مشكلة الشر
وهي مشكلة المشاكل في جميع العصور، وليس البحث فيها مقصورًا على القرن العشرين، ولا نظن أن عصرًا من العصور يأتي غدًا دون أن تعرض فيه هذه المشكلة على وجه من الوجوه، وأن يدور فيه السؤال والجواب على محور قديم جديد.
والقرن العشرون لم يطرأ فيه طارئ من الشر لم يكن معروفًا قبلًا إلى أبعد العصور التي تعيها ذاكرة الإنسان، إلا أن يكون ذلك الطارئ من قبل الضخامة والكثرة لا من قبل الشر في جوهره وطبيعته. فالناس قد عرفوا الحروب والفتن، وعرفوا الأوبئة والعوارض المتكررة، وعرفوا المظالم وضروب العدوان، وقد ثقل منها ما ثقل في القرن العشرين وخف منها ما خف، إن كان هناك اختلاف في أثقال الشر وجرائره. أما أن القرن العشرين قد عرف نوعًا من الشر لم يكن معهودًا فيما مضى، فذلك ما لم يزعمه أحد ممن يتحدثون عن شروره، ومنها الحروب العالمية والأسلحة الجائحة، وهي جديدة في قوة فتكها، ولكن الفتك في ذاته ليس بالشيء الجديد.
إن القرن العشرين قد أضاف إلى هذه المشكلة أسبابه وأساليبه، ولم يضف إليها شرًّا جديدًا، بل أضاف إليها أسبابًا للسؤال وأساليب للجواب، ولا يزال الباب مفتوحًا للسائل والمجيب.
ومن آفات القرن العشرين أن أسباب الشكوى فيه أكثر وأعظم من جهتين لا من جهة واحدة.
فهي أكثر وأعظم لأن حروبه الطاحنة شملت الكرة الأرضية وعمت أقوياءها وضعفاءها، وكادت أن تتلاحق من أوله إلى ما بعد منتصفه، ويخشى في كل سنة أن تستأنف الحروب العالمية طغيانها وفتكها، بغير أمل في السلام والأمان.
وهي أكثر وأعظم لأن النفوس فيه تدعي الحقوق وتلح في المحاسبة، فلم يكن مستغربًا فيما مضى أن يداس حق إنسان أو جماعات من الناس، ولم يكن هنالك محاسبة لأصحاب السلطان على الشرور والمظالم، فلما علم الناس في القرن العشرين أن لهم حقوقًا وأن لهم أن يحاسبوا المعتدين على تلك الحقوق؛ تعاظمت شكواهم من كل كبيرة وصغيرة، وتعودوا الشكوى من شرور الحياة كما تعودوا الشكوى من شرور ذوي السلطان.
ولقد كان الناس قديمًا يسألون: من أين يأتي الشر إلى العالم والله خالقه رحيم قدير؟
وكانوا يسلمون الجواب ولا يلحون في الحساب، وكان هذا دأبهم في محاسبة الحاكمين من بني آدم، فلا جرم يقبلون من الحاكم الخالق ما يقبلونه من الحاكم المخلوق.
فلما أقبل القرن العشرون بحروبه وأسلحته، أقبل بدعاواه وحقوقه ولجاجته في المحاسبة والاعتراض. فإذا بمشكلة الشر تتفاقم فيه من جانبين كما أسلفنا: جانب الضخامة في الشرور، وجانب اللجاجة في المحاسبة والادعاء.
وهذا هو الجديد على المشكلة في القرن العشرين، فالسائلون فيه أكثر سؤالًا والمجيبون فيه ليسوا بأقدر على الجواب من سابقيهم في القرون الغابرة، سواء بين الأوروبيين أو غير الأوروبيين.
وقد أجيب السؤال كثيرًا على ألسنة المفكرين من أمم الغرب منذ نهضوا للسؤال واستشرفوا للجواب، أو منذ استقلوا بالفهم والبحث ولم يقنعوا بالتقليد والترديد.
فمن الحلول التي اختارها بعض المفكرين لعلاج مشكلة الشر أن الشر وهم يزول، ولا بقاء له مع الخير.
ومنها أن الشر لا وجود له بذاته، وإنما هو غياب الخير أو نقصه. فليس الظلام شيئًا غير احتجاب النور، وليس الشر شيئًا غير انقطاع الخير.
