الأميرة إيدا
أصبحت أمي تبيع الموسوعات، وأطلقت العمة إلسبيث والعمة جريس على ذلك العمل «الخروج في الطرقات!»
وكانتا تسألاني: «هل تخرج والدتك في الطرقات كثيرًا هذه الأيام؟» وكنت أجيب: «كلا، لم تعد تخرج كثيرًا.» ولكنني كنت أعلم أنهما تعلمان أنني أكذب، وقد تتابعان بلهجة مشفقة قائلتين: «لا يكون لديها متسع من الوقت للكي، عندما تضطر إلى الخروج في الطرقات.»
كنت أشعر بثقل غرابة أطوار أمي، كنت أشعر بشيء سخيف ومحرج بشأنها — لم تكن عمتاي تظهران سوى القليل في كل مرة — يحط على كتفَيَّ المرتعدتين. كنت أرغب بالفعل في أن أتبرأ منها، وأن أسترضيهما، أن أكون كيتيمة أو منبوذة في ثيابي المجعدة. وفي الوقت نفسه، كنت أرغب في حمايتها، فلم تكن ستتفهم مدى احتياجها للحماية من المرأتين العجوزين بمزاجهما المحير قليلًا وأخلاقهما الرقيقة. كانتا ترتديان الفساتين القطنية الداكنة؛ ذات الياقات البيضاء المنشَّاة والمكوية بعناية، والدبابيس المزخرفة على هيئة زهور والمصنوعة من الخزف، وكان منزلهما به ساعة رنانة تشير إلى ربع الساعة إشارة لطيفة، بالإضافة إلى السراخس المائية وأزهار البنفسج الأفريقية والبُسط المشغولة يدويًّا والستائر ذات الأهداب، وقبل كل شيء رائحة الشمع والليمون النظيفة القوية.
«كانت هنا بالأمس كي تأخذ الكعك الذي صنعناه لك، هل كان جيدًا؟ هل كان خفيفًا؟ أخبرتنا بأنها قد علقت في طريق جيريكو. علقت وحدها تمامًا في طريق جيريكو! يا لتلك المسكينة آدا! ولكن تخيلي منظر الوحل وهو يغطيها، كان باعثًا على الضحك!»
قالت العمة جريس بلهجة اعتذار: «كان علينا أن ننظف مشمع أرضية القاعة.» كما لو كان ذلك أمرًا لا تود أن تخبرني به.
ومن وجهة النظر الفوقية تلك، بدت أمي كما لو كانت امرأة متوحشة.
كانت أمي تقود سيارتنا الشيفروليه طراز عام ١٩٣٧، عبر الطرق السريعة والطرق الخلفية لمقاطعة واواناش، عبر الطرق المفروشة بالحصى والطرق الترابية وممرات الأبقار إذا رأت أن هذا يقودها إلى عملاء، وكانت تحمل رافعة ومجرفة في حقيبة السيارة، وزوجًا من الألواح القصيرة؛ كي تسهل مرورها خارج حفر الوحل. كانت تقود طوال الوقت كما لو أنها لن تتفاجأ إذا ما رأت الأرض تتشقق أمام عجلاتها لعشرة أقدام، وكانت تطلق نفير السيارة في يأس في المنعطفات التي لا ترى ما بعدها، وكانت قلقة دائمًا من أن الجسور الخشبية قد لا تحتملها، ولم تكن تدع أي شيء يضطرها إلى الوقوف على جانب الطريق الخائن المتهاوي.
كانت رحى الحرب لا تزال دائرة، وأصبح المزارعون يربحون الأموال أخيرًا، سواء من الخنازير أو بنجر السكر أو الذرة، ولكنهم ربما لا يودون إنفاقها في اقتناء الموسوعات، بل كانت أذهانهم تتوجه إلى الثلاجات أو السيارات، ولكن تلك الأشياء لم تكن في متناول اليد، وفي ذلك الوقت تظهر أمي التي تسحب حقيبة كتبها بجرأة، وتدخل إلى المطابخ وغرف الاستقبال الباردة التي تفوح برائحة المآتم، وتفتح عليهم النيران باسم المعرفة في حذر وتفاؤل. تدخل إليهم في محاولة لبيع سلعة باردة يمكن لمعظم الراشدين أن يستغنوا عنها، ولكن لا أحد ينكر أنها شيء لطيف للأطفال. وقد كانت أمي تعتمد على ذلك.
ولو كانت السعادة في هذا العالم تقاس بالاقتناع بما تبيعه، لكانت أمي سعيدة. فلم تكن المعرفة شيئًا باردًا بالنسبة لها، بل كانت دافئة وممتعة. كانت تجد راحة تامة — حتى في تلك المرحلة من عمرها — في معرفة موقع نهر سيليبس، وقصر بيتي، وترتيب زوجات هنري الثامن، والتعرف على النظام الاجتماعي للنمل، وطرق ذبح القرابين التي يمارسها الآزتيك، والسباكة في كنوسوس. وكانت تتحمس وهي تحكي عن تلك الأشياء وتقصها على أي شخص. كانت العمة إلسبيث والعمة جريس تقولان باستخفاف وبلا غيرة: «إن والدتك تعرف الكثير من الأمور.» ووجدتُ أنه بالنسبة للكثير من الناس — وربما لمعظم الناس — تُعدُّ المعرفة نوعًا من غرابة الأطوار، شيئًا بارزًا كالنتوءات التي تظهر على الجلد.
ولكنني كنت أشارك أمي ذلك الاهتمام، لم أستطع أن أمنع نفسي من ذلك. كنت أحب مجلدات الموسوعات وثقلها (من الغموض والمعلومات الجميلة) وهي تسقط مفتوحة على حجري، وكنت أحب غلافها الأخضر الداكن الوقور، والخطوط الذهبية المتحفظة المتداخلة كشبكة العنكبوت على ظهورها. وقد تُفتح الموسوعة على صورة منحوتة معدنية لمعركة تدور رحاها في المستنقعات وثمة قلعة في الخلفية أو في ميناء القسطنطينية، وقد صُور سفك الدماء والغرق وقطع الرءوس واحتضار الجياد في عرض مسرحي مبالغ وخيال بديع. وأصبح لديَّ انطباع بأنه في الأزمان الغابرة، كان الجو دائمًا مصطنعًا مشئومًا، والمناظر الطبيعية عابسة، والبحر يتلألأ بظلال رمادية باهتة أو لامعة. فها هي شارلوت كورداي في طريقها للمقصلة، وماري ملكة اسكتلندا في طريقها للمشنقة، ورئيس الأساقفة لود يمنح مباركته لستافورد عبر قضبان نافذة السجن. ولا يمكن لأحد أن يشك في أن تلك هي الطريقة التي كانوا يَبدون عليها بالفعل: حُلل سوداء، وأيدٍ مرفوعة، ووجوه بيضاء، وتعلو الوجوه رباطة جأش وشجاعة بطولية. وكانت الموسوعة تضم بالطبع أنواعًا أخرى من الصور: كالخنافس، وأنواع الفحم المختلفة، والأجزاء الداخلية من المحركات موضحة برسوم بيانية، وصور لأمستردام أو بوخارست التُقطت في أيام ضبابية معتمة في عشرينيات القرن العشرين (يمكن معرفة ذلك من السيارات المربعة المرتفعة). لقد كنت أفضل التاريخ.
في بادئ الأمر، كنت أتعلم بعض الأشياء من الموسوعة مصادفة، ثم أصبحت أتعلم منها عمدًا، فلديَّ ذاكرة استثنائية، وكان تعلُّم مجموعة من الحقائق اختبارًا لا يقاوم بالنسبة لي، كمحاولة الوثب مسافة مربع سكني كامل على قدم واحدة.
أدركت أمي أنها قد تستفيد مني في عملها.
«ابنتي تقرأ هذه الكتب وأنا أشعر بالدهشة مما تعلمَتْه؛ فعقول الأطفال كمصيدة الذباب، أيما تضع عليها فسوف يلتصق. عزيزتي ديل، هل يمكنك إخبارنا بأسماء رؤساء الولايات المتحدة بدءًا من جورج واشنطن وحتى اليوم؟» أو: «أخبرينا بأسماء دول أمريكا الجنوبية وعواصمها»، أو «من أين أتى كبار المستكشفين وأين ذهبوا.» كما كان للتواريخ أيضًا وقع سار على النفوس؛ فكنت أجلس في منازل الغرباء أردد تلك الأشياء بطلاقة وأنا أرسم على وجهي نظرة تنافسية جادة وحادة الذكاء، ولكنها كانت بغرض إحداث التأثير المنشود فحسب، أما في أعماقي فكان يغمرني شعور بالرضا عن الذات، فقد كنت أعلم أنني أعلم، ومن يمكنه ألا يحبني بسبب علمي أين تقع كيتو؟
القليل من الناس في حقيقة الأمر. ولكن أين حصلتُ على أول إشارة في ذلك الاتجاه؟ ربما كان ذلك من مشاهدة أوين — الذي لم يكن يعلم تاريخين أو عاصمتين أو رئيسين راحلين على حد علم أي شخص — وهو يلف قطعة طويلة من العلك، بعد أن مضغها، حول إصبعه برقة وخلسة. أو قد يكون ذلك من وجوه أطفال الريف التي تتفاداني وتشيح عني بإحراج معقد واضح. وذات يوم لم أعد أرغب في القيام بذلك مرة أخرى، وكان القرار لسبب عضوي؛ فالإذلال ولَّد شعورًا بالوخز في أطراف الأعصاب وبطانة المعدة، وبدأت أقول: «لا أعرفهم …» ولكنني كنت أكثر بؤسًا وخجلًا من أن أقول تلك الكذبة.
«جورج واشنطن، جون آدامز، توماس جيفرسون …»
فقالت أمي بحدة: «هل تشعرين بالغثيان؟»
كانت تخشى من أن أكون على وشك التقيؤ، فقد كنت أنا وأوين معتادين على التقيؤ في المواقف المحرجة. فهززت رأسي وانزلقت من على المقعد وخرجت واختبأت في السيارة وأنا أمسك معدتي. ولكن أمي أدركت عندما أتت خلفي أن ثمة شيئًا أكبر من ذلك.
