دام له ذلك العطف على بساطة الإيمان.
•••
وفي الشعر تكثر شواهد الاعتقاد الشخصي ويسهل على القارئ أن يلمح من تصفح ديوان الشاعر قبلته في العقيدة الدينية.
أما ماسفيلد فهو مؤمن بالله يتجاوب شعره في الأزمات العالمية بما يشبه الصلاة، وفي إحدى قصائده (عونًا للإنسان) يناجي الأمل الذي يتطلع إليه ابن آدم كما يتطلع إلى فلق الصبح لا إلى نجم عابر، أو كما ينظر إلى نهار صاح يعيش فيه لا كما ينظر إلى علامة متنقلة، ويقول إن كل مخلوق آدمي يولد هو روح يلبس الجسد في حجته بين ظلماتنا، ويقبل من الغيب مزودًا بالجمال والحكمة والفرح، فيجمع بيننا الحزن والحماقة والشطط، فإن لم يقض بعد ذلك قتيلًا مات وهو مجلل بأخطاء الزمان.
ثم يتساءل: «أما كان الأحرى بكل مولد أن نستقبله كأنه طالع إلهي يؤم بالناس قبلة الإخاء الذي هم في حاجة إليه؟ أما كان الأحرى به أن يكون دعوة لقادم جديد يقبل إليهم بعد عناء؟ أليس هذا التقديس للحياة جديرًا أن يمهد لعيش أكرم وأسلم، وأن يكون من إيمانه أنه عالم يعمه الإخاء، ومن خيره أنه جنة على الأرض، ومن رجائه أنه صدى للغناء — هناك!»
وهو يومئ «بهناك» إلى عالم لا يسميه ولا يشير إلى مكانه، ولكنه هناك … مأنوس محسوس.
أما إليوت فقد مضى عليه سنوات وهو يطرق بابًا من أبواب المجهول ثم يوصده أو يولي عنه إلى غيره، أو هو يشك لسبب ثم يشك لسبب آخر ثم يوازن بين الأسباب، حتى انتهى به المطاف إلى التمذهب بمذهب الكنيسة الكاثوليكية الإنجليزية، إيثارًا للاعتقاد في الجماعة، وإيمانًا بواجب كل فرد أن يتصل ولا ينفصل في مسائل الديانة حيثما استطاع.
قرأت مرة عن راعي غنم سئل: لماذا صنع من تمائم السحر تعويذة إلى القمر عسى أن يحرس له قطيعه؟ فقال: لو لم أفعل لحقت علي لعنة الحماقة.
وهذه القصائد بكل ما فيها من الخشونة والشك والخلط قد نظمت في حب الإنسان والثناء على الله، ولو لم أنظمها لحقت علي لعنة الحماقة!
وقد اخترنا هؤلاء الشعراء الثلاثة لأنهم جميعًا شعراء معبرون عما يحسونه في أنفسهم وما يحسونه حولهم، وأعرضنا عن أدعياء الأفانين ممن يهيمون بكل أفنونة معتسفة لا حياة لها في أنفسهم ولا في العالم، ولا معنى لها غير أنها فقاعة في رغوة طافية، تلمع ثم تنفجر بعد قليل.
•••
والاهتمام بعقائد الفنانين من المصورين والموسيقيين والممثلين مطلب لا يقل في دلالته وقيمته عن عقائد الشعراء والأدباء والفلاسفة، ويزيده دلالة أنهم يصدرون عن البداهة الصامتة في فنونهم، ويباشرون دقائق الخلق والإنشاء عملًا لا يلتبس بأخطاء اللفظ وتعبيراته.
أما الأخلاق فرأيه فيها أن المتدينين يسندون أعمالهم خطأ إلى الإرادة الإلهية، فإنهم لا يعلمون هذه الإرادة ويضطرون إلى استجلائها بالصلاة والدعاء إذا عم عليهم أمرها، وخير للفضيلة وللناس أن يبنوا عملهم الخلقي على أساس من حب بني الإنسان. فإن الله غني عن حبنا، وأما بنو الإنسان فلا يستغني بعضهم عن حب بعض، ولا تزال العداوة بينهم مفسدة للأخلاق والضمائر، ولا يصدق كوليير بالعذاب الأبدي لأن الأبد ديمومة ليس لها نهاية، وعمر الإنسان محدود فلا يجزى عن الخطأ المحدود بعقاب دائم سرمدي لا يعرف الحدود، وهو يقول عن الحياة بعد الموت: «إنني لا أعني أنني أنكر إمكان الحياة الأبدية خارج الزمان والمكان، وإنما الذي أعنيه أنني لا أفهمها وأنها لا تشبه الوجود كما أفهمه.»
وبعد استطراد قصير قال: «إن العلاقة بين العقل والمادة لمن الخفاء بحيث يحسن الوقوف منها موقف اللاأدرية. فقد يحتمل أن يوجد العقل مستقلًّا من المادة ويحتمل أن يكون للحياة بعد الموت صلة مادية، وحقيقة الأمر أننا لا نعرف عن ذلك شيئًا، ولعل هناك موضعًا للرجاء.»
ولا ننسى أن هذا الكتاب ظهر في غاشية الحرب العالمية الأولى، وأنه مشوب بالكثير من دواخينها ونيرانها، وليس في مؤلفات أقطاب الفنون ما يبسط القول في العقيدة الدينية، وليس لدينا أيضًا ما يدل على شيوع هذه النظرة التي شرحها كوليير في كتابه بين أولئك الأقطاب.
أما الأدباء والفنانون المتدينون بديانة الآباء والأجداد فهم غير قليلين، ولكننا نقصر القول في هذه الرسالة على الجديد الذي تمخضت عنه أحوال القرن العشرين باجتهاد المجتهدين ومحاولة الباحثين، ومما أجملناه آنفًا — وهو نموذج صالح للقياس عليه — يتبين لنا أن المؤمنين منهم بقوة غير القوة المادية يزيدون على غيرهم، وأن القرن العشرين قد أبرز من ذوي العقائد المجتهدة طائفة لم يكن لها وجود محسوس في القرن التاسع عشر، إذ لم يكن فيه صوت لغير الإلحاد أو الإيمان الموروث.