مركز الكون
نشر كوبرنيكس كتابه قبل وفاته بسنة (١٥٤٢م) وتردد طويلًا قبل نشره كأنه قدَّر بحق أنه سيغضب عليه الملأ جميعًا ويعرضه للسخط والنقمة.
وثبتت آراؤه مع الزمن فآمن بها الفلكيون وأخذوا في تصحيح ما يحتاج منها إلى التصحيح، وهو كلامه عن دوائر الفلك ونظام الحركة في كل دائرة منها، ويومئذ بدأ العلماء والمفكرون ومعهم رجال الدين يتساءلون: ترى أي شيء في هذا الكشف الكوبرنيكي خالف قواعد الدين وخرج على سنن الإيمان؟ ولأي شيء صودر الكتاب وأجمعت شعاب الكنيسة من رومانية إلى لوثرية على تحريمه ومنع تعليمه؟
كانت الأرض مسرح درامة التاريخ والإنسان فيها ذروة الخليقة وغايتها، وجاءت الكوميدية الإلهية من نظم دانتي ختامًا لعهد مدبر، كان نظام الكون فيه كأنه عملية إخراج مسرحي لقصة الإنسان. ففي ناحية من الأرض كهف مطبق على دوائر جهنم، وعلى جبل في ناحية أخرى ترتفع دوائر الأعراف، وفوق هذا الجبل على مسافة منه وردة الفردوس التي يستوي على ورقاتها القديسون والأبرار، وكان من اليسير في ذلك العهد أن يبني الخيال أساس رموزه غير منقوضة بحقائق الواقع المقرر، ولم يكن عليه شبهة من عنت التوفيق بين مدى الأيام الستة وآماد التطور الكوني على حسب المعلومات الأخيرة. وقد كافح الناس كفاح الأبطال لملاقاة مشكلة الشر ليصبروا عليها لا ليصرفوها ويفسروها التفسير الذي يمحوها، وأحسوا الظلمات من حولهم فالتمسوا العزاء فيها باعتمادهم على قدرة الله أن يبدل النواميس الطبيعية بنعمته ويحيلها روحانية علوية، ولم تزل قوى الطبيعة تلوح لهم طيعة خاضعة لعالم الروح جارية في خدمة الأقدار التي تتلقاها مما وراء الطبيعة. كانت دنيا مكنونة في حيز ملموم تطلع الشمس لتنيرها بالنهار ثم تطلع النجوم لتنيرها بالليل …
ثم هبت ثورة كوبرنيكس وفتحت الأعين على نظرة علمية إلى الوجود كله، فليست الأرض مركز الكون بل ذرة لا يؤبه لها في إحدى المنظومات الصغيرة. وسأل السائلون: ما هو هذا الإنسان الذي تتولاه بعنايتك؟ وما هو ابن الإنسان الذي تخصه بزورتك؟ إن الأرض وعليها الإنسان ضائعة في آفاق ليس لها نهاية، وهذه الآفاق الكونية بما وسعت محكومة كلها بالقوانين الآلية. ولم يقل «لابلاس» غير المقال الذي يردده الجميع حين قال لنابليون إنه لم يجد ضرورة لفرض إله في نظام المكنة العلوية. وإذا كانت كشوف كوبرنيكس قد أبدت لنا هذا الإنسان ضائعًا في المكان لقد جاءت آراء داروين فأبدته لنا ضائعًا في الزمان، فتراءى كأنه حلقة في سلسلة الحياة، أولها وآخرها محتجبان في غياهب الخفاء بدلًا من قيامه على أوج الخليقة الأولى.
في دنيا العلم هذه يُرى أنه لا محل للديانة المشبهة ولا للإله المشبه، ويرى أن القلب الإنساني قد ضيع نفسه مستسلمًا للعقل كفاحه بين يدي الله …
هذه صورة صادقة للعالم كما بدا في أعين الناس بعد أن جاء كوبرنيكس، فأخرج الأرض من مركز الكون وأطلقها مع الشمس في أجواز الفضاء!
لكنها في أساسها صورة كاذبة لا أصل لها على الإطلاق في المعتقدات الدينية، فليس في الأديان الكتابية عقيدة توجب على الإنسان أن يؤمن بجمود الأرض في مكانها ودوران الأفلاك من حولها، وليس في الأديان الكبرى قاطبة حكم من الأحكام يعلق مقاصد الخلق على وضع من أوضاع الفلك، وما كان لغير العادة المألوفة والفهم الخاطئ دخل في تصوير العالم على تلك الصورة.
