المقارنة بين الأديان
لما كشفت أمريكا الوسطى ووجد الأسبان فيها أقوامًا يتعبدون على أديان لا يعرفونها؛ خف القساوسة والمبشرون إلى البلاد المكشوفة ليبحثوا في أديانهم ويحولوا أقوامها إلى العقيدة المسيحية، فأدهشهم بعد قليل أن يروا لهم شعائر كشعائر الأديان المعهودة في الدنيا القديمة، وأنهم سمعوا منهم كلامًا عن التكفير والخلاص ومناسك الإيمان على شيء من الشبه بنظائره في الديانة المسيحية، وحاروا في تعليل تلك المشابهة، فخطر لبعضهم أنها بقية من بشارة قديمة نسيت واندثرت وتخلفت منها موروثاتها الممسوخة، وخطر لغيرهم أن الشيطان يزيف لهم الباطل بالحق والحق بالباطل ليخدعهم عن الدين القيم ويمزج لهم الخبيث بالطيب فيصرفهم عن الطيب كله.
وكان هذا التفسير كافيًا لفهم أسرار المشابهة بين الأديان في الدنيا القديمة والأديان في الدنيا الحديثة التي رجح عندهم أنها كشفت لأول مرة، وظل هذا التفسير كافيًا من أوائل القرن السادس عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر، ثم اتسعت كشوف الرحالين وتتابعت أخبار القبائل والسلالات التي تتشابه بينها شعائر الأديان والعبادات، وتقدم علم الأجناس البشرية ومعه علم المقارنة بين أديانها وعقائدها، فثبت أن التشابه بينها في هذه الأطوار الدينية أعم وأوسع مما خطر لرجال الدين من الأسبان عند كشف القارة الأمريكية، بل ثبت هذا التشابه بين السلالات التي لا صلة بينها ولم يعرف أنها اتصلت قبل القرن الثامن عشر بأزمنة متطاولة، فاحتاج الأمر إلى تفسير غير ذلك التفسير عند المتدينين والمعتقدين. أما المنكرون الذين كانوا قد برزوا وتكاثروا في أواخر القرن الثامن عشر، فقد كانوا يقررون أن الأديان كلها من وضع البشر، فاتخذوا من هذه المشابهات دليلًا على صحة ما قرروه.
وقد كانت الصدمة قوية لأنصار الدين، لأن القرن الثامن عشر على الخصوص قيض لهم مشاكل كثيرة لم يفرغوا منها، وأثار في نفوس الأجيال الجديدة شكوكًا تعالجها الكنائس واحدة بعد واحدة، ولا تنتهي من علاجها. فلما أسفرت المقابلة بين الأديان والعبادات عن تلك المشابهة المتكررة كانت ضربة قوية محرجة بعد ضربات مثلها في القوة والإحراج، كادت أن تخذل عوامل الإيمان والاعتقاد أمام عوامل الشك والإنكار.
وظهر غير هاتين الطائفتين دعاة ومفكرون لا ينتمون إلى طائفة ولا يعترفون بالأديان ولكنهم يدينون بالإله والفضيلة ويسمون أنفسهم أحرار الفكر أو أحرار العقيدة.
فهؤلاء الربانيون والإلهيون لم تحرجهم المشابهة بين الأديان والعبادات؛ لأنهم آمنوا بأن الله يوحي هدايته إلى الإنسان من كل طريق وأن الناس يتشابهون في التعقل وطلب الهداية وإن تفاوتوا في ارتقاء العقول.
وتبين بعد الأخذ والرد في مقارنات الأديان أنها لم تحرج من رجال الكنيسة أنفسهم غير المتحرجين المتشددين في تحرجهم؛ لأن الفقهاء المتبصرين منهم سلموا أن الإنسان يهتدي إلى الله بالوحي وبغير الوحي، وإن كان الوحي أهدى وأفضل. وكثر فيهم من يقول كما قال صاحب «مقالات في البناء» المتقدم ذكره أن الشعور الديني قد يكون طبيعيًّا وقد يرجع إلى ما فوق الطبيعة، ومناط الفرق بينهما هو الإيمان بإله خالق مخلص، وهو الله.
وانجلى النزاع الذي أثارته المقارنة بين الأديان عن هذا الموقف في أوائل القرن العشرين.
فالمتدينون المتحرجون يقبلونه على أنه أثبت وجود أديان لم تكن متلقاة من طريق الوحي الإلهي، ولكنه لم ينف وجود أديان أخرى موحاة من الله.
بل ذهب أناس من المتدينين المتحرجين إلى القول بأن العبادات جميعًا وحي من الله، ولكنه وحي قديم شابته الخرافات من فعل السحرة والكهان، فانحرفت الأمم البدائية في جهالاتها عن طريق ذلك الوحي القديم.
أما غير هؤلاء المتدينين المتحرجين فالمقارنة بين الأديان والعبادات قد زودت فئة كبيرة منهم بالحجة القوية على ضرورة التدين وأنه بديهة مركبة في طبيعة البشر، ولولا ذلك لما أجمعوا على التدين متفرقين في أرجاء الأرض مع اختلاف الأزمان وتفاوت الحضارات وتباعد الثقافات وطبقات التفكير.
ويصدق على المقارنة بين الأديان ما صدق على دوران الأرض والقوانين الطبيعية ومذهب التطور في مسألة العقيدة، وقد رأينا أنها شككت العقول زمنًا في أصول الاعتقاد ثم أصبحت في القرن العشرين سندًا لمن يؤثرون الاعتقاد ويشككون في الإنكار.