عقائد العلماء
مِن العلماء مَن عقيدته تقرير وتوكيد، ومنهم من عقيدته ترجيح ورغبة، ومنهم من عقيدته استعداد وانتظار. وحصة هؤلاء في تأييد العقيدة غير قليلة، لأنها بمثابة «فتوى علمية» بأن العلوم التي تفرغوا لها وبلغوا مبلغ الثقة فيها لا تعارض الإيمان في أساسه، ولا تمنع صاحبها أن يفتح صدره وضميره لعالم الغيب، فليس عالم الشهادة عندهم بالعالم الوحيد.
وإذا عدت بواعث القلق النفساني في القرن العشرين لم يكن كاريل غريبًا عن واحد منها. بل صح أن يقال إنه عاش حياته كلها في حومتها سواء في القارة الأوروبية أو القارة الأمريكية، فقد تولى علاج الجرحى والمرضى في الحرب العالمية الأولى وتولى الإشراف على معهد روكفلر للتجارب العلمية، وتولى الإشراف على معهد الدراسات الإنسانية خلال الحرب العالمية الثانية، ولم ينقطع قط عن الاهتمام بالحياة في خلايا الجسد وفي أعماق الروح، وولد بفرنسا سنة ١٨٧٣ ومات فيها بعد رحلات كثيرة سنة ١٩٤٤، فكان مولده في غبار حرب السبعين، وكانت وفاته في غبار الحرب العالمية.
وليس في العلماء المعتقدين من هو أبعد منه شوطًا في الإيمان بالله، وخلاصة إيمانه أن الله لازم للإنسان لزوم الماء والأكسجين، وأنه راقب آثار المادية في تجاربه بالولايات المتحدة فعزا إليها كثيرًا مما يعرض للشباب من الخلل العقلي والحطة الخلقية، فضلًا عن تعويد الفكر أن يتشبث بالآراء الحتمية، حتى يفقد القدرة على صحة الحكم والتبصر في الأمور.
ويؤمن كاريل بأن كل خلية في الجسم تتهدى بالعقل الأبدي إلى موضعها من البنية المرسومة، وتعمل في كل خطوة من خطواتها كأنها ترى تكوين الجسم كله ماثلًا أمامها، ولهذا يعن له أن وجود الخلية الحية أبدي غير زمني، لأنها تحتوي الوجود المقبل قبل وجود الزمان، ويعن له كذلك أن الكون على رحبه مملوء بعقول فعالة غير عقولنا، وأن العقل الإنساني هاد قاصر بين دروب التيه التي حوله إذا كان معوله كله على هدايته، وأن الصلاة من وسائل الاتصال بالعقول التي حولنا وبالعقل الأبدي المسيطر على مقادير الأكوان قاطبة فيما هو ظاهر لنا وما هو محتجب عنا في طي الخفاء، وليست قوة الصلاة عنده مقصورة على صاحبها، ولا هي من قبيل الإيحاء النفسي الذي ينفع الإنسان لاقتناعه به في صميم وجدانه، بل هي قوة تسري من المصلي إلى غيره، ويستطيع أن ينفع بها غيره إذا توجه إلى الغيب داعيًا له ملتمسًا له الهداية والفلاح.
