طريق فلاتس
قضينا أيامًا على ضفاف نهر واواناش نساعد العم بيني في الصيد. كنا نصطاد له الضفادع، نتتبعها ونطاردها ونتسلل خلفها على ضفة النهر الموحلة، تحت أشجار الصفصاف وفي الأغوار الموحلة الملأى بأسماك ذيل الفأر ونباتات السيف التي تترك في سيقاننا العارية جروحًا دقيقة غير مرئية في بادئ الأمر. كانت الضفادع الكبيرة في السن تفهم جيدًا أن عليها الابتعاد عن طريقنا، ولكننا لم نكن نسعى خلفها هي، بل كانت الضفادع الخضراء الصغيرة النحيلة، وتلك الفتية الغضة هي ما نبحث عنه. كانت باردة ولزجة، وكنا نضمها برفق في أيدينا ثم نغمسها في إناء عسل ونضع الغطاء فوقها، وتظل قابعة هناك حتى يصبح العم بيني مستعدًّا لوضعها في الصنارة.
لم يكن العم بيني عمنا حقًّا، أو عم أي أحد.
كان يقف قريبًا في المياه البنية الضحلة حيث يحل الحصى والرمال محل القاع الموحل، وكان يرتدي نفس الثياب كل يوم وأينما رأيته؛ ذلك الحذاء المطاطي ذا الرقبة، والرداء السروالي (الأفرول) بلا قميص، وسترة ذات أزرار لونها أسود باهت بها فتحة عنق على شكل رقم ٧، تكشف عن بشرة حمراء خشنة حافتها بيضاء رقيقة، بالإضافة إلى قبعة من اللباد على رأسه بها وشاح دقيق وريشتان صغيرتان اكتسبتا لونًا داكنًا من العرق.
مع أنه لم يكن يلتفت قط كان يعلم إذا ما وضعنا أقدامنا في الماء.
«أيها الأطفال، إذا كنتم ترغبون في الخوض في الوحل وإخافة الأسماك، فاذهبوا وافعلوا ذلك في مكان آخر، ابتعدوا عن ضفة النهر الخاصة بي.»
ولكنها لم تكن ضفة النهر الخاصة به، بل هنا بالضبط حيث كان يصطاد عادةً، كانت ملكنا نحن، ولكننا لم نفكر في ذلك قط. بالنسبة له، كان النهر والدغل ومستنقع جرينوش بأكمله تقريبًا ملكًا له؛ لأنه كان يعرفها أفضل من أي شخص آخر. وكان يزعم أنه الشخص الوحيد الذي توغل في المستنقع، ولم يقم بمجرد رحلات قصيرة حول حافته، وقال إنه توجد حفرة من الرمال المتحركة هناك يمكنها ابتلاع شاحنة تزن طُنَّيْنِ كما لو كانت لقمة واحدة في وجبة الإفطار. (وفي خيالي رأيتها تلمع وبها أسطوانة جافة سائلة، فقد اختلط عليَّ الأمر مع الزئبق.) وقال أيضًا إنه ثمة فجوات في نهر واواناش يصل عمقها إلى عشرين قدمًا في منتصف الصيف، وقال إنه يمكنه اصطحابنا إليها، ولكنه لم يفعل قط.
وكان مستعدًّا للشعور بالإهانة عند أدنى بادرة من الشك.
«عندما تسقطون في إحداها، سوف تصدقونني.»
كان للعم بيني شارب أسود كثيف، وعينان قاسيتان، ووجه حادٌّ لا يخلو من بعض الرقة. ولم يكن عجوزًا كما توحي ثيابه العتيقة وشاربه وعاداته، بل كان ذلك النوع من الرجال الذي يصبح غريب الأطوار بشدة قبل أن تنتهي سنوات مراهقته. وفي كل أقواله وتوقعاته وأحكامه، كان ثمة عاطفة قوية؛ فذات مرة، كان في فناء منزلنا وعندما نظر إلى قوس قُزح، بكى قائلًا: «أتعلمون ما هذا؟ إنه وعد الإله بأنه لن يكون ثمة طوفان آخر أبدًا!» وأخذ يرتجف لشعوره بأهمية هذا الوعد كما لو أنه قد قُطع للتو، وكان هو شخصيًّا حامله.
وعندما كان ينتهي من اصطياد ما يكفيه من الأسماك (كان يلقي أسماك القاروس الأسود في البحر مرة أخرى، ويحتفظ بأسماك الشوب والزعنفة الحمراء قائلًا إن أسماك الزعنفة الحمراء لذيذة المذاق، مع أنها مليئة بالأشواك كما تمتلئ وسادة الدبابيس بالدبابيس)، كنا نخرج جميعًا من مجرى النهر الهادئ ونتجه عبر الحقول نحو منزله. كنت أنا وأوين نسير حفاة الأقدام بسهولة على القش، وأحيانًا كان كلبنا الانطوائي ميجور يتبعنا على بعد مسافة. وبعيدًا عند حافة الدغل — الذي يتحول بعد ميل إلى مستنقع — يقع منزل العم بيني؛ وهو عبارة عن منزل من ألواح قديمة طويلة فضية غير مطلية، حولتها حرارة الصيف إلى لون شاحب، وللمنزل ستائر خضراء داكنة متشققة ومتمزقة مرخية على كل النوافذ. وكان الدغل خلفه أسود اللون، حارًّا، كثيف الشجيرات ذات الأشواك ومليئًا بالحشرات التي تحوم في دوائر.
وبين المنزل والدغل كان ثمة العديد من الحظائر التي كان يحتفظ فيها العم بيني دائمًا ببعض الحيوانات؛ مثل نمس ذهبي شبه أليف، واثنين من حيوان المنك البري، وأنثى ثعلب أحمر قطعت ساقها في مصيدة، فكانت تعرج وتعوي ليلًا، وكان اسمها داتشيس. أما حيوانات الراكون، فلم يكن العم بيني بحاجة لحظائر يضعها فيها؛ إذ كانت تعيش حول الفناء وفي الأشجار، وكانت أكثر وداعة من القطط وتأتي إلى باب المنزل كي تحصل على الطعام، وكانت مغرمة بمضغ العِلْكة. وكانت السناجب تأتي أيضًا وتجلس بجرأة على أفاريز النوافذ، وتبحث عن الطعام في أكوام الصحف الموجودة على الشرفة.
كان ثمة أيضًا حظيرة منخفضة العمق من نوع ما، أو — بمعنى أدق — تجويف في التراب إلى جانب حائط المنزل مثبت حوله — باستخدام مسامير — على الجوانب الثلاثة الأخرى ألواح يبلغ ارتفاعها حوالي قدمين؛ إنه المكان الذي يحتفظ فيه العم بيني بالسلاحف. ففي صيف أحد الأعوام، ترك العم بيني كل شيء وخرج ليصطاد السلاحف، وقال إنه سوف يبيعها لشخص أمريكي من ديترويت سوف يدفع له خمسة وثلاثين سنتًا لكل رطل.
قال العم بيني وهو يتدلى فوق حظيرة السلاحف: «سيصنعون منها حساء.» فعلى قدر ما كان العم بيني يستمتع بترويض الحيوانات وإطعامها، كان يستمتع بمصائرها المؤلمة.
«حساء السلاحف!»
«للأمريكيين»، قالها العم بيني كما لو كان هذا يفسر الأمر، مستأنفًا: «ولكنني شخصيًّا لم أكن لِأَمَسَّهُ.»
ولم تسفر هذه الخطة عن شيء، سواء كان ذلك لأن ذلك الأمريكي لم يظهر، أو لأنه لم يوافق على المبلغ الذي حدده العم بيني، أو لأن الأمر برمته لم يكن سوى إشاعة من الأساس. وبعد بضعة أسابيع، كان العم بيني لا يبدي أي تعبير إذا ذكرت السلاحف، بل يقول: «إنني لم أعد أشغل نفسي بهذا الأمر.» كما لو كان يشفق عليك لكونك ما زلت منشغلًا بمثل هذا الأمر القديم.
كان العم بيني يجلس على مقعده المفضل خلف باب مطبخنا مباشرة — وكان يجلس كما لو كان لا وقت لديه للجلوس أو لا يرغب في إزعاج أحد، ويرحل في أسرع وقت — وكان دائمًا في جعبته أخبار عن مغامرة تجارية، وهي دائمًا مغامرة غير عادية، يكسِب منها أشخاصٌ لا يسكنون بعيدًا — في جنوب المقاطعة أو في بلدة جرانتلي القريبة — مبالغَ خرافيةً؛ فكانوا مثلًا يربون أرانب الشانشيلا، أو الببغاء الأسترالي، ويكسبون عشرة آلاف دولار في العام دون بذل أي مجهود تقريبًا. ولعل السبب الذي جعله يستمر في العمل لدى والدي، مع أنه لم يستمر بانتظام في أي عمل آخر، هو أن والدي كان يربي الثعالب الفضية، وهو مشروع به شيء غير عادي ومحفوف بالمخاطر، ويحمل أملًا خفيًّا براقًا — لا يتحقق قط — بإمكانية تحقيق ثروة.
كان ينظف السمك في شرفته، وإذا شعر برغبة في تناول الطعام كان يقلي بعض السمك على الفور في مِقلاة بها طبقات من الدهون العتيقة التي تطلق الكثير من الدخان، ويأكل من المقلاة مباشرة. ومهما كان الجو حارًّا أو مشمسًا بالخارج، كان يترك النور مضاء؛ مصباحًا واحدًا يتدلى من السقف، غير أن الفوضى الجامحة التي تسيطر على المكان والتراب من شأنهما أن يبتلعا أي بصيص للضوء.