فقالت في لهجة عملية: «إنك تصابين بالخجل، لقد ظننت أنك تستمتعين بذلك.» وبدأ الوخز مرة أخرى. كانت تلك هي المشكلة بالضبط، كنت أستمتع بذلك، ولم يكن لائقًا منها أن تقول ذلك. وقالت بلهجة متباهية: «الخجل والارتباك، تلك هي الرفاهيات التي لا يمكنني تحملها.» وأدارت محرك السيارة مردفة: «رغم ذلك أقول لك إن ثمة أفرادًا في عائلة والدك لن يفتحوا أفواههم بكلمة أمام الناس، حتى إذا كان ذلك ليقولوا إن بيتهم يحترق.»
ومنذ ذلك الحين عندما كانت أمي تسألني برفق: «هل ترغبين في الإجابة على بعض الأسئلة اليوم؟» كنت أنزلق في المقعد وأهز رأسي نفيًا وأقبض على معدتي في إشارة للاحتمال السريع لعودة الشعور بالغثيان. كان على أمي أن تستسلم، والآن عندما كنت أخرج معها في السيارة في أيام السبت أصبحت مثل أوين تمامًا، شحنة مجانية عديمة الجدوى، ولم أعد شريكة في مشروعاتها. وقالت هي: «تريدين إخفاء مواهبك وعقلك بدافع الحماقة، هذا ليس المستقبل الذي أتطلع إليه. افعلي ما تشائين.»
لكن كان لا يزال بداخلي آمال غامضة لخوض مغامرة، وشاركني أوين في هذه الآمال، على الأقل على المستوى الأكثر مادية. كنا نأمل في شراء حقائب من الحلوى البُنية الذهبية المقطعة إلى مكعبات كالطوب الإسمنتي، والتي تذوب في الفم في الحال، وتباع في متجر واحد في القرية، مغطى بستائر تشبه لجام الفرس وتفوح منه رائحة الخيول. وكنا نأمل على الأقل في أن نقف للتزود بالبنزين في مكان يبيع المشروبات الغازية الباردة. وكنت آمل في السفر بعيدًا حتى بورترفيلد أو بلو ريفر، وهي مدن تستمد سحرها من كونها أماكن لا نعرفها ولسنا معروفين فيها، من كونها ليست جوبيلي. وبينما أسير في شوارع إحدى تلك المدينتين أشعر بأنني مجهولة كَحلْية أو كذيل طاووس، ولكن بحلول العصر، تكون تلك الآمال إما انحسرت أو تحقق بعضها، وهو ما يخلف فراغًا دائمًا. وأمي أيضًا كانت تمر ببعض لحظات التدهور من تلك القوى الوحشية التي دفعتها إلى الخارج هنا في المقام الأول. ومع اقتراب حلول الظلام، والهواء البارد يتسلل من فتحة في أرض السيارة، وصوت المحرك المتعب، ولا مبالاة الريف؛ كنا نشعر بالتقارب بيننا ونشتاق إلى منزلنا. كنا نقود عبر قرية لا نعرف أننا نحبها، لا متعرجة ولا مسطحة بل متهدمة بلا إيقاع معروف، وهي ذات تلال منخفضة ووديان تمتلئ بالآجام، ومستنقع وشجيرات وحقول، وأشجار الدردار شاهقة الارتفاع — التي تقف كل منها منفصلة واضحة الشكل — تبدو مقدرًا لها الهلاك، ولكننا لم نعرف ذلك أيضًا. كانت تبدو مثل مراوح مفتوحة قليلًا، وأحيانًا على شكل القيثارة.
كانت جوبيلي مرئية من فوق مرتفع على بعد حوالي ثلاثة أميال على الطريق السريع رقم ٤، وبيننا وبينها مسطحات النهر الذي يفيض ماؤه في فصل الربيع من كل عام، والمنحنى الخفي لنهر واواناش، والجسر الذي يعبر فوقه مطليًّا باللون الفضي والذي يبدو في ضوء الغسق كما لو كان قفصًا معلقًا. كان الطريق السريع رقم ٤ هو نفسه الشارع الرئيسي في جوبيلي، وكان بوسعنا أن نرى برجي مكتب البريد ومبنى البلدية يواجهان بعضهما البعض؛ مبنى البلدية بقبته المذهلة التي تخفي الجرس الأسطوري (الذي يدق مع بداية الحروب ونهايتها، ومستعد للدق في حالة حدوث الزلازل أو الفيضانات)، ومكتب البريد ببرج الساعة المربع المفيد العملي. كانت المدينة تمتد على جانبي الشارع الرئيسي بمسافة متساوية تقريبًا، وكان شكلها — الذي يكون لدى عودتنا يمكن تمييزه بالأضواء — يبدو كخفاش جناحه مرفوع قليلًا ويحمل البرج المائي غير المُضاء وغير المميزة قمته.
لم تكن أمي تدع هذا المشهد يمر دون أن تبدي تعليقًا ما، مثل «ها هي جوبيلي» ببساطة أو «حسنًا، ها هي العاصمة»، أو قد تستشهد — بصورة تفتقر إلى الدقة والوضوح — بقصيدة عن الدخول من نفس الباب الذي خرجت منه. وبتلك الكلمات — سواء أكانت منهكة أم ساخرة أم ممتنة حقًّا — تستمد جوبيلي — بالنسبة لي — وجودها، كما لو أنه بدون تشجيعها وقبولها لن تكون تلك الأضواء في الشارع والأرصفة والحصن في البرية وذلك النمط المفتوح والسري للمدينة — الذي يمثل مأوى ولغزًا في الوقت نفسه — موجودًا.
خلال كل رحلاتنا وعودتنا للمنزل وفي عالمنا بأسره بوجه عام، كانت أمي تمارس سلطة غامضة مروعة، ولم يكن بوسعي القيام بأي شيء، ليس بعد.
استأجرت أمي منزلًا في المدينة، وكنا نقيم هناك من سبتمبر حتى يونيو، ولا نذهب إلى المنزل في طريق فلاتس إلا في الصيف. وكان أبي يحضر لتناول العشاء ويبيت معنا، وذلك حتى يسقط الثلج، فيأتي إذا أمكنه ذلك ليقضي معنا ليلة السبت وجزءًا من يوم الأحد.
كان المنزل الذي استأجرناه في نهاية شارع ريفر على مسافة قريبة من محطة السكك الحديدية الكندية، وهو ذلك النوع من المنازل الذي يبدو أكبر من حجمه، فسقفه مرتفع لكن منحدر — والطابق الأول مصنوع من الخشب والثاني من القرميد — به واجهة بارزة في غرفة الطعام وشرفات أمامية وخلفية، وكانت الشرفة الأمامية بها نافذة أخرى صغيرة عديمة الفائدة يتعذر الوصول إليها ملتصقة في سقفها. كانت كل الأجزاء الخشبية من المنزل مطلية باللون الرمادي؛ ربما لأن اللون الرمادي لا يحتاج لإعادة الطلاء كثيرًا كاللون الأبيض. وفي الطقس الدافئ كانت نوافذ الطابق السفلي بها سقيفة متقشرة وباهتة، وكان المنزل بطلائه الرمادي الباهت والشرفات المنحدرة يذكرني بالشاطئ بشمسه والمرعى العاصف القاسي.
ولكنه كان منزلًا ينتمي للمدينة، فكان يوحي بالرفاهية والجو الرسمي بطريقة لم تكن متاحة في طريق فلاتس. كنت أحيانًا أفكر في منزلنا القديم، وواجهته القديمة الشاحبة، والمصطبة الإسمنتية خارج باب المطبخ، ويراودني شعور بالذنب واهن وبائس، وأشعر بألم خفيف كالذي يشعر به المرء عند التفكير في جد بسيط عجوز أصبح أكبر من أن يستمتع بألعابه. كنت أفتقد التواجد بالقرب من النهر والمستنقع والفوضى الحقيقية في الشتاء والعواصف الثلجية التي تقيد حركتنا في منزلنا كما لو كان سفينة نوح. ولكنني كنت أحب النظام والترتيب المعقد لحياة المدينة التي لا يمكن إلا لشخص من خارجها أن يراها. وفي طريق العودة من المدرسة إلى المنزل في عصر أيام الشتاء، كنت أشعر بالمدينة كلها حولي، كل الشوارع التي تحمل أسماء شارع ريفر وشارع ميسون وشارع جون وشارع فيكتوريا وشارع هورون — ومن الغريب أيضًا شارع الخرطوم — وفساتين المساء شفافة وشاحبة كالزعفران في نافذة متجر كرال لملابس السيدات، وفرقة «الرسالة المعمدانية» في قبو كنيستهم يغنون «ثمة اسم جديد مكتوب في كتاب المجد، وهو اسمي أنا، اسمي أنا، اسمي أنا!» وعصافير الكناريا في أقفاصها في متجر سيلرايت، والكتب في المكتبة، والبريد في مكتب البريد، وصور أوليفيا دي هافيلاند وإيرول فلين يرتديان ثياب القرصان والمرأة الأرستقراطية خارج مسرح الليسيوم؛ كانت كل تلك الأشياء والطقوس ووسائل التسلية — سواء ضعيفة أم مبهجة — منسوجة معًا تمثل المدينة! في المدينة ثمة جنود في إجازة في زيهم الرسمي ذي اللون الكاكي، الذي يوحي بوحشية مجهولة كرائحة الحريق. وكان ثمة فتيات جميلات مشرقات يعرف الجميع أسماءهن — مارجريت بوند ودوروثي جيست وبات موندي — بينما لا يعرفن هن أسماء أحد عدا من يخترن أن يعرفن اسمه. كنت أراقبهن وهن يهبطن التل عائدات من المدرسة الثانوية مرتديات أحذية مخملية ذات رقبة طويلة مزينة بالفراء. كن يتنقلن في مجموعة صغيرة تتألق كمصباح ليلي يعمي أعينهن عن العالم من حولهن. ورغم ذلك، ذات مرة ابتسمت لي إحداهن — وهي بات موندي — أثناء مرورها، فاستغرقت في أحلام اليقظة بشأنها؛ فتخيلت أنها أنقذتني من الغرق، وأنها أصبحت ممرضة وأخذت تعتني بي مخاطرة بحياتها وهي تهدهدني بين ذراعيها الناعمتين عندما كدت أهلك بالديفتيريا.
