قوانين المادة
نشأت المذاهب المادية قبل العلوم التجريبية الحديثة، وكانت فضيلة المذاهب المادية عن الماديين أنها تقوم على الوقائع والحقائق ولا تقوم على الظنون والأوهام، وكانت المادة عندهم حقيقة الحقائق الثابتة التي لا يعتريها الشك ولا يلم بها الباطل، لأنها محسوسة ملموسة محصورة في مكان محدود: يخبط أحدهم على المائدة بيده أو يضرب على الأرض بقدمه ويقول لمن يجادله: هذه هي الحقيقة التي ألمسها بيدي وقدمي أو أراها بعيني وأسمعها بأذني، وليست ما تخبطون فيه من الظنون والأوهام.
ثم شاعت العلوم التجريبية في القرون الأخيرة، وشاعت معها قوانين الحركة والحرارة والضوء وسائر القوانين التي سميت بالقوانين الطبيعية: هذه هي قوانين الكون التي تسيطر على حركاته وسكناته وتفسر كل ظاهرة من ظواهره، وتسري على الأفلاك العلوية كما تسري على المعادن الأرضية، ولا يشذ عنها حكم واحد من الأحكام التي تشمل المادة في جميع صورها وأشكالها، ومنها مادة الأجسام الحية أو مادة الحياة.
حقائق ملموسة محسوسة، وليست فروضًا نخوض بها أو تخوض بنا فيما وراء المادة … حيث لا يوجد شيء من الأشياء يقوم عليه دليل.
وحدثت في السنوات الخمس الأخيرة من القرن التاسع عشر حوادث «علمية» غيرت كل صورة من صور المادة عرفها الأقدمون.
فقد عرف الكيميون قبل ذلك أن عناصر المادة أكثر من أربعة، وأنها ليست محصورة في النار والتراب والهواء والماء.
وعرفوا أن ذرة «الهيدروجين» أخف العناصر ليست هي أصغر جسم من أجسام المادة ينتهي إليه التقدير.
عرفوا الكهرب الذي تحسب ذرة الهيدروجين جبلًا ضخمًا بالقياس إليه، ثم تقدموا في معرفة الكهرب والذرة حتى أفلتت المادة كلها من بين أيديهم، ولم يبق منها غير حسبة رياضية!
حسبة رياضية كانوا «يحسبونها» مثلًا في الدقة والضبط والعصمة من الخلل، فإذا هي في النهاية حسبة لا يضبطها الحساب إلا على وجه التقريب.
أفلت من المادة كل شيء ثابت أو كانوا يحسبونه مضرب المثل في الثبوت و«الحقيقة»!
فاللون من الشعاع والشعاع هزات في الأثير.
والوزن جاذبية، والجاذبية فرض من الفروض.
والجرم نفسه متوقف على الشحنة الكهربية وعلى سرعة الجسم في الحركة ونصيبه من الحرارة.
والحرارة ما هي؟ حركة!
والحركة في أي شيء؟ في الأثير!
والأثير ما هو؟ فضاء أو كالفضاء، وكل وصف أطلقته على الفضاء فهو بعد ذلك مطابق لأوصاف الأثير.
حتى الصلابة التي تصدم الحس أصبحت درجة من درجات القوة تقاس بالحساب، ويعلم الحاسب أنه حساب قابل للخطأ والاختلال.
فهذه الصخرة القوية صلبة جامدة، يضربها الضارب بيده فترده فيقول: نعم، هذه هي الحقيقة التي لا مراء فيها!
فماذا لو كانت يده أقوى ألف مرة أو ألف ألف مرة من يد الإنسان القوي بالعضل والعصب؟
إن حقيقة الصخرة تفقد تحت يده برهانها فلا يحسه، أو يحسه ولا يتحدث عنه كما يتحدث عن الحقائق التي تصدم المنكرين!
وتقدم العلم بالكهرب والذرة مرة أخرى، فإذا المادة كلها كهارب وذرات، وإذا بالذرات تنفلق فتنطلق شعاعًا كشعاع النور.
هل هذا الشعاع موجات؟ هل هو جزيئات؟
قل هذا أو قل ذاك، فهذا وذاك في ميزان «التجربة» سواء.
وعاد العلماء التجريبيون إلى القوانين الطبيعية التي تحكم الحرارة والحركة والضوء وكل ما في عالم المادة من كهارب وذرات، فوجدوا لها قانونًا واحدًا وهو الخطأ والاحتمال.
أما القائمون بهذه التجربة فقد كانوا ثلاثة من أقطاب العلوم الطبيعية في مطلع القرن العشرين.
فالأستاذ بلانك هو صاحب نظرية المقدار أو الكوانتم.