وفي طريقنا أنا وأوين للعودة إلى المنزل، كنا نحاول أحيانًا إحصاء الأشياء التي يملكها في منزله أو حتى في مطبخه فحسب.
«جهازان لتحميص الخبز؛ أحدهما ذو أبواب والآخر تضع الخبز فوقه.»
«مقعد سيارة.»
«حشية فراش مطوية، وأكورديون.»
ولكننا لم نكن نستطيع إحصاء نصف الأشياء، وكنا نعلم ذلك، فما كنا نذكره كان يمكن أن يؤخذ من المنزل ولن يكتشف العم بيني غيابه قط، فما هي سوى حفنة أشياء بارزة على سطح ثروة هائلة من الحطام؛ كومة ضخمة مظلمة متعفنة من السجاد، والمشمع، وقطع من الأثاث، وأجزاء من آلات، ومسامير، وأسلاك، وأدوات، ومعدات. كان ذلك هو المنزل الذي عاش فيه والدا العم بيني طوال حياتهما الزوجية. (كنت بالكاد أتذكرهما، عجوزان ضخما الجثة شبه كفيفين يجلسان في الشرفة في ضوء الشمس، ويرتديان طبقات عديدة من الثياب الداكنة المتنافرة.) وهكذا فإن جزءًا من تلك الأكوام عمره تقريبًا خمسون عامًا أو نحو ذلك من الحياة العائلية، ولكنه يشمل أيضًا الأشياء التي يتخلص منها الآخرون، أو أشياء كان العم بيني يطلبها من الغير ويحصل عليها، أو حتى يجرها بمشقة من مقلب نفايات مدينة جوبيلي. ويقول إنه يأمل في إصلاح تلك الأشياء وجعلها قابلة للاستخدام وبيعها، فلو كان يعيش في مدينة، كان سيدير متجرًا ضخمًا للخردة ويقضي حياته بين أكوام الأثاث المتسخ والأجهزة التالفة والأطباق المكسورة، وصور أقارب الآخرين التي تراكم فوقها التراب. لقد كان يرى قيمة وأهمية للحطام في حد ذاته، ولكنه كان يتظاهر — أمام نفسه وأمام الآخرين على حد سواء — أنه يقصد الاستفادة منه على نحو عملي.
كنت أجلس وأقرأ على حافة الشرفة المتهاوية وقدماي تداعبان نبات قرنفل الشاعر، الذي لا بد أن والدة العم بيني هي التي زرعته، وأخيرًا يقول العم بيني: «يمكنك أخذ تلك الصحف معك إذا أردت، فقد انتهيت من قراءتها كلها.»
ولكنني كنت أعقل من أن أفعل ذلك، كنت أقرأ أسرع وأسرع كل ما يقع تحت يدي، ثم أتهادى في السير تحت أشعة الشمس على الممر الذي يقود إلى منزلنا عبر الحقول. كنت مزهوة وأشعر بالإثارة الشديدة من مظاهر الشر، من تقلبه وقدرته على الابتكار ومزاحه المروع، ولكنني كلما اقتربت من منزلنا، كانت تلك الصورة تخبو. لماذا كان الحائط الخلفي البسيط لمنزلنا، والطوب الباهت المتكسر، والرصيف الإسمنتي خارج باب المطبخ، والأحواض المثبتة بمسامير، والمضخة، وشجيرة الليلك ذات الأوراق المنقطة باللون البني؛ لماذا كان كل هذا يثير الشكوك في أن هناك امرأة يمكنها بالفعل إرسال جسم زوجها مغلفًا بورق هدايا عيد الميلاد إلى عشيقته في كارولاينا الجنوبية عن طريق البريد؟
كان منزلنا يقع في نهاية طريق فلاتس الذي يمتد غربًا من «متجر باكلز» عند أطراف المدينة. كان ذلك المتجر — الخشبي المتهاوي الشديد الضيق من الأمام إلى الخلف كما لو كان صندوقًا من الورق المقوى يقف على جانبه، والمغطى على نحو عشوائي بلافتات معدنية ومطلية تعلن عن منتجات مثل: الدقيق والشاي والشوفان المطحون والمشروبات الغازية والسجائر — علامةً على انتهاء حدود المدينة؛ فالأرصفة وأضواء الشوارع والأشجار الظليلة المصطفة وعربات بائعي اللبن وبائعي الثلج ومسابح الطيور وأحواض الورود والشرفات ذات مقاعد الخيزران التي تشاهد منها السيدات الشوارع، وكل تلك المظاهر المتحضرة اللطيفة؛ قد انتهت، فكنا نسير (أنا وأوين أثناء عودتنا من المدرسة، أو أنا وأمي أثناء عودتنا من التسوق بعد ظهيرة أيام السبت) في طريق فلاتس الواسع المتعرج دون أي ظلال من متجر باكلز حتى منزلنا بين الحقول المغطاة بالأعشاب الصفراء بلون الهندباء البرية أو الخردل البري أو القضبان الذهبية بحسب الموسم. كانت المنازل هنا على مسافات أبعد من بعضها، وتبدو عامة كما لو كانت أكثر إهمالًا وفقرًا وغرابة من منازل المدينة، حيث يمكنك أن تجد نصف حائط مطليًّا، في حين لم تمس يد الطلاء النصف الآخر، والسلم الخشبي متروكًا قائمًا في مكانه، وآثار شرفة محطمة تركت مكشوفة، وباب منزل أماميًّا يرتفع عن الأرض ثلاثة أقدام بلا درج، ونوافذ مغطاة بأوراق الصحف التي تحولت إلى اللون الأصفر بدلًا من الستائر.
لم يكن طريق فلاتس جزءًا من المدينة، ولكنه لم يكن أيضًا جزءًا من الريف؛ إذ إنَّ مُنحنى النهر ومستنقع جرينوش يعزلانه عن بقية البلدة التي ينتمي إليها اسمًا، فلم تكن ثمة مزارع حقيقية إلا المزرعتين الموجودتين في منزلي العم بيني وعائلة بوتر، اللتين تبلغ مساحتهما خمسة عشر وعشرين فدانًا على التوالي، غير أن مزرعة العم بيني كانت تمتد لتصل إلى الدغل. وكان أبناء آل بوتر يربون الغنم، وكنا نحن نملك تسعة أفدنة ونربي الثعالب، ومعظم الناس هنا لديهم فدان واحد أو اثنان والقليل من الماشية؛ عادة بقرة وبعض الدجاج وأحيانًا شيء أكثر غرابة لا يوجد في مزرعة عادية. كان لدى أبناء آل بوتر عائلة من الماعز يطلقونها كي ترعى على طول الطريق. وكان ساندي ستيفنسون الأعزب يملك حمارًا رماديًّا صغيرًا — يشبه الصور الإيضاحية لإحدى قصص الإنجيل — يرعى في الركن المغطى بالحصى من أحد الحقول. ولم يكن مشروع والدي بالشيء الغريب ها هنا.
كان ميتش بليم وأبناء آل بوتر يعملون بتهريب الكحول في طريق فلاتس، ولكن كان لكل منهم نمطه الخاص؛ فآل بوتر مرحون رغم أنهم يميلون إلى العنف عندما يثملون. وقد أوصلوني أنا وأوين ذات مرة من المدرسة إلى المنزل في شاحنتهم. جلسنا في الخلف نتقاذف من جانب إلى آخر؛ لأنهم ينطلقون بسرعة كبيرة ويصطدمون بمطبات كثيرة، وقد حبست والدتي أنفاسها عندما سمعت بذلك. أما ميتش بليم فكان يعيش في ذلك المنزل المغطاة نوافذه بأوراق الصحف، ولم يكن يتناول المشروبات الكحولية هو نفسه؛ إذ إنه أصيب بالعجز من جراء إصابته بالروماتيزم، ولم يكن يتحدث مع أحد، وكانت زوجته تخرج من المنزل في أي وقت من اليوم متجهة لتفحص صندوق البريد مرتدية ثوبًا منزليًّا رثًّا وهي حافية القدمين. وكان منزلهما بأكمله يبدو تجسيدًا لشيء شرير وغامض، حتى إنني لم أكن أنظر إليه مباشرة قط، وكنت أمرُّ من أمامه وأنا أثبت عيني على الطريق أمامي مباشرة وأقاوم رغبتي القوية في الركض.
كان ثمة أحمقان آخران في الطريق؛ أحدهما يدعى فرانكي هول، وكان يعيش مع شقيقه لوي هول، الذي كان يدير مشروعًا لإصلاح الساعات في متجر غير مطلي ذي واجهة مختفية بجوار متجر باكلز. وكان بدينًا وشاحبًا كما لو كان منحوتًا من صابون العاج، وكان يجلس في الشمس، وإلى جوار نافذة المحل القذرة تنام القطط. أما الحمقاء الثانية فهي إيرين بولوكس، ولم تكن لطيفة أو بلهاء مثل فرانك، بل كانت تطارد الأطفال في الطريق، وتتدلى من بوابتها وهي تصيح وتلوح بذراعيها كالديك الثمل، وهكذا كان منزلها هي الأخرى مكانًا خطرًا للمرور من أمامه، وكان ثمة أغنية يرددها الجميع:
كنت أردد تلك الأغنية وأنا أمر مع والدتي، ولكنني كنت أملك من الحكمة ما يدفعني لأن أستبدل كلمة «كعبيك» ﺑ «ثدييك». من أين أتت تلك الأغنية؟ حتى العم بيني كان يرددها. كانت إيرين ذات شعر أشيب، لم تكن طاعنة في السن ولكنها ولدت هكذا، وكانت بشرتها أيضًا بيضاء اللون كريش الإوز.