في عصر أيام الأربعاء تكون فيرن دوجرتي — مستأجرة لدى أمي — في المنزل تحتسي الشاي وتدخن وتتحدث مع أمي في غرفة الطعام. كانت فيرن تتحدث بصوت منخفض، وكانت تتجول وتتأوه وتضحك في مقابل تعليقات أمي المقتصدة والأكثر ذكاءً. كانتا تحكيان قصصًا عن الناس في المدينة وعن نفسيهما، وكان حديثهما نهرًا لا ينضب. إنها الدراما، إنها إكسير الحياة الذي لا أستطيع الوصول إليه. كنت أذهب إلى المرآة المقعرة في نضد المائدة المبني في الجدار وأنظر إلى انعكاس الغرفة، إلى الألواح الخشبية الداكنة والأنوار المعتمة والمصباح النحاسي المثبَّت وكأنه شجرة تنمو في الاتجاه الخاطئ، بها خمسة فروع منحنية متيبسة وتنتهي بأزهار زجاجية. ومن خلال النظر إليهما في بقعة محددة في المرآة، كان بإمكاني أن أجعل أمي وفيرن دوجرتي تتحركان كشرائط من المطاط متمايلتين مصابتين بالهستيريا، وكان بإمكاني أن أجعل وجهي يتدلى بشكل رهيب على جانب واحد كما لو كنت قد أُصبت بجلطة.
قلت لأمي: «لمَ لم تحضري تلك الصورة؟»
«أية صورة؟ أية صورة؟»
«الصورة التي فوق الأريكة.»
لأنني كنت أفكر — على فترات متقاربة كان عليَّ أن أفكر — في مطبخنا القديم في المزرعة، حيث ربما كان أبي والعم بيني في ذلك الوقت يقومان بقلي البطاطس للعشاء في مقلاة غير مغسولة (فلمَ يغسلان الدهون المفيدة؟) والقفازات والأوشحة معلقة كي تجف أعلى الموقد. وكلبنا ميجور — الذي لم يكن مسموحًا له بدخول المنزل أثناء فترة سيطرة أمي — نائم على المشمع القذر أمام الباب، وأوراق الصحف مفروشة على المائدة بدلًا من مفرش، والبطاطين محملة بشعر الكلاب على الأريكة، والبنادق وأحذية الجليد وأحواض الغسيل معلقة على الحائط. إنها رفاهية العزاب ذات الرائحة الكريهة. وأعلى الأريكة ثمة لوحة رسمتها أمي في الأيام الخوالي، في الأيام الأولى لزواجها التي ربما كانت تحفل بالترف والإشراق والحب؛ تصور طريقًا حجريًّا، ونهرًا بين الجبال، وقطيعًا من الخراف تقوده عبر الطريق فتاة صغيرة ترتدي شالًا أحمر. كانت الجبال والخراف تشبه بعضها البعض، متكتلة وتشبه الصوف وذات لون رمادي مائل إلى الأرجواني. وفي الماضي، كنت أعتقد أن الفتاة الصغيرة هي أمي بالفعل، وأن تلك هي القرية الموحشة التي قضت فيها طفولتها وشبابها، ثم عرفت بعد ذلك أنها قد نقلت ذلك المشهد من مجلة «ناشيونال جيوجرافيك».
«تلك اللوحة؟ أتريدينها هنا؟»
لم أكن أريدها في حقيقة الأمر، ففي أغلب محادثاتنا كنت أحاول إغواءها للحصول على الإجابة أو للبوح بالسر الذي أرغب في معرفته. كنت أريدها أن تقول إنها قد تركتها لأبي، فأنا أذكر أنها قالت ذات مرة إنها قد رسمتها من أجله، فقد كان هو من أحب ذلك المشهد.
قالت: «لا أريدها معلقة حيث يراها الناس، فلست فنانة، ولكنني رسمتها لأنني لم يكن لديَّ ما أفعله فحسب.»
أقامت أمي حفلة للسيدات دعت إليها السيدة كوتس — والتي يطلق عليها أحيانًا السيدة كوتس زوجة المحامي — والسيدة بيست — التي يعمل زوجها مديرًا لبنك التجارة — والعديد من السيدات الأخريات اللائي لم تتخط معرفتها بهن التحية في الشارع، وكذلك بعض الجيران وزميلات فيرن دوجرتي في مكتب البريد، وبالطبع العمة إلسبيث والعمة جريس. (وقد طلبت منهما أن تصنعا فطائر الدجاج بالقشدة وفطائر الليمون وكعك التمر والشوفان، وقامتا بذلك بالفعل). كان كل شيء في الحفل مخططًا سلفًا، وفور أن وصلت السيدات إلى القاعة الأمامية كان عليهن أن يحزرن عدد حبات الفول في البرطمان ويكتبن تخمينهن في ورقة. واستمرت الأمسية بألعاب التخمين واختبارات للمعرفة وضعت بالاستعانة بالموسوعة، وألعاب تمثيلية تخمينية لم تمضِ بصورة صحيحة؛ لأن العديد من السيدات لم يفهمن كيفية اللعب وكن شديدات الخجل، وألعاب بالورق والقلم؛ تكتب فيها المشتركات اسم رجل وتطوي الورقة ثم تمررها، ثم تكتب فعلًا وتطوي الورقة، ثم اسم سيدة وهكذا، وفي نهاية اللعبة تُفتح جميع الأوراق وتُقرأ بصوت عالٍ. كنت أرتدي تنورة صوفية قرنفلية اللون وسترة قصيرة وأوزع المكسرات على الحضور مبتهجة.
انشغلت العمة إلسبيث والعمة جريس في المطبخ وهما تبتسمان وتشعران بالإهانة. وكانت أمي ترتدي فستانًا أحمر اللون شبه شفاف مغطى بأزهار الثالوث الصغيرة السوداء والزرقاء التي تشبه التطريز. همست العمة إلسبيث في أذني قائلة: «ظننا أن ما على الفستان خنافس، فجفلنا برهة!» وبعد ذلك بدا لي أن الحفل أقل جمالًا مما ظننت، ولاحظت وجود سيدات لم يشتركن في أي من الألعاب، وأن وجه أمي كان شديد الانفعال والإثارة وصوتها مليئًا بالحماس التنظيمي، وأنها عندما عزفت على البيانو وغنت فيرن دوجرتي — التي درست الغناء — أغنية «ماذا تساوي الحياة دون حبيبي؟» كانت السيدات يسيطرن على مشاعرهن ويصفقن بتحفظ كما لو كان ذلك نوع من الاستعراض.
وظلت العمة جريس والعمة إلسبيث تقولان لي بين حين وآخر على مدار العام التالي: «كيف حال تلك السيدة المستأجرة؟ كيف هي حياتها بدون حبيبها؟» وكنت أوضح لهما أنها مجرد أغنية مترجمة من أوبرا، فكانتا تصيحان: «يا للهول، حقًّا؟ لقد كنا نشعر بالأسى من أجلها طوال الوقت!»
كانت أمي تأمل في أن حفلها سوف يشجع السيدات الأخريات على إقامة حفلات مماثلة، ولكن ذلك لم يحدث، أو إذا كان قد حدث، فإننا لم نسمع به قط، بل ظللن يقمن حفلات لعب الورق التي ترى أمي أنها سخيفة متعجرفة، وهكذا فقد فقدت الأمل في الحياة الاجتماعية تدريجيًّا، وقالت إن السيدة كوتس امرأة غبية لم تكن متأكدة في إحدى المسابقات من هو يوليوس قيصر، فقد ظنت أنه إغريقي، وكانت ترتكب أيضًا أخطاء نحوية من ذلك النوع من الأخطاء الشائعة بين أبناء الطبقة التي تظن نفسها أرستقراطية.
انضمت أمي إلى مجموعة مناقشة الكتب العظيمة التي تلتقي يوم الخميس الثاني من كل شهر خلال فصل الشتاء في قاعات المجلس في مبنى البلدية. وكانت المجموعة تضم خمسة أشخاص آخرين منهم طبيب متقاعد يدعى د. كومر كان شديد الضعف ومهذبًا — وكما اتضح أيضًا — مستبدًّا. كان ذا شعر أبيض ناعم ويرتدي وشاحًا يلفه حول رقبته كأنه ربطة عنق. وقد عاشت زوجته في جوبيلي لما يزيد عن ثلاثين عامًا، ولكنها بالكاد كانت تعرف أسماء الناس وأماكن الشوارع. لقد كانت مَجَرية، ولديها اسم رائع تقدمه للناس أحيانًا، كما لو كان سمكة على صحن كبير مقاطعها الفضية الحرشفية سليمة ولكن بلا فائدة، فلم يتمكن أي شخص في جوبيلي من نطق الاسم أو حتى تذكره. في بادئ الأمر، سعدت أمي بصحبة هذين الزوجين اللذين رغبت دائمًا في التعرف عليهما، واغتبطت كثيرًا عندما دُعيت إلى منزلهما؛ حيث رأت صورًا لهما في شهر العسل في اليونان، واحتست النبيذ الأحمر كي لا تهينهما — رغم أنها لم تكن تتناول الشراب — واستمعت إلى قصص مضحكة ومخيفة عن مواقف حدثت لهما في جوبيلي؛ نظرًا لكونهما ملحدين ومفكرين. واستمر إعجابها مرورًا بمناقشة «أنتيجون»، وهدأ قليلًا مع «هاملت»، وأصبح أكثر فأكثر خفوتًا مع مناقشة «الجمهورية» و«رأس المال». فقد بدا كما لو أن لا أحد من حقه تكوين رأي سوى آل كومر، فهم يعرفون أكثر من أي شخص، وقد زاروا اليونان وحضروا محاضرات للأديب إتش جي ويلز، وهم دائمًا على صواب. اختلفت السيدة كومر مع أمي، فأثارت السيدة كومر قضية عدم التحاق أمي بالجامعة وأنها لم تلتحق إلا بمدرسة باكوودز الثانوية فحسب؛ تقولها أمي وهي تقلد لهجتها. راجعت أمي بعض القصص التي أخبراها بها وقررت أنهما يعانيان عقدة اضطهاد (تساءلت فيرن «وماذا يعني ذلك؟» فتلك المصطلحات كانت جديدة في ذلك الوقت)، بل وإنهما — من المحتمل — مصابان بمس من الجنون. كما أن منزلهما تفوح منه رائحة كريهة لم تذكرها لنا من قبل، وكان المرحاض الذي كان عليها أن تستخدمه بعد احتساء ذلك النبيذ الأحمر؛ مثيرًا للاشمئزاز، مغطًى بطبقة صفراء قذرة. وتساءلت أمي قائلة: «ما فائدة القراءة لأفلاطون وأنت لا تنظف مرحاضك أبدًا؟» عائدة بذلك إلى قيم مدينة جوبيلي.
