عقائد الفلاسفة
تتقابل في مذاهب الفلاسفة مدرستان خالدتان، لا تزال كل منهما تتجددَا عصرًا بعد عصر باسم جديد، وهما المدرسة المادية والمدرسة العقلية أو الروحانية أو المثالية، وكلها أسماء لمسمى واحد في النهاية.
فمدرسة الماديين — كما يدل عليها اسمها — ترجع بالمعرفة إلى التجربة المحسوسة، وغيرها من المذاهب العقلية أو الروحانية أو المثالية ترجع بها إلى شيء غير التجربة المحسوسة، وقد تستعين بهذه التجربة ولا تبطل عملها في المعرفة، ولكنها لا تسلم القول بأنها هي المصدر الوحيد.
وفي القرن العشرين تقابلت هاتان المدرستان، واتسمت كل منهما بالتطرف في دعواها، كما يحدث كثيرًا في موقف التحدي والمناجزة العنيفة.
فمدرسة المنطق الوضعي لا ترى محلًّا للبحث فيما وراء الطبيعة؛ لأنها ترجع بالمعرفة كلها إلى الحس، وكل كلمة لا نرى مصداقها في شيء محسوس فهي لغو فارغ وقرقعة أشبه بقرقعة الأصوات المادية.
أما المذاهب الفلسفية الأخرى التي لا تقبل دعوى المنطقيين الوضعيين فتجمعها جامعة واحدة في النهاية، وهي الرجوع بالمعرفة إلى غير المادة، أو الرجوع بها إلى ما وراء الطبيعة.
ومن هؤلاء الفلاسفة الذين ينظرون فيما وراء الطبيعة من يقابلون الغلو الوضعي بغلو مثله أو أبعد منه مدى في الناحية الأخرى، فينفون وجود معرفة قط تستغني عن النظر فيما وراء الطبيعة، ولا يستثنون من ذلك معارف الحسيين والواقعيين في أضيق حدودها.
غير أن المذاهب الوسطى من مذاهب ما وراء الطبيعة تضيف ولا تحذف.
تضيف وسائل البحث الفكري إلى وسائل التجربة الحسية، ولا تحذف من برنامجها وسيلة علمية أو واقعية يستعان بها على المعرفة.
فبدلًا من شعار «هذا أو ذاك» تتخذ لها شعارًا جامعًا لهذا وذاك وزيادة، ومن هذه الزيادة حسبان الإلهام والبداهة من وسائل المعرفة عند طائفة من فلاسفة «ما وراء الطبيعة» في العصر الحديث.
فمعظم المدارس العقلية في القرن العشرين تدخل العلم في تقديرها وترجع إلى شعبة من شعبه في تأسيس دعائمها، ومنها علم النفس وعلم الطبيعة ومذهب النشوء والارتقاء في حدوده العلمية.
ونحن مجتزئون في هذا الفصل بتلخيص فكرة الإيمان كما يدين بها كل مذهب من هذه المذاهب.
فالحس لا يعطينا كل المعرفة، والتفكير كذلك لا يعطينا المعرفة كلها ولو كانت مستمدة من الحس والتفكير، والكلمات تعطي المعنى ولكن المعنى غير المعرفة التي تقع في وعي العارف.
أما المعرفة بالله خاصة فهي «وقع» مباشر لا يعتمد على الحس؛ لأن الله لا يقع تحت الحس، ولا يعتمد على الفكر لأن الفكر لا يحده، ولا يعتمد على الكلمات لأن الكلمات تنقل معناها ولا تزيد عليه، وإنما تستقر المعرفة بالله في الوعي مباشرة بما يقع فيه من جملة المعارف الحسية والفكرية والمعنوية وزيادة عليها، وكونك لا تستطيع حصرها في اللفظ لا ينفي وجودها، فإنك لو جربت حصر معنى واحد في المعاني الحسية في لفظ جامع مانع لاستعصى عليك أن تحصره وتقنع بحصره، فكيف بالمعرفة التي لا تدانيها معرفة في الشمول والكمال؟
وأما مذهب الزمانية المكانية فرأس القائلين به هو صمويل ألكسندر الذي نشأ في استراليا وعاش في إنجلترا، وصفوة الرأي فيه أن الوجود حركة وأن الحركة الأولى نشأت من اتصال الزمان بالمكان، وأن صفات الموجودات هي جملة حركات منوعة، وأن الله هو غاية هذه الحركات، فهو الكمال التالي لكل مرحلة ينتهي إليها الكون، ولا يزال الكون يحقق بالحركة كمالًا بعد كمال.