لقد كانت صورة الأرض في وسط العالم من عمل أرسطو وبطليموس، ولم يتفقا على وضعها في ذلك الموضع ولا على تقدير الحركات الفلكية التي تحيط بموضعها، مما حير كوبرنيكس وأحزنه. فحكمت العادة أيضًا حكمها عليه وخيل إليه أنه يقتحم على الفلك هيكله الأقدس، وهو يبحث فيه عن مستقر يوفق بين دورة أرسطو ودورة بطليموس … وقال للبابا إنه طرق هذا الباب وهو جد حزين.
ولم يكن المتدينون يبحثون كبحث كوبرنيكس في هذا الموضوع ولم يكن كوبرنيكس نفسه — في وسط هاتيك الأضواء جميعًا — على هدى من أمره كل الهدى فيما يدع وفيما يختار … لقد كان أمامه مذهب فيثاغوراس الذي قال إن الأرض كرة تسبح في الفضاء، فتركه ناحية ووقف مع أرسطو وبطليموس حيث سكن به المطاف، وأدار على الأرض تلك الدوائر التي تشبه دوائر شاعرنا ابن الرومي:
غير أنهم جميعًا ناموا على وساد الأرض كما هي في مركز الكون! فاضطربوا حين هبوا من رقدتهم تلك على غير وساد.
وإن موقف المتهجمين على الحقائق باسم الدين في ذلك الزمن لهو العبرة الخالدة لمن يعتبر، لو كان العلم عبرة صالحة لمن يجهله في زمن من الأزمان.
لقد كانوا يحتمون على العلم أن يجزم بمقام الأرض في مركز الفلك، وكانوا يحتمون أن تجمد الأرض هنالك لتحق الحكمة من خلق الأحياء على التعميم، وخلق الإنسان على التخصيص.
فلو عادوا اليوم إلى الحياة لرأوا عجبًا من فعل الزمن في التباعد بين الأفكار والآراء، بل بين الدعائم والآساس، حتى لتنقلب من النقيض إلى النقيض، وحتى ليقال اليوم عن حكمة الخلق ما كان كفرًا بالخلق والخالق قبل بضعة قرون.
إن القائلين بحكمة الخلق في القرن العشرين لا يجدون لذلك دليلًا علميًّا ولا فلسفيًّا أدل من مكان الأرض في ركنها الذي هي فيه من المنظومة الشمسية.
لم يكن لازمًا عندهم أن تقر الأرض في مركز الكون كله ولا في مركز المنظومة الشمسية كلها، بل اللازم عندهم أن تكون حيث هي سيارة من سيارات، يعدون منها الآن عشرًا ويتركون المئات والألوف منها بغير عداد.
ويكاد الباحثون في هذا الموضوع أن يجعلوا الأرض نمطًا فريدًا بين كواكب الفضاء بموقعها هذا من المنظومة الشمسية، فلولاه لما كانت أصلح كوكب لظهور الحياة عليه.
ذلك أن أسباب الحياة تتوافر في الكوكب على حجم ملائم وبُعد معتدل، وتركيب تتلاقى فيه عناصر المادة على النسبة التي تنشط فيها حركة الحياة.
لا بد من الحجم الملائم لأن بقاء الجو الهوائي حول الكوكب يتوقف على ما فيه من قوة الجاذبية.
ولا بد من البعد المعتدل لأن الجرم القريب من الشمس حار لا تتماسك فيه الأجسام والجرم البعيد من الشمس بارد لا تتخلخل فيه تلك الأجسام.
ولا بد من التركيب الذي تتوافق فيه العناصر على النسبة التي تنشط بها حركة الحياة؛ لأن هذه النسبة لازمة لنشأة النبات ونشأة الحياة التي تعتمد عليه في تمثيل الغذاء.
وموقع الأرض حيث هي أصلح المواقع لتوفير هذه الشروط التي لا غنى عنها للحياة في الصورة التي نعرفها ولا نعرف لها صورة غيرها حتى الآن.