لم تشترك أمي في مجموعة مناقشة الكتب العظيمة في العام التالي، ولكنها التحقت بدورة تدريبية بالمراسلة بعنوان «المفكرين العظماء في التاريخ» من جامعة ويسترن أونتاريو، وأخذت تكتب خطابات للصحف.
•••
لم تتخلَّ أمي عن أي شيء، فداخل تلك النفس التي كنا نعرفها — والتي قد تبدو أحيانًا مشوشة أو تحيد عن الطريق — كانت تحتفظ بذواتها الشابة المفعمة بالحيوية والأمل، وكانت مشاهد من الماضي تظهر إلى السطح في أي وقت فجأة مثل الصور الملونة الشفافة التي تعرض بالفانوس السحري على نسيج الحاضر المبعثر.
في بداية الأمر، قبل كل شيء، كان هناك ذلك المنزل الذي يقع في نهاية زقاق طويل — يحيط به سياج سلكي ونوافذ من السلك على الجانبين — في منتصف الحقول حيث تبرز الصخور — وهي جزء من الدرع الكندي الذي يعود إلى العصر ما قبل الكمبري — من التربة كما تبرز العظام من اللحم. بدا ذلك المنزل الذي لم أرَه في أي صورة قط — ربما لم تلتقط له أية صورة — ولم أسمع أمي تصفه إلا بطريقة متبرمة عملية («إنه مجرد منزل خشبي قديم لم يُطل قط»)؛ واضحًا في مخيلتي كما لو أني رأيته في الجريدة، فهو أكثر المنازل الخشبية القديمة تجريدًا وإظلامًا وارتفاعًا، لكنه كان بسيطًا ومألوفًا وثمة شيء مخيف يتعلق به، وكأنه يحتضن بداخله شرًّا ما، وكأنه منزل ارتُكبَت به جريمة قتل.
وكانت أمي، التي كانت طفلة صغيرة آنذاك تُدعى أدي موريسون، طويلة نحيفة على ما أتصور، وذات شعر قصير؛ رغبة من أمها في حمايتها من الغرور، تعود من المدرسة سيرًا على الأقدام عبر الزقاق الطويل المخيف ويتخبط الصندوق الذي تحمل فيه غداءها بساقيها. ألم يكن الجو دائمًا كشهر نوفمبر؛ حيث الأرض وعرة، والجليد مبعثر على البرك الصغيرة، والأعشاب الميتة تطفو من بين الأسلاك؟ نعم، وكان الدغل قريبًا ومخيفًا بالرياح غير العادية التي رفعت الأغصان واحدًا تلو الآخر. كانت تدخل إلى المنزل لتجد أن النار قد انطفأت، والموقد باردًا، وأن الدهون التي تراكمت على الأطباق والمقلاة بعد تناول الرجال للعشاء قد تكثفت.
لا يوجد أثر لوجود أبيها أو أشقائها الكبار الذين انتهوا من الدراسة، فلم يكونوا يتجولون حول المنزل، وكانت تذهب عبر الغرفة الأمامية إلى غرفة والديها، حيث كانت غالبًا ما تجد أمها راكعة على ركبتيها منحنية على فراشها تصلي. وكانت تتذكر ذلك الظهر المحني والكتفين الضيقتين في سترة رمادية أو سمراء على ثوب فضاض أو ثوب منزلي متسخ أكثر وضوحًا من تذكر وجه أمها، وخلفية الرأس ذات الشعر الخفيف الذي جُذب بقوة من المنتصف ليكشف من تحته فروة رأس بيضاء بصورة غير صحية؛ بيضاء كالرخام، بيضاء كالصابون.
قالت أمي عن تلك المرأة الراكعة، التي كانت أحيانًا ما يجدونها ترقد على ظهرها وتبكي، لأسباب لا تحب أمي الخوض فيها، وقطعة قماش رطبة على جبهتها: «كانت متعصبة دينيًّا.» وذات مرة في المراحل الأخيرة اللاعقلانية من اعتناقها المسيحية، اتجهت إلى الحظيرة وحاولت إخفاء ثور صغير في كومة القش عندما رأت رجال الجزار وهم قادمون. كان صوت أمي وهي تقص تلك الأمور محملًا بيقينها أنها تعرضت للخداع، وبمشاعر جياشة بالغضب والخسارة.
«هل تعلمين ماذا فعَلَت؟ هل أخبرتك بما فعَلَت؟ هل أخبرتك عن المال؟» وكانت تأخذ نفَسًا عميقًا كي تستعيد رباطة جأشها وتتابع قائلة: «حسنًا، لقد ورثَتْ بعض المال؛ فقد كان بعض أهلها يملكون المال وكانوا يعيشون في ولاية نيويورك، وورثت هي مائتين وخمسين دولارًا، لم يكن مبلغًا كبيرًا، ولكن قيمته وقتها كانت أكثر من الآن، وأنت تعلمين أننا كنا فقراء. أتظنين أننا فقراء الآن، ولكن ذلك «لا شيء» بالمقارنة بما كنا عليه من فقر آنذاك. لا أزال أذكر المشمع على المائدة، كان مهترئًا حتى إنه كان بإمكانك رؤية الألواح الخشبية العارية. كان معلقًا وهو ممزق، كان خرقة لا مشمع مائدة. وإذا ما حدث وارتديتُ حذاء، كنت أرتدي أحذية صِبية؛ مخلفات أشقائي. لقد كنا نعيش في مزرعة لا يمكنك فيها زراعة الأعشاب التي تقتات عليها الطيور، وفي عيد الميلاد كنت أحصل على بنطلون أزرق داكن، ودعيني أؤكد لك أنني كنت أسعد به؛ فقد كنت أعلم ما هو الشعور بالبرد.
حسنًا، استلمت أمي المال وطلبت صندوقًا كبيرًا من الأناجيل التي أتت عن طريق الشحن السريع، وكانت من أغلى الأنواع، فكانت صفحات خرائط الأرض المقدسة ذات حواف مطلية بالذهب، وكل كلمات المسيح محددة باللون الأحمر. «طوبى لفقراء الروح» ما المميز في أن يكون المرء فقيرًا في الروح؟ لقد أنفقت كل مليم.
وهكذا، كان علينا أن نخرج كي نوزعها. كانت قد اشترتها كي توزعها على الوثنيين، وأعتقد أن شقيقيَّ قد خبآ بعضًا منها في المخزن. كنت أعلم أنهما قد فعلا ذلك، ولكنني كنت أكثر حمقًا من أن أفكر في ذلك، فكنت أسير في جميع أنحاء البلدة وأنا في الثامنة من عمري أرتدي أحذية الصبية ولا أملك زوجًا من القفازات وأوزع الأناجيل.»
«ولكن ذلك قد شفاني من الدين طوال حياتي.»
ذات مرة تناولت الخيار واحتست اللبن لأنها سمعت أن ذلك المزيج سام وكانت ترغب في الموت، وكانت تشعر بالفضول أكثر منه بالإحباط، فرقدت وتمنت أن تستيقظ في الجنة التي سمعت عنها كثيرًا، ولكنها بدلًا من ذلك فتحت عينيها على صباح يوم جديد. وكان لذلك أيضًا تأثيرًا على إيمانها، ولكنها لم تخبر أحدًا في ذلك الوقت.
كان الشقيق الأكبر يحضر لها الحلوى أحيانًا من المدينة، وكان يحلق ذقنه على مائدة المطبخ أمام مرآة قبالة المصباح. وكانت تعتقد أنه مغرور، وكان ذا شارب ويتلقى خطابات من فتيات لا يجيب عنها أبدًا، ولكنه يتركها ملقاة في كل مكان بحيث يمكن لأي شخص قراءتها. وكانت أمي تدين هذا السلوك وقالت عنه: «لا يجول بذهني أية أفكار سيئة حياله، رغم أنني أعتقد أنه لم يكن مختلفًا عن معظم الآخرين.» وهو يعيش الآن في ويستمنستر ويعمل على مركب تُستخدم كمُعَدِّيَة. أما الشقيق الآخر فكان يعيش في الولايات المتحدة، وفي أعياد الميلاد كانا يرسلان بطاقات تهنئة، وكانت أمي ترسل لهما أيضًا بطاقات تهنئة، ولكنهما لم يكتبا خطابات قط، ولا فعلت أمي.
كان الشقيق الأصغر هو من تكرهه، ماذا فعل لها؟ لم تكن إجاباتها مرضية تمامًا في هذا الصدد. لقد كان شريرًا ومغرورًا وقاسيًا؛ صبي بدين وقاسي القلب، فكان يُطعم القطط المفرقعات النارية، وذات مرة قيَّد ضفدعًا وقطعه إربًا، وأغرق قطة أمي التي تدعى ميستي في حوض مياه الأبقار، رغم أنه أنكر ذلك لاحقًا. كما أنه أمسك بأمي وقيدها في الحظيرة وآذاها، آذاها؟ بل إنه عذبها.
عذبها بماذا؟ لكن أمي لم تتفوه بأكثر من ذلك، تلك الكلمة «عذاب» كانت تقذفها من فمها وكأنها تبصق دمًا. وهكذا، فقد تركتني أطلق العنان لخيالي فأتصور أمي مقيدة في الحظيرة إلى عمود بينما كان شقيقها — الذي تصورتُه هنديًّا بدينًا — يطلق صوتًا كالعواء في وجهها ويثب فرحًا من حولها. لكنها هربت في نهاية الأمر، لم تُسلخ رأسها ولم يُحرق جسدها. ولم يفسر أي شيء وجهها الذي كان يكفهر عند تلك النقطة من القصة أو الطريقة التي تتفوه بها بكلمة «العذاب». لم أكن قد تعلمت بعد ملاحظة هالة الكآبة التي تحيط بها عند الحديث عن الأمور المتعلقة بالجنس.
ثم تُوفيت والدتها، كانت قد سافرت لإجراء عملية ولكنها أصيبت بأورام ضخمة الحجم في كلا ثدييها وتُوفيت — كما تقول أمي دائمًا — على الطاولة؛ أي على طاولة العمليات. وعندما كنت أصغر من ذلك كنت أتخيلها راقدة ميتة على طاولة عادية وسط أكواب الشاي وزجاجات صلصة الطماطم والمربى.