كان طريق فلاتس هو آخر مكان ترغب أمي في الحياة به، وفور أن تلمس قدماها رصيف المدينة ترفع رأسها شاعرة بالامتنان لظلال المدينة بعد شمس طريق فلاتس الحارقة، كان يغمرها شعور بالارتياح، ويتدفق منها شعور جديد بالأهمية. كانت ترسلني إلى متجر باكلز عندما ينفد أحد الأغراض من منزلنا، ولكنها كانت تقوم بالتسوق الحقيقي في المدينة. قد يكون تشارلي باكل يقطع اللحم في الغرفة الخلفية عند مرورنا، وكان بوسعنا رؤيته عبر الساتر الداكن كما لو كان كيانًا مختبئًا جزئيًّا في قطعة من الفسيفساء، وكنا نحني رءوسنا ونمر سريعًا آملين ألا يكون قد رآنا.
كانت أمي تصحح لي عندما أقول إننا نسكن في طريق فلاتس قائلة إننا نسكن «في نهاية» طريق فلاتس، كما لو كان ذلك يحدث فارقًا. لكنها اكتشفت لاحقًا أنها لا تنتمي لجوبيلي أيضًا، ولكنها كانت تتمسك بها في الوقت الراهن ويغمرها الأمل والسعادة عندما تذهب إليها، وتحاول جاهدة أن تجذب انتباه الآخرين إليها؛ حيث كانت تحيِّي السيدات اللواتي يلتفتن بوجوه متفاجئة ولكن لطيفة، وتدلف إلى متجر الأقمشة والملابس الجاهزة المظلم وتجلس على أحد المقاعد الصغيرة الطويلة، وتطلب من أحدهم بأدب أن يناولها كوبًا من الماء بعد رحلة السير المتربة الحارة تلك. وكنت أتبعها دون إحراج مستمتعة بالصخب الذي تحدثه.
لم تكن أمي محبوبة في طريق فلاتس؛ فلم تكن تخاطب الناس بلهجة ودية كما تفعل في المدينة؛ حيث كانت تتعمد المجاملة الشديدة والاستخدام الملحوظ للقواعد النحوية الصحيحة. أما زوجة ميتش بليم — التي كانت تعمل يومًا ما في بيت السيدة ماكويد للدعارة مع أنني لم أكن أعلم ذلك وقتها — فلم تكن تخاطبها على الإطلاق. كانت أمي تنحاز لجانب الفقراء في كل مكان؛ لجانب الزنوج واليهود والصينيين والنساء، ولكنها لم تكن تحتمل الإفراط في الشراب أو الانحلال الجنسي أو اللغة البذيئة أو الحياة العشوائية أو الرضا بالجهل، وهكذا كان عليها أن تستبعد أهل طريق فلاتس من فئة المظلومين والمحرومين، من فئة الفقراء الحقيقيين الذين ما زالت تحبهم.
أما أبي، فكان مختلفًا؛ فالكل يحبه، وكان يحب طريق فلاتس، مع أنه لم يكن يتناول الشراب تقريبًا ولم يكن يتصرف بانحلال مع النساء أو يستخدم لغة بذيئة، ومع أنه كان يؤمن بالعمل ويعمل بجد طوال الوقت. كان يشعر بالراحة هنا، أما أثناء وجوده مع رجال من المدينة؛ مع أي شخص يرتدي قميصًا وربطة عنق للذهاب للعمل، فلم يكن يملك سوى الشعور بالتوجس وبعض الفخر والقلق من الإهانة، مع ذلك الاستعداد الخاص المرهف لاستشعار التظاهر الذي يعد موهبة لدى بعض أهل الريف. كان قد تربى في مزرعة في عمق البلدة (على غرار أمي، ولكنها ألقت كل ذلك وراء ظهرها)، ولكنه لم يكن يشعر بحميمية الوطن هناك أيضًا وسط التقاليد الصعبة، والفقر الذي لا يخلو من الزهو، ورتابة حياة المزرعة. فكان طريق فلاتس يمنحه ذلك الشعور بحميمية الوطن، وكان العم بيني يكفيه كصديق.
كانت أمي معتادة على وجود العم بيني؛ فكان يتناول طعامه في بيتنا كل يوم عند الظهيرة ما عدا يوم الأحد، وكان يلصق العلكة الخاصة به في طرف الشوكة، وفي نهاية الوجبة كان ينتزعها من على الشوكة ويرينا الرسم المنقوش بدقة على العلكة الملونة بلون القصدير، حتى إنه من المؤسف إضاعة الرسم بمضغها. وكان يصب الشاي في طبق فنجان الشاي وينفخ فيه، وبكسرة من الخبز على الشوكة يمسح طبقه حتى يصبح نظيفًا كما لو كان طبق قطة لعقته عن آخره. وكان وجوده في المطبخ ينثر مزيجًا من رائحة السمك والحيوانات ذات الفراء والمستنقعات، وهي رائحة لم أكن أكرهها. واتباعًا لعادات أهل الريف، لم يكن العم بيني يخدم نفسه قط، أو يقضي ثانية من وقته في مد يد المساعدة حتى يُطلب منه ذلك ثلاث مرات.
وكان يروي لنا قصصًا، وهي قصص غالبًا ما يحدث فيها شيءٌ ما، تُصرُّ أمي على أنه مستحيل الحدوث، وذلك كما حدث في قصة زواج ساندي ستيفنسون.
تزوج ساندي ستيفنسون امرأة بدينة من الجنوب الشرقي من خارج البلاد، وكان لديها ألفا دولار في البنك وتملك سيارة من طراز بونتياك، وكانت أرملة. وبمجرد أن انتقلت للعيش مع ساندي هنا في طريق فلاتس منذ حوالي اثني عشر أو خمسة عشر عامًا، بدأت أمور غريبة تحدث؛ حيث أخذت الأطباق تتحطم وحدها على الأرض ليلًا، واندفع طبق اليخنة من على الموقد وحده ملوثًا حوائط المطبخ، واستيقظ ساندي ليلًا وهو يشعر كما لو كانت عنزة تنطحه عبر الفراش، ولكنه عندما نظر أسفل الفراش لم يجد شيئًا، وتمزقت أفضل ثياب النوم لدى زوجته من أعلى إلى أسفل وعقدت في حبل ستارة النافذة. وفي المساء، عندما أرادا الجلوس في هدوء والحديث معًا بدأ القرع على الحائط بصوت مرتفع حتى إنك لا تتمكن من سماع أفكارك. وفي النهاية، قالت الزوجة لساندي إنها تعلم من يفعل ذلك، إنه زوجها الراحل، غاضب منها لأنها تزوجت بعد وفاته. وقد ميزت طريقته في القرع، فتلك كانت مفاصل أصابعه. فحاولا تجاهله ولكن لا فائدة، فقررا أن يذهبا في رحلة قصيرة بالسيارة ورؤية ما إذا كان ذلك سوف يثنيه عن عزمه، ولكنه صحبهما في رحلتهما، فركب فوق سطح السيارة وظل يدق عليه بقبضتيه ويركله ويحدث ضوضاء ويهزه، حتى إن ساندي كان يجد صعوبة في الحفاظ على السيارة على الطريق. وفي نهاية الأمر، فقد ساندي أعصابه، فتوقف على جانب الطريق وطلب من المرأة تَوَلِّيَ القيادة، وكان ينوي الترجل من السيارة والسير حتى المنزل أو إيقاف أية مركبة على الطريق والركوب فيها إلى المنزل، ونصحها أن تعود إلى مدينتها وتحاول أن تنساه، فانفجرت المرأة في البكاء ولكنها وافقت على أن هذا هو الحل الوحيد.
تساءلت أمي بحماس: «ولكنك لا تصدق ذلك، أليس كذلك؟» وأخذت توضح أن كل ذلك مصادفات ومحض تخيلات وإيحاءات ذاتية.
فرمقها العم بيني بنظرة مشفقة حادة.
«اذهبي واسألي ساندي ستيفنسون. لقد رأيت الكدمات، رأيتها بنفسي.»
«أية كدمات؟»
«التي حدثت له من نطح العنزة له من تحت الفراش.»
وقال أبي متفكرًا كي ينهي هذا الجدال: «ألفا دولار في البنك، عليك أن تبحث عن امرأة كهذه يا بيني.»
فقال العم بيني باللهجة نفسها التي تقع بين الجد والهزل: «هذا ما سوف أفعله بالضبط، يومًا ما عندما أتمكن من العثور على امرأة من هذا النوع.»
«إن العثور على امرأة كهذه ليس بالمهمة الصعبة.»
«هذا ما أقوله لنفسي دائمًا.»
«ولكن السؤال هو: امرأة بدينة أم نحيفة؟ البدينات غالبًا ما يكنَّ طباخات ماهرات ولكنهنَّ قد يتناولن الكثير من الطعام، ولكن بعض النحيفات أيضًا كذلك، فيصعب الجزم بذلك الأمر. فأحيانًا يمكنك الحصول على امرأة بدينة تتغذى على دهون جسمها وتجعلك توفر، ولكن تأكد من أن لديها أسنانًا سليمة، إما هذا أو أنها قد اقتلعتهم جميعًا ولديها طاقم جيد من الأسنان الصناعية، ويفضل إذا كانت قد أجرت عملية استئصال الزائدة الدودية والمرارة أيضًا.»