… إن الصلاة على ما نرى تسام من النفس إلى أوج اللامادية من الدنيا، وهي على أكثر ما تكون شكاية أو ابتهال أو صرخة أو استغاثة، وهي في بعض الأحايين تأمل خالص في أصول الوجود ومصادره، ويصح أن يقال إنها ارتفاع بالروح إلى المقام الإلهي عنوانًا للتوجه بالحب والعبادة إلى الذي منه صدرت الأعجوبة التي هي الحياة …
والخلاصة أن الشعور بالقداسة مع غيره من قوى النشاط الروحاني له شأن خاص في الحياة؛ لأنه يقيمنا على اتصال بآفاق الخفاء الهائل من عالم الروح. وبالصلاة يسمو الإنسان إلى الله ويداخل الله سريرته. وهي على ما نرى ضرورة لا غنى عنها لنمو الإنسان في أرفع حالاته، ولا ينبغي أن ننظر إليها كأنها عمل لا يلجأ إليه غير الضعاف والمتسولين والجبناء كما قال نيتشه: إنها شيء مخجل. فما الصلاة بأدعى إلى الخجل من شرب الماء والتنفس، وإن الإنسان ليحتاج إلى الله حاجته إلى الماء والأكسجين، وهذا الشعور بالقداسة إلى قرائنه من الشعور بالبصيرة والحاسة الخلقية وذوق الجمال وضياء الفهم — هو تمام الازدهار والنضج للشخصية الإنسانية، ومما لا جدال فيه أن استيفاء حياتنا يتطلب منا أن ننمي كل نشاط فينا يشمل الجسد والذهن والعطف والروح، وما الروح خلو من العقل ولا من العاطفة. فمن واجبنا إذن أن نحب جمال العلم وجمال الله …
«وقد أشارت علوم الحياة إلى بني الإنسان نحو قبلتهم ووضعت تحت أيديهم الوسائل التي تبلغهم غايتها، ولكننا لا نزال غائصين في الدنيا التي خلقتها علوم المادة الميتة غير ملتفتين إلى عوامل النمو والكمال التي في نفوسنا، بين جدران دنيا لم تخلق لنا لأنها من صنع الخطأ في تفكيرنا والذهول عن حقيقتنا، ومثل هذه الدنيا لا يمكن أن تلائمنا ونلائمها، فلا مناص لنا من الخروج عليها وأن نبدل قيمها ونعيد نشأتها وفاقًا لمطالبنا الصادقة، وأن هذه العلوم الإنسانية اليوم لتخولنا أن ننمي كل قوة كامنة في أجسامنا، فنحن نعلم الأسرار الآلية في وظائفها وفي ملكاتها القليلة، ونعلم من ثم مواطن ضعفها، كما نعلم كيف تخطينا أوامر الطبيعة ولماذا عوقبنا وضللنا في الظلمات، ولكننا على هذا نبصر خلال الضباب قبسًا من الفجر خليقًا أن يهدينا سبلنا إلى النجاة …»
وقد جاء كتاب الإنسان المجهول في إبانه فتجاوبت به الأندية العلمية والدينية سنوات، وقيل إن وطأته على مذاهب الإنكار قد حملت دعاتها على تطويقه بسد خفي من المصادرة، فوقفت نشره عند حد محدود.
•••
ويشبه كاريل في اطمئنانه إلى عقيدته المختارة طبيب آخر من الفرنسيين اشتغل مثله بمباحث التشريح والعلم الطبيعي وعمل مع الأستاذ كوري وقرينته، ثم تسامعت المعاهد بتقريراته العلمية والطبية فاستدعاه معهد روكفلر لمواصلة بحث مع أعضائه في خصائص وعلاج الجراح، ثم عاد إلى فرنسا بعد سبع سنوات فتولى رئاسة معهد باستور للمباحث البيولوجية الطبية، واختير بعد عشر سنوات (١٩٣٧) مديرًا لمعهد الدراسات العليا بجامعة السربون، ونال في سنة ١٩٤٤ جائزة جامعة لوزان بفلسفة العلوم.
قال: «كثير من الأذكياء وذوي النية الحسنة يتخيلون أنهم لا يستطيعون الإيمان بالله لأنهم لا يستطيعون أن يدركوه. على أن الإنسان الأمين الذي تنطوي نفسه على الشوق العلمي لا يلزمه أن يتصور الله إلا كما يلزم العالم الطبيعي أن يتصور الكهرب، فإن التصور في كلتا الحالتين ناقص وباطل، وليس الكهرب قابلًا للتصور في كيانه المادي. وإنه مع هذا لأثبت في آثاره من قطعة الخشب، ولو أننا استطعنا أن نتصور الله لما استطعنا أن نؤمن به لأن تمثيلنا إياه — لاصطباغه بالصبغة الإنسانية — يخامرنا بالشكوك.»
«… وليست الصورة التي نتمثلها للإله هي التي تثبت وجوده، وإنما يثبت وجوده ذلك الجهد الروحاني الذي نبذله لمعرفته، وكذلك الفضائل إنما يعول فيها على شعورنا بها لا على نتائجها.»
وبعد أن أشار إلى فضل التدين العميق — حتى التعصب — في وقاية المسلم والبرهمي من غوائل الجحود، مضى يطبق قوانين التطور على الضرورات الروحانية والخلقية فقال: إن إنشاء بيئة جديدة لازم لوقاية الأنواع المهددة من عواقب الانحلال والانقراض، وإن النوع الإنساني يواجه حالة كهذه الحالة في أمر العقيدة فلا بد له من بيئة روحانية جديدة.