ومنها أن الشر تربية نافعة لبني آدم، وأن تجارب الأيام قد بينت للناس أن الشدة أنفع لهم من الرخاء في كثير من الأحيان.
ومنها أن الشر ضرورة ناجمة من التقاء الخيرات الكثيرة، فوجود النور مثلًا ممكن، ولكنه لا بد من النور والظلام والشروق والغروب حين توجد الكواكب وتوجد معها المدارات والأفلاك، ويوجد الليل والنهار والشتاء والصيف والجدب والخصب، أو توجد مع النور خيرات غير النور.
ومنها أن الشر خير يوضع في غير موضعه. ومن يعترض على أسباب الشر كمن يعترض على خلق الماء اعتراضًا على فيضان الأنهار، أو كمن يعترض على خلق الجرثومة الحية التي تتألف منها الأجسام اعتراضًا على جراثيم الوباء.
ومنها أن حرية الإرادة نعمة إلهية، وأن حرية الإرادة لا تكون إلا في عالم يحدث فيه الخير والشر، وينقاد فيه الإنسان إلى العمل الصالح غير مكره عليه.
ومنها أن الشر هو تمام الخير الذي يوجد معه وينعدم بانعدامه، فلا معنى للرحمة بغير الألم، ولا معنى للشجاعة بغير الخطر، ولا معنى للكرم بغير الحاجة، ولا معنى للصفح بغير الإساءة، ولا معنى للنجدة بغير الظلم، ولا معنى للهمة والسعي بغير الحذر من مكروه والشوق إلى مأمول.
ومنها أن الفروق بين الأشياء لازمة، ولولاها لم يوجد شيء مستقل عن شيء، ومع وجود الفروق لا مناص من الشكوى، ومن الطلب والفوات.
•••
هل جرى في القرن العشرين من جديد في هذه الحلول أو هذه المعاذير؟
كلا من حيث الجوهر، ونعم من حيث التطبيقات والتفصيلات.
فالحروب الكبرى في عصر الدراسات والمقارنات قد نبهت أذهان المفكرين إلى البحث في عواقبها وما فيها من المنفعة والضرر، وقد وسعت ميادين بحوثهم حتى شملت كل ما وعاه التاريخ من الحروب الغابرة والحاضرة، ورصدت كل ما يعزى إليها من المضار والمنافع، سواء منها ما يجمع عليه الباحثون وما يختلفون فيه.
وزبدة هذه الدراسات والمقارنات أن الحروب أفادت كما أضرت ووصلت كما قطعت، وقد يكون النفع فيها أكبر من الضرر والصلة فيها أبقى من القطيعة.
فأنفع المخترعات والمعارف العلمية قد جاء عرضًا في طريق التنافس على صنع السلاح الفعال، ولولا حروب القرن العشرين لما بلغت الطيارة مبلغها من الإتقان، ولما تضافرت الجهود على فلق الذرة واستكناه أسرار المادة وخفايا الطبيعة.
وقد تعاقبت شكوى الحكماء وأنصار السلم من حروب الفرس واليونان وحروب الصليبيين وحروب العثمانيين وحروب الاستعمار، ولولاها لبقيت كل أمة في عزلتها أو لبقيت القارة الأمريكية كلها حيث كانت مجهولة على سطح الكرة الأرضية.
وإذا كانت للحروب فائدة تقترن بالضرر، وهو كثرة الموت فيها، فهذا الضرر مفروغ منه؛ لأن حياة الكائن المحدود تنتهي بالموت لا محالة، ولا فرق بين موت الألوف معًا وموت الآحاد متفرقين، فهو ضرر واقع على كل حال. ولكن منافع الحروب ليست بالمنافع الواقعة في جميع الأحوال.
في هذه المعاذير شيء من الجدة ينسب إلى القرن العشرين.
وقد ينسب إلى القرن العشرين أيضًا شيء من الجدة في فهم المسئولية المطلقة والمسئولية المقيدة، يمتزج أحيانًا بفهم القضاء والقدر وحرية الإرادة، وهما في الصميم من مشكلة الشر كما تعرض للعقول في العصر الحديث.
فالناس في هذا العصر قد تعودوا الكلام على مسئولية المحكومين كما تعودوا الكلام على مسئولية الحاكمين، فالحكومة مسئولة والأمة مسئولة، والراعي مسئول والرعايا مسئولون.