فقالت أمي: «إنك تتحدث كما لو أنك ستشتري بقرة.» ولكنها لم تكن تمانع في حقيقة الأمر، فقد كان لديها لحظات غير متوقعة من التسامح — فقدتها فيما بعد — يلين فيها جسدها وتهيمن عليها الحركات التي تنم عن اللامبالاة وهي ترفع الأطباق عن الطاولة. فقد كانت امرأة أكثر امتلاءً وجمالًا مما صارت عليه لاحقًا.
استمر أبي قائلًا برصانة: «ولكنها قد تخدعك وتخبرك بأنها قد استأصلت المرارة والزائدة وهما لا يزالان في مكانهما، يفضل أن تطلب رؤية آثار الندوب.»
فأصيب العم بيني بالفواق، واحمر وجهه وضحك ضحكة صامتة وهو ينحني على طبقه.
•••
«هل يمكنك الكتابة؟» طرح العم بيني هذا السؤال علي وأنا في منزله أقرأ في الشرفة، بينما كان هو يفرغ أوراق الشاي من إبريق صفيح وكانت تتناثر على السياج.
«منذ متى وأنت تذهبين إلى المدرسة؟ وفي أي صف أنت الآن؟»
«سوف ألتحق بالصف الرابع.»
«تعالي إلى هنا.»
اصطحبني إلى مائدة المطبخ وأزال مكواة كان يقوم بإصلاحها وقدرًا مثقوبًا من القاع، وأحضر دفترًا جديدًا وزجاجة من الحبر وقلم حبر قائلًا: «هلَّا مارست بعض التدريب على الكتابة من أجلي هنا؟»
«ماذا تريدني أن أكتب؟»
«لا يهم، إنني أريد أن أرى كيف تقومين بذلك فحسب.»
فكتبت اسمه وعنوانه بالكامل: «السيد بنجامين توماس بول، طريق فلاتس، جوبيلي، بلدة واواناش، أونتاريو، كندا، أمريكا الشمالية، نصف الكرة الأرضية الغربي، العالم، المجموعة الشمسية، الكون.» أخذ يقرأ من فوق كتفي، وقال بحدة: «وأين موقع كل هذا بالنسبة للسماء؟ لم تكتبي ما يكفي، أليست السماء خارج الكون؟»
«إن الكون يعني كل شيء، إنه كل ما هو موجود.»
«حسنًا، أتعتقدين أنك تعلمين الكثير. ماذا هناك عندما تصلين إلى نهاية كل ذلك؟ لا بد أن ثمة شيئًا ما هناك وإلا فلا توجد نهاية، يجب أن يكون ثمة شيء كي تكون نهاية، أليس كذلك؟»
فقلت بارتياب: «ليس ثمة شيء.»
«بلى ثمة شيء، إنها السماء.»
«حسنًا، وماذا هناك عندما تصل إلى نهاية السماء؟»
فقال العم بيني بنبرة انتصار: «لا يمكنك الوصول إلى نهاية السماء لأن الإله هناك!» وألقى نظرة عن كثب على خطي الذي كان دائريًّا مرتعشًا مترددًا، وقال: «حسنًا، أي شخص يمكنه قراءة ذلك بسهولة، أريدك أن تجلسي هنا وتكتبي لي خطابًا.»
كان العم بيني يعرف القراءة جيدًا ولكنه لم يكن يعرف الكتابة، وكان يقول إن المعلمة في المدرسة قد ضربته مرارًا وتكرارًا محاولة غرس مهارة الكتابة بداخله، وكان يحترمها لذلك، ولكنها لم تنجح في ذلك قط. وعندما كان يحتاج لكتابة خطاب كان يطلب مساعدة أبي أو أمي في ذلك.
كان ينظر من فوق كتفي ليرى ما كتبتُه في أعلى الورقة، وكنت قد كتبت طريق فلاتس، جوبيلي، ٢٢ أغسطس ١٩٤٢، وقال: «هذا صحيح، هكذا تكون كتابة الخطاب! والآن اكتبي: «سيدتي العزيزة».»
فقلتُ: «الخطاب يبدأ ﺑ «عزيزي» أو «عزيزتي» ثم اسم الشخص، ما لم يكن خطاب عمل فإنه يبدأ ﺑ «سيدي العزيز» أو «سيدتي العزيزة». هل هو خطاب عمل؟»
«نعم ولا في نفس الوقت، اكتبي «سيدتي العزيزة».»
فتساءلتُ بضيق: «ما اسمها؟ يمكنني كتابة اسمها بسهولة فحسب.»
«لا أعرف اسمها.» ثم أحضر العم بيني بنفاد صبر الجريدة إلي وفتحها على صفحة الإعلانات المبوبة، وهو قسم لم أصل إليه من قبل، ووضعها أمام عيني.
سيدة لديها طفل واحد ترغب في الحصول على وظيفة مديرة منزل لرجل في منزل ريفي هادئ، مغرمة بحياة الريف، ومستعدة للزواج إذا كان ذلك مناسبًا.
«هذه هي السيدة التي أكتب لها، فماذا عساي أن أفعل سوى أن أناديها سيدتي؟»
فاستسلمت وكتبت ما أملاني، ووضعت فاصلة كبيرة بعناية، وانتظرت كي أبدأ الخطاب من تحت حرف «الياء» في كلمة «عزيزتي» بالضبط كما تعلمنا في المدرسة.
فقال العم بيني بسرعة: «سيدتي العزيزة، أكتب هذا الخطاب …»
أكتب هذا الخطاب ردًّا على إعلانك بالجريدة التي تصلني عن طريق البريد. إنني رجل في السابعة والثلاثين من عمري، أعيش وحيدًا في أرضي التي تبلغ مساحتها خمسة عشر فدانًا في نهاية طريق فلاتس، وبها منزل جيد ذو أساس حجري بجوار الدغل، وهكذا فإن الحطب لا ينفد من عندنا أبدًا في الشتاء. وثمة بئر ضخمة محفورة بعمق ستين قدمًا وخزان. وفي الدغل ثمة كمٌّ كبير من ثمار التوت أكبر مما يمكنك تناوله، والكثير من الأسماك في النهر، ويمكنني زراعة حديقة خضروات كبيرة إذا تمكنت من إبعاد الأرانب. ولديَّ أنثى ثعلب أليفة في حظيرة بجوار المنزل ونمس واثنان من حيوان المنك، بالإضافة إلى حيوانات الراكون والسناجب والصيدناني التي تحيط بالمنزل طوال الوقت. كما أرحب بوجود طفلك، ولكنك لم تقولي ما إذا كان صبيًّا أم فتاة، فإذا كان صبيًّا فيمكنني أن أعلمه الصيد ونصب الشراك. إنني أعمل لدى رجل يربي الثعالب الفضية في الأرض المجاورة لهذا المنزل، وزوجته امرأة متعلمة إذا رغبت في زيارتها. أتمنى أن أتلقى خطابًا منك قريبًا. المخلص: بنجامين توماس بول.
السيد بنجامين بول، أكتب إليك بالنيابة عن شقيقتي السيدة مادلين هووي كي أخبرك بأنها توافق على عرضك ومستعدة للقدوم في أي وقت بعد الأول من سبتمبر. ما هي خطوط الحافلات أو القطارات التي تصل إلى جوبيلي؟ أو قد يكون من الأفضل أن تأتي أنت إلى هنا، سوف أكتب عنواننا بالكامل في نهاية الخطاب، ومنزلنا لا يصعب الوصول إليه. وشقيقتي لديها فتاة لا صبي، عمرها ١٨ شهرًا واسمها ديان. سوف أنتظر ردك. المخلص ماسون هووي، ١٢١ شارع شالمرز، كيتشنر، أونتاريو.
عندما أرانا العم بيني هذا الخطاب ونحن نجلس إلى طاولة العشاء قال والدي: «حسنًا، إنها مخاطرة. ما الذي يجعلك تعتقد أنها المرأة التي تريدها؟»
«لست أرى أي ضرر في إلقاء نظرة عليها.»
«يبدو لي كما لو كان شقيقها يرغب في التخلص منها.»
فقالت أمي بحزم: «اصطحبها إلى طبيب كي تجري لها فحصًا طبيًّا.»
فأكد العم بيني أنه سوف يقوم بذلك، ثم تمت الترتيبات بعد ذلك بسرعة؛ فابتاع العم بيني لنفسه ثيابًا جديدة وطلب اقتراض السيارة كي يقودها إلى كيتشنر، ورحل في الصباح الباكر مرتديًا حلة خضراء فاتحة وقميصًا أبيض اللون وربطة عنق بالألوان الأخضر والأحمر والبرتقالي، وقبعة من اللباد لونها أخضر داكن، وحذاء باللونين البني والأبيض. وكان قد حلق شعره وهذب شاربه واغتسل، فبدا غريبًا شاحبًا مضحيًا بنفسه.
قال والدي: «ابتهج يا بيني، فلست ذاهبًا إلى منصة الإعدام. إذا لم يعجبك الحال، استدر وعد إلى المنزل على الفور.»