قال: «على الإنسان أن يفهم أن التطورات الآلية التي أدخلها في بيئته وراح يلائم بينه وبينها لن تكون لها إلا نتيجة من نتيجتين، وهما التقدم أو الدمار حسب نجاحه في شفاعتهما بالتطور في بيئته الخلقية. فواجب الإنسان إذن أن يزيح جانبًا معالم حضارته الباطلة ويقيم في مكانها معالمه الصادقة، وهي الكمال الذي يوافق كرامة الإنسانية، وليس المطلوب منه أن يحارب التقدم الآلي — ولا طاقة له بمحاربته لما يرجى من المزيد في تقدم العلم والطب — بل بتهذيب النفس والارتفاع بأمثلتها العليا.»
•••
قال الأستاذ بروم: من نحو عشرين سنة اهتم بعضهم بأن يبحث عن الآراء المادية التي شاعت بين الدوائر العلمية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر! هل لا تزال على شيوعها؟ أو أن الآراء الأخيرة عن بناء المادة ومذهب النسبية وعلوم الحيوان قد عدلت على صورة من الصور فلسفة رجال العلم في القرن العشرين؟
فتبين أن فئة مدهشة — بنسبة عددها إلى سائر أعضاء الجمعية الملكية — قد قررت بأسلوب واضح أنها تؤمن بعالم روحاني وعناية ربانية مهيمنة، وأن كثيرًا منهم يعتقدون بقاء الشخصية بعد موت الجسد، وظهر في امتحان الأسئلة أن عددًا كبيرًا من الأعضاء لم يحفل بالإفصاح عن رأيه، مما قد يفهم منه أن بعضهم على شك وتردد، وقد يكون الشك والتردد خطوة في طريق الإيمان.
ولقد كانت مباحثي في الخمسين السنة الأخيرة مفرغة على الأكثر لدراسة الحفريات الفقارية، ولم تقنعني هذه المباحث بأن أنواع الحياة الأخيرة قد جاءت من طريق التطور وكفى، بل أقنعتني كذلك بأن هذا التطور لم يحدث جزافًا ولا عرضًا، ولكنه حدث بهداية أو هدايات روحانية.
إن داروين سيظل في مكانه الرفيع من تاريخ علوم الأحياء والنباتات، إلا أن مذهبه في الانتخاب الطبيعي كما يلوح لي جد قاصر عن الإقناع والكفاية، وقد عدل عنه رسل والاس نفسه شريك داروين الذي أعلن المذهب معه في سنة ١٨٥٨.
فأما أن التطور قد حدث فأمر لا شك فيه، ولا بد من مذهب صحيح للتطور، وإن كنا حتى اليوم لم نستقر على مذهب مقنع، وربما كان مذهب لامارك أقرب جدًّا إلى الحقيقة من مذهب داروين، ولكنه غير واف على الحالة التي تركه بها لامارك.
وقد ذكر رسل والاس أن كثيرًا من الخلط والصعوبة قد نجم من القول بأن الاحتمال لا يقبل غير فرضين اثنين لا ثالث لهما، وهما الإله الحكيم القادر على كل شيء أو المصادفة العرضية، وانتهى في أواخر أيامه إلى إيمانه بعدة عوامل روحانية لا تسمو إلى القدرة الكاملة ولا إلى الحكمة الكاملة.
وأمران يبدو أنهما محققان: أحدهما أن التطور الذي أفضى إلى خلق الإنسان من تدبير قدرة روحانية عظيمة، والأمر الآخر أن هذا التدبير تتولاه عوامل ثانوية تخطئ في إنجازه، ولكن الغاية المطلوبة تتحقق في النهاية على الرغم من هذه الأخطاء.
«وكان رسل والاس في شيخوخته يعتقد أن الكون المادي إنما هو مظهر للكون الروحاني، وأن في الكون الروحاني أنماطًا من العوامل الفعالة من القوى العليا إلى الأرواح الكامنة في الخلايا الحية، وربما تعذر إثبات هذه التقديرات بالبرهان القاطع، ولكنها فيما نراه أصلح لتوضيح الوقائع من أي تقدير يأخذ به الماديون.»
ثم قال: «ومتى سوغ الباحث لنفسه أن يقتنع بصدور التطور عن قوة أو قوى توجهه إلى خلق الإنسان؛ فمن النتائج التي تنساق إليه مع هذا الاقتناع طواعية، أن ظهور كائنات كبيرة الدماغ قائمة على قدمين لا يعقل أن يكون هو غاية القصد من تمهيد ملايين السنين، وأحرى أن يكون القصد من هذا التدبير إنشاء وحدات روحية تبقى بعد موت الجسد …»
•••
هناك صورتان للتطور: إحداهما صورة التطور في الكون، أو بعبارة أخرى تطور الأحياء التي يصارع بعضها بعضًا ويبقى الأصلح منها وما شابه هذه العوامل. والأخرى تطور الكون نفسه.