هذا خاطر أوشك أن يزحف من الوعي الظاهر إلى الوعي الباطن، فعوَّد العقول أن تحمل على المخلوقات بعض المسئولية ولا تلقي المسئولية المطلقة على القدر.
وهذا الخاطر من شأنه كذلك أن يكفكف من شهوة المحاسبة ولجاجة الشكوى، فلا تجري المحاسبة في مجرى واحد، ولا يزال العقل الحائر يبحث عن المحكومين المسئولين كما يبحث عن الحكومة المسئولة.
وكل أولئك خليق أن يحسب من جديد القرن العشرين في التفصيلات والتطبيقات، وليس هو بالجديد كل الجدة في جوهره الأصيل، وهو كالشر قديم.
ومن التفصيلات الجديدة — غير ما تقدم — أسلوب المفكرين العشرينيين في عرض القضايا العقلية على نمط علمي يخاطب الناس خطاب إنسان لإنسان، ويجتنب غاية الاجتناب خطاب السلطة والكهانة.
وتوضيح هذا النمط بالنماذج المنقولة أقرب من توضيحه بالوصف والإشارة، فإن النماذج تحيط بنمط الفكر وأنماط المفكرين في وقت واحد، والمضاهاة هي أوجز السبل إلى التفرقة بينها وبين أنماط التفكير قبل القرن العشرين.
إن القدرة على كل شيء معناها القدرة على ما هو في أساسه ممكن وليس معناها القدرة على ما هو في أساسه مستحيل. إنك تستطيع أن تنسب المعجزات إلى القادر على كل شيء، ولكنك لا تستطيع أن تنسب إليه الهراء … فإذا بدا لك أن تقول إن الله قادر على أن يمنح الإنسان حرية الإرادة ويحرمه إياها في وقت واحد، فإنك لم تفلح في إسناد صفة قط إلى الله، ووحي الكلمات التي لا معنى لها لن يصبح له معنى لمجرد قولك معه: هل يستطيع الإله؟ ويبقى صحيحًا أن كل شيء ممكن في قدرة الله، لأن الاستحالات معدومات وليست بالأشياء الموجودة أو التي تقبل الوجود.
نحن نعيش بين العجائب والخفايا، وبغير العجائب والخفايا تصبح الحياة ثقيلة جد مملولة، الحق أن قيمة الدين العليا في عصر لا يفرط في المغالاة بعلمه المكتسب هي أنه قائم على العجائب والخفايا …
إن حر الفكر المعهود لا يسوِّد كتابًا واحدًا ولا صفحة واحدة دون أن يقرر — أو يبدو أنه يقرر — أن ما فوق الطبيعة ينبغي أن يخضع لمقاييس الطبيعة، وهذا هو التناقض الذي يرفضه كل ذي عقيدة.
نبدأ بفكرة الإله الرحيم فيتحدانا الكون الناقص، ولدينا أمام هذا التحدي ثلاثة مسالك مفتوحة: إنكار وجود الله كما فعل المغلظون في الإنكار، أو ننكر قدرته المطلقة على أحوال الطبيعة كما فعل ميل، أو ننكر صحة الشر كما فعلت مسز إدي.
هذه المسالك الثلاثة لا تقنع، فليس أمامنا إذن إلا أن نقول مع هيوم إن الله بمعزل عن سعادة الإنسان وشقائه، أو نعرف أسبابًا مقنعة للإيمان بأن الشقاء الذي في الكون واعتقاد وجود الله لا يتناقضان.
والآن نرى أن الآلام والنقائص والشرور بعض السمات الملازمة للوجود، ولكن جوابنا للذين يحسبونها مانعة لوجود إله كامل أنهم يتجاهلون قيمة الشر، ويبالغون في قيمة السعادة التي تخلو من الألم، ومذهبهم هو مذهب القائلين بأن الرضى هو المثل الأعلى.