وقد يبدو هذا المذهب، لأول وهلة، ممعنًا جد الإمعان في غوامض ما بعد الطبيعة، ولكنه في دعائمه لا يعدو أن يكون تفسيرًا خاصًّا لمعنى الجسم المادي في علم الطبيعة الحديث.
فالأجسام كلها تتألف من الذرة، والذرة تنشق وتنطلق فتصبح شعاعًا، والشعاع هو حركة في الأثير أو الفضاء؛ لأن أوصاف الأثير في علم الطبيعة مطابقة لأوصاف الفضاء.
وكأنما يقول الفيلسوف إن الحركة هي الزمان، وإن الأثير هو المكان، وإن المادة وجدت حين وجد الشعاع، أي حين اتصل الزمان بالمكان، وإن تنوع الموجودات إنما جاء من تلاقي الحركات واتحادها في الجهة، ثم يزيد على ذلك نتيجة مذهبه وهي تقدم الحركة مع تقدم الزمان.
أما مذاهب التطور الانبثاقي أو التطور المنبثق وسائر المذاهب التي تمت إلى النشوء والارتقاء فلها شراح كثيرون، وهي مذاهب واسعة الآفاق يدخل فيها حتى مذهب الزمانية والمكانية الذي يذكر باسم صمويل ألكسندر، وكل شراحه من أقطاب الفلسفة في اللغة الإنجليزية أمثال ويتهيد ومورجان وسمطس، وكلهم يؤمنون بوجود القوة الإلهية على اختلاف في تصوير علاقتها بالكون والإنسان، ومنهم من يؤمن بقدم الأشياء جميعًا وحدوث تراكيبها وأطوارها، ويكل إلى الله تدبير الخلق وإخراج الأطوار والتراكيب من بسائطها الأولى، ومنهم من يعتبر كل موجود مركب كائنًا عضويًّا لأنه كالجسد الحي في ضرورة تركيبه وتماسك أجزائه، ويعتبر الحياة تركيبة مميزة بين هذه الكائنات العضوية، والمهم في هذه الفلسفات بالنظر إلى موضوع رسالتنا عن عقائد المفكرين أن وجود الله لازم فيها لتفسير كل موجود، وأن أصحابها مؤمنون فلسفيون، وإن لم يكونوا مؤمنين بالديانة «الرسمية».
ومن رأي كولنجود في هذا البحث أن المادية لم تزل منذ ظهرت في القرن السابع عشر محاولة لم تصل إلى محصل، ولم يزل ربها — أي الكون المادي — إله خوارق وأعاجيب تخفى على العقول، وأنها تعلق رجاءها على الغيب عسى أن يجلو الزمن أسراره مع تقدم العلوم، وأنها بمثابة من يكتب صكوكًا ضخامًا على رصيد غير موجود، وأن زعمها أن الفكر إفراز من الدماغ كإفراز الصفراء من المرارة قد يحسب من تصديقات المتدينين ولكنه في نظر العلم إنما هو تمويه وتهويش. ويتهكم كولنجود ببعض دعاة المادية الأسبقين فيقول: إنك لو بدلت كلمة هنا وكلمة هناك من كلامه عن المادة لسلكتها في عداد الصلوات.
وفي عالم الفلسفة الإنجليزية أناس مثل كولنجود يسمع حكمهم في المسائل الفلسفية ولا يسلكون بين أصحاب المذاهب والمدارس، وقيمة آرائهم أنها آراء مستقلين لا يعنيهم ترويج هذا المذهب أو ذاك ولا يحاسبون على أفكارهم المتفرقة بحجج المؤمنين ولا بحجج المنكرين، وهؤلاء النقدة الفلسفيون هم ميزان الآراء بين المدارس الفلسفية والعلمية، ومن هذا الميزان يتبين أن الفلسفة المادية في هذا العصر أضعف من أن تهاجم العقيدة في معقل أو في مقتل، وأنها قد تراجعت من الهجوم المتلاحق إلى الدفاع الذي لا يعززه دليل مقبول.
من هؤلاء النقدة الفلسفيين غير كولنجود أستاذان لا يقلان عن أقطاب المذاهب، ولا يعيبهما أنهما لا يشتركان في مباحث الفلسفة بمذهب ينسب إليهما. بل لعل هذا مما يشهد لهما بأمانة العلم والحيدة بين البراهين والأسانيد التي تتساوى عندهم في القوة والإقناع.