وإنهما لصورتان متميزتان. وهذه الصورة الثانية — وهي الصورة التي تنمى إلى ما وراء الطبيعة — مخالفة جدًّا لصور الأحياء المنفردين في تطورهم وفاقًا لبيئة معينة. إذ ليس للكون بيئة معينة، وكل بيئة معينة فهي مطوية فيه، وليس هو من الزمان بل الزمان والمكان منه.
… هذه التطورات إذا استقصيناها إلى مداها ترينا أن العلم حري أن يقودنا إلى معرفة غير العلم، إذا نحن تمشينا معه على منهاجه وطبقًا لقواعده، وتلك المعرفة الأخرى هي فلسفة ما وراء الطبيعة.
فإذا رجعنا إلى علم النفس ألفينا مسألة الروح أو العقل على صلة بالدماغ أو منفصلة عنه بعض الانفصال، واضطررنا إلى أن نتساءل: هل العقل مستقل عن الدماغ؟ ونعود فنذكر أن العلوم الطبيعية عزلت نفسها من مسألة الوعي ولم تزودنا بوسيلة ما للوصل بين العقل والتغيرات المادية، وكل ما نلاحظه أن للعقل نشاطًا مقترنًا بالتغيرات المادية في أجزاء مركبة من البدن، ولكننا لا نعلم شيئًا عن حقيقة هذا الاقتران.
وليس ثمة ما يمنعنا أن نفهم أن العقل الواعي — وإن تطور من صور أبسط في الوظائف الحيوية — يتدرج شيئًا فشيئًا إلى حال من الاستقلال، ويتمكن من التأثير في البدن بقسط متزايد من الحرية ويصبح كيانًا له وحدة تبقى بعد الجسد، وليس في وسعنا أن نقطع بأن نقيض هذا التقدير قد ثبت بأدلة العلم الحديث، ونعني بالنقيض أن العقل يستحيل أن يعيش بعد الجسد.
غير أنه لا هذا التعريف ولا ذاك ولا كلاهما معًا يوفي الدين كل صفاته. فإن الرجل المعطل قد يتخذ له موقف سخرية واحتقار أمام الوجود في شموله أو موقف حيدة وقلة اكتراث. أما الشعور بالاعتماد على الكون فليس كافيًا على حدة. فإننا حين نرقب المتدينين الذين يعلمون أنهم متدينون ويُرى من أحوالهم أنهم كذلك؛ نبصر على الدوام عنصر العبادة قائمًا هنالك، نبصر العبادة والإيمان بالقيم والإيمان بقيمة عليا يتصل بها العقل الإنساني ويستجيب لها: قيمة عليا توحي إلى النفس التقديس والعبادة لأنها خير.
فكيف نقرب بين هذا المعبود وبين القيم التي أشرت إليها؟ إن هذه القرابة على ما أرى هي تلك الصلة التي توجد بين المجسمات والمعاني المجردة. إذ كانت معاني الحق والجمال والخير كلها مجردة، وكلها صور من الوجود الصادق، وكلها تمضي معًا ولا رجحان لواحدة منها على الأخرى، إذ كلها بمرتبة واحدة. ومن السخف مثلًا أن يقال عن آية قيمة إنها جميلة ولكنها مناقضة للخلق الفاضل أو خالية منه، فهذه القيم مستقلة لأنها صفات متعددة لكائن واحد هو الله.
ولا يوصف هذا الاعتقاد بأنه من قبيل الاعتقاد بوحدة الوجود. بل هو اعتقاد بأن الله محيط بكل شيء، ولكن الأشياء درجات، ولكل قيمة درجتها في الكائن المحدود، وتعلو بعض القيم حتى تعم ولا تتوقف على ذوات الكائنات المحدودة. ومن التجربة والمزاولة يزداد المرء تعمقًا في إدراك القيم كلما بلغ القدرة على تحصيلها. فالخير قيمة صحيحة والشر قصور عنه أقل وأنقص، والحق قيمة صحيحة والباطل قصور عنه أقل وأنقص، والجمال قيمة صحيحة والقبح قصور عن الجمال.