… ومن الخطأ أن نعلق كل قيمة الوجود على مقدار المتعة فيه … فإن إنسانًا لا خلاق له … قد يجد من المتعة ما لا يجده نيوتن أو فنيلون، وما كانت المتعة تأتي على الدوام في قطار الصفات المتفق بين الناس على أنها قيم غالية. أما دواعي الشقاء فنحن نضعها في مقدارها حين نقول إنها غير قابلة للزيادة. فإذا وقع مليون إنسان وأصيبوا من الوقعة فذاك من حيث شأن الشقاء كوقوع إنسان واحد، وربما هالنا اتساع مدى الكارثة ولكننا لا ينبغي أن ننسى أن في الإنسان قوةً تعمل على محوها كقوة الرغبة البالغة في الحياة وتلبية أحكام الحاضر الراهن، ولا حاجة إلى أكثر من رضى لحظة حاضرة لصد الطوفانات التي تتجمع من الأحزان السابقة، وإن عارضًا طفيفًا كيوم ربيع مشرق لينحي المأساة إلى الوراء بعيدًا عنا، ولا يكلفنا أكثر مما فيها من المناقضة الساخرة.
ولست أريد أن أهوِّن من شرور الوجود، وإنما أريد أن أقول إن الطبيعة تعمل لمحوها ومسحها، تاركة للإنسان من بعدها موازنة من الرضى والقناعة …
إن تقدير قيمة الوجود إنما يقوم على قيمة الإنسان، وإذا كانت وطأة الحياة وما فيها من الشر تنزعان إلى تنمية الفكر والخلق، فالشر والألم لا يغضان من صفة الكرم في الله. إن القسطاس هنا هو القيمة المعنوية وليس المنفعة. وعلينا أن نتبين كرم الله من التدبير الذي نتبعه وراء الشر والألم، لا من الشرور والآلام في ذواتها.
… ولقد يكون سهلًا — ومن ثم لا يساوي شيئًا كثيرًا — أن يخلق كون سعيد يحوي أناسًا على أرفع حظ من الذكاء، وفي الشطرنج يدور اللعب على أخذ الملك وهي محاولة تتعب اللاعب الماهر، ولكنني أنا وأنت نستطيع أن نأخذ الملك — ولو كنا نلعب أمام «كبابلنكا» نفسه — إذا أغضينا عن قواعد اللعب وخطفنا الملك خطفة واحدة.
… ويلزمنا أن ننتهي إلى أن الكون — بالنظر إلى الله وإلينا — يشتمل على قيم تستند كثيرًا إلى وجود المصاعب، ولا توجد هذه المصاعب إلا إذا أجرى الله عمله على قوانين تتحقق بها مشيئته.
ويلزم بعد هذا أنْ نعرض لمسألة هامة في هذا الصدد، وهي علاقة خلود الإنسان بالموضوع كله، فإن لم تكن للإنسان حياة أخرى فقد يتعذر الإيمان بإله يعنى بسعادة خلائقه، وما أكثر الذين يعفون من الشقاء المرهق ولكنهم يقصرون في الذكاء أو الخلق أو الخلقة أو الأغراض التي كانوا يحرصون على تحصيلها لو كانت حياتهم مقصورة على أمدها القصير في الدنيا …
يعترض علينا بأن وجود إله قادر كريم يناقض وجود الشر في العالم، ولكن هذا الاعتراض على أسوأ احتمالاته لا يمكن أن يبطل وجود الله؛ لأننا قد نتصور الله محدودًا تحده العقبات التي تحول دون القضاء على الشرور، غير أن تصور الله كذلك على جميع الصور، التي عرضت حتى الآن، ليس بالمقبول في العقول المتدينة ولا تسلمه تلك العقول إلا إذا استحال القول بغيره، بل هو في الواقع يصطدم بالبديهة الدينية، فلا غرابة إذا اشتدت المحاولات في سبيل حل يوافق الإيمان بقدرة الله على كل شيء، ومن هذه المحاولات أن يعتبر الشر وهمًا غير صحيح، ولكنها محاولة لا تطاق إذا اعتمد أصحابها الجد فيما يقولون. لأنها تناقض أحكامنا على ما نحسه ونتفقده من شعورنا أو تناقض أحكامنا في الأخلاق، فإذا نحن قلنا إننا في الحقيقة لا نحس الألم الذي ندعي أننا نحسه ولا نقترف الإثم الذي نظن أننا اقترفناه، فنحن ننقض أحكام الوجدان والذاكرة. وإذا نحن قلنا إننا أحسسنا الألم واقترفنا الإثم ولكنهما ليسا من الشر في الواقع، فنحن ننقض أوثق مقررات الأخلاق.