وخلاصتها أن الإشعاع قفزات لا تعرف القفزة التالية من القفزة الأولى إلا بالتقدير والترجيح، وأن صحة التقدير لا تتفق إلا لأن أجزاء الكهارب تحسب بملايين الملايين، فلا يظهر الخطأ فيها إلا بمقدار يسير.
هذه النظريات لم يشتهر بها العلماء الثلاثة، بلانك وهيزنبرج وشرودنجر لأنهم ينفردون بتقريرها وتأييدها، فإنها نظريات عامة يقررها معهم علماء الطبيعة جميعًا ولا يخالفونهم في مبادئها، ولكنهم اشتهروا بالنظريات التي تدور على نقص القوانين الطبيعية لأنهم استطردوا في مباحثها حتى شملوا بها المباحث العقلية والدينية كالقضاء والقدر وحرية الإرادة، وورد ذكرهم كثيرًا في مساجلات العلماء والفلاسفة الذين يطبقون العلوم الطبيعية على الفلسفة والأخلاق.
فلا اختلاف على نقص القوانين الطبيعية، أي على أخذها بالتقريب دون الضبط المحكم الذي يمتنع فيه الخطأ كل الامتناع، وإنما الاختلاف على النتائج التي يرتبونها على هذه النظريات والملاحظات. فما هي نتيجة العلم بأن القوانين الطبيعية لا تفسر لنا حركات الكون وسكناته إلا على وجه التقريب؟
هل نتيجة ذلك أن نسقط حساب الأسباب والعلل ونلغي القوانين الطبيعية؟
ولا يرى المعقبون على رأي بلانك في هذه المسألة أنه قد حسم بها خلافًا ذا بال. إذ لا خلاف على أن المقدمات جميعها تؤدي إلى جميع نتائجها، وإنما الخلاف في إمكان الحصر والاستقصاء، ويتساوى بعد ذلك عالم المادة وعالم الروح، فإن العلم بكل المقدمات في عالم الروح يؤدي كذلك إلى العلم بجميع النتائج على وجه التحقيق.
الواقع أنه في هذا العالم الواسع الذي لا يحده القياس — ونعني به عالم العقل والمادة — توجد نقطة واحدة، نقطة لا ينطبق عليها العلم ولا ينطبق عليها أسلوب من أساليب البحث، وستظل كذلك لا من الوجهة العملية وحسب، بل من الوجهة المنطقية كذلك: تلك النقطة هي الذات الفردية، فإنها لصغيرة في رحاب الوجود، ولكنها في ذاتها عالم كامل يحيط بحياتنا العاطفية كما يحيط بمشيئتنا وفكرتنا، وهذا الكون الذاتي هو مصدر لأعمق أحزاننا وأرفع أفراحنا، ولا سبيل عليه للقوى الخارجية، ولا نحن قادرون على إطراح سلطاننا عليه وتبعاتنا نحوه إلا حين نطرح الحياة نفسها.
وتذكر أن لابلاس كان يرى أنه لو وجد عقل سام بمعزل عن جميع العوامل في هذا الكون أمكنه أن يتبع العلاقات السببية في جميع حوادث الإنسان والطبيعة إلى أدقها وأخفاها. وإنما بمثل هذا السمو يتسنى للإنسان أن يصل إلى العزلة والاستقلال وأن ينفصل الباحث من موضوع بحثه عند البحث في سريرة نفسه، ولا بد من هذا الفصل كما رأينا لتطبيق مقاييس السببية والاستقرار. وكلما اقتربنا من الحوادث تعذر النفاذ إلى أسبابها، وكذلك كلما اقتربنا من الحوادث التي تدور عليها تجاربنا الشخصية زادت صعوبة الدرس في ضوء تلك الحوادث، إذ كان الذي يتولى الملاحظة هو نفسه موضوع الملاحظة، ومن المستحيل في هذه الحالة تمييز العلاقات السببية لأن الأسباب والمسببات هنا لا فاصل بينها … وما من عين تستطيع أن ترى نفسها، ولكنه بمقدار ما يختلف الإنسان اليوم عما كان عليه منذ سنوات، يستطاع بعض الاستطاعة أن توضع تجاربه أمامه موضع التعليل والتفسير، وإنما أذكر هذا كأنه تمثيل للمبدأ في عمومه.
ولقد يخطر لكثير من القراء أن يسألوا: إن صح هذا أفلا تكون حرية الفرد وهمًا ظاهرًا مرجعه إلى عيب في أساليب فهمنا؟
فنقول إن عرض المسألة على هذا النحو خطأ فيما أراه. وقد نصور هذا الخطأ حين نقول إنه يشبه الظن، بأن الإنسان يعجز عن اللحاق بظله لنقص في سرعته! إذ إن الحقيقة التي ترينا أن الإنسان في بعض حالاته الراهنة لن يخضع لقانون السببية هي حقيقة قائمة على أساس من المنطق، كالقضية التي تقول لنا إن الجزء أصغر من كله، وإن استحالة حكم المرء على تأملاته، طبقًا لعلاقات السببية، لهي استحالة مؤكدة ولو على فرض العقل السامي الذي ذكره «لابلاس»، فإن ذلك العقل السامي، على استطاعته أن يرقب البواعث والنتائج في عقول أعظم العباقرة، لا مناص له من التخلي عن هذه المراقبة حين ينظر في تأملات ذاته.
