كلمة على الغلاف
نعم هي كلمة على الغلاف، ولكنها ليست بالغريبة عن موضوع الرسالة ولا عن الموضوع كله: وهو موضوع العقيدة وذوي الرأي فيها.
فمن المسائل التي يتفق عليها الأكثرون، إن لم نقل إنها محل الإجماع، أن المشكلة الكبرى في العصر الحاضر إنما هي مشكلة العقيدة، وأن أزمة الضمير الإنساني في عصرنا هي الأزمة الشاملة التي تنتهي إليها جميع الأزمات، ولولاها لهانت كل أزمة وجدانية تعترض حياة الإنسان، فردًا كان أو جماعة.
وما من أحد يستغرب الكتابة عن أزمة العصر كله، فالغريب حقًّا أن يسكت عن هذا الموضوع ولا يستوفي الكلام فيه من جميع نواحيه، فإذا كان في الناس من يستغربه ويستنكر الكتابة فيه فالأمر واضح … إن هذا المستنكر واحد من اثنين: إما مسخر للعاملين في زماننا هذا على هدم جميع العقائد وتقويض كل دعامة قائمة من دعائم المجتمع الإنساني في كل بيئة، وإما عاجز مستسلم للكسل والحسد، يداري عجزه بالتطاول على كل عمل مفلح، كائنًا ما كان.
ولكنهم مع هذا يتركون السبب الواضح ويلغطون بالتهم والظنون، وأول هذه التهم والظنون وآخرها أن الكاتبين في مسائل العقائد إنما يطرقون هذا الموضوع طلبًا للربح وابتغاء الرواج عند الدهماء.
فيما يعنيني أنا يكفي أن أرد على هذا اللغط المسف بكلمتين: أولهما أنني أعاقد الناشرين على طبع كتبي، ولمن يشاء أن يطلع على عقود الاتفاق بيني وبين الناشرين، فلا فرق فيها بين كتاب في الأدب وكتاب في المعتقدات. لا امتياز لعبقرية المسيح مثلًا على دراسة في ابن الرومي أو في ابن رشد أو في باكون أو في أي غرض من الأغراض التي لا تدور على المعتقدات.
والكلمة الثانية أنني لو كتبت للربح؛ لما طرقت هذه الموضوعات التي تكلفني الجهد والنفقة. فإن نظرة واحدة إلى كتاب عبقرية المسيح مثلًا، أو إلى هذه الرسالة، تدل العارفين على مراجعها، وأنها لا يمكن أن تكتب قبل الرجوع إلى مئات المصنفات، نشتريها فتكلفنا ثمنًا ثقيلًا، ونطالعها فتكلفنا جهدًا مضنيًا، ونوازن بينها فترهقنا وتلجئنا إلى الاطلاع على مئات الصفحات قبل أن نخرج منها بصفحة واحدة. فما أغنانا عن كل هذا؟
ما أغنانا عن إنفاق المال والصبر على المطالعة والمراجعة إن كان غاية ما نبغيه الكسب والرواج؟
لقد كان أيسر من هذا جدًّا أن نضع القلم على الورق بغير مطالعة ولا مراجعة فنخط به قصة من قصص الشهوات التي تروج وتحسب عند الأغرار من فتوح الإبداع والتجديد، فإن لم تكن تأليفًا فلتكن ترجمة، ولتكن من قبيل الصور العارية التي تملأ المكتبات مخطوطة ومرسومة، ولا تعب في ترجمتها ولا كلفة ولا صعوبة في البحث عنها، ولا في توخية الناشرين عليها في مظانها، كما نفعل في التوصية على غيرها، من كتب الدراسة والتفكير.
كان ذلك أجدى علينا لو أردنا الربح والراحة، وكان ذلك غنمًا لنا عند هذا «الواغش» البشري الذي لا يتورع عن خسة الافتراء بغير بينة ولا حياء.
لكن الرجل الذي قضى حياته يحارب الأضداد ولا يبالي خسارة تصيبه من هذه الحرب التي لا هوادة فيها — آمن ما يكون شرفًا من تطاول المتطاولين وبهتان المفترين.
ولا والله ما في هذه المفتريات ما يوجب الرد عليه لو كان قصارى الأمر أن ندفع عنا ما يفترون.
ولكننا نميط الأذى عن الموضوع نفسه، لكيلا يخطر على بال أحد أنه موضوع تجارة وتمليق أهواء، أو ابتغاء المرضاة من الدهماء، وما من أحد يفهم ما يقول يزعم أن صاحب كتاب «الله» أو الفلسفة القرآنية أو عبقرية المسيح، أو هذه الرسالة في عقائد المفكرين، يبتغي الدهماء بحرف واحد مما يكتب، وليس شيء منه بالذي تصبر عليه طاقة الدهماء.
وفي هذا الكفاية! وموعدنا كتب أخرى، بعد كتب أخرى، عن العقائد والمعتقدين إن شاء الله!