قلت وأنا مفعمة بالأمل: «هل شعرتِ بالحزن؟» وأجابت أمي بالإيجاب بالطبع، ولكنها لم تتوقف كثيرًا حول هذا المشهد، فثمة أمور مهمة قادمة. فسرعان ما دخلت المدرسة واجتازت اختبارات القبول ورغبت في الالتحاق بالمدرسة الثانوية في المدينة، ولكن والدها رفض، فقد كان عليها أن تمكث في المنزل وتدير شئونه حتى تتزوج. (وكانت أمي تصيح غاضبة عند تلك النقطة من القصة: «ومن سأتزوج بحق السماء هناك في نهاية العالم حيث الجميع مصابون بالحول بسبب زواج الأقارب؟») وبعد أن قضت عامين في المنزل بائسة تحاول تعلم بعض الأشياء بمفردها من كتب المدرسة الثانوية القديمة التي كانت تخص والدتها (التي كانت مُدرسة قبل أن تنشغل بالزواج والدين)، تحدت والدها وسارت مسافة تسعة أميال إلى المدينة وهي تختبئ بين الشجيرات على الطريق كلما سمعت صوت حصان قادم؛ خوفًا أن يكون والدها راكبًا العربة القديمة وقد أتى كي يعيدها إلى المنزل. قرعت باب نُزل كانت تعرفه من تجارة البيض، وسألت عما إذا كان من الممكن الحصول على إقامة فيه في مقابل القيام بأعمال المطبخ وخدمة العملاء على الطعام. فقبلتها مديرة المنزل، وكانت امرأة عجوزًا حادة ومهذبة، يطلق عليها الجميع الجدة سيلي، وقد أبعدتها عن أبيها حتى مر الوقت، بل إنها أعطتها فستانًا ملونًا مربع النقش من الصوف الخشن، ارتدته في أول يوم لها في المدرسة، عندما وقفت أمام صف دراسي يصغرها بعامين، وقرأت اللاتينية كما علمت نفسها بالضبط في المنزل، وبالطبع فقد ضحك الجميع عليها.
لم تتمالك أمي نفسها قط من الشعور بالإثارة والضعف وهي تتذكر ذلك. كانت تتعجب بشدة من ذاتها القديمة الشابة، فلو كانت هناك لحظة خارج حسابات الزمن، لحظة يمكننا أن نختار فيها أن نُحاكَم — ونحن عراة قدر الإمكان — ونُحاصر ثم ننتصر، فقد كانت تلك هي هذه اللحظة بالنسبة لها. ولاحقًا ربما تأتي التسويات والأخطاء، أما هناك فقد كانت مثيرة للضحك ولكنها كانت تتمتع بقوة حصينة.
ثم يبدأ فصل جديد من حياتها في النُزل. كانت تستيقظ قبل الفجر كي تقشر الخضروات، وتتركها في ماء بارد كي تصبح جاهزة للغداء في وقت الظهيرة، وتنظف المباول وترشها ببودرة التلك؛ لم يكن في تلك المدينة مراحيض تطرد الماء، وكانت أمي تقول: «كنت أنظف المباول كي أحصل على تعليمي!» دون أن تأبه لمن يسمع تلك الجملة، ولكن كانت فئة جيدة من الناس هي التي كانت تقطن بالنُّزل؛ كموظفي البنوك وعمال تلغراف محطة السكك الحديدية الكندية والمعلمة الآنسة راش. علَّمت الآنسة راش أمي الحياكة، وأعطتها بعض صوف المارينو الجميل كي تصنع فستانًا، وأعطتها وشاحًا أصفر ذا أهداب (كانت أمي تتساءل في حزن ساخط «ماذا حل به؟») وبعض العطر. كانت أمي تحب الآنسة راش، وكانت تنظف غرفتها وتحتفظ بالشعر الذي تجده في المنفضة وفي فرشاة شعرها، وعندما تجمع ما يكفي من الشعر كانت تلفه على شكل دائرة وترتديه حول عنقها، كانت تلك هي طريقة تعبيرها عن حبها. علمتها الآنسة راش كيفية قراءة النوتة الموسيقية والعزف على البيانو الخاص بها الذي كانت تحتفظ به في الغرفة الأمامية في نزل الجدة سيلي، وكانت أمي لا تزال تعرف كيفية عزف تلك الأغاني، رغم أنها نادرًا ما كانت تفعل: «اشرب نخبي بعينيك فحسب»، و«القيثارة التي كانت يومًا في قاعات تارا»، و«بوني ماري من أرجايل».
ماذا حدث للآنسة راش بعد ذلك بجمالها وبتطريزها وبعزفها للبيانو؟ تزوجت متأخرًا وتوفيت وهي تضع مولودها، وتوفي المولود أيضًا ورقد بين ذراعيها كما لو كان لعبة من الشمع ترتدي فستانًا طويلًا، وقد رأته أمي.
وهكذا كانت قصص الماضي تدور وتدور في حلقات دائرية حتى تصل إلى الموت، كنت أتوقع ذلك.
فقد وجدت الجدة سيلي — على سبيل المثال — ميتة في فراشها صباح أحد أيام الصيف، بعد أن أتمت أمي أربعة أعوام من الدراسة الثانوية ووعدتها الجدة سيلي بأن تعطيها الأموال اللازمة للالتحاق بدار المعلمين، وهو قرض عليها أن تسدده عندما تصبح معلمة. وكان ثمة ورقة في مكان ما بهذا المحتوى، ولكن لم يعثر أحد عليها قط، أو كانت أمي تعتقد أن قريب الجدة سيلي وزوجته اللذين ورثا بيتها وأموالها قد عثرا عليها ولا بد أنهما قد تخلصا منها، فالعالم مليء بأشخاص من هذا النوع.
وهكذا كان على أمي أن تعمل، فعملت في متجر كبير في بلدة أوين ساوند، حيث أصبحت مسئولة عن المنسوجات والملابس الجاهزة وأدوات الحياكة الصغيرة، وخطبها شاب ظل شخصية غامضة غير واضحة؛ فلم يكن شريرًا صريحًا كشقيقها أو قريب الجدة سيلي، ولكنه ليس واضحًا ومحبوبًا، ليس كالآنسة راش. ولأسباب غامضة اضطرت لأن تفسخ الخطبة («اتضح أنه ليس الشخص الذي ظننته».) ولاحقًا بعد فترة غير محددة قابلت أبي، الذي لا بد وأنه لم يخذلها؛ لأنها تزوجته رغم أنها كانت تقسم لنفسها دائمًا أنها لن تتزوج من مزارع (كان يربي الثعالب، وفي وقت من الأوقات ظن أنه قد يحقق الثراء من ذلك، فهل مثَّل ذلك فارقًا؟) وبدأت عائلته بالفعل تبدي ملاحظات عليها لم تكن بنية طيبة.
ولكنني كنت أذكرها بحزم وقلق تدفعني رغبة في تسوية هذا الأمر للأبد: «ولكنك أغرمت به، لقد وقعت في الحب.»
«حسنًا، بالطبع أغرمت به.»
«ولم أحببته؟»
«كان والدك دومًا رجلًا مهذبًا.»
أهذا كل شيء؟ كان يؤرقني هنا غياب التناسب؛ رغم أنه كان من الصعب تحديد الحلقة المفقودة أو الخطأ الذي وقع. ففي بداية قصتها، ترسم أمي صورة الوقوع في الأسر الكئيب والمعاناة، ثم الجرأة والتحدي والهروب، بالإضافة إلى الصراع والإحباط والمزيد من الصراع وأمهات روحيات وأشرار. والآن كنت أتوقع كما في كل القصص العظيمة، تفجر لحظات المجد والمكافأة. الزواج من أبي؟ كنت آمل أن يكون كذلك، وتمنيت ألا تتركني في حيرة من أمري.
وأنا أصغر سنًّا عندما كنا نقطن في نهاية طريق فلاتس، كنت أشاهدها وهي تسير عبر الفناء كي تفرغ مياه غسل الصحون، أشاهدها وهي تحمل الوعاء عاليًا كما لو كانت كاهنة تسير بطريقة متأنية مهيبة وتلقي بالمياه بإيماءة شامخة عبر السياج. في ذلك الوقت، اعتقدت أنها قوية، أنها مسيطرة، أنها راضية أيضًا. كانت لا تزال تتمتع بالقوة، ولكن ليس بالقدر الذي تظنه هي، كما أنها لم تكن راضية بأية حال من الأحوال، ولا كاهنة. كانت معدتها تصدر صوت قرقرة تثير لديها الضحك أو التجاهل، ولكنها كانت تحرجني على نحو لا يطاق. كان شعرها ينمو في خصل صغيرة جامحة لونها بني مائل إلى الرمادي، وكل محاولة لفرد الشعر تنتهي بها إلى التجعد. أكان لزامًا على كل قصصها أن تنتهي بها هي فقط، بالحال التي هي عليها الآن، مجرد أمي التي أراها في جوبيلي؟
ذات يوم أتت إلى المدرسة ممثلة عن شركة الموسوعات لتقدم جائزة لأفضل مقال عن الأسباب التي تدفعنا لشراء سندات النصر. كان عليها أن تذهب إلى المدارس في بورترفيلد وبلو ريفر وستيرلينج وتقوم بالمهمة نفسها، وكان هذا الأسبوع مصدر فخر بالنسبة لها. كانت ترتدي حلة رِجاليَّة بشعة، لونها أزرق داكن، ذات زر واحد على الخصر وقبعة كستنائية من اللباد، وهي أفضل ما لديها، وما آلمني أنني رأيت عليها ترابًا دقيقًا. ألقت خطبة قصيرة، فأخذت أحدق في سترة الفتاة التي تقف أمامي — التي كانت ذات لون أزرق باهت وتبرز منها قطع من الصوف الخشن — كما لو كان التعلق بقشة الواقع اللامباليَة سوف ينقذني من الغرق في بحر الإذلال. لقد كانت مختلفة للغاية، هذا كل ما في الأمر، تبدو نشيطة ومفعمة بالأمل وساذجة في قبعتها الكستنائية، تطلق نكاتًا صغيرة وتظن نفسها ناجحة. وكانت مستعدة في مقابل الحصول على سِنتَين أن تخوض في وصف تاريخها التعليمي؛ بدءًا من رحلة السفر تسعة أميال إلى المدينة، إلى تنظيف المباول. من له أم كهذه؟ كان الناس يرمقونني بنظرات خبيثة شامتة مشفقة، وفجأة لم أستطع أن أحتمل أي شيء يخصها؛ نبرة صوتها والطريقة الطائشة المسرعة التي تتحرك بها وإيماءاتها الحيوية السخيفة (في أية لحظة قد تطيح بزجاجة الحبر من على مكتب المدير) وقبل كل شيء براءتها وطريقتها في تجاهل متى يضحك الآخرون واعتقادها أنها سوف تنجو من الموقف بسلام.