وصفوة كلام العالم النفساني بعد ذلك أن تصحيح النفس هو ردها إلى الشعور بهذه القيم والقدرة على تملِّيها، وأنه ما من نفس تمرض وفيها ثقة بالجمال والحق والخير، وأن الديانة المثلى هي قوام هذه الصحة النفسية، وأن وظائف العقل تترقى وتسمو لتتهيأ لإدراك هذه المعاني، ولا يعقل أن يتهيأ العقل لها كي يعود فينغمس في المادية والجسدية.
•••
… إذا كان العلم صيغًا وصفيةً وكان الدين في جانبه العقلي تفسيرًا علويًّا أو خفيًّا فلا موجب للتعارض الحاسم بينهما.
ليس للعقل المتدين أن يأسف اليوم لأن العالم الطبيعي لا يخلص من الطبيعة إلى رب الطبيعة. إذ ليست هذه وجهته. وقد تكون النتيجة أكبر جدًّا من المقدمة إذا خرج العلماء بالاستنتاج من الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة. إلا أننا خلقاء أن نغتبط لأن العلماء الطبيعيين قد يسروا للنزعة الدينية أن تتنفس في جو العلم حيث لم يكن ذلك يسيرًا في أيام آبائنا وأجدادنا … فإذا لم يكن عمل الطبيعيين أن يبحثوا في الله — كما زعم مستر لانجدون دافيز خطأ في كتابه البديع عن الإنسان وعالمه — فنحن نقرر عن روية وعن أن أعظم خدمة قام بها العلم أنه قاد الإنسان إلى فكرة عن الله أنبل وأسمى، ولا نجاوز المعنى الحرفي حين نقول إن العلم أنشأ للإنسان سماء جديدة وأرضًا جديدة وحفزه من ثم إلى غاية جهده العقلي، فإذا به في كثير من الأحيان لا يجد السلام إلا حيث يتخطى مدى الفهم، وذاك في اليقين والاطمئنان إلى الله.
ثم تساءل: ألا يمكن أن يستعين العلم بالدين؟ فقال إنه يوشك أن يسمع جواب هذا السؤال من زملائه بالنفي القاطع، ولكننا ينبغي أن نفهم أن العلم للحياة وليست الحياة للعلم، وإذا كان عمل العلم المباشر أن يفهم فعمله غير المباشر أن يزيل الشرور ويزيد الطيبات، ومن الشعور الديني يستمد العالم ثروة حية هي نعم المدد للبصيرة في الكشف عن المجهول.
ثم ختم كلمته قائلًا ما معناه أن الإنسان يجهل حاجته إذا وضع الدين أمام العلم موضع المناجزة، وقال لنفسه: إما هذا وإما ذاك … «فالذي نحن على يقين منه أننا بحاجة إلى مزيد من العلم ومزيد من الدين.»
إذا تم للإنسان هذا تمت له عفوًا إطاعته أعظم الأوامر الإلهية وهي: أحبب إلهك. لأنه سيحب إذن تلك القيمة العليا أو الصفة العليا التي هي المعبود، وذاك هو أساس كل دين.
والمعبود كائن نوجده ونخدمه ونحبه بأرفع معاني الخدمة والحب. إذ بفضل الحب ينال هذا التقدم، وقوة الحب الصحيح هي التي تنظم أو تجند كل طاقات الشخصية الإنسانية إلى وجهة أعلى وأرفع: وجهة أفضل من أنفسنا، نستطيع أن نستقبلها بالإجلال الحق ونسعى إليها في شوق لا يهدأ. وقد تنفعنا الروح الجماعية متسامية إلى المعونة المتبادلة كما شرحها كروبتكين، ولكنها لا تغني فتيلًا بغير دفعة الحب، وقل إن شئت إنه من الحب الجنسي أو من الحنان الأبوي … فإن شوق المحبوب وحنان الأبوة القريب منه هما أساس الحب الشامل، وحيث نصدق في حب المحبوب نحس فوق كل شيء أننا نطمح إلى القداسة والأمانة والحق والجمال.
… ويلاحظ أننا حين نرتقي هذا المرتقى لا نظل مشغولين بالشيء نفسه، بل بالقيمة التي يحتويها. فليس همنا المعبود أو المحبوب، وإنما همنا القيمة التي يجلوها لنا … ويومئذ نحب الله، وحيث نحب الله في كماله نرى أن الكمال هو المهم، ويصبح كل شيء وكل أحد حقًّا، ويصبح كل شيء وكل أحد جميلًا، ويصبح كل شيء وكل أحد خيرًا. إذ ليس واحد أو اثنان أو فئة مختارة منتقاة هم الذين يدركون ذلك الكمال المنشود، بل كل في هذه الحالة يشارف كمال المعبود.