عبرت أنا وأمي الحقول حاملتين ممسحة ومقشة ووعاء للقمامة وصندوقًا من الصابون ومنظف أولد داتش، ولكن أمي لم تدخل ذلك المطبخ من قبل، وقد هالها ما رأته بالفعل. فبدأت ترمي بالأشياء من الشرفة، ولكنها بعد فترة أدركت أنه لا جدوى من ذلك، فقالت: «إننا بحاجة لحفر حفرة ونضع كل ذلك فيها.» وجلستْ على الدرج واضعة عصا المقشة تحت ذقنها كما لو كانت إحدى ساحرات القصص الخيالية، وبدأت تضحك قائلة: «إذا لم أضحك فسوف أبكي، تخيلي لو أتت إلى هنا فلن تبقى أسبوعًا، وسوف تعود إلى كيتشنر ولو سيرًا على الأقدام، أو سوف تلقي بنفسها في النهر.»
نظفنا الطاولة ومقعدين وجزءًا في منتصف الأرض بقوة، ومسحنا الموقد وأسقطنا بيوت العنكبوت من على المصباح. انتقيت باقة من زهور القضبان الذهبية ووضعتها في إبريق في منتصف المائدة.
قالت أمي: «لماذا نغسل النافذة ونجعل رؤية المزيد من الكوارث الموجودة بالداخل أسهل؟»
وعندما عدنا إلى المنزل قالت أمي: «حسنًا، أظن أنني أتعاطف مع المرأة الآن.»
وبعد حلول الظلام، ألقى العم بيني المفاتيح على المائدة، ونظر إلينا نظرةَ مَن عاد إلى المنزل بعد رحلة طويلة لا يمكنه أن يقص علينا مغامراتها بصورة لائقة، مع أنه يعلم أن عليه أن يحاول.
تساءل أبي مشجعًا: «هل تفاهمتما؟ هل تسببت لك السيارة في أية مشاكل؟»
«كلا يا سيدي، لم تسبب السيارة أية مشاكل، خرجتُ عن الطريق مرة واحدة، ولكنني لم أكن قد ابتعدت عندما اكتشفت ما فعلته.»
«هل نظرت في الخريطة التي أعطيتك إياها؟»
«كلا، فقد رأيت سائق جرار وسألته وأرشدني للطريق العكسي.»
«إذن وصلت إلى هناك بسهولة؟»
«نعم بالفعل وصلت إلى هناك بسهولة.»
تدخلت أمي قائلة: «ظننت أنك سوف تحضر السيدة هووي معك لاحتساء فنجان من الشاي.»
«إنها متعبة قليلًا من الرحلة، وعليها أن تضع الطفلة في فراشها.»
فقالت أمي بأسًى: «الطفلة! لقد نسيتها، أين ستنام؟»
«سوف نجهز لها مكانًا للنوم. أعتقد أن لديَّ مهدًا في مكان ما وسوف أحاول وضع بعض الألواح الجديدة به.» وخلع قبعته كاشفًا عن الخط الأحمر في جبهته التي تتصبب عرقًا ثم قال: «كنت سأخبركم أنها لم تعد السيدة هووي بل أصبحت السيدة بول.»
«حسنًا، مبارك يا بيني. أتمنى لكما السعادة. يبدو أنك قد حسمت أمرك منذ اللحظة التي رأيتها فيها، أليس كذلك؟»
فضحك العم بيني ضحكة خافتة متوترة.
«لقد كان الجميع هناك، كانوا قد أعدوا لحفل الزفاف قبل أن أصل هناك، كان القَسُّ هناك ينتظرني، وابتاعوا الخاتم واتفقوا مع أحدهم كي يحضر عقد الزواج في عجلة. لقد رأيت أنهم كانوا مستعدين وأعدوا كل شيء للزفاف. نعم يا سيدي، لم يغفلوا أمرًا واحدًا.»
«إذن، أنت الآن رجل متزوج يا بيني.»
«نعم بالفعل أنا رجل متزوج الآن.»
فقالت أمي بجرأة: «حسنًا، عليك أن تحضر العروس كي ترانا.» وكان استخدامها لكلمة العروس مفاجئًا؛ حيث استحضر في أذهاننا صورة الطرحة البيضاء الطويلة والورود والاحتفال، وهي صور لا تنطبق هنا. فأجاب العم بيني قائلًا إنه سوف يفعل بالتأكيد، فور أن تلتقط أنفاسها بعد الرحلة، نعم سوف يحضرها بالطبع.
ولكنه لم يفعل، ولم تظهر مادلين قط. واعتقدت أمي أنه سوف يذهب لتناول العشاء في منزله، ولكنه ظل يأتي إلى مطبخ منزلنا كالعادة، فسألته قائلة: «كيف حال زوجتك؟ كيف تتدبر أمورها؟ هل تعرف كيف تتعامل مع هذا النوع من المواقد؟» وكان هو يجيب على كل التساؤلات بإيجاب غامض وهو يضحك ضحكة خافتة ويهز رأسه.
وفي المساء عندما أنهى عمله قال لي: «أترغبين في رؤية شيء جديد؟»
«ماذا؟»
«تعالي وسوف ترين.»
تبعته أنا وأوين عبر الحقول حتى استدار وأوقفنا عند حدود فناء منزله.
فقلت: «أوين يرغب في رؤية النمس.»
«عليه أن ينتظر حتى وقت آخر، لا تقتربا أكثر من ذلك.»
وبعد قليل خرج من المنزل حاملًا طفلة صغيرة، فأصبت بخيبة الأمل، فلم تكن سوى طفلة صغيرة. فأجلسها على الأرض، فانحنت وهي تتمايل والتقطت ريشة غراب.
قال العم بيني وهو يداعب الطفلة: «أخبرينا باسمك. ما اسمك؟ هل هو ديان؟ أخبري الطفلين باسمك.»
ولكنها لم تقل شيئًا.
«يمكنها أن تتحدث جيدًا إذا أرادت، يمكنها أن تقول ماما وبيني وديان وأريد الماء، أليس كذلك؟ هل تريدين الماء؟»
خرجت فتاة ترتدي سترة حمراء إلى الشرفة.
«تعال إلى هنا!»
هل كانت تنادي ديان أم العم بيني؟ كان صوتها يحمل نبرة تهديد، فحمل العم بيني الفتاة الصغيرة وقال لنا بهدوء: «من الأفضل لكما أن تنطلقا مسرعَين إلى المنزل الآن، ويمكنكما الحضور لرؤية النمس في يوم آخر.» ثم اتجه إلى المنزل.
وفي يوم آخر، رأيناها من مسافة ترتدي نفس السترة الحمراء في طريقها إلى متجر باكلز. كانت يداها في جيوب سترتها ورأسها محنيًّا، وساقاها الطويلتان تتقاطعان كالمقص. وقابلتها أمي أخيرًا في المتجر، وفعلتْ ذلك عن عمد، فقد رأت العم بيني بالخارج يحمل ديان وسألتْه عما يفعل هناك، فأجاب: «إننا ننتظر والدتها.»
فدخلت أمي إلى المتجر وذهبت إلى حيث كانت الفتاة تقف لسداد الحساب، بينما كان تشارلز باكل يكتب لها الفاتورة.
وقدمت نفسها قائلة: «لا بد أنك السيدة بول.»
لم تقل الفتاة شيئًا، ولكنها نظرت إلى أمي، وكانت قد سمعت ما قالته، ولكنها لم تنبس ببنت شفة، فنظر تشارلي باكل إلى أمي.
«أعتقد أنكِ كنتِ مشغولة بالاستقرار في المنزل الجديد، عليكِ أن تأتي لزيارتي متى تشائين.»
«إنني لا أسير على الطرق المفروشة بالحصى ما لم أكن مضطرة لذلك.»
فقالت أمي: «يمكنكِ أن تأتي عبر الحقل.» ولكنها لم تقل ذلك إلا لأنها لم ترغب في مغادرة المكان قبل أن تجعل الكلمة الأخيرة لها، وليس لهذه الفتاة.
قالت لوالدي: «إنها طفلة، لا يتعدى عمرها سبعة عشر عامًا، لا يمكن أن يكون أكثر من ذلك، وترتدي نظارة طبية، وشديدة النحافة. إنها ليست حمقاء، وليس هذا هو ما دفعهم للتخلص منها، ولكنها ربما تعاني من اضطراب عقلي ما أو على شفا ذلك. مسكين أنت يا بيني. ولكنها قد أتت لتعيش في المكان المناسب، فسوف تتلاءم مع طريق فلاتس.»
وكانت قد بدأت تصبح معروفة بالفعل؛ فقد طاردت إيرين بولوكس في فناء منزلها وعلى الدرج أيضًا وجعلتها تركع على ركبتيها، وأمسكتها من شعرها الأبيض بكلتا يديها. هذا ما يردده الناس. لذا قالت أمي: «لا تذهبا إلى هناك، دعكما من النمس، فلست أرغب في أن يتشوه أحدكما.»
ولكنني مع ذلك ذهبت، ولم أصطحب أوين معي لأنه سوف يخبر أمي. ظننت أنني سوف أقرع الباب وأسأل بطريقة مهذبة عما إذا كان بإمكاني قراءة الصحف في الشرفة، ولكن قبل أن أصل إلى الدرج فُتح الباب وخرجت مادلين وفي يدها رافعة غطاء الموقد. ربما كانت ترفع غطاء الموقد عندما سمعتني، وربما لم تكن تحمله عن قصد، ولكنني لم أر فيه شيئًا سوى أنه سلاح.
نظرت إليَّ لحظة، وكان وجهها يشبه وجه ديان: نحيلًا وأبيضَ اللون وغامضًا. لم يكن غضبها فوريًّا، بل كانت تحتاج بعض الوقت كي تتذكره، كي تستجمع قواها. فلم يكن ثمة احتمال آخر منذ اللحظة التي رأتني فيها سوى الغضب، إما هذا وإما الصمت، تلك هي الخيارات الوحيدة التي كانت لديها.