ويوازن برود في محاضرته عن وجود الله بين الكفتين المملوءتين بحجج المعتقدين والمتشككين، ثم يختمها بهذه المعادلة التي استقر عليها رأيه فيقول: «إن النوع الإنساني إذا استمر على اعتقاده وبحثه في التجارب الدينية فسوف يأتي الزمن الذي تختلف فيه عقائده حتى لا يعرفها من عرفها كما هي الآن، ولكن هذا الحكم يسري بقضه وقضيضه على مدركات العلم ونظرياته، ومن الهزل أن يدعى لنحلة من النحل أنها فرغت من تقرير الحقائق جميعًا في هذه المسائل كافة … ولكن الطرف المقابل لهذا الطرف يهزل كهذا الهزل — وإن لم يكن مثله تمامًا — حين يزعم أن تجارب الدين كلها وهم وخداع …»
•••
وخير ما يستفاد من المادية العصرية، أو الآلية العصرية، في اعتقاد (جود) أنها تعطينا الوقت الكافي لاستملاء محاسن القيم النفسية كالخير والحق والجمال. لأن علمنا بقوانين المادة قد أغنانا عن ملابستها كما كان يلابسها آباؤنا وأجدادنا، فنحن — بحركة أصبع — نطلق من القوى الآلية ما كان آباؤنا وأجدادنا ينفقون العمر وهم يعملون برءوسهم وأيديهم وأرجلهم، ولا يقدرون على إطلاقه، وادخار هذه الجهود لا فائدة له إن لم نكسب به قيمًا باقيًا في ميادين الخير والحق والجمال، وعلى هذا التقدير يكون العصر المادي أو العصر الآلي مقدمة لعصور أخرى يتضاءل فيها شأن العوامل المادية والآلية جيلًا بعد جيل، إن لم يصب بنو الإنسان بنكسة ليست في الحسبان.
•••
وأهم المدارس الفلسفية في غير إنجلترا وألمانيا هي مدارس الوجودية الفرنسية على نهجيها من وجودية متدينة ووجودية ملحدة، وهي أخص المدارس الفكرية بالقرن العشرين؛ لأن بواعثها لم تنتشر قط في عصر سابق كما انتشرت فيه، وبواعثها هي طغيان روح الجماعة على استقلال الأفراد، وتفاقم الشرور العالمية وأزماتها الروحية في ضمائر المفكرين، وسنجمل الكلام فيها على حدة.
وليست هذه الآراء والمذاهب مستوعبة لفلسفة ما وراء الطبيعة في تلك الأمم، ولكنها في زبدتها مثال صالح لاتجاه العقول والنفوس الذي لا تنحرف الأفكار العامة عنه بعيدًا، وإن تمثلت على تفاوت بينها في عقائد الأفراد، كما يتفاوت الأفراد عادة في مسائل الفهم والشعور.
وزبدة الفلسفة التي بسطها كروتشة في تصنيفاته الكثيرة هي نفي المادية وتغليب الفكرة الخالقة على عوامل الكون والحياة، فليس في الكون حقيقة أبدية غير العقل الإلهي، وخلود النفس عنده معناه أنها جزء من حقيقة الكون في أعماقه، تتراءى في صور المادة ثم تخلفها صور أتم منها وأكمل وأعلى إلى غير انتهاء.
وزبدة فلسفة أنامونو أنه كان في بيان ديانته «يميل بقلبه وشعوره إلى المسيحية دون أن يأخذ بقضايا الاعتقاد في هذه النحلة أو تلك …» وهذه مسألة قلبية، وأعني بأنها قلبية أنها لم تثبت عندي على النحو الذي أثبت فيه أن اثنين واثنين تساوي أربعة.
وفي أقوال أبطاله ومحاورات قصصه زبدة أخرى أدل على لباب عقيدته من ذلك البيان، فليس الله ما تحتويه بفكرة أو أمثولة، ولكنه ما تطلبه بشوق وجهاد، وليس حساب الله للإنسان على ما كان بل على ما ينبغي أن يكون ثم قصر دونه بغفلته وإسفافه وإيثاره الحلوى الصبيانية على غذاء النضج والنماء، ومن قال إنه إنسان وقنع بأن يظل إنسانًا في أهوائه ونزواته فنهايته أن ينحدر عن منزلة الإنسان إلى حضيض الحيوانية، وإنما تتم له فضائل الإنسانية حين لا يقنع بها ويتسامى إلى ما فوقها، ولا يكف عن السعي لأنه يسعى في طريق الأبد، وليس للمسعى في طريق الأبد من قرار.