أود أن أوضح في هذا الفصل الأخير بالإيجاز أن كل ما علمناه من بناء المادة الحية يوجب علينا أن نكون على استعداد لأن نراها عاملة على مثال لا يمكن إخضاعه لقوانين الطبيعة العادية، وليس ذلك على اعتبار أن التركيب هنا يخالف كل تركيب درسناه في معامل العلوم الطبيعية.
وختم «شرودنجر» رسالته بالتساؤل عن الشخصية والروح، فقرر أن «الوعي» ظاهرة مفردة لا تقبل الجمع، وأن كل ما يمكن الجزم به هو أن الشخصية لا تتكرر وأنها قوام مستقل عن كل قوام.
•••
ونعود هنا فنقول — كما قلنا في ختام الفصل السابق — إننا لا نسرد هذه الآراء لأننا نحسبها مقطع القول في القوانين الطبيعية، فإن العلماء لا يقطعون بقول فيها اليوم إلا قطعوا بغيره غدًا، وقلما يقطعون بالقول حيث يلتزمون أمانة العلم ويقفون عند حدوده.
ولكننا نسرد تلك الآراء لغرض واحد، وهو أن القوانين الطبيعية لا تتخذ في القرن العشرين حجة للتعطيل والإنكار، بل هي أقرب إلى التشكيك في التعطيل والإنكار، إن لم نقل إنها أقرب إلى مباحث العقيدة والإيمان.
إن المادة اليوم لا تصد المفكرين عن عالم الحقائق المجردة، ولا هم يتخذون من صلابتها وجسامتها شرطًا للحقيقة الثابتة، فإن الحقيقة المادية نفسها لا تثبت اليوم بمجرد الصلابة والجسامة، ولا تزال ترتد إلى أصولها حتى تؤول إلى عدد من الهزات في ميدان مجهول هو ميدان الأثير وميدان الفضاء.
فالمادة في القرن العشرين قد اقتربت من عالم الفكر المجرد بل دخلته وأصبحت في تقدير الثقات «عملية رياضية» أو نسبة من النسب التي تقاس بمعادلات الحساب.
إن المعرفة الجديدة تضطرنا إلى تنقيح خواطرنا العجلى التي أوحت إلينا أننا وقعنا في كون لا يحفل بالحياة أو لعله يعمل على مناصبتها العداء. ويلوح لنا أن الثنائية العتيقة التي تقول بالعقل والمادة ويرجع إليها افتراض العداوة المزعومة آخذة في الزوال، لا لأن المادة تدخل بأية حال من الأحوال في ظلال وأشباح، أو لأن العقل تحول إلى وظيفة مادية، بل لأن المادة الجوهرية تحيل نفسها إلى شيء من خلق العقل ومظهر من مظاهره. ونحن نستكشف أن الكون يبدي الدليل على قدرة مدبرة أو مسيطرة لديها العقل الذي يماثل ما نفهمه بعقولنا …
نحن حتى في العلم ندرك أن المعرفة ليست بالأمر الوحيد الذي نعتد به، ونسمح لأنفسنا أن نتحدث عن روح العلم … وإن أعمق من كل قضية من قضايا النكران لهي العقيدة التي هي قوة خالقة أهم مما تخلقه … وفي عصر العقل تظل العقيدة راجحة لأن العقل بعض مادة العقيدة.
إذا كنا نفهم من الطبيعة أنها تعني الكون كله في اشتماله على نظام الوجود قاطبة فلست إخال أحدًا يزعم أن هناك شيئًا مناقضًا أو خارجًا عن ذلك النظام، ومتى نظرنا إلى الطبيعة تلك النظرة فليس بعث سيدنا نفسه — أي السيد المسيح — بالخارق للنظم، وبدلًا من المناقضة يعد هذا البحث — كما قال القديس بطرس — إحدى الموافقات لسنن الوجود.
ولم يعهد مثل هذا التقارب بين الطبيعيين واللاهوتيين في القرن التاسع عشر، فكأنما انقضى ذلك القرن وبين العقيدة وقوانين الطبيعية والمادة حاجز قاطع أو حصن رادع. فلما أقبل القرن العشرون هبط الحاجز وانفتح باب الحصن، وقامت في مكانهما قنطرة تتصل من ناحية وتنفصل من ناحية، ولكنها صالحة لأن يعبر عليها، مع الجهد، كل من يشاء العبور.