كنت أكره قيامها ببيع الموسوعات وإلقاء الخطب وارتداء تلك القبعة، وكنت أكره قيامها بكتابة خطابات إلى الصحف. وكانت خطاباتها عن المشاكل المحلية، أو تلك التي تشجع فيها التعليم وحقوق المرأة وتعارض التعليم الديني الإلزامي في المدارس؛ تُنشر باسمها في جريدة «هيرالد أدفانس»، التي تصدر في جوبيلي. وتنشر مقالات أخرى في صفحة في جريدة المدينة مخصصة لمراسلات السيدات؛ حيث كانت تستخدم الاسم المستعار «الأميرة إيدا»، المستمد من شخصية في أحد أعمال تينيسون التي كانت تروق لها كثيرًا. كانت مقالاتها مليئة بالوصف التفصيلي المزخرف للريف الذي هربت منه («في هذا الصباح، كان ثمة صقيع فضي رائع يبهج العين على كل غصن من أغصان الشجر وعلى أسلاك الهاتف، يجعل العالم يبدو عالمًا سحريًّا على أرض الواقع …») بل كانت أيضًا تضم إشارات لي ولأوين («كانت ابنتي التي أوشكت أن تتجاوز مرحلة الطفولة تنسى وقارها المكتسب حديثًا أمام اللهو في الثلج») تجعل جذور أسناني تؤلمني خجلًا. وكان أناس آخرون — بخلاف العمة إلسبيث والعمة جريس — يقولون لي «لقد رأيت ذلك الخطاب الذي كتبته والدتك في الجريدة»، فكنت أشعر كم كانوا يشعرون بالازدراء والاستعلاء والتحفظ والحسد، هؤلاء الأشخاص الذين قد يظلون طوال حياتهم ساكنين دون حاجة لفعل أو قول أي شيء مميز.
أنا نفسي لم أكن أختلف كثيرًا عن أمي، ولكنني كنت أخبئ تلك الحقيقة؛ إذ كنت أدرك مدى الأخطار الكامنة.
•••
وفي الشتاء الثاني الذي مر علينا في جوبيلي طرق بابنا زائرون. كان عصر أحد أيام السبت، وكنت أجرف الثلج عن رصيف منزلنا عندما رأيت سيارة ضخمة تتحسس طريقها بين تلال الجليد في صمت كما لو كانت سمكة وقحة. لوحة السيارة المعدنية أمريكية. ظننت أن شخصًا ما قد ضل الطريق. كان الناس يسيرون في طريقهم باتجاه نهاية شارع ريفر؛ حيث لم يأبه أحد بوضع لافتة تحذيرية تقول إنه طريق مسدود، وعندما يصلون إلى منزلنا يكونون قد بدءوا في التساؤل.
خرج شخص غريب من السيارة يرتدي معطفًا وقبعة رمادية من اللباد ووشاحًا حريريًّا في الشتاء. كان طويلًا وبدينًا، ووجهه حزين وواهن لكن لا يخلو من الفخر، وفتح ذراعيه لي بطريقة مخيفة.
«تعالي هنا وألقِ عليَّ التحية، إنني أعرف اسمك ولكنك لا تعرفين اسمي!»
فأتى نحوي مباشرة وأنا أقف ساكنة أحمل الجاروف في يدي وقبَّلني على خدي. كانت رائحته رائحة ذكورية حادة تميل لأن تكون حلوة، رائحة كريم الحلاقة، ويبدو قلقًا ومضطربًا، يرتدي قميصًا منشًّى نظيفًا، وتنبعث منه القليل من الرائحة الكريهة بسبب الشعر الزائد. «كانت والدتك تدعى آدي موريسون، أليس كذلك؟»
لم يعد أحد يطلق على أمي اسم آدي، وقد جعلها هذا الاسم تبدو مختلفة؛ أكثر امتلاءً وإهمالًا في المظهر وأكثر بساطة.
«والدتك اسمها آدي، وأنت ديل وأنا خالك بيل موريسون، هذا هو اسمي. لقد أعطيتك قبلة وأنت لم تعطني شيئًا، أهذا هو العدل لديكم؟!»
وفي ذلك الوقت كانت أمي تخرج من المنزل وقد وضعت لتوها القليل من أحمر الشفاه بطريقة عشوائية.
وقالت ببعض القسوة كما لو كانت تجادله في شيء ما: «حسنًا يا بيل، من الواضح أنك لا تقتنع بالإخطار المسبق، أليس كذلك؟ لا بأس، إننا سعداء لرؤيتك.»
لقد كان شقيقها حقًّا إذن، شقيقها الأمريكي، خالي!
استدار نحو السيارة ولوح بيديه قائلًا: «يمكنكِ الخروج الآن، فلن يعضك شيء هنا.»
فُتح الباب في الجانب الآخر من السيارة وخرجت منها سيدة طويلة ببطء وصعوبة بسبب القبعة التي ترتديها. كانت القبعة عالية في جانب من رأسها ومنخفضة من الجانب الآخر، وجعلها الريش الأخضر الملتصق تبدو أعلى مما هي عليه. وكانت ترتدي معطفًا فضيًّا متوسط الطول من فراء الثعالب وفستانًا أخضر، وحذاء أخضر ذا كعب عالٍ دون حذاء فوقي من المطاط للحماية من المطر والوحل.
قال الخال بيل: «هذه زوجة خالك نايل.» كما لو كانت لا تسمع أو لا تفهم الإنجليزية، كما لو كانت أحد معالم المشهد الرائعة التي تحتاج إلى تعريف، وتابع قائلًا: «إنك لم تقابليها من قبل، لكنك رأيتني من قبل وحينها كنت صغيرة جدًّا فلن تتذكري. لم تريها من قبل، وأنا نفسي لم أرها قبل الصيف الماضي. كنت متزوجًا من كالي عندما رأيتك المرة السابقة، والآن أنا متزوج من الخالة نايل. قابلتها في شهر أغسطس وتزوجتها في سبتمبر.»
لم يكن الثلج قد أزيح عن الرصيف تمامًا، فتعثرت الخالة نايل بحذائها ذي الكعب العالي، وتأوهت وهي تشعر بالثلج داخل حذائها. تأوهت بتأفف كالأطفال، وقالت للخال بيل: «كاد كاحلي أن يلتوي» كما لو كان لا أحد حولهما.
فقال مشجعًا: «إنها مسافة قصيرة.» وأمسك بذراعها وسندها بقية الطريق حتى صعدت إلى الرصيف ثم الدرج وعبر الشرفة، كما لو كانت امرأة صينية (كنت قد انتهيت للتو من قراءة رواية «الأرض الطيبة» من مكتبة المدينة) يعد السير بالنسبة لها نشاطًا نادرًا وغير طبيعي. تبعناهما إلى الداخل أنا وأمي دون أن نتبادل التحية مع نايل، وفي القاعة المظلمة قالت أمي: «حسنًا، مرحبًا بكما!» وساعد الخال بيل نايل في خلع معطفها وقال لي: «خذي هذا وعلقيه في مكان مستقل، لا تضعيه بجوار أي سترات تخص الحظيرة!» فقالت أمي لنايل وهي تلمس الفراء: «لا بد أن تأتي إلى مزرعتنا، يمكنك أن تري بعضًا من هذه حية.» كانت نبرتها مازحة ومصطنعة.
فقال الخال بيل لنايل: «إنها تقصد الثعالب، كذلك الذي صُنع منه معطفك.» وقال لنا: «لا أعتقد أنها كانت تعرف أن هذه الفراء تأتي من ظهر مخلوق حي، بل كانت تظن أنها تُصنع في المتجر!» إبان ذلك، بدت نايل مشدوهة وغير سعيدة كما لو كانت لم تسمع من قبل عن أي بلد أجنبي ثم اقتُلعت من مكانها فجأة وأودعت في بلد أجنبي، ووجدت كل من حولها يتحدث لغة حتى لم تحلم بالسماع بها من قبل. لا يمكن أن تكون قابلية التكيف أحد نقاط قوتها، ولم قد تكون؟ فسوف يشكك هذا في كونها مثالية. وقد كانت مثالية بالفعل، وأصغر مما ظننتها عليه في بادئ الأمر، ربما لا يزيد عمرها عن اثنين وعشرين أو ثلاثة وعشرين عامًا. وكانت بشرتها خالية من العلامات كفنجان الشاي الوردي، وشفتاها قطعة من المخمل العنابي اللون، ورائحتها عذبة بطريقة تفوق البشر، وأظافرها مطلية باللون «الأخضر» كي تتماشى مع ثيابها، وقد لاحظت ذلك بينما يخالجني شعور بالدهشة والسرور والقليل من الارتياب كما لو كانت بالغت في الأمر.
قالت أمي بمزيد من الوقار: «إنه معطف شديد الجمال.»
نظر الخال بيل إليها حزينًا وقال: «لن يجني زوجك أي أرباح من ذلك العمل يا آدي، فهو تحت سيطرة اليهود. والآن، هل لنا بفنجان من القهوة في هذا المنزل كي أحصل على بعض الدفء أنا وزوجتي الصغيرة؟»
المشكلة أننا لم يكن لدينا بن. كانت والدتي وفيرن دوجرتي تحتسيان الشاي — الذي كان أرخص من البن — ومشروب بوستام في الصباح. قادت أمي الجميع نحو غرفة الطعام وجلست نايل، فقالت أمي: «ألا ترغبين في تناول فنجان من الشاي الساخن؟ لقد نفد البن تمامًا.»
فلم يتأثر الخال بيل ورفض تناول الشاي قائلًا إنه إذا كان البن قد نفد من عند أمي فسوف يحضر بعضًا منه، ثم سألني: «هل لديكم أية محلات بقالة في هذه المدينة؟ لا بد أن لديكم واحدًا أو اثنين في مدينة كهذه، إنها مدينة كبيرة حتى إن بها مصابيح في الشوارع، لقد رأيتها. سوف أذهب أنا وأنت بالسيارة كي نشتري بعض البقالة، وندع هاتين السيدتين ليتعرفا.»
انزلقتُ بجواره في تلك السيارة الضخمة الملونة بلوني الكريمة والشوكولاتة التي تفوح برائحة النظافة، واجتزنا شارع ريفر وشارع ميسون إلى الشارع الرئيسي في جوبيلي، وأوقفنا السيارة أمام بقالة «ريد فرونت» خلف زلاجة جليد تجرها الجياد.