وأشيع من ذلك وأقل نكرًا حل القائلين إنه لا بد من شر كثير ليتحقق خير كثير، وربما لاح أن هذا القول يستتبع الحد من قدرة الله، لولا أننا نعلم أن الفلاسفة حين وصفوا الله بالقدرة المطلقة لم يقصدوا أن قدرته تتعلق بالنقائض، أو تجعل مجموع الاثنين خمسة، أو تخلق كائنًا هو إنسان وليس بإنسان في وقت واحد. ولا ريب أننا إذا عنينا بقدرة الله المطلقة هذا المثال من القدرة وجب أن نسلم أن مشكلة الشر لا تحل على صورة من الصور، إذ لا يسعنا في هذه الحالة أن ندعي أن خلق الشر سائغ لتحصيل الخير الأعظم، وفي وسع الله على هذا الفهم أن يمحو الشر ولو كان وجوب الخير متوقفًا عليه. إلا أنه واضح أن هذا الفهم ينقض بعضه بعضًا، وأن ما يفهم من قدرة الله لا يعني هذا. وإنما يعني أنه قادر على غير المتناقضات وأنه لا يحده شيء من غير إرادته.
وقد قيل إن الإنسان إذا وجب أن يكون كائنًا ذا فضيلة فهذه الفضيلة تستلزم ألا يكون مسخرًا … فإذا كان الله لا يمنع الناس أن يذنبوا إلا بسلب إرادتهم؛ فقد بطل خير ما فيهم.
… وعلينا إذ نتناول الكلام على الشرور أن نرجع إلى القول بأن وقوع الشرور — لا مجرد إنكارها — يسوغه أنه ضرورة لا محيد عنها لوجود الخيرات، وهذا القول بالنسبة إلى القدري هو الحل الوحيد لجميع الشرور.
وإنها لحقيقة واقعة أن ثمة خيرات … لا تأتي بغير محصول الشر، فكيف تتسنى الفضيلة مثلًا بغير المغريات والعوائق، ومن ثم بغير الشر ولو في صورة الألم والعرقلة؟ وكيف توجد شجاعة بغير ألم أو مشقة أو خطر؟ وكيف يوجد الحب في أرفع حالاته التي نعرفها ما لم يكن هنالك داعية للعطف والإشفاق والتضحية … لا بد من شر نغلبه كي نحصل على فضيلة الغلبة عليه، وربما كان هناك ضروب أخرى من الحب والفضيلة كالتي نتخيل أن الكائنات العليا التي تعلو على طوق الإنسان متصفة بها ولا تنطوي على شر من الشرور، ولكنها — إذا صح تخيلنا — نوع آخر غير حبنا وفضيلتنا، وكلما تعددت أنواع الفضائل كان ذلك أفضل وأجمل.
… ومن اللازم أن نضيف إلى ما تقدم — نظرًا لتفاقم الشر وانتشاره في العالم — أن حلًّا كهذا لمشكلة الشر لا يمكن أن يقبل أقل قبول ما لم يكن للإنسان بقاء بعد موت جسده، وأننا إذا وقفنا عند هذه الحياة وحدها؛ فمن غير المعقول أن تكون الدنيا خلقة إله كامل قادر على كل شيء. وإن هذا لحجةٌ قوية تؤيد الحياة الأخرى إذا سلمنا مذهب الربانيين، ولست أرى وجهًا ما للاعتراض من الوجهة المنطقية على تقدير تلك الحياة الأخرى، وحجة تضاف إلى هذه الحجة أننا متى تصورنا الله لطيفًا رحيمًا تصورناه لا محالة محبًّا (للشخصيات) التي يخلقها، وإذا أحبها فكيف يسمح بفنائها؟
إن الشرور التي في هذا العالم لا ريب مفزعة بفرط كثرتها وانتشارها، ولكننا لا نستطيع أن نعرف حقًّا مقدار الشرور التي لا بد منها لتحصيل الخير الأعظم، فإن أعظم فضائل الأخلاق إنما تتحقق عند مفاضلة أعظم الآفات.
