مذهب التطور
اقترن مذهب التطور في النصف الأخير من القرن التاسع عشر باسمين عظيمين، هما اسم الفرد رسل ولاس واسم شارل داروين، وذاعت شهرة داروين بالمذهب حتى كاد أن يُنسب إليه ويُعرف به، فيقال مذهب داروين كما يقال مذهب التطور أو مذهب النشوء والارتقاء، وقد عدل أخيرًا عن تسمية المذهب بالنشوء والارتقاء وبقيت الداروينية غالبة عليه.
ولقد هوجم المذهب كثيرًا باسم الدين، وجعله بعضهم مرادفًا للإلحاد والمادية، ومع هذا لم يكن والاس ولا داروين ملحدين معطلين، وكان والاس شديد الإيمان بالله، خامرته الشكوك في الديانة التقليدية ولم تخامره في الإيمان بالله وبحكمته، ومن كلامه ما يستدل به على تصديق المعجزات وخلود الإنسان.
أما داروين فلم يزعم قط أن ثبوت التطور ينفي وجود الله، ولم يقل قط إن التطور يفسر خلق الحياة، وغاية ما ذهب إليه أن التطور يفسر تعدد الأنواع الحيوانية والنباتية، وفي ختام كتابه عن أصل الأنواع يقول إن الأنواع ترجع في أصولها إلى بضعة أنواع تفرعت على جرثومة الحياة التي أنشأها الخلاق.
ثم عقب والاس قائلًا: «وإنني لأولي هذه النظرة كل عطفي وشعوري، ولكنني مع هذا أرى أننا مستطيعون أن نلمح قبسًا من القدرة التي تعمل في الطبيعة، يساعدنا على تذليل الصعوبة البالغة التي تحول دون العلم بحقيقة الخالق الأبدي الذي لا أول له ولا آخر.»
إن آرائي الخاصة مسألة لا خطر لها ولا تعني أحدًا غيري، ولكنك سألتني، فأسمح لنفسي أن أقول إنني متردد، ولكنني في أقصى خطرات هذا التردد لم أكن قط ملحدًا بالمعنى الذي يفهم فيه الإلحاد على أنه إنكار لوجود الله، وأحسب أن وصف اللاأدري يصدق علي في أكثر الأوقات — لا في جميعها — كلما تقدمت بي الأيام.
وقد كتب قبل ذلك (سنة ١٨٧٣) إلى طالب هولندي سأله السؤال نفسه فقال: «… إن استحالة تصور هذا الكون العظيم العجيب وفيه نفوسنا الشاعرة قائمًا على مجرد المصادفة — هي في نظري أقوى البراهين على وجود الله، ولكنني لم أستطع قط أن أقرر قيمة هذا البرهان.»
وسأله طالب ألماني (سنة ١٨٧٩): هل يتفق مذهب التطور والإيمان بوجود الله، فأوصى أحد أعوانه أن يكتب إليه ما فحواه أنهما يتفقان، ولكن الناس يختلفون في فهم المقصود بالإله.
وعاد الطالب يسأل ويطلب التفصيل، فكتب إليه داروين نفسه في هذه المرة وقال له: إنه لا يرى دليلًا على الوحي، وإن الإيمان بالبعث متروك لكل من يشاء أن يتخذ له فيه معتقدًا بين المحتملات المتضاربة.
•••
والمهم في هذا الصدد أن صاحبي مذهب التطور، كما ذاع في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، لم يستندا إليه في إنكار العقيدة الدينية، ولم يزعما أنه يفسر سر الحياة أو سر الكون، وأحدهما — وهو والاس — كان مؤمنًا بالله وبحكمته في مخلوقاته، والآخر — وهو داروين — كان يأبى أن يوصف بالإلحاد، ويحسب نفسه أحيانًا «ربانيًّا» أي منكرًا للمصادفة ومرجحًا لعقيدة الربوبية، ويؤكد إلى آخر أيامه أن الاستدلال بمذهب التطور على إنكار الإله خطأ كبير وادعاء لا سند له من العلم ولا من التفكير الأمين.
فأجاب بالإيجاب مائة واثنان وأربعون من المائتين الذين أرسلوا ردودهم، وأجاب اثنان وخمسون مترددين، وأجاب ستة بالنفي قائلين إن الاعتقادين لا يتفقان.
وإذا قوبلت وجهة النظر العلمية بوجهة النظر الدينية في القرن العشرين لم تختلف الوجهتان في هذا المعنى.
ولا نريد بذلك أن المتدينين يقررون صحة مذهب التطور على علاته، ولكننا نريد أنهم يقررون أن تصديقه لا يناقض التصديق بوجود الله، فلا يلزم عندهم أن يكفر بالدين كل من قال بتسلسل الأنواع الحية من أصل واحد أو بضعة أصول، ومنهم من يعتبر العوامل الطبيعية التي فعلت فعلها في هذا التسلسل آية من آيات التدبير والتنظيم.
ونخلص مما تقدم، إلى بيان الفرق بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين في موقف العلم من الدين حول مذهب التطور، أو مذهب داروين والآراء الداروينية على اختلافها.
فالنشوئيون في القرن العشرين لا يستندون إلى التطور في إنكار الدين وإثبات التعطيل والإلحاد، ومن كان منهم معطلًا منكرًا فليس له سند مسلم من مذهب داروين، ولا من كلام داروين نفسه عن عقائده وترجيحاته.
والدينيون في القرن العشرين لا يقيمون أصول الدين حجة على بطلان مذهب التطور، ولا يقولون بالتناقض بين الإيمان والعلم في هذا الباب.
وإذا رجعنا إلى مكان مذهب التطور من العلم لم نجد من يحسبه علمًا قاطعًا مفروغًا من أصوله وفروعه، وأكبر أنصاره لا يدعي له أكثر من أنه صحيح في بعض ملاحظاته ومقارناته، ويجوز بعد ذلك أن يكون التطور قد حصل في جهات متعددة لا في جهة واحدة، وأن يكون ملازمًا للارتقاء حينًا ومقارنًا للنكسة حينًا آخر، وإن كانت شواهد الارتقاء أكثر من ظواهر النكسات.
وخفت اليوم تلك الدفعة الأولى من جانب النشوئيين وجانب الدينيين، فتقاربت شقة العلم وشقة العقيدة في أمر الخلق والتطور، وجاء القرن العشرون بعد القرن التاسع عشر بنظرة جديدة في هذه المسألة التي أوشكت أن تغطي على مسألة دوران الأرض ومسألة القوانين الطبيعية في دعواها الأولى حيال العقائد الدينية، فإن لم يكن مذهب التطور آية من آيات العقيدة فليس هو على التحقيق برهانًا على بطلانها، وثبت اليوم أن الذين حاربوا الدين باسم التطور والذين حاربوا التطور باسم الدين كلهم في الخطأ والادعاء سواء.
وربما كان لسخف الكبرياء نصيب كنصيب الجهل في مقاومة القول بالتطور، فإن الأكثرين أنفوا أن يكون آباؤهم وأجدادهم قردة، وظنوا أن تصديق التطور يوجب هذا النسب لا محالة على كل فرد من أفراد السلالة الآدمية.
ولا مسوغ لهذا السخف اليوم إن كان للسخف مسوغ في حين من الأحيان، فليس باللازم في مذهب التطور أن ينتمي كل إنسان حديث إلى قرد عريق، وما من نشوئي إلا وهو يلتمس حلقة بين النوعين، ويجعل للإنسان نسبًا مستقلًّا في أصله عن غيره من الأنواع العليا بين الحيوان.