«هل هذا متجر بقالة؟»
لم أورط نفسي، فماذا لو قلت إنه كذلك ثم اتضح أنه لا يوجد به أي من الأغراض التي يريدها؟
«هل تتسوق والدتك هنا؟»
«أحيانًا.»
«أعتقد إذن أنه مناسب لنا.»
ومن تلك السيارة رأيت الزلاجة التي تجرها الجياد ومعلق على أفواهها أكياس من العلف، ومتجر ريد فرونت، والشارع بأكمله بشكل مختلف. لم تبدُ جوبيلي مميزة وخالدة كما ظننتها، بل بديلًا مؤقتًا رثًّا بالكاد يفي بالغرض.
كان المتجر قد تحول لتوه إلى نظام الخدمة الذاتية، أول متجر يتحول إلى ذلك النظام في المدينة. وكانت الممرات شديدة الضيق لا تستوعب عربات التسوق ولكن ثمة سلال يمكن حملها في الذراع لجمع المشتريات. كان الخال بيل يريد عربة تسوق، وسأل عما إذا كان ثمة متاجر أخرى في المدينة بها عربات تسوق، ولكن الإجابة جاءت بالنفي. وعندما انتهينا من هذا الأمر، أخذ يقطع ممرات المتجر ذهابًا وإيابًا وهو يردد أسماء الأغراض، كان يتصرف كما لو لم يكن أحد آخر في المتجر على الإطلاق، وكما لو كانت الحياة تدب في من في المتجر فقط عندما يريد أن يطلب منهم شيئًا، وكما لو أن المتجر نفسه ليس حقيقيًّا، بل صُنع على عجل في اللحظة التي قال فيها إنه بحاجة لمتجر.
اشترى بُنًّا وفواكه وخضروات معلبة وجبنًا وبلحًا وتينًا وحلوى البودنج ووجبات من المكرونة ومسحوق الشوكولاتة الساخنة والمحار والسردين المعلب، وظل يسألني «هل تحبين هذا؟ هل تحبين ذاك؟ هل تحبين الزبيب؟ هل تحبين رقائق الذرة؟ هل تحبين المثلجات؟ أين يحتفظون بالمثلجات؟ ما النكهة التي تحبينها؟ الشوكولاتة؟ هل أكثر نكهة تحبينها هي الشوكولاتة؟» وفي نهاية الأمر أصبحت أخشى النظر إلى أي شيء لئلا يشتريه.
توقف خالي أمام نافذة متجر سيلرايت التي كان يوجد بها علب من الحلوى غير المعبأة قائلًا: «أنا واثق من أنك تحبين الحلوى. ماذا تريدين؟ العرقسوس؟ الهلام بالفاكهة؟ حلوى المكسرات؟ فلنأخذ مزيجًا منها، نأخذ من الثلاثة. سوف تصيبك هذه الحلوى بالعطش، كل حلوى المكسرات تلك، فمن الأفضل أن نجد مشروبًا غازيًّا.»
ولكن هذا لم يكن كل شيء، فقد سألني: «هل لديكم مخبز في المدينة؟» اصطحبته إلى مخبز ماكارتر؛ حيث اشترى دزينتين من كعك الزبد، ودزينتين من الكعك المغطى بالسكر والمكسرات، وكعكة جوز الهند بارتفاع نصف قدم. كان الموقف يذكرني بقصة أطفال لديَّ في المنزل تروي قصة فتاة صغيرة تتمكن بطريقة ما من أن تجعل أمنياتها تتحقق، أمنية واحدة كل يوم لمدة أسبوع ثم يتضح بالطبع أنها تجلب لها التعاسة. ومن بين تلك الأمنيات أن تحصل على كل ما اشتهت تناوله من الطعام في حياتها. اعتدت أن أفتح ذلك الجزء وأقرأ وصف الطعام مرة تلو الأخرى كي أستمتع به فحسب، متجاهلة أصناف العقاب التي حلت بها لاحقًا، والتي أوقعتها بها قوى خارقة للطبيعة تراقب الطمع طوال الوقت. ولكنني أدركت الآن أن الكثير من كل شيء قد يكون زائدًا عن الحد فعلًا، وحتى أوين قد يكون أصيب بالإحباط في نهاية الأمر من هذا السخاء السفيه الذي أفسد نظام المكافآت المتعارف عليه وقضى عليه تمامًا.
قلت للخال بيل: «إنك أشبه بجني جاء لتحقيق الأمنيات.» وكنت أقصد ألا أبدو طفولية بل تهكمية بعض الشيء، وأردت أيضًا بتلك الطريقة المبالغ فيها أن أعبر عن الامتنان الذي كنت أخشى أنني لم أكن أشعر به بالقدر الكافي، ولكنه أخذ الأمر على محمل طفولي في أبسط صوره، وردد الكلام على مسامع أمي عندما عدنا إلى المنزل.
«أَخبرتْني أنني أَشْبه بجني جاء لتحقيق الأمنيات، رغم أنني اضطررت لأن أدفع نقدًا!»
«حسنًا، لست أدري ماذا أفعل بكل هذا يا بيل، عليك أن تأخذ بعض الأشياء معك في طريق العودة.»
«إننا لم نقطع كل تلك المسافة من أوهايو إلى هنا كي نتبضع. ضعي تلك الأشياء في مكانها بعيدًا، فلسنا بحاجة إليها. طالما أن لدي مثلجات بالشوكولاتة للتحلية، فلا يهمني أي شيء آخر، فعشقي للحلوى لم يفارقني قط، ولكنني فقدت بعض الوزن، لقد فقدت ثلاثين رطلًا منذ الصيف الماضي.»
«اطمئن إنك لم تتحول بعد إلى حالة تستحق إعانة ما بعد الحرب.»
أزالت أمي مفرش المائدة الذي يحمل بقع شاي وصلصة عمرها يوم ووضعت مفرشًا جديدًا، وهو المفرش الذي تطلق عليه مفرش ماديرا، وهي أفضل هدية حصلت عليها بمناسبة زفافها.
«هل تعلمين أنني كنت قزمًا يومًا ما؟ كنت رضيعًا نحيلًا، وعندما كان عمري عامين كدت أموت بالالتهاب الرئوي، ولكن أمي نجحت في أن تجعلني أتعافى وبدأت تطعمني. ولم أبذل مجهودًا لفترة طويلة وبدأ وزني يزيد.»
وقال بلهجة من التعظيم المفعم بالحزن: «أمي، ألم تكن كقديسة تسير على الأرض؟ إنني أؤكد لنايل أنها كانت ستتمنى التعرف عليها.»
رمقت أمي نايل بنظرة فزعة (هل تعرفت هاتان السيدتان على بعضهما؟) ولكنها لم تقل ما إذا كانت ترى أنها فكرة صائبة.
فقلت لنايل: «هل تفضلين طبقًا عليه رسوم طيور أم ورود؟» كنت أرغب فقط في أن أحملها على الحديث فحسب.
فقالت بصوت هادئ: «لا يهم» وهي تنظر إلى أظافرها الخضراء كما لو أنها تعويذة لتبقيها في هذا المكان.
ولكن هذا كان مهمًّا بالنسبة لأمي التي قالت: «ضعي أطباقًا متشابهة على المائدة، فلسنا فقراء لدرجة أننا لا نملك طقمًا من الأطباق!»
فقلت وأنا ما زلت أحثها على الحديث: «هل ترتدين اللون الأخضر النيلي لأن اسمك نايل؟ هل هذا اللون هو الأخضر النيلي؟» كنت أراها حمقاء، ولكنني أعجبت بها بشدة رغم ذلك، وشعرت بالامتنان لكل كلمة صغيرة تتفوه بها، والتي كانت تخرج من فمها وكأنها فقاعة عديمة اللون. لقد وصلت إلى حد متطرف في الزينة الأنثوية والتكلف المثالي الذي لم أكن حتى أعلم بوجوده، وعندما رأيتها أدركت أنني لن أصبح جميلة أبدًا.
«إنها مجرد صدفة أن اسمي نايل، وهذا لوني المفضل منذ زمن بعيد قبل حتى أن أسمع عن لون يطلق عليه الأخضر النيلي.»
«لم أكن أعلم أنه ثمة طلاء أظافر باللون الأخضر.»
«عليك أن تطلبيه خصيصى.»
كان الخال بيل لا يزال شاردًا في أفكاره الخاصة، وأردف: «كانت أمي تأمل أن نظل في المزرعة ونحيا بالطريقة نفسها التي تربينا بها.»
«لا أتمنى لأي أحد أن يحيا في مزرعة كتلك، فلا يمكنك فيها تربية الأعشاب التي تقتات عليها الطيور.»
«ليس الجانب المادي هو كل شيء دائمًا يا آدي، ولكن ثمة القرب من الطبيعة، بدلًا من كل ما نعانيه الآن من الانشغال طوال الوقت، والقيام بأمور لا تناسبنا، وعيش حياة الأثرياء، ونسيان المسيحية. كانت أمي تشعر أنها حياة جيدة.»
«وما الجيد في الطبيعة؟ فما الطبيعة إلا مجرد كائن يفترس آخر وهكذا على كافة المستويات، ما الطبيعة إلا مجرد الكثير من النفايات والقسوة، ربما لا من وجهة نظر الطبيعة ولكن من وجهة نظر الإنسان. القسوة هي قانون الطبيعة.»
«حسنًا، لست أقصد ذلك يا آدي. لست أقصد الحيوانات المفترسة وما إلى ذلك، بل أعني حياتنا التي عشناها في منزلنا، حيث لم يكن لدينا الكثير من وسائل الراحة، أعترف بذلك، ولكننا كنا نحيا حياة بسيطة ونعمل أعمالًا شاقة ونستنشق هواء نقيًّا ولدينا نموذج روحاني في والدتنا. لقد توفيت صغيرة يا آدي، توفيت متألمة.»
فقالت أمي: «كانت تحت تأثير المخدر، وهكذا إذا تحرينا الدقة، أتمنى ألا تكون قد توفيت متألمة.»
وأثناء تناول العشاء، أخبرت أمي الخال بيل بقيامها ببيع الموسوعات قائلة: «لقد بعت ثلاث مجموعات في الخريف الماضي.» رغم أنها لم تبع سوى واحدة وما زالت تحاول إقناع اثنين من العملاء المحتملين. «لقد أصبح أهل البلد يمتلكون أموالًا الآن كما تعلم بسبب الحرب.»