•••
لقد كان الأقدمون يشرطون للإيمان بالقصد والتدبير في خلق الحياة على الأرض أن تكون الأرض مميزة بين العوالم العلوية والسفلية، وكانوا يحسبون أنها لا تكون مميزة على هذا الشرط إلا إذا قامت في مركز الكون كله وقامت الكواكب والشموس دائرة أو ثابتة من حولها، فلما تقدم على الفلك وتقدمت علوم الكيمياء والطبيعة أصبح القائلون بالخلق والتدبير اليوم يميزونها من العوالم جميعًا لأنها في موضعها هذا من المنظومة الشمسية، ويحسبونها على هذا — بل لهذا — مميزة بالخصائص التي تنفرد بها ولا يشاركها فيها كوكب آخر في آفاق السموات التي أحاطت بها وسائل الكشف والرصد، وهذه الوسائل في العصر الحاضر أقوى وأنفذ مما عرف في جميع العصور.
وأول هذه الخصائص المنفردة أنها سيارة في منظومة شمسية، وليست المنظومات الشمسية في الكون بالكثرة التي يتوهمها من يتطلعون إلى السماء، ويخطر لهم أنهم يرون على آمادها الواسعة شموسًا كهذه الشمس، تحيط بها سيارات كهذه الغبراء.
فالمنظومة الشمسية ظاهرة فلكية لم يتفق العلماء على تعليلها، وكل ما عللوها به يدل على ندرتها وصعوبة تكرارها.
وقد عللوا وجودها حتى اليوم بكثير من الفروض المقبولة وغير المقبولة أشهرها فروض ثلاثة يعدل بعضها بعضًا، ولا تزال على افتقار إلى التعديل الأخير.
ثم جاء «لابلاس» فأظهر خطأ آخر في نظرية بوفون، وقال إن الأجسام التي تتطاير من الشمس عند المصادمة المزعومة ينبغي أن تدور في فلك بيضاوي، خلافًا لأفلاك السيارات التي تستدير وتقترب من شكل الدائرة التامة. ووضع فرضه الثاني الذي رجحه العلماء إلى زمن قريب، وخلاصته أن السيارات طارت من الشمس على أثر انفجار شديد في باطنها، وأن هذه السيارات كانت في مبدأ الأمر حلقات غازية تجمعت على طول الزمن وتكورت على شكلها الذي نعهده اليوم. وقد ناقض العالم الإنجليزي كلارك مكسويل هذه النظرية فقال إن الغازات في هذه الحالة لا تتجمع على شكل كرة بل ينبغي أن تتحلق حلقات متفرقات.
وانتهى التعديل في الفرضين إلى فرض ثالث، خلاصته أن انشقاق السيارات إنما نشأ من مرور نجم آخر على بعد من الشمس لم يبلغ من قربه أن يصطدم بها، ولم يكن من البعد بحيث يعبرها في طريقه، فبرز من الشمس نتوء منجذب إلى ناحية النجم الآخر، ثم انفصل على شكل مخروط تتقطع رءوسه على التوالي وتدركها الجاذبية وفعل الحركة المركزية، فتنجم منها هذه السيارات. وإحداها هذه الكرة الأرضية.
ولما كان المفروض أن النجم العابر كالشمس في تكوينه فالموجة التي تبرز على الشمس عند عبوره لا بد أن تبرز موجة مثلها على سطحه، لعلها لم تنفصل وعادت إلى مكانها لسرعة مسيره في وجهته، ويتوقف مقدار البروز على حجم الكوكب، فينفصل الجزء البارز من النجم الأصغر قبل انفصاله من النجم الكبير، وإذ كنا نعلم أن أجزاء الشمس هي التي انفصلت فالذي يفهم من ذلك لزامًا أن والد سيارتنا يكبر الشمس جرمًا، ويستبعد أن يكون قد حمل معه أحدًا من أطفاله لسرعة العبور — كما تقدم — فلا حرج من القول بأن الأم — الشمس — ضمت إليها كل ذريتها ما خلا آحادًا قلائل خرجوا بدادًا على النظام …
•••
والأستاذ جامو مختص بهذه المباحث عاون في نشأته أكبر العلماء أمثال بوهر الدنمركي وروذرفورد الإنجليزي، واستقل بعد ذلك بدراسة الشمس والظواهر الفلكية، وترجيحه لهذا الفرض الأخير له قيمته الراجحة ولا ريب، ولكنه لا يعني أنه أكثر من فرض يقبل التعديل كرة أخرى كغيره من الفروض.