•••
ومن الحالات التي تلوح للنظرة الأولى كأنها إحدى المفارقات أن العالم الجديد أميل إلى المحافظة الدينية من العالم القديم، بيد أنها في الواقع حالة طبيعية منطقية لا محل فيها للمفارقة. إذ كان المجتمع الأمريكي الأول قد قام على عقائد المهاجرين المتنطسين الذين لاذوا بالعالم الجديد فرارًا بعقائدهم من اضطهاد خصومهم ومعارضيهم، وإذ كانت ثورة التمرد على الدين بين أمم القارة الأوروبية قد نجمت من مقدمات طويلة في تاريخها لم يحدث لها نظير في تاريخ القارة الأمريكية، فلا جرم يغلب الميل إلى الاعتقاد على مذاهب الفلسفة التي يتمخض عنها مجتمع العالم الجديد، ويقال عنه إن مذاهبه هي الجناح الأيمن في صفوف الدين، ويصدق هذا بصفة خاصة على مذهب رويس الذي ألمعنا إليه.
فالفضيلة العليا في مذهب رويس هي توسيع الحياة الإنسانية حتى تخرج من أفقها الضيق المحدود إلى أفق «اللانهاية» الإلهية، وعلامة الالتقاء بين الأفق الإنساني المحدود والأفق الإلهي السرمدي هو الخلق الذي تجاوز المنافع الفانية، فما الإنسان في حياته الخاصة إلا شذرة من الحياة الأبدية المطلقة، تظل مغلقة إذا غفلت عن مصدرها وتثوب إلى ذلك المصدر كلما تنبهت إلى مبادئها وغاياتها، وليست الحياة الإنسانية الخاصة مفهومة على حدة ما لم تنزل في منزلتها من الحياة الأبدية المطلقة، فهي كالنغمة الموسيقية التي لا معنى لها مع انفرادها، والتي تترجم عن الأبد كله عند تنسيقها مع سائر النغمات.
وفي مذهب رويس أن العالم إرادة وفكرة كما في مذهب شوبنهور المعروف، ولكن الإرادة والفكرة فيه تتعاونان ولا تتناقضان، وتمام التعاون بينهما أن يخرجا من المحدود إلى غير المحدود.
وقد حل رويس مشكلة الشر باعتبارها آية من آيات الكمال الإلهي تثبت الكمال ولا تنفيه، فإنما الكمال أن يعارض النقص معارضة فعالة لا أن يكون قوامه سلبيًّا لخلو الكون من النقائص والشرور، فآية الكمال أن الله يخلق الخير ويخلق له أدواته التي يقاوم بها نقيضه، ولو قام الخير مفردًا بغير نقيض لما تم له الكمال. وتبدو ملامح الفلسفة الألمانية واضحة في مذهب رويس ولا سيما مذهبي هيجل وشوبنهور، ولكنه يغربل المذهبين ويستصفي منهما عناصر الإيمان والتوفيق بين العقيدة الفلسفية وعقائد الديانات.
•••
وبعد فإن الفلسفة تذهب في كل مذهب، وتتسع للتصور كل متسع، إذا تتبعناها إلى أطرافها لم نحصرها في أقسام محدودة، فإذا تتبعناها إلى مركزها أو محورها فهناك يتأتى تقسيمها إلى أقسامها المجملة، ومن النظر إلى مراكز الفلسفة في القرن العشرين يخلص لنا أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
(١) طائفة نفضت يديها من مباحث «ما وراء الطبيعة» لأنها من المجهولات التي لا تعرف ولا تقبل المعرفة بالوسائل العلمية أو العقلية، وينتمي أصحاب المنطق الوضعي إلى هذه الطائفة، كما ينتمي إليها الشكوكيون، أي اللاأدريون.
(٢) وطائفة جزمت بإنكار ما وراء الطبيعة ولا سند لها من نظريات العلم في القرن العشرين، ولا سيما النظريات التي خرجت بالمادة من صورتها في العلم القديم إلى الصورة التي جعلتها في عداد المعقولات الرياضية.
(٣) وطائفة تؤمن أو تتجه إلى الإيمان، ولا تجد من العلوم الحديثة تلك المقاومة التي كانت راصدة لها قبل القرن الأخير.
ومجمل القول في موقف الفلسفة كلها في هذا القرن أن الفلسفة المادية تتراجع من الهجوم إلى الدفاع بسلاح غير فعال.