فقال الخال بيل وهو ينحني على طبقه ويتناول الطعام بثبات كالعُجُز: «لن تحققي أية أرباح من العمل بائعة متجولة لدى الفلاحين، ماذا قلت إنك تبيعين؟» وكان يبدو عجوزًا بالفعل.
«الموسوعات. الكتب. إنها مجموعة جميلة للغاية، كنت لأضحي بأي شيء في مقابل الحصول على مجموعة كهذه من الكتب في المنزل عندما كنت طفلة.» ربما كانت تلك المرة الخمسين التي أسمعها تقول فيها تلك العبارة.
«لقد واصلت تعليمك، وأنا استغنيت عنه، ولكن ذلك لم يوقفني. لا يمكنك بيع الكتب للفلاحين، فهم يتمتعون بقدر عالٍ من الفهم، وحريصون على أموالهم، فالربح ليس في أشياء كهذه، بل في العقارات. الربح يكمن في العقارات والاستثمار إذا كنت تعلمين ماذا تفعلين جيدًا.» وبدأ يقص قصة طويلة ذات خلفية معقدة ويصحح التفاصيل لنفسه عن شراء المنازل وبيعها، ثم الشراء والبيع والشراء والبناء، والإشاعات والتهديدات والأخطار والأمان. لم تكن نايل تستمع إليه إطلاقًا بل كانت تحرك الذرة المعلبة في طبقها وتغرز الشوكة في حبات الذرة واحدة تلو الأخرى، وهي لعبة طفولية لا يمكن حتى لأوين أن يفلت من العقاب بشأنها. لم يتفوه أوين نفسه بكلمة بل تناول طعامه وهو يضع علكته على إبهامه، ولم تلاحظ أمي ذلك. لم تكن فيرن دوجرتي موجودة، فقد ذهبت كي ترى والدتها في مستشفى المقاطعة، واستمعت أمي لشقيقها بينما ترتسم على وجهها نظرة هي مزيج من الاستنكار والدهاء.
شقيقها! هذه هي المشكلة، هذه هي الحقيقة التي يصعب تقبلها. كان هذا الخال بيل شقيق أمي، الصبي البدين الكريه صاحب الموهبة الهائلة في القسوة، ذاك الماكر الذكي الشيطاني، الكثير من الصفات التي تثير الخوف. ظللت أنظر إليه محاولة انتزاع ذلك الصبي من هذا الرجل الشاحب العجوز، ولكنني لم أجده، فقد رحل واختنق كثعبان أرقط صغير كان يومًا ما سامًّا ومولعًا بالأذى ودفن في كيس من الدقيق.
«هل تذكرين اليرقات، وكيف كانت تحط على أزهار الصقلاب؟»
فقالت أمي وهي لا تصدق ما تسمع: «اليرقات؟» ثم نهضت وأحضرت فرشاة صغيرة ذات يد نحاسية ووعاء معدنيًّا كان هدية زفاف أيضًا، وأخذت تزيل الفتات من على المفرش.
«كانت تحط على أزهار الصقلاب في فصل الخريف، وهي تأتي بحثًا عن اللبن كما تعلمين، العصارة الموجودة بالأزهار، فتشربه حتى يمتلئ جسمها وتشعر بالنعاس وتدخل في شرنقتها. حسنًا، لقد وجدت واحدة على زهرة الصقلاب وأحضرتها معها إلى المنزل …»
«من هي؟»
«أمي يا آدي، فمن غيرها قد يتكبد ذلك العناء؟ كان ذلك قبل أن تولدي بزمن بعيد. وجدت تلك اليرقة وأحضرتها للمنزل ووضعتها فوق الباب حيث لا يمكنني الوصول إليها. لم أكن أقصد الإيذاء ولكنني كنت أتصرف كالفتية. دخلت اليرقة في شرنقتها ومكثت فيها طوال الشتاء، ونسيتُ أمرها، وذات يوم كنا نجلس جميعًا بعد أن تناولنا العشاء في عيد الفصح، ولكن كان ثمة عاصفة ثلجية بالخارج، ثم قالت أمي انظروا! انظروا! فنظرنا ووجدنا ذلك الشيء فوق الباب يشرع في الحركة، كانت تمزق الشرنقة، تجذبها وتفتحها من الداخل، ثم تتعب وتتوقف ثم تواصل مرة أخرى. استغرق الأمر نصف الساعة أو أربعين دقيقة تقريبًا، ولم نتوقف عن المشاهدة قط، ثم رأينا الفراشة تخرج. وبدا الأمر كما لو كانت الشرنقة قد ضعفت أخيرًا وسقطت كالخرقة القديمة. كانت فراشة صفراء صغيرة منقطة وأجنحتها مشدودة للأسفل، وكان عليها أن تحركها بعض الشيء كي تجعلها لينة وحرة الحركة. فتحاول تحريك أحد أجنحتها، تحاول بجهد شديد ثم ترفرف به، ثم تحاول تحريك الآخر وتنجح في الرفرفة به هو الآخر، فتحلق قليلًا. فقالت أمي: «انظروا إلى ذلك، لا تنسوه أبدًا، فهذا ما رأيتموه يوم عيد الفصح.» لا تنسوا، ولم أنسَ قط.»
فقالت أمي بحياد: «وماذا حدث لها؟»
«لست أذكر، لا بد وأنها لم تعِش طويلًا في جو كذاك، ولكنه كان أمرًا طريفًا؛ أنها كانت تعمل بجد على جناح، ثم تعمل على الجناح الآخر، ثم تحلق قليلًا، أول مرة تستخدم فيها أجنحتها.» وضحك بنبرة اعتذار كانت الأولى والأخيرة التي نسمعها منه، ثم بدا بعد ذلك مرهقًا ومحبطًا بصورة غامضة، وأمسك بيديه بطنه التي كانت تصدر أصواتًا هادئة ضرورية للهضم.
كان ذلك في المنزل نفسه، المنزل نفسه حيث كانت أمي تجد النار قد انطفأت ووالدتها تصلي، وحيث تناولت اللبن والخيار آملة في أن تصعد روحها إلى السماء.
قضى الخال بيل ونايل الليل في منزلنا وناما على أريكة الغرفة الأمامية التي كان يمكن فردها وتحويلها إلى فراش. رقدت نايل بأطرافها الطويلة المعطرة اللامعة شديدة القرب من جسد خالي المتهدل وبالقرب من رائحته. لم أتخيل أنهما قد يفعلان أكثر من ذلك؛ لأنني ظننت أن المداعبات الجنسية المتلهفة هي أمر طفولي، وأن البالغين المحتشمين قد تخطوا تلك المرحلة وأصبحوا يقومون بذلك الاتصال غير المرجح من أجل إنجاب الأطفال فحسب.
وفي صباح يوم الأحد، رحلا بعد تناول الإفطار، ولم نرَ أيًّا منهما مرة أخرى.
وبعد مرور بضعة أيام، اعترفت أمي لي قائلة: «إن خالك بيل يحتضر.»
كان وقت العشاء قد أوشك، وكانت أمي تطهو النقانق. لم تكن فيرن قد عادت من العمل بعد، وكان أوين قد عاد للتو من تدريب الهوكي وذهب ليلقي بالزلاجات والعصا في القاعة الخلفية. طهت أمي النقانق حتى أصبحت صلبة ولامعة وداكنة من الخارج، لم أتناولها من قبل سوى هكذا.
«إنه يحتضر. كان يجلس هنا صباح الأحد عندما هبطت كي أشغل الغلاية وأخبرني بأنه مصاب بالسرطان.»
استمرت في تقليب النقانق بشوكة، وكانت قد انتزعت لعبة الكلمات المتقاطعة من الجريدة وانتهت من نصفها وتركتها على الطاولة بجوار الموقد. تذكرت الخال بيل وهو يذهب إلى وسط المدينة ويشتري كعك الزبد ومثلجات الشوكولاتة والكعك، ثم عودته إلى المنزل وتناول الطعام. كيف أمكنه أن يفعل ذلك؟
قالت أمي كما لو كانت تفكر في الأمور نفسها التي تجول بخاطري: «كان دائمًا مفتوح الشهية، ويبدو أن احتمال الموت المرتقب لم يضعف من شهيته. من يعلم؟ ربما لو كان يأكل أقل من ذلك كان سيعيش أطول حتى يبلغ سن الشيخوخة.»
«هل تعلم نايل بذلك؟»
«وماذا يهم إذا كانت تعلم أم لا؟ لقد تزوجته من أجل نقوده فحسب، وسوف تصبح ثرية.»
«أما زلت تكرهينه؟»
فقالت أمي سريعًا ولكن بتحفظ: «أنا لا أكرهه بالطبع.» نظرتُ إلى المقعد الذي جلس فيه، وشعرت بالخوف من العدوى، لا من السرطان بل من الموت ذاته.
«أخبرني بأنه ترك لي ثلاثمائة دولار في وصيته.»
ماذا تبقى لنا بعد ذلك من خيارات سوى العودة لأرض الواقع؟
«وكيف ستنفقينها؟»
«لا شك أنني عندما يحين وقت استلامها سيكون شيء ما قد خطر ببالي.»
فُتح الباب الأمامي ودخلت فيرن.
«يمكنني دائمًا الإرسال في طلب صندوق من الأناجيل.»
قبل أن تدخل فيرن من باب ويدخل أوين من الباب الآخر مباشرة، كان ثمة ومضة سريعة في الغرفة وكأنها رفرفة جناح طائر أو حركة سكين سريعة، شعور قوي بالألم ولكنه سريع ومنزوٍ، يتلاشى.
قالت أمي وهي تقطب ما بين حاجبيها وهي تنظر إلى الكلمات المتقاطعة: «إله مصري من خمسة حروف، إنني أعرفه، ولا أستطيع أن أتذكره كي أنقذ نفسي.»
«إيزيس.»
«إيزيس إلهة وليست إلهًا، إنني مندهشة مما تقولين.»
بعد ذلك بوقت قريب، بدأ الجليد يذوب وفاض نهر واواناش وأغرق ضفافه حاملًا معه لافتات الطريق وأعمدة الأسيجة وحظائر الدجاج ثم انحسر، وأصبحت الطرق صالحة إلى حد ما للسير فيها، وعادت أمي تخرج مرة أخرى في فترة ما بعد الظهيرة. وكما قالت إحدى عمات أبي — لا يهم من هي: «الآن سوف تفتقد مراسلة الصحف.»