•••
وكيفما كان مقطع الظن في هذه الفروض، فالواضح من تعددها واختلافها أن المنظومات الشمسية ظاهرة نادرة في السماوات لم يبلغ من تكرارها أن تتفق الأفكار على تعليلها.
وهذا هو المميز الأول للكرة الأرضية بين الأجرام السماوية.
ثم يأتي مميز آخر يميزها بين سيارات المنظومة الشمسية نفسها في موقعها وفي حجمها.
وكلما تقدم علم الكيمياء على الخصوص، وتقدم معه فهم العناصر وعوامل تركيبها، تبين للباحثين في مواطن الحياة أن الخصائص التي تلائم ظهور الحياة قد توافرت في الكرة الأرضية على نحو لم يتكرر في سيارة أخرى.
فالمريخ فيه الماء، ولكن الأودية الواسعة والأقنية المنسقة التي تبدو على سطحه لم تمتلئ بالماء، ويظن أن تلك الأقنية خطوط تفصل بين المناطق المختلفة فيه. ومنها ما يختفي عند تحقيق النظر إليه بالمكبرات الحديثة، ولا يصلح جوه للحياة كما نعهدها لشدة البرد وتقلب الأجواء عليه.
ونحن لا نريد في هذه العجالة أن نستغرق كثيرًا من الصفحات في هذه الخلافات التي لا نهاية لها، فما من شرط من شروط الحياة على كوكب آخر قد خلا من خلافات كهذه بين أكبر المختصين بالبحث في هذه الأمور، ولهذا نكتفي بسرد أمثلة من الخصائص التي تلائم ظهور الحياة ولم يثبت وجودها على كوكب آخر كما ثبت وجودها على الكرة الأرضية، فهي إما معدومة في الكواكب الأخرى أو موجودة بالمقدار الذي لا يكفي ولا يفيد، أو هي متفرقة لم يتم لها التوافق والتركيب الذي هو أهم من مجرد وجودها هنا وهناك بالنسبة إلى البنية الحية.
إن كل خاصة من هذه الخواص متوافرة في الكرة الأرضية بالمقدار اللازم على النحو اللازم، والذين ينكرون القصد والتدبير في خلق الحياة لم يثبتوا وجود كوكب واحد تتوافر فيه هذه الخواص كتوافرها في الكرة الأرضية، ومن قال منهم إن الحياة غير مقصورة على الأرض حتمًا إنما يذهب إلى هذا القول على سبيل الاحتمال وامتناع الاستحالة بغير دليل قاطع عليها، فيجوز عندهم أن توجد الحياة في كوكب آخر متى اجتمعت فيه أسبابها وخصائصها، ومن العجيب أن يتوسع هؤلاء الباحثون في احتمال وجود الحياة ويرفضون القول باستحالتها في صورة غير الصورة الأرضية، ثم يضيق بهم مجال الاحتمال عن الحياة الروحية دون غيرها … فلماذا يتسع الفرض لكل حياة وافقت حياة الأرض أو لم توافقها ثم يستحيل وجود الحياة في صورة روحية …؟
إن الذي يأبى حصر الحياة في الأرض ليس من حقه، ولا من مقتضى رأيه وحكمه، أن يحصرها في صورتها الحاضرة حيثما كان موضعها من عالم الوجود الفسيح.
بيد أننا كتبنا هذا الفصل عن مركز الكون لغرض واحد لا يتسع المقام لغيره في هذا السياق.
كتبناه لنبين الفرق بين النظر إلى كشوف كوبرنيكس في القرن السادس عشر والنظر إليها في القرن العشرين.
ففي القرن السادس عشر كان قيام الأرض في مركز الكون على ظنهم هو الدليل الوحيد على حكمة القصد والتدبير.
وفي القرن العشرين يتحول النظر من النقيض إلى النقيض، فيلتمس المفكرون حكمة القصد والتدبير في موضعها هذا الذي هي فيه، أو في اعتبارها سيارة من سيارات شتى في المنظومة الشمسية.
ومن الحجر على الغيب أن نحسب أن هؤلاء المفكرين في القرن العشرين قد جاؤوا اليوم بفصل الخطاب وقد أوصدوا الباب غدًا على التعقيب والتعديل، فإنما يعنينا هنا أن مذهب كوبرنيكس قد أصبح في القرن العشرين، وهو أقرب المذاهب إلى براهين المؤمنين.