… وهناك قضايا غير قضية الشر تتصل بالبحث عن الله مما قد تصدى الإلهيون والفلاسفة قديمًا للنظر فيه، فينبغي لهذا النظر أن نشجعه ونحض عليه لا أن نبخسه ونصد عنه. إذ ليس من أعمال الإنسان ما هو أنبل من تحصيل العلم بحقيقة الحقائق جهد المستطاع، إلا أن الإلهي الذي ينظر هذا النظر مطلوب منه أن يذكر على الدوام أن الله أعظم كثيرًا جدًّا من كل صورة نحن قادرون على إدراكها …
وعلى هذا النحو معظم الحلول التي يرجحها أوساط المفكرين في القرن العشرين، ونريد بأوساط المفكرين أولئك الذين يدرسون ويتأملون ويقابلون بين الآراء ثم يجتهدون في تنسيق حل يستريحون إليه بتفكيرهم وشعورهم، فهم آحاد مستقلون يتخيرون الآراء ولا ينخرطون في سلك مذهب يتشيعون له مقلدين أو متعصبين.
وجديد المسألة من الوجهة الشعورية في هذا العصر هو كما أسلفنا يدور على وجهة الشعور لا على أصل الشعور. فقد كانت شرور الحروب العالمية أوسع الشرور ميدانًا وأشدها إثارة للسخط والتساؤل، مع تعود الناس في هذا العصر أن يتساءلوا عن كل أمر جلل وأن يطلبوا الإقناع الذي لا تحكم فيه.
ولم ينصرف هذا السخط دفعة واحدة إلى التمرد والإنكار، فليس من طبيعة العالم الإنساني أن يصرفه السخط إلى ناحية واحدة، وبخاصة حين يحيط السخط بأعماق الضمير وآفاق النظر، وتراث العصور الماضية ورجاء العصور المقبلة. وقد استخلص الباحثون من استقراء أحوال الحروب أنها تضر وتنفع وتقطع وتصل، وأن أضرارها لا تزيد شيئًا على طبيعة الشر وأن منافعها تأتي بأشياء لم تأت من غيرها.
هذا «رد فعل» الحروب في بحث العقول.
أما «رد فعلها» في جانب الشعور فلم يذهب في وجهة واحدة فيما هو من شئون العقيدة، إلا أن تكون تلك الوجهة الواحدة هي الإجماع — أو ما يقرب من الإجماع — على الشعور بالحاجة إلى ثقة الإيمان.
فمن المجمع عليه بين الناس أن ثقة الإيمان مطلوبة، وأن أشد الطلب لها إنما يكون عند تفاقم الشعور بالمصيبة.
وقد اتفق أبناء القرن العشرين على القلق الذي يلجئ النفس البشرية إلى طلب الإيمان.
لكنهم افترقوا في إمكان الإيمان في هذا الزمان.
فمنهم من يرى أنه مطلوب غير ممكن، ثم يعوض العقيدة الدينية بما يشبهها من العقائد الشاملة، فيهبط بها إلى الأرض غير متطلع إلى السماء.
ومنهم من يرى أن الإيمان ممكن لأنه مطلوب، وما دام مطلوبًا فلا منصرف عنه ولا بد من الوصول إليه، وبرهانه على صدق الإيمان أنه حاجة من حاجات الطبيعة، وأن الطبيعة لا تعطيه خالصًا قويًّا إلا إذا ارتفع إلى ما فوق الطبيعة، وجاوز الأرض إلى السماء، أو جاوز الواقع المشهود إلى الغيب المحجوب.
وإخالنا نجمل مشكلة الشر في القرن العشرين إجمالًا كافيًا حين نقول إن القرن العشرين قد تركها حيث هي من الوجهة الفكرية الفلسفية. أما من الوجهة الشعورية فقد كان الشعور بأن شرور العالم لا تطاق صدمة من جانب ودفعة من جانب آخر. ولم تضطرب النفس الإنسانية قط بالشعور الذي لا يطاق إلا التمست لها ملاذًا فوق طاقتها وقاربت بذلك ملاذ الإيمان.
وبعد، فليفرض من شاء أن مشكلة الشر عقدة باقية، فماذا نريد؟ أنريد كونًا كهذا الكون الهائل لا عقدة فيه ولا ينطوي على سر مجهول وراء حجاب.
إن كان هذا مرادنا فليس بالعجيب ألا نجاب إليه …