من الأمثلة المتقدمة، مثال للعالم الذي يؤمن وإيمانه قائم على حقيقة خارجية، ومثال للعالم الذي يؤمن وإيمانه قائم على حقيقة باطنية.
ومن العلماء «الإيمانيين» غير هؤلاء فئة ذات صبغة خاصة تجمعها شعبة واحدة من شعب العلم الطبيعي، أو مدرسة واحدة كما أسلفنا في مقدمة هذا الفصل عن عقائد العلماء، وهي مدرسة الذرة والبحث في بناء المادة، ومنها أقطاب هذا البحث من طبقة بلانك وهيزنبرج وادنجتون وجينس، ومذهبهم فيما وراء المادة مجمل فيما أشرنا إليه آنفًا عند الكلام على قوانين الطبيعة، ومحصلة أن المادة تحولت إلى ضياء وأن الضياء تحول إلى معنى كمعاني المعادلات الرياضية الذهنية، وأنه لا محل بعد اليوم للاعتراض باسم العلم على المعاني المجردة لأنها مخالفة لما تصوره الأقدمون من شرائط الوجود الثابت في الحس والعيان، ومعظم علماء هذه المدرسة يجاوزون الناحية «النافية» التي تكتفي بنفي الموانع، ويذهبون شوطًا بعيدًا في الإثبات الموجب كما فعل جينس في قوله بالعقل المدبر، وكما فعل إدنجتون في قوله إن العالم غير المنظور في صميمه يوحي بهيمنة «الذات» الإلهية عليه، تمييزًا للإله أن يكون مجرد معنى كما تصفه بعض النحل البرهمية القديمة، وإقرارًا لعقيدة «الذات الإلهية» كما يؤمن بها المتدينون.
ولا يقف بلانك وهيزنبرج دون هذا الشوط في الإثبات الموجب، ولكنهم يقنعون بفتح أبواب الإلهام الديني على أوسعها من قبل التفكير.
•••
ولم تستوعب هذه النظرات مواقف العلماء جميعًا من العقيدة والإيمان. ففي العلماء كثيرون لا يذهبون إلى هذا المدى ولكنهم لا يقفون موقف العداء أو قلة الاكتراث لما يحاوله زملاؤهم في هذا المجال. ومنهم من يود لو يعتقد ولكنه لم يجد عقيدته، ومنهم من يعتقد ولكنه حين يسأل عن معتقده لا يتضح من كلامه معتقد محدود.
يمثل هؤلاء العلماء اثنان يختص كل منهما بشعبة من البحث العلمي كادت أن تكون من خصائص القرن العشرين: أحدهما مالنوسكي البولوني (١٨٨٤–١٩٤٢). أشهر الباحثين في الأجناس البشرية، والآخر ألبرت أينشتين العالم الألماني الإسرائيلي صاحب مذهب النسبية المشهور.
كذلك أتمنى لو يكون هناك بقاء بعد الموت وأود لو أنتهي إلى يقين في هذا الأمر. ولكنني على كلٍّ أتمنى وأود، لا أجدني قادرًا على قبول عقيدة موجبة في العناية الإلهية سواء مسيحية أو غير مسيحية …
ثم قال بعد استطراد: «ترى هل للعلم دخل في هذه اللاأدرية وفيما يشبهها عند أمثالي؟ أظن ذلك، ولهذا لا أحب العلم وإن لم يكن لي بد من الولاء في خدمته.»
أما إينشتين فهو يحسب أن الإيمان بالله على أنه «ذات» هو بقية من تشبيهات الأديان الأولى. ولكنه يؤمن بعالم غير عالم الشهادة ويقول: «إن الإنسان الذي لم يختبر وقفة من وقفات الصوفية حيال ذلك العالم ولم يشعر نحوه بالروعة؛ هو حي حكمه حكم الميت. ولب الديانة عنده أن يعلم أن الذي لا ننفذ إليه بمداركنا هو موجود حقًّا متجل حقًّا. يطالعنا بالحكمة العليا والجمال الرائع ولا تحيط عقولنا الكليلة منه إلا بأشكال بدائية كالظلال.»
•••
فإذا جاء هذا الاعتراف من العلماء المصرحين بالمادية فلا حاجة بالذين لا يصرحون بها إلى أكثر من هذا الاعتراف.