عصر الإيمان
اعتدت أنا وأمي — عندما كنا نعيش في ذلك المنزل في نهاية طريق فلاتس وقبل أن تتعلَّم أمي قيادة السيارة — أن نسير حتى مدينة جوبيلي التي تبعد ميلًا. وبينما كانت تغلق هي الباب، كان عليَّ أن أعدو حتى البوابة وأتفحَّص الطريق كي أتأكد من أنه لا يوجد أحد قادم؛ ومن يمكن أن يكون في ذلك الطريق سوى ساعي البريد والعم بيني؟! وعندما أهزُّ رأسي بالنفي كانت أمي تخبِّئ المفتاح تحت العمود الثاني للشرفة؛ حيث نخر السوس الخشب وأحدث به فتحة صغيرة، فقد كانت تؤمن بوجود لصوص المنازل.
وعندما نُدير ظهورنا لمستنقع جرينوش ونهر واواناش وبعض التلال البعيدة، سواء الجرداء أو المشجرة التي كنت أعتبرها أحيانًا نهاية العالم — رغم أنني لم أكن جاهلة بحقائق الجغرافيا — كُنَّا نسير في طريق فلاتس الذي كان شديد الضيق في ذلك الطرف، حتى إنه لا يتَّسع إلا لسيارة واحدة، ويزخر بنمو ثري لنبات لسان الحمل والأعشاب التي تقتات عليها الطيور في المنتصف. كنت أفكر حينها في اللصوص، وأتخيَّلهم في صورة باللونين الأبيض والأسود رجالًا ذوي وجوه كئيبة يبدو عليها التركيز على هدفهم، يرتدون ثيابًا مخصصة للصوص. تخيلتهم ينتظرون في مكان ما ليس بعيدًا، مثل الحقول الموحلة المليئة بالسراخس على امتداد حافة المستنقع، ينتظرون ولديهم معرفة بأدق تفاصيل منزلنا وكل ما فيه، فهم يعلمون بأمر الفناجين ذات المقابض على شكل فراشة المطليَّة باللون الذهبي، وقلادتي المصنوعة من المرجان التي كنت أظنها قبيحة مغطاة بالخدوش، ولكنني أُخبرت بأنني يجب أن أعتبرها قيِّمة؛ لأن عمة والدي هيلين هي من أرسلتها من أستراليا أثناء رحلتها حول العالم، وسوار فضي اشتراه أبي لأمي قبل زواجهما، ومزهرية سوداء عليها أشكال يابانية مرسومة عليها تبعث شعورًا بالراحة عند النظر إليها — وهي هدية زفاف — ومحبرة أمي ذات اللون الأبيض المائل إلى الخضرة التي تحمل صورة القس لاوكون وأبنائه (قس طروادة الذي قتلته الأفاعي البحرية مع ولديه)، والتي فازت بها لحصولها على أعلى الدرجات ولكفاءتها العامة عند تخرجها في المدرسة الثانوية، وكانت الحية في صورة لاوكون تلتف بخبث شديد حول الذكور الثلاثة، حتى إنني لم أستطع قط اكتشاف ما إذا كانت هناك أعضاء تناسلية من المرمر تحتها أم لا. كنت أدرك أن اللصوص يشتهون تلك الأشياء، ولكنهم لن يتحركوا ما لم نعطهم سببًا بإهمالنا. وقد أكدت معرفتهم بتلك الأشياء وجشعهم للحصول عليها على قيمة وتفرد كل منها. كانت صورة عالمنا تنعكس بثبات في أذهان اللصوص.
بالطبع لاحقًا بدأت أشك في وجود اللصوص أو على الأقل في أن هذه هي طريقة عملهم، وبدأت أعتقد على الأرجح أن الطرق التي يتبعونها عشوائية ومعلوماتهم ضبابية وجشعهم غير محدد الهدف، وعلاقتهم بنا أقرب ما تكون إلى المصادفة. وبعد أن خَفَت تفكيري فيهم، أصبحت أذهب بسهولة أكبر حتى المستنقع، ولكنني افتقدتهم وافتقدت التفكير فيهم لفترة طويلة.
لم يكن لديَّ قطُّ تخيل واضح وبسيط عن الرب مثلما كان لدي عن اللصوص، فلم تكن أمي مستعدة للإشارة إليه. كنا نتبع الكنيسة المتحدة في جوبيلي — على الأقل أبي وعائلته — وقد عُمِّدنا أنا وشقيقي أوين هناك عندما كنا رضيعين، وهو ما يظهر ضعفًا أو كرمًا مدهشًا من جانب أمي، ربما تكون الولادة قد جعلتها لينة الجانب ومرتبكة بعض الشيء.