«ما الذي أتيت لتتجسَّسِي عليه هنا؟ ما الذي أتيت لتتجسسي عليه حول منزلي؟ من الأفضل لك أن تخرجي من هنا.» وبدأت تهبط الدرج ببطء، فتراجعتُ من أمامها بالسرعة المطلوبة وأنا أحدق فيها بذهول. وتابعتْ هي: «إنك متطفلة صغيرة حقيرة، جاسوسة متطفلة صغيرة حقيرة، جاسوسة متطفلة صغيرة حقيرة، أليس كذلك؟» لم يكن شعرها القصير مصففًا، وكانت ترتدي فستانًا قطنيًّا ممزقًا على جسدها الصغير المستوي. كان عنفها يبدو مقصودًا متكلفًا بصورة مسرحية؛ كمشهد ترغب في البقاء لرؤيته كما لو كان عرضًا، غير أنه لم يكن ثمة شك في أنها عندما رفعت رافعة غطاء الموقد فوق رأسها أنها كانت على استعداد لتحطيمه على رأسي إذا أرادت ذلك؛ أي إذا شعرت أن المشهد يتطلب ذلك. فكرتُ في نفسي أنها تشاهد نفسها، وقد تتوقف في أية لحظة وتعود إلى حالة الخواء أو تتفاخر كطفلة قائلة: «أرأيتِ كيف أخفتُك؟ لم تكتشفي أنني أمازحك، أليس كذلك؟»
تمنيت لو كان بوسعي أن أخبرهم بهذا المشهد في المنزل، فقد تناقل الناس في كل أرجاء القرية قصص مادلين. ذات مرة، حدث شيء ما أزعجها في المتجر، فقذفت علبة من الفوط الصحية في وجه تشارلي باكل (من حسن حظه أنها لم تكن تحمل علبة من شراب الذرة!) وعاش العم بيني في عاصفة من السباب يمكنك سماعها من الطريق، فكان الناس يقولون له: «لقد جلبت لنفسك امرأة صعبة المراس يا بيني، أليس كذلك؟» فيضحك هو ضحكة خافتة ويهز رأسه خجلًا كما لو كان يتلقى التهنئة. وبعد فترة، بدأ يروي قصصًا عنها هو أيضًا، فقد قذفت الإبريق من النافذة لأنها لم تجد به مياه، وأخذتِ المقص وقطعتِ الحلة الخضراء التي لم يلبسها سوى مرة واحدة يوم زفافه، ولم يكن يعلم وجه اعتراضها عليها. وقالت إنها سوف تضرم النيران في المنزل لأنه أحضر لها النوع غير المناسب من السجائر.
«هل تظن أنها تتناول الخمر يا بيني؟»
«كلا، فلم أحضر أي زجاجات خمر إلى المنزل، وكيف يمكنها أن تحصل على زجاجة وحدها؟ كما أنني كنت سأشم رائحة الخمر بها.»
«وهل اقتربت منها بما يكفي كي تشم رائحة الخمر يا بيني.»
فخفض بيني رأسه وهو يضحك ضحكة خافتة.
«هل تقترب منها إلى هذا الحد يا بيني؟ أراهنك على أنها تقاوم بقوة قطيع من القطط البرية، عليك أن تقيدها ذات مرة وهي نائمة.»
عندما كان العم بيني يأتي إلى منزلنا كي يقوم بسلخ الفراء، كان يصطحب معه ديان. كان هو وأبي يعملان في قبو المنزل، يسلخان فراء الثعالب ويقلبان الجلد إلى الخارج ويضعانها على الألواح الطويلة كي تجف. كانت ديان تتسلق درجات القبو صعودًا وهبوطًا أو تجلس على الدرجة العليا تشاهدهما يعملان. لم تكن تحدث أحدًا سوى العم بيني، وكانت تشك في الألعاب والكعك واللبن وأي شيء نقدمه لها، ولكنها لم تكن تنتحب أو تبكِ قط. وإذا لمستها أو عانقتها كانت تستسلم بحذر وجسدها يرتعش قليلًا من الخوف وقلبها يدق بقوة كطائر أمسكت به في يدك، ولكنها كانت ترقد على ساقَي العم بيني أو تستغرق في النوم على كتفه وهي ملتوية كالمكرونة الإسباجتي. وكانت يده تغطي الكدمات الموجودة على ساقيها.
«إنها تتجول دائمًا وتصطدم بالأشياء في منزلي، فلديَّ أشياء كثيرة، وهي دائمًا ما تصطدم بالأشياء أو تتسلق فوقها وتسقط.»
في بداية الربيع، وقبل أن يذوب الثلج تمامًا، أتى إلى منزلنا ذات يوم كي يخبرنا بأن مادلين قد رحلت، فعندما عاد إلى المنزل في تلك الليلة — في الليلة السابقة — كانت قد رحلت. ظن أنها قد تكون في جوبيلي وانتظر عودتها، ولكنه لاحظ أن بعض الأشياء قد اختفت أيضًا، مثل مصباح طاولة كان ينوي تغيير أسلاكه، وسجادة صغيرة جميلة، وبعض الأطباق، وإبريق شاي أزرق كان ملكًا لوالدته، ومقعدين قابلين للطي في حالة ممتازة. وبالطبع، أخذت ديان أيضًا.
«لا بد أنها قد رحلت في شاحنة، فلا يمكنها أن تضع كل ذلك في سيارة.»
ثم تذكرت أمي أنها قد رأت شاحنة صغيرة تعتقد أنها رمادية اللون تتجه نحو المدينة في حوالي الثالثة من عصر اليوم السابق، ولكنها لم تهتم أو تلاحظ من كان فيها.
«شاحنة رمادية صغيرة! لا بد أنها هي! وقد وضعت الأشياء في الخلف. هل كان بها شبكة فوقها؟ هل رأيت ذلك؟»
ولكن أمي لم تلاحظ شيئًا.
فقال العم بيني متحمسًا: «عليَّ أن أتبعها، فلا يمكنها أن ترحل هكذا حاملة أشياء ليست ملكها، وكانت تقول لي دائمًا أبعد هذه النفايات من هنا، تخلص من هذه النفايات! لكن يبدو أنها لم ترها كنفايات عندما رغبت في أخذ بعضها لنفسها. ولكن المشكلة الوحيدة تكمن في كيفية معرفة مكانها، من الأفضل أن أتصل بشقيقها ذاك.»
وبعد حلول السابعة عندما انخفضت أسعار المكالمات، قام والدي باتصال لمدينة أخرى من هاتفنا — فلم يكن العم بيني يملك هاتفًا — إلى شقيق مادلين، ثم ترك السماعة للعم بيني.
صرخ العم بيني في الحال عبر الهاتف: «هل أتت إلى منزلك؟ لقد رحلت في شاحنة، رحلت في شاحنة رمادية صغيرة. فهل أتت عندك؟» لكن يبدو أنه كان ثمة ارتباك في الجانب الآخر من الخط، ربما كان العم بيني يصرخ بصوت أعلى من أن يسمعه أحد، فاضطر والدي أن يأخذ سماعة الهاتف ويشرح ما حدث بصبر، واتضح أن مادلين لم تذهب إلى كيتشنر، ولم يهتم شقيقها كثيرًا بأن يعلم أين ذهبت، وأنهى الاتصال دون أن يقول وداعًا.
أخذ أبي يحاول إقناع العم بيني بأن التخلص من مادلين ليس أمرًا سيئًا في نهاية المطاف، وأوضح له أنها لم تكن مديرة منزل جيدة ولم تجعل حياته مريحة وهادئة. وأخذ يفعل ذلك بطريقة دبلوماسية دون أن يغفل أنه يتحدث عن زوجته، فلم يشر إلى افتقارها للجمال أو إلى ثيابها القذرة، وأما عن الأشياء التي أخذتها — أو سرقتها كما يقول العم بيني — فهذا أمر سيئ ومخزٍ لا شك (كان لوالدي ما يكفي من الحكمة بحيث لا يشير إلى أن تلك الأشياء لم تكن ذات قيمة)، ولكن ربما كان ذلك ثمن التخلص منها، وعلى المدى الطويل قد يكتشف العم بيني أنه كان محظوظًا.
قالت أمي فجأة: «ليس الأمر كذلك، إنها الفتاة الصغيرة ديان.»
فضحك العم بيني ضحكة خافتة بائسة.
فصاحت أمي في نبرة فهم وانزعاج مفاجئين: «إن أمها تضربها، أليس كذلك؟ هذا هو الأمر، هذا هو تفسير الإصابات على ساقيها …»
وبمجرد أن بدأ العم بيني ضحكاته الخافتة، لم يستطع التوقف، فكانت ضحكاته كالفواق.
«حسنًا، نعم بالفعل إنها …»
«لمَ لمْ تخبرنا عندما كانت هنا؟ لمَ لمْ تخبرنا في الشتاء الماضي؟ لمَ لمْ يخطر ببالي ذلك الأمر؟ لو كنت أعلم الحقيقة كنت سأبلغ عنها …»
فنظر العم بيني مفزوعًا.
«تبلغين الشرطة عنها! كان ذلك سيتسبب في توجيه اتهامات، وقد تؤخذ منا الفتاة. ولكن ما علينا أن نفعله الآن هو أن نجعل الشرطة تبحث عنها وسوف يجدونها، لا داعي للخوف.»
لم يبدُ العم بيني سعيدًا أو مرتاحًا لذلك التأكيد، فقال بتعقل: «كيف ستعلم الشرطة أين تبحث؟»
«الشرطة الإقليمية سوف تعلم. يمكنهم العمل على نطاق المقاطعة أو الدولة إذا لزم الأمر، وسوف يجدونها.»
فقال أبي: «مهلًا، مهلًا، ما الذي يجعلك تعتقدين أن الشرطة مستعدة للقيام بذلك؟ إنهم لا يقتفون أثر أحد بتلك الطريقة سوى المجرمين.»
«وماذا تسمي امرأة تضرب طفلة غير أنها مجرمة؟»
«يجب أن تكون هناك قضية وشهود، إذا كنت ستبلغين عن الأمر علانية هكذا يجب أن يكون لديك دليل.»
«بيني هو الشاهد، وسوف يخبرهم، سوف يشهد ضدها.» والتفتت أمي نحو العم بيني الذي عاودته نوبة الفواق، وقال بصوت ينم عن الحيرة وكأنه لا يستطيع استيعاب الأمر: «ما معنى هذا، ماذا عساي أن أفعل؟»
فقال أبي: «كفى حديثًا في هذا الأمر اليوم، سوف ننتظر ونرى.»
هبت أمي واقفة وهي تشعر بالانزعاج والارتباك، ولكن كان عليها أن تقول شيئًا واحدًا آخر، فقالت ما يعلمه الجميع.
«لست أدري لمَ التردد، فكل شيء واضح وضوح الشمس بالنسبة لي.»
ولكن ما كان واضحًا وضوح الشمس بالنسبة لأمي كان غامضًا ومخيفًا بالنسبة للعم بيني، وكان من المستحيل الجزم بما إذا كان خائفًا من الشرطة أم من المظهر العام والرسمي الذي سينتج عن تلك الخطة، وما سينتشر حولها من أحاديث، والأماكن الغريبة التي سوف تأخذه إليها. ولكن أيًّا كان فقد انهار مصدومًا، ولم يتحدث عن مادلين وديان بعد ذلك.
ما الذي يمكن فعله؟ فكرت أمي مليًّا في التصرف بنفسها، ولكن أبي أخبرها: «سوف تقعين في مشاكل من البداية إذا تدخلت في حياة عائلات الآخرين.»
«مهما يكن، أعلم أنني على حق.»
«قد تكونين على حق، ولكن هذا لا يعني أن بيدك ما تفعلينه حيال هذا الأمر.»
في هذا الوقت من العام، تضع الثعالب صغارها، وإذا حلقت إحدى طائرات كلية التدريب التابعة للقوات الجوية الموجودة بجوار البحيرة على ارتفاع منخفض، أو إذا ظهر شخص غريب بجوار الحظائر، أو إذا وقع أي حدث مزعج أو مخيف؛ فقد تُقرر قتْل صغارِها. ولا يعلم أحد ما إذا كانت الثعالب تفعل ذلك بدافع الغضب الأعمى أم أنها غريزة الأمومة اليقظة المذعورة. هل يمكن أن يكون ذلك بدافع أنها ترغب في إبعاد صغارها الذين لم يفتحوا أعينهم بعد عن الخطر الذي تظن الأمهات أنهن جلبن صغارهن إليه في هذه الحظائر؟ لم تكن الثعالب كالحيوانات المستأنسة؛ إذ إنها لم تعش في الأسر إلا منذ بضعة أجيال.
ولكي يقنع أمي، قال أبي إن مادلين قد تكون ذهبت إلى الولايات المتحدة حيث لا يمكن أن يجدها أحد، فالعديد من الأشخاص الفاسدين والمجانين — بالإضافة إلى الطموحين ومن لا يروق لهم الاستقرار — يذهبون إلى هناك في نهاية الأمر.
ولكن مادلين لم تذهب إلى هناك؛ ففي وقت لاحق في الربيع وصل منها خطاب. كان لديها الجرأة كي ترسل خطابًا، كما قال العم بيني الذي أحضر الخطاب وأرانا إياه. وجاء في الخطاب، بلا أي تحية: «لقد تركت سترتي الصفراء ومظلة خضراء وبطانية ديان في منزلك، أرسلهم إليَّ على هذا العنوان: ١٢٤٩ شارع ريدليت، تورونتو، أونتاريو.»
كان العم بيني قد قرر بالفعل أنه سوف يذهب إلى هناك وطلب اقتراض السيارة. ولم يكن قد ذهب إلى تورونتو من قبل، وعلى طاولة المطبخ بسط أبي خريطة الطريق ليريه كيف يصل إلى هناك، مع أنه تساءل عما إذا كانت الفكرة برمتها فكرة سديدة. قال العم بيني إنه ينوي إحضار ديان معه، ولكن أمي وأبي أوضحا له أن هذا غير قانوني ونصحاه بألا يفعل، ولكن العم بيني — الذي كان شديد الخوف من اتخاذ أي إجراء قانوني رسمي — لم يكن قلقًا على الإطلاق من القيام بما قد يتحول إلى عملية اختطاف. وبدأ يروي لنا ما كانت تفعله مادلين: كانت تربط ساقي ديان في ألواح الفراش بأحزمة جلدية، وكانت توسعها ضربًا بعصا خشبية، وربما تكون فعلت ما هو أسوأ عندما لم يكن موجودًا بالمنزل؛ إذ كان يعتقد أن هناك علامات للمِسعَر على ظهر الطفلة. وبينما كان يقص علينا كل ذلك تملكت منه ضحكته الخافتة الاعتذارية، وكان عليه أن يهز رأسه ويبتلعها.
تغيب العم بيني مدة يومين، وفتح أبي أخبار الساعة العاشرة قائلًا: «حسنًا، علينا أن نرى ما إذا كان بيني العجوز قد ألقي القبض عليه!» وفي مساء اليوم الثاني، وصل العم بيني بالسيارة إلى فناء منزلنا وجلس هناك لحظة دون أن ينظر إلينا، ثم خرج ببطء وسار بوقار وإعياء نحو المنزل. لم تكن ديان معه. هل توقعنا أن يأتي بها؟
كنا نجلس على الرصيف الإسمنتي الذي يقع خارج باب المطبخ، وكانت أمي تجلس على الكرسي القماشي المائل الظهر الخاص بها، كي يذكرها بمروج الحضر وكيفية قضاء وقت الفراغ هناك، وكان أبي يجلس على أحد مقاعد المطبخ المستقيمة الظهر. لم يكن هناك سوى القليل من الحشرات في هذا الوقت المبكر من الموسم، وكنا نتأمل الغروب. كانت أمي أحيانًا تجمعنا كلنا كي نتأمل الغروب كما لو كان حدثًا قد رتبت هي له، وهو ما كان يفسد جمال الحدث قليلًا — وبعد وهلة كنت أرفض تأمل المنظر تمامًا — ولكن على أية حال لم يكن ثمة مكان أفضل في العالم لمشاهدة الغروب من نهاية طريق فلاتس. حتى أمي نفسها أقرت بذلك.
كان أبي قد ثبت الباب السلكي في ذلك اليوم، وكان أوين يتأرجح فوقه متحديًا الأوامر كي يسمع الصوت المألوف للزنبرك وهو يتمدد ثم يعود بحركة مفاجئة إلى مكانه. ويأمره والداي بأن يتوقف وألا يفعل ذلك، ولكنه يعود ويفعلها مرة أخرى بحذر شديد من ورائهما.
كانت هالة من الكآبة تحيط بالعم بيني، حتى إن أمي نفسها لم تتمكن من سؤاله مباشرة، وطلب مني أبي بصوت منخفض أن أحضر مقعدًا من المطبخ.
«اجلس يا بيني. هل أنت منهك القوى من القيادة؟ كيف كان أداء السيارة؟»
«كانت جيدة.»
جلس العم بيني ولم يخلع قبعته، بل جلس متصلبًا كما لو كان في مكان غريب لا يتوقع فيه الترحيب أو حتى يتمناه. وأخيرًا، كسرت أمي حاجز الصمت وتحدثت إليه في نبرة أرغمتها على أن تخرج عادية ومبتهجة.
«حسنًا، هل تسكن هي وابنتها في منزل أم في شقة؟»
فقال العم بيني على مضض: «لست أدري.» وبعد قليل أضاف: «فلم أعثر على منزلهما قط.»
«لم تجد منزلهما؟»
فهز رأسه نافيًا.
«إذن، فلم ترهما؟»
«كلا، لم أرهما.»
«هل فقدت العنوان؟»
«كلا، فقد كتبته على هذه الورقة التي أحتفظ بها هنا.» وأخرج محفظته من جيبه وأخرج منها قصاصة من الورق أراها لنا، وقرأ ما بها: «١٢٤٩ شارع ريدليت»، ثم طواها وأعادها إلى جيبه. بدت كل حركاته بطيئة رسمية تملؤها الحسرة.
«لم أتمكن من العثور عليه، لم أتمكن من العثور على المكان.»
«ولكن هل حصلت على خريطة للمدينة؟ أتذكر لقد قلنا إن عليك الذهاب إلى محطة بنزين وطلب خريطة لمدينة تورونتو.»
فقال العم بيني بنوع من الانتصار الذي يملؤه الأسى: «لقد فعلت ذلك بالطبع، ذهبت إلى محطة بنزين وطلبت منهم الخريطة، فقالوا إنهم ليس لديهم خرائط إلا للمقاطعة.»
«ولكنك تملك خريطة للمقاطعة بالفعل.»
«أخبرتهم بذلك، وقلت لهم إنني أريد خريطة لمدينة تورونتو، ولكنهم قالوا إنه لا خرائط لديهم.»
«ألم تسأل في محطة بنزين أخرى؟»
«إذا لم تكن موجودة في إحدى المحطات، تصورت أنني لن أجدها في أية محطة أخرى.»
«كان بإمكانك أن تشتري واحدة من المتجر.»
«لم أعرف أي نوع من المتاجر أتوجه إليه.»
«متجر الأدوات المكتبية! متجر متعدد الأقسام! كان بإمكانك أن تسأل في محطة البنزين من أين تحصل على واحدة.»
«تصورت أنه بدلًا من التجول في المكان محاولًا العثور على خريطة، من الأفضل أن أسأل الناس كي يرشدوني للوصول إلى هناك بما أن معي العنوان بالفعل.»
«من المخاطرة الاعتماد على سؤال الناس.»
فقال العم بيني: «لقد أدركت ذلك.»
وعندما تمالك نفسه بدأ يروي ما حدث له.
«في بادئ الأمر سألت أحدهم فأرشدني إلى عبور ذلك الجسر، ففعلت ذلك حتى وصلت إلى إشارة حمراء وكان من المفترض أن أتجه إلى اليسار كما أخبرني، ولكنني عندما وصلت إلى هناك اختلط عليَّ الأمر، فلم أعلم ما إذا كان عليَّ أن أتجه إلى اليسار عندما تكون الإشارة الحمراء أمامي أم الإشارة الخضراء.»
فصاحت أمي بإحباط: «بل تتجه إلى اليسار عند الإشارة الخضراء، فإذا اتجهت إلى اليسار عند الإشارة الحمراء سوف تسير عكس اتجاه المرور أمامك.»
«نعم أعلم ذلك، ولكنني إذا اتجهت إلى اليسار عند الإشارة الخضراء، فسوف أسير عكس اتجاه المرور القادم في وجهي.»
«عليك أن تنتظر حتى يسمحوا لك بالمرور.»
«إذن فسوف أنتظر طوال اليوم ولن يسمحوا لي بالمرور، وهكذا لم أعلم ماذا عليَّ أن أفعل، فجلست هناك محاولًا اتخاذ قرار حتى بدأت السيارات خلفي تطلق نفيرها، فقررت أن أتجه يمينًا، فيمكنني القيام بذلك بلا مشاكل، ثم أستدير وأعود من حيث أتيت وهكذا سأكون أسير على الطريق الصحيح، ولكنني لم أرَ أي مكان يمكنني الالتفاف والعودة منه فظللت أمضي قدمًا، ثم انحرفت في شارع به مفترق طرق، وظللت أقود حتى خطر لي أنني قد فقدت المسار الذي أخبرني به الشخص الأول تمامًا، وهكذا يمكنني أن أسأل شخصًا آخر. فتوقفت وسألت سيدة تسير مصطحبة كلبًا تربطه بسلسلة، ولكنها أجابتني بأنها لم تسمع عن شارع ريدليت هذا، لم تسمع عنه قط، وقالت إنها تعيش في تورونتو منذ اثنين وعشرين عامًا، ثم نادت صبيًّا يركب دراجته فوجدته قد سمع عن ذلك الشارع، وأخبرني بأنه في الناحية الأخرى من المدينة وأنني أتجه إلى خارج المدينة. ولكنني ظننت أنه من الأيسر الالتفاف حول المدينة بدلًا من المرور عبرها، حتى ولو استغرق الأمر وقتًا أطول، وظللت في نفس طريقي الذي بدا لي دائريًّا، وعندئذ أدركت أن الظلام قد بدأ يحل، وخطر لي أنه من الأفضل أن أتحرك حتى أجد هذا المكان قبل حلول الظلام؛ لأنني لن أحب القيادة هنا في الظلام لحظة واحدة …»
انتهى به الأمر نائمًا في السيارة على جانب الطريق خارج فناء أحد المصانع. كان قد ضل الطريق وسط المصانع والطرق المسدودة والمستودعات ومخازن الخردة والسكك الحديدية، وظل يصف لنا كل منعطف قام به وكل شخص سأله عن الاتجاهات، وأخبرنا بما قاله كل منهم وما خطر له وقتها، والبدائل التي فكر بها، ولمَ قرر في كل حالة أن يفعل ما فعل. كان يتذكر كل شيء، كما لو كانت خريطة الرحلة قد طُبعَت في ذهنه. وبينما كان يتحدث، كانت ملامح مشهد مختلف ترتسم أمامنا؛ مشهد من السيارات ولوحات الإعلانات والمصانع والطرق والبوابات المغلقة والأسياج السلكية المرتفعة والسكك الحديدية وأكوام شاهقة الارتفاع من خبث الفرن، وأكواخ الصفيح والمصارف التي تحتوي على مياه ضحلة بنية اللون، بالإضافة إلى علب الصفيح وصناديق الورق المقوى الممزقة، وكل أنواع النفايات الثقيلة أو — بالكاد — الطافية، ارتسم هذا المشهد حولنا بريشة صوته الرتيب الذي يتذكر التفاصيل بدقة، فرأينا كل شيء، رأينا كيف يبدو أن تضل الطريق هناك، وكيف يستحيل العثور على أي شيء أو الاستمرار في البحث.
ومع ذلك فقد اعترضت أمي قائلة: «ولكن هكذا تبدو المدن! ولذلك يجب أن يكون معك خريطة!»
فتابع العم بيني كما لو أنه لم يسمعها: «استيقظت هناك هذا الصباح، وأدركت أن أفضل ما أفعله هو الرحيل لأي مكان أستطيع الوصول إليه.»
فتنهد أبي وأومأ برأسه موافقًا أن هذا صحيح.
وهكذا، بدا عالم العم بيني بجوار عالمنا كما لو كان انعكاسًا مشوهًا مزعجًا، نفس العالم ولكنه ليس هو إطلاقًا. في ذلك العالم قد يغوص الناس في بحر من الرمال المتحركة، وتهزمهم الأشباح أو المدن العادية المروعة، وكل من الحظ والشر عملاق ضخم لا يمكن التنبؤ به، ولا شيء مستحَق، فقد يحدث أي شيء، وكانت الهزائم تُقابَل برضا لا يخلو من الجنون. وكان انتصاره — الذي لا يعلم عنه شيئًا — هو أنه جعلنا نرى.
كان أوين يتأرجح على الباب الشبكي وهو يغني بطريقة ازدرائية حذرة كما يفعل عادة في المناقشات الطويلة:
كنت قد علمته تلك الأغنية، ففي ذلك العام كنا نغني تلك الأغاني كل يوم في المدرسة كي نساعد في إنقاذ إنجلترا من يد هتلر. وقالت أمي إنها «نمجدك» لا «نبتزك»، ولكنني لم أصدق ذلك، فكيف تستقيم القافية هكذا؟
جلست أمي في مقعدها القماشي وجلس أبي في مقعده الخشبي دون أن ينظر أحدهما إلى الآخر، ولكن كانت ثمة صلة بينهما، وكانت تلك الصلة واضحة كما لو كانت سياجًا؛ كانت صلة بيننا وبين العم بيني؛ صلة بيننا وبين طريق فلاتس؛ صلة تبقى بيننا وبين كل شيء. كان الأمر نفسه كما يحدث أحيانًا في الشتاء عندما يوزعان أوراق اللعب، ويجلسان إلى طاولة المطبخ ويلعبان في انتظار أخبار العاشرة بعد أن نكون قد خلدنا إلى النوم بالطابق العلوي، والطابق العلوي يبدو على بعد أميال منهما، فهو مظلم تملؤه أصوات الرياح. وهناك بالأعلى تكتشف ما لم تتذكره بالأسفل في المطبخ قط، أننا نعيش في منزل صغير صامت مثل زورق في البحر في وسط موجة من الجو العاصف. ويبدو كما لو أنهما يتحدثان ويلعبان الورق على بعد مسافة بعيدة في بؤرة ضوء ضئيلة لا صلة لها بما حولها؛ غير أن هذا التفكير — الممل كالفواق والمألوف كأصوات الأنفاس — فيهما هو ما كان يشغلني، ما كان يومض لي من قاع البئر وأنا أشد رحالي إلى عالم الأحلام.
لم يتلق العم بيني أي خطابات من مادلين مرة أخرى، أو حتى إذا كان قد تلقى فإنه لم يذكرها مرة أخرى. وعندما كان يسأله أحد أو يضايقه بشأنها، كان يبدو أنه يتذكرها بلا أسى مع لمحة من الازدراء لكونها شيئًا — أو شخصًا — مهملًا منذ فترة طويلة كالسلاحف.
وبعد فترة، كنا نضحك جميعًا ونحن نتذكر مادلين وهي تقطع الطريق، مرتدية سترتها الحمراء وساقاها تتقاطعان كالمقص وهي تكيل السباب للعم بيني، الذي يتبعها حاملًا ابنتها. كنا نضحك متذكرين كيف كانت تسيء التصرف وما فعلته بإيرين بولوكس وتشارلي باكل. وقالت أمي في نهاية الأمر، كي تريح نفسها، إن العم بيني ربما يكون قد اختلق أمر الضرب ذاك، فكيف يمكن الوثوق به؟ وكانت مادلين نفسها تبدو كما لو كانت شيئًا اختلقه؛ فكنا نتذكرها كقصة فحسب، ولما لم يكن لدينا ما نقوله، لم نملك سوى هتاف غريب قاسٍ جاء متأخرًا:
«مادلين! تلك المرأة المجنونة!»