كانت الكنيسة المتحدة أحدث الكنائس في جوبيلي وأكبرها وأكثرها ازدهارًا، فقد استوعبت كل الميثوديين والأبرشانيين وكثيرًا من المشيخيين (وهو مذهب عائلة أبي) السابقين في وقت اتحاد الكنائس. كان ثمة أربع كنائس أخرى في المدينة، ولكنها كانت كلها صغيرة وفقيرة نسبيًّا، فضلًا عن أنها — وفقًا لمعايير الكنيسة المتحدة — تتخذ مواقف متطرفة، كانت الكنيسة الكاثوليكية أكثرها تطرفًا. كانت الكنيسة الكاثوليكية — الخشبية بيضاء اللون وعليها صليب بسيط — تقع أعلى تل في الطرف الشمالي من المدينة، وتقيم قداسات متميزة للكاثوليكيين، الذين يبدون غريبي الأطوار ومتحفظين كالهندوس بتماثيلهم واعترافاتهم والنقاط السوداء التي يرسمونها في أربعاء الرماد. وفي المدارس، كان الكاثوليك طائفة صغيرة ولكنها غير مهددة، معظمهم من الأيرلنديين الذين لم يكونوا يمكثون في الفصول في حصص التعليم الديني، بل كان يُسمح لهم بالنزول إلى القبو للعزف على المزامير. كان من الصعب الربط بين ضوضائهم البسيطة وبين عقيدتهم الخطيرة الغريبة. كانت عمات أبي تعشن قبالة الكنيسة الكاثوليكية وتطلقن النكات على «التسلل لأداء طقس الاعتراف»، ولكنهن كنَّ يعلمن ما يكمُن خلف النكات: الهياكل العظمية للرضع، والراهبات المخنوقات تحت أرض الدير، نعم، والقساوسة البدناء والعاهرات والبابوات العُجُز السود. كل ذلك كان حقيقيًّا، وكنَّ يمتلكنَ كتبًا تتناول تلك الموضوعات. كل هذا حقيقي. وعلى غرار الأيرلنديين في المدرسة، بدا مبنى الكنيسة غير ملائم؛ إذ إنه كان شديد البساطة والتواضع والاستقامة في المظهر، حتى إنه يصعب تصديق صلته بالشهوانية والفضائح على هذا النحو.
كان المعمدانيون متطرِّفين أيضًا، ولكن بطريقة تخلو من الشرور، بل كانت فكاهية قليلًا. لم يكن أي شخص ذي شأن أو مكانة اجتماعية يذهب إلى الكنيسة المعمدانية، وهكذا فإن شخصًا مثل بورك تشايلدز — الذي كان يوصل الفحم للمنازل ويجمع القمامة في المدينة — تمكَّن من أن يصبح شخصية بارزة فيها، كان قائدًا ذا مكانة. كان محرِّمًا على المعمدانيين الرقص أو الذهاب للسينما، ولم يكن بإمكان النساء المعمدانيات طلاء شفاههن بأحمر الشفاه، ولكن ترانيمهم كانت صاخبة ومرحة ومليئة بالتفاؤل، ورغم تقشف حياتهم، فقد كان بعقيدتهم قدر من المرح الشعبي أكثر من عقيدة أي شخص آخر. لم تكن تلك الكنيسة بعيدة عن المنزل الذي استأجرناه لاحقًا في شارع ريفر، وكانت متواضعة ولكنها حديثة الطراز وقبيحة الشكل، حيث بنيت من كتل الإسمنت الرمادية، وكانت ذات نوافذ من الزجاج المشطوف.
أما عن المشيخيين، فهم بقايا الناس الذين رفضوا الانضمام للاتحاد، ومعظمهم من كبار السن الذين كانوا ينظمون حملات ضد ممارسة الهوكي في أيام الأحد وينشدون المزامير.
أما الكنيسة الرابعة فهي الأنجليكانية، ولم يكن أحد يعلم عنها الكثير أو يتحدث عنها. لم تكن تلك الكنيسة في جوبيلي تتمتع بالمكانة الاجتماعية ولا بالأموال، التي ترتبط بها في المدن التي يوجد بها بقايا من الأقلية الحاكمة القديمة أو نوع من المؤسسات العسكرية أو الاجتماعية للحفاظ على بقائها واستمرارها. كان من استوطنوا مقاطعة واواناش وبنوا مدينة جوبيلي من المشيخيين الاسكتلنديين والأبرشانيين والميثوديين من شمال إنجلترا. ومن ثم؛ لم يكن اتِّباع المذهب الأنجليكاني شائعًا كما هو في أماكن أخرى، ولم يكن أمرًا مشوقًا مثل اتباع الكاثوليكية أو المعمدانية، ولا دليلًا على التمسك بالعقيدة كما في حالة المشيخية. ورغم ذلك فقد كان للكنيسة جرس، وهو جرس الكنيسة الوحيد في المدينة، وبدا لي ذلك شيئًا من الجميل أن تملكه الكنيسة.
في الكنيسة المتحدة، وضعت المقاعد الخشبية الطويلة — المصنوعة من خشب البلوط الذهبي اللامع — في ترتيب منتظم مروحي الشكل، والمنبر والفرقة في قلب المروحة. لم يكن هناك مذبح، بل استعراض ضخم لمزامير آلة الأرجن فحسب. وكانت النوافذ الزجاجية الملونة تصور المسيح وهو يقوم بمعجزات مفيدة (ولكن ليس منها تحويل الماء إلى خمر) أو تصور القصص الرمزية ذات المغزى الأخلاقي. وفي يوم العشاء الرباني، كانت الخمر تقدم على صوانٍ في كئوس زجاجية صغيرة سميكة، كانت كما لو أن الجميع يحصلون على بعض المرطبات، ولم يكن حتى خمرًا بل عصير عنب. تلك هي الكنيسة التي يتردد عليها أعضاء الفيلق الملكي الكندي في زيهم الموحد في يوم معين من أيام الأحد، وكذلك أعضاء نادي ليونز وهم يحملون قبعاتهم المزينة بشُرَّابات أرجوانية اللون، وكان من يمررون الأطباق أطباء ومحامين وتجارًا.
لم يكن والداي يترددان على الكنيسة إلا نادرًا. كان أبي في حلته التي لم نعتد على رؤيتها كثيرًا يبدو محترمًا للآخرين وفي الوقت نفسه مستقلًّا. وأثناء الصلاة، كان يضع مرفقه على ركبته ويريح جبهته على يده ويغلق عينيه وتبدو عليه سيماء العفو والتسامح. أما أمي من ناحية أخرى، فلم تكن تغلق عينيها قط وبالكاد تحنِي رأسها، بل كانت تجلس متلفتة في كل الاتجاهات بحذر ولكن بلا خجل، كما لو كانت عالم أنثروبولوجيا يدوِّن ملاحظات حول سلوكيات قبيلة بدائية. كانت تستمع إلى الموعظة وهي منتصبة القامة ومتحفزة تعض على شفتيها بتشكك، وكنت أخشى أن تهب واقفة في أية لحظة كي تعترض على شيء ما، وكانت تتباهى بعدم اشتراكها في غناء الترانيم.
بعد أن استأجرنا المنزل في المدينة أصبح لدينا مستأجرة تسكن معنا، وهي فيرن دوجرتي التي كانت تغني في جوقة الكنيسة المتحدة. كنت أذهب معها إلى الكنيسة وأجلس وحدي، فأنا الوحيدة من عائلتي الحاضرة، فعمات والدي يسكنَّ في الطرف الآخر من المدينة ولا يسرْنَ تلك المسافة الطويلة كثيرًا، كما أن القداس يكون مذاعًا على أية حال على محطة جوبيلي الإذاعية.
لم كنت أفعل ذلك؟ في بادئ الأمر، ربما كان ذلك كي أضايق أمي، رغم أنها لم تُبدِ اعتراضًا صريحًا، وكي أجذب الانتباه إليَّ. كنت أتخيَّل الناس ينظرون إليَّ ثم يقولون لاحقًا: «هل ترون تلك الفتاة الصغيرة هناك التي تأتي وحدها أسبوعًا تلو الآخر؟» كنت آمل أن ينخدع الناس ويتأثروا بتقواي ومثابرتي، في الوقت الذي يعرفون فيه طبيعة إيمان أمي، أو بالأحرى عدم إيمانها. وكنت أفكِّر أحيانًا في سكان جوبيلي كما لو أنهم ليسوا إلا جمهورًا كبيرًا لي، وقد كانوا كذلك بالفعل نوعًا ما، فبالنسبة لكل شخص يعيش هناك كان بقية سكان المدينة جمهورًا.
ولكن في الشتاء الثاني لنا في المدينة — الشتاء الذي بلغت فيه الثانية عشرة من عمري — تغيرت أسبابي أو أصبحت أكثر رسوخًا. فقد أردت أن أحسم قضية الرب. كنت أقرأ كتبًا عن العصور الوسطى، وازداد انجذابي أكثر فأكثر لفكرة الإيمان. كان وجود الرب احتمالًا واردًا بالنسبة لي طوال الوقت، ولكنني الآن وقعت فريسة لحنين واضح وقوي له. فقد صار في نظري ضرورة، ولكنني كنت أرغب في الحصول على تأكيد؛ دليل على وجوده بالفعل، كان ذلك هو السبب الرئيسي لترددي على الكنيسة، ولكنني لم أستطع أن أبوح بذلك لأي شخص.
وهكذا ظللت أتردد على الكنيسة في أيام الآحاد الممطرة العاصفة أو الثلجية أو التي كنت أعاني فيها من التهاب الحلق، ظللت أذهب وأجلس في الكنيسة المتحدة مفعمة بذلك الأمل الذي لا يمكنني البوح به في أن الرب سوف يتجلى — لي أنا على الأقل — على هيئة قبة من الضوء أو فقاعة متوهجة لا تقبل الجدال فوق المقاعد الخشبية الطويلة الحديثة، أو أنه سوف يظهر فجأة كصف من الزنابق المزهرة أسفل آلات الأرجن. شعرت بأنني بحاجة للسيطرة على هذا الأمل بشدة، فكشْفُه بنبرة صوت متحمسة أو بكلمة أو إيماءة أمر غير ملائم كإطلاق الريح. وأكثر ما لاحظته على وجوه الناس خلال الأجزاء الأولى من القداس الموجَّه نحو الرب (فالموعظة تميل للانصراف نحو موضوعات محلية) هو نوع من اللباقة العامة المتسقة، وهو الشيء نفسه الذي كانت أمي تنتهكه بنظرتها المعارضة المتسائلة كما لو كانت على وشك أن تتوقف وتطلب تفسيرًا لكل شيء.
لم تُطرح مسألةُ ما إذا كان الرب موجودًا أم لا في الكنيسة قط، بل كان كل ما يطرح هو ما يقبل به الرب، أو عادة ما لا يقبل به. وبعد منح البركة كانت تحدث حالة من الهياج، حالة من التحرير الذي يبعث على الراحة، كما لو أن الجميع قد تثاءب، رغم أن أحدًا لم يفعل ذلك بالطبع، وكان الناس ينهضون من أماكنهم ويحيون بعضهم البعض بطريقة احتفالية تدل على السرور والارتياح. وفي تلك اللحظات كنت أشعر بالاضطراب والحرارة والتثاقل والقنوط.
لم أفكر في عرض مشكلتي على أي مؤمن، ولا حتى السيد ماكلوفلين القس؛ فهو أمر محرج للغاية، كما كانت بداخلي مخاوف أيضًا؛ فقد كنت أخشى أن يتلعثم المؤمن وهو يدافع عن معتقداته أو يعرِّفها؛ مما يمثل نكسة لي. فإذا اتضح مثلًا أن السيد ماكلوفلين لا يُحكم قبضته على دليل وجود الرب أكثر مما أفعل أنا، فسوف يؤدي ذلك إلى تثبيط عزيمتي كثيرًا، وإن كان لن يُثنيَني عن الأمر. كنت أفضل أن أومن بأن دليله قوي دون أن أختبره.
ولكنني فكرت حقًّا في عرض المشكلة على كنيسة أخرى؛ على الكنيسة الأنجليكانية. كان ذلك بسبب الجرس، ولأنني كنت أشعر بالفضول لرؤية كنيسة أخرى من الداخل وكيف يتعاملون مع الأمور، وكانت الكنيسة الأنجليكانية هي الوحيدة التي يمكن تجربة هذا الأمر معها. لم أخبر أحدًا بالطبع عما أنوي القيام به، ولكنني سرت مع فيرن دوجرتي حتى سلالم الكنيسة المتحدة حيث افترقنا؛ حيث كانت هي تذهب إلى غرفة ملابس الكهنة وترتدي ثياب الجوقة. وعندما غابت عن ناظري استدرت عائدة وانطلقت إلى الطرف الآخر من المدينة، حتى وصلت إلى الكنيسة الأنجليكانية استجابة لدعوة الجرس، وتمنيت ألا يكون أحد قد رآني، ثم دخلت.
كان ثمة رواق مسقوف للعواصف خارج الباب الرئيسي كي يحجز الرياح بعيدًا، ثم مدخل بارد قليلًا به قطعة من الحصير البني وكتب الترانيم متراكمة على حافة النافذة، ثم دخلت إلى الكنيسة نفسها.
لم يكن لديهم تنور، بل مجرد مدفأة صغيرة بجوار الباب تصدر صوتها الثابت المألوف في المنازل، وكانت هناك شريحة من الحصير البني نفسه تمتد من الخلف وعلى طول الممر، وغير ذلك لم يكن سوى الأرض الخشبية التي لم تكن مصقولة أو مطلية، بل مجرد ألواح واسعة تتزحزح تحت الأقدام بين الحين والآخر، بالإضافة إلى سبعة أو ثمانية مقاعد خشبية طويلة فقط على كل جانب، وزوج من مقاعد الجوقة بزاوية قائمة مع المقاعد الخشبية، وآلة أرجن في أحد الجوانب ومنبر — لم أدرك في البداية أنه منبر — شامخ كمجثم الطيور في الجانب الآخر، ووراء ذلك ثمة حاجز ودرجة سلم لأعلى ومذبح صغير. كانت أرض المذبح مغطاة بسجادة قديمة تصلح لقاعة استقبال، وكان ثمة مائدة أيضًا عليها زوج من الشموع الفضية، وصحن لجمع الأموال مبطن بنسيج البيز، وصليب يبدو كما لو كان مصنوعًا من الورق المقوى ومغطى بالورق الفضي كالتاج الذي يرتديه الممثلون في المسرحيات، وفوق المائدة ثمة نسخة من لوحة هولمان هانت التي تصور المسيح يقرع الباب. لم أكن قد رأيت تلك اللوحة من قبل، وكان المسيح بها يختلف قليلًا — ولكن اختلافًا مهمًّا — عن المسيح الذي يظهر وهو يصنع المعجزات على نافذة الكنيسة المتحدة، فقد بدا هنا أكثر ملكية وحزنًا، وخلفية اللوحة أكثر كآبة وثراءً، ونوعًا ما أكثر وثنية أو على الأقل تنتمي لمنطقة البحر المتوسط. وكنت معتادة على رؤيته واهنًا وريفيًّا في الصور الوصفية المرسومة بأقلام الباستيل الخاصة بمدارس تعليم المسيحية التي تقام يوم الأحد.
إجمالًا كان هناك حوالي اثني عشر شخصًا في الكنيسة: راهب هولندي والجزار وزوجته وابنته جلوريا التي كانت في الصف الخامس في المدرسة، وكنت أنا وهي فحسب في الكنيسة في ذلك الوقت تحت سن الأربعين، وكان هناك أيضًا بعض النساء العجائز.
وصلت بالكاد في الوقت المناسب؛ فقد توقف الجرس عن الدق وبدأت ترنيمة على الأرجن، ودخل القس من الباب الجانبي — الذي لا بد وأنه يقود إلى غرفة ملابس الكهنة — على رأس الجوقة التي كانت تتكون من ثلاث سيدات ورجلين. كان القس شابًّا مستدير الرأس باسم الثغر لم أره من قبل، كنت أعلم أن الكنيسة الأنجليكانية لا يمكنها تحمل تكلفة القس وحدها وأنها تشارك قسًّا مع بورترفيلد وبلو ريفر، فلا بد أنه يعيش في إحدى هاتين المدينتين. وكان يرتدي حذاءً مخصصًا للجليد تحت ثيابه.
تحدث باللكنة البريطانية قائلًا: «أيها الإخوة الأحباء، إن الكتاب المقدس يحثنا في مواضع مختلفة على الإقرار والاعتراف بآثامنا وشرورنا المختلفة …»
… لم نفعل ما علينا فعله، وفعلنا ما لا يجب علينا فعله، ولا صحة فينا، لكن ارحمنا يا الله نحن المذنبين الأشقياء. ارحم يا رب أولئك الذين يعترفون بخطاياهم. ورد التائبين كما وعدتنا في المسيح يسوع مخلصنا …
واستمر الحال على هذا قليلًا، ثم بدأ القس بصوته الإنجليزي الجميل الإيقاعي رغم أنه كان أكثر تحفظًا؛ واستمر هذا الحوار بإيقاع ثابت يعلو ويهبط بثقة دائمة، والعواطف المفعمة بالحياة يعبر عنها أرقى قنوات التواصل اللغوي وتجتمع في نهاية الأمر في عذوبة ووفاق تامٍّ.
وهكذا، كان هنا ما لم أعرفه من قبل، ولكنني شككت دائمًا بوجوده، وهو ما قضى عليه كل الميثوديين والأبرشانيين والمشيخيين بخوف، إنه ذلك الجانب المسرحي في الدين. منذ أول لحظة شعرت بالسعادة الغامرة، فالعديد من الأمور قد جلبت لي السرور؛ مثل الانحناء على اللوح الخشبي والوقوف والانحناء مرة أخرى وتحويل الرأس إلى المذبح عند ذكر اسم يسوع، وقراءة قانون الإيمان المسيحي الذي أحبه بفضل الابتهال بأشياء غريبة رائعة نؤمن بها. وكنت أحب أيضًا إطلاق اسم يسوع على المسيح أحيانًا، فهذا الاسم يجعله يبدو أكثر ملكية وسحرًا كما لو كان ساحرًا أو إلهًا هنديًّا، وأحببت أيضًا النقش باسم يسوع على تصميم شعار المنبر الثري العتيق البالي. كما أسعدني كذلك الفقر الذي تبدو عليه الكنيسة وصغر حجمها وحالتها الرثة، ورائحة العفن أو الفئران وغناء الجوقة الهزيل وانعزال المصلين، وشعرت بأنه إذا كان هؤلاء هنا، فكل شيء حقيقي على الأرجح. والشعائر التي في ظروف أخرى كانت لتبدو مصطنعة خالية من الحياة، كانت هنا تبدو وكأنها محاولة أخيرة للحفاظ على الكبرياء. إنه ثراء الكلمات في مقابل فقر المكان. فإذا لم أتمكَّن من استشعار أثر الرب فعلى الأقل يمكنني استشعار أثر عصره القديم من القوة، القوة الحقيقية لا تلك التي يتمتع بها اليوم في الكنيسة المتحدة، استطعت أن أتذكر الترتيب الهرمي الشهير والتقويم الرائع العتيق البالي للأعياد والقديسين. كانوا موجودين في كتاب الصلوات، فقد فتحته على تلك الصفحة مصادفة: أعياد القديسين. هل يتذكرها أحد ويحتفي بها؟ جعلتني أعياد القديسين أفكِّر في شيء مختلف تمامًا عن جوبيلي: مخازن التبن المفتوحة، وبيوت المزارع نصف الخشبية، وصلاة التبشير، والشموع، وموكب من الراهبات يسرن في الثلوج في نزهة الدير يخيم عليهن الهدوء؛ عالم من الثراء والمعتقدات الراسخة والأمان. فإذا أمكننا اكتشاف الرب أو تذكره فسوف يصبح كل شيء آمنًا، وسوف ترى عندئذ الأشياء التي رأيتها — حبيبات الخشب الباهتة في ألواح الأرض الخشبية، والنوافذ الزجاجية غير المزخرفة ومن ورائها الأغصان الرقيقة والسماء التي تنهمر منها الثلوج — ويختفي الألم الغريب القلق الذي يتسبَّب فيه مجرد رؤية الأشياء. بدا لي واضحًا أن تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن تحمل العالم بها — نعم «الطريقة الوحيدة التي يمكن تحمل العالم بها» — إذا كانت كل تلك الذرات — تلك المجرات من الذرات — آمنة طوال الوقت تدور في عقل الرب، فكيف يمكن للناس أن تطمئن؟ بل كيف يمكن لهم أن يستمروا في التنفس والوجود حتى يتأكدوا من ذلك؟ إنهم مستمرون بالفعل، وهكذا فلا بد أنهم متأكدون.
وماذا عن أمي؟ نظرًا لأنها أمي، فإنها لا تدخل في الاعتبار، ولكن حتى هي عندما تُحاصر فإنها تقول بالطبع لا بد وأن هناك شيئًا ما أو نوعًا من «التخطيط»، ولكنها تحذر من عدم جدوى إضاعة الوقت في التفكير فيه لأننا لن نفهمه على أية حال، وثمة الكثير مما يجب علينا التفكير فيه إذا أردنا محاولة تحسين حياتنا هنا والآن من قبيل التغيير، وبعد الموت سوف نكتشف أمر ما تبقى، إذا كان ثمة بقية.
لم تكن أمي على استعداد حتى لأن تقول «لا شيء» على كل هذا، وأن ترى نفسها وكلَّ عصًا وحجرٍ وريشة في هذا العالم تطفو بحرية في ذلك الظلام المخيف الميئوس منه. كلا.
لم تتصل فكرة وجود الرب لديَّ بالخير إطلاقًا، وهو أمر قد يبدو غريبًا، بالنظر إلى كل الخطايا والشرور التي كنت أستمع إليها. كنت أومن بالخلاص عن طريق الإيمان وحده، عن طريق تملك عظيم للروح. ولكن هل رغبت حقًّا؟ «هل رغبت حقًّا في أن يحدث لي هذا؟» نعم ولا في الوقت ذاته. كنت أرغب في أن يحدث لي، ولكنني كنت أرى أنه يجب أن يظل سرًّا، وإلا فكيف لي أن أستمر في الحياة مع أمي وأبي وفيرن دوجرتي وصديقتي ناعومي وكل من في جوبيلي؟
تحدث إليَّ القس عند الباب بطريقة مرحة قائلًا:
«يسعدني رؤية الفتيات الحسناوات في هذا الصباح البارد.»
صافحته بصعوبة؛ إذ كنت قد سرقت أحد كتب الصلوات ووضعته تحت معطفي، وكنت أثبته في مكانه بذراعي المنحنية.
قالت فيرن: «لم أرك في الكنيسة.» كان القداس في الكنيسة الأنجليكانية أقصر من القداس في كنيستنا؛ فهم يختصرون في الموعظة، وهكذا كان لديَّ الوقت كي أعود إلى درج الكنيسة المتحدة وأقابل فيرن عند خروجها.
«كنت أجلس خلف أحد الأعمدة.»
أرادت أمي أن تعرف موضوع الموعظة.
فقالت فيرن: «السلام والأمم المتحدة … إلخ إلخ.»
فقالت أمي باستمتاع: «السلام! حسنًا، هل هو معه أم ضده؟»
«إنه يؤيد الأمم المتحدة تمامًا.»
«أظن إذن أن الرب كذلك. يا لها من راحة! فمنذ وقت قصير فحسب كان هو والسيد ماكلوفلين مؤيدين للحرب. يبدو أنهما متقلبان.»
وفي الأسبوع التالي عندما كنت مع أمي في متجر ووكر مرَّت تلك السيدة العجوز الطويلة ذات العمامة السوداء وتحدثت إليها، وخشيت أن تقول إنها قد رأتني في الكنيسة الأنجليكانية، ولكنها لم تفعل.
قالت أمي لفيرن: «لقد رأيت السيدة شيريف العجوز في متجر ووكر اليوم، إنها لا تزال ترتدي العمامة نفسها، إنها تذكرني بقبعة الشرطي الإنجليزي.»
فقالت فيرن: «إنها تأتي إلى مكتب البريد دائمًا وتنفجر في ثورة غضب عارمة إذا لم تكن أوراقها جاهزة بحلول الساعة الثالثة، إنها امرأة عنيفة حادة الطباع.»
ومن خلال محادثة بين أمي وفيرن حاولت أمي خلالها بلا جدوى أن ترسلني خارج الغرفة — وأعتقد أنها كانت تقوم بذلك كتصرف شكلي، فذات مرة طلبت مني أن أخرج ولكنها لم تكترث بما إذا كنت قد خرجت بالفعل أم لا — علمت أن السيدة شيريف قد عانت من مشاكل غريبة في عائلتها نتجت عن — أو أدت إلى — نوع من غرابة الأطوار والجنون فيها، فقد توفي ابنها الأكبر بسبب إدمان الشراب، وابنها الثاني يتردد على مصحة (وهو الاسم الذي نطلقه على مستشفى الأمراض العقلية في جوبيلي)، وانتحرت ابنتها إذ أغرقت نفسها في نهر واواناش. وماذا عن زوجها؟ قالت أمي بجفاء إنه كان يملك متجرًا للمنسوجات والملابس الجاهزة، وكان أحد أهم الشخصيات في المجتمع، وأشارت فيرن إلى أنه ربما كان مصابًا بالزهري ونقل المرض إليها، كما أن هذا المرض يهاجم المخ في الجيل الثاني، فكلهم منافقون، أولئك المتأنِّقون. وقالت أمي: إن السيدة شيريف ظلت أعوامًا طويلة ترتدي ثياب ابنتها المتوفاة في المنزل وبينما تقوم بالعناية بالحديقة حتى أبْلتْها تمامًا.
وثمة قصة أخرى؛ فذات مرة نسي متجر ريد فرونت أن يضع رطلًا من الزبد في طلباتها، فخرجت تطارد عامل توصيل الطلبات حاملة فأسًا صغيرة.
«يا يسوع ارحمنا.»
وفي ذلك الأسبوع أيضًا فعلتُ شيئًا بذيئًا، فقد طلبتُ من الرب أن يثبت لي وجوده عن طريق إجابة دعاء، وكان الدعاء يتعلق بما يُدعى مادة «الاقتصاد المنزلي» التي كانت مقررة علينا في المدرسة مرة واحدة أسبوعيًّا عصر يوم الخميس. في تلك المادة كنا نتعلم الحياكة والكروشيه والتطريز وتشغيل ماكينة الخياطة، وكان كل ما نقوم به لا يحتمل أكثر من تلك الأخيرة؛ فقد كانت يداي تصبحان لزجتين من العرق، وتبدو غرفة الاقتصاد المنزلي نفسها، بماكينات الخياطة الثلاث العتيقة وطاولات القص والتماثيل المكسرة، كما لو كانت حلبة تعذيب، وقد كانت كذلك بالفعل. كانت السيدة فوربس المعلمة امرأة قصيرة بدينة تضع مساحيق التجميل على وجهها بطريقة تجعلها تبدو مثل دمية من السليوليد، وكانت مرحة مع معظم الفتيات، ولكن غبائي ويديَّ الغليظتين الخرقاوين، اللتين تتسبَّبان في تجعد المنديل القذر الذي كان يفترض بي أن أحيك أطرافه، أو أعمال الكروشيه البائسة؛ كانت تجعلها تستشيط غضبًا.
«انظرن إلى العمل القذر! هذا العمل القذر! لقد سمعت عنك، أنت تظنين أنك بارعة فيما يتعلق بالذاكرة (كنت مشهورة بحفظ القصائد بسرعة) ولكنك الآن تقومين بعمل غرز تخجل منها أي طفلة في السادسة من عمرها!»
والآن كانت تحاول تعليمي وضع الخيط في ماكينة الخياطة، ولكنني لم أستطع أن أتعلمه. كنا نصنع المآزر المطرزة بقماش على شكل أزهار الخزامى، وكانت بعض الفتيات تنتهين من أزهار التيوليب أو تقمن بحياكة الحواف بينما لا أكون قد انتهيت من حياكة الحزام بعد؛ لأنني لم أستطع وضع الخيط في ماكينة الخياطة، وقالت السيدة فوربس إنها لن تريني كيف أقوم بذلك مرة أخرى. على أية حال، لم تكن محاولتها أن تريني ذلك ذات جدوى من الأساس؛ فيداها السريعتان أمامي بالإضافة إلى نظرات الاحتقار التي كانت ترمقني بها كانت تصيبني بالذهول والعمى والشلل.
ومن ثم، فقد دعوت: «أرجوك لا تجعلني أضع الخيط في آلة الخياطة عصر يوم الخميس.» وكررتها عدة مرات في ذهني، بسرعة وجدية وبدون مشاعر كما لو كنت أجرب تعويذة، ولم أستخدم أي صيغة تضرع أو مساومة خاصة. لم أكن أطلب أي شيء استثنائي كأن يشب حريق في غرفة الاقتصاد المنزلي، أو أن تنزلق السيدة فوربس في الطريق وتكسر ساقها، لا شيء سوى تدخل بسيط غير محدد.
ولكن لم يحدث شيء، فلم تنسني المعلمة، وأرسلتني في بداية الحصة إلى ماكينة الخياطة، فجلست هناك محاولة اكتشاف أين أضع الخيط، لم يكن لديَّ أي أمل في وضعه في المكان الصحيح، ولكن كان عليَّ أن أضعه في أي مكان كي أثبت لها أنني أحاول، فأتت ووقفت خلفي وهي تتنفس باشمئزاز، وكالعادة بدأت ساقي ترتعد وتهتز بشدة حتى إنني حركت الدواسة وبدأت الآلة تعمل ببطء بلا خيط فيها.
فقالت السيدة فوربس: «حسنًا، يا ديل.» فوجئت بصوتها الذي لم يكن يوحي بالطيبة بالطبع، ولكنه لم يكن غاضبًا، بل كان سئمًا فحسب.
«لقد قلت حسنًا، يمكنك النهوض.»
وأمسكت بقطع المئزر التي قمت بحياكتها على نحو يائس، وجعدتها في بعضها وألقت بها في صندوق القمامة.
ثم قالت: «لا يمكنك أن تتعلمي الحياكة كما لا يمكن لشخص غير قادر على تمييز الفرق بين النغمات الصوتية أن يتعلم الغناء. لقد حاولتُ وفشلتُ. تعالي معي.»
أعطتني مقشة قائلة: «إذا كنت تعرفين كيف تكنسين الأرض، فأريدك أن تنظفي هذه الغرفة وأن تلقي بالفضلات في صندوق القمامة وتصبحي مسئولة عن المحافظة على نظافة الأرض. وعندما تفرغين من ذلك يمكنك الجلوس على المائدة هنا في الخلف وحفظ الشعر أو أي كان.»
خارت قواي من الارتياح والسعادة، رغم الشعور بالخزي العلني الذي كنت معتادة عليه. كنست الأرض بعناية، ثم تناولت الكتاب الذي اقترضته من المكتبة، الذي يتحدث عن الملكة ماري ملكة اسكتلندا، وأخذت أقرؤه وأنا أشعر بالخزي، ولكنني متحررة من العبء، أجلس وحدي في آخر الغرفة. ظننت في بادئ الأمر أن ما حدث معجزة واضحة وإجابة لدعائي، ولكنني حاليًّا بدأت أتساءل ماذا لو لم أكن قد دعوت بذلك؟ ماذا لو أن هذا كان سيحدث في كل الأحوال؟ لم يكن لديَّ وسيلة أعرف بها، فلم يكن ثمة عنصر تحكُّم في التجربة التي أجريها. وبمرور الدقائق أصبحت أكثر بخلًا في مشاعري وأكثر نكرانًا للجميل. فكيف لي أن أتأكد؟ كما أنه أيضًا شيء تافه وغير ذي أهمية أن يشغل الرب نفسه بطلب تافه كهذا بتلك السرعة؟ فبدا كما لو أنه يستعرض قواه، ولكني أريده أن يتصرف بطريقة أكثر غموضًا.
أردت أن أخبر أحدًا، ولكنني لم أستطع إخبار ناعومي، فقد سألتها من قبل عما إذا كانت تؤمن بوجود الرب، فأجابتني على الفور بازدراء: «بالطبع أؤمن بوجوده، فلست مثل أمك. أتظنين أنني أريد دخول النار؟» فلم أناقش معها الأمر مرة أخرى قط.
اخترت أن أخبر شقيقي أوين. كان يصغرني بثلاثة أعوام، وفي إحدى الفترات كان سريع التأثر وشديد الثقة. وعندما كنا نخرج إلى المزرعة، كان لدينا مأوى من الألواح القديمة حيث كنا نلعب معًا ونمثل أننا في منزل، فكان يجلس على طرف اللوح بينما أقدم له ثمار شجرة السمن وأخبره بأنها رقائق الذرة، فيتناولها كلها، وبينما كان يتناولها خطر لي أنها قد تكون سامة، ولكنني لم أخبره حفاظًا على هيبتي أمامه ومراعاة لأهمية اللعبة، ولاحقًا قررت بحكمة ألا أخبر أحدًا. والآن تعلم أوين التزلج وكان يذهب إلى تدريبات الهوكي وينحني على الدرابزين ويبصق على رأسي، كان يتصرف مثل الصبية.
ولكنه من بعض الزوايا كان لا يزال يبدو ضعيفًا وصغيرًا، وكانت أنشطته واهتماماته تبدو لي غير مريحة وبلا جدوى. فكان يشترك في منافسات، وهي الطبيعة التي ورثها عن أمي المتمثلة في استعدادها غير المحدود لقبول تحديات العالم الخارجي. وكان يؤمن بالجوائز مثل المناظير التي يرى من خلالها الفوهات على سطح القمر، وأدوات السحرة التي يمكنه أن يخفي بها الأشياء، وأدوات الكيمياء التي تمكنه من صنع المتفجرات. لعله كان سيصبح كيميائيًّا لو كان يفهم في تلك الأمور. مع ذلك، لم يكن أوين متدينًا.
عندما ذهبت إليه كان جالسًا على الأرض في غرفته يقص أشكالًا دقيقة من الورق المقوى على شكل لاعبي الهوكي، والتي كان يرتبها في فرق ويلعب بهم، وكان يمارس تلك الألعاب التي يلعب فيها دور المسيطر الأول على مجريات الأمور باستغراق شديد. وبدا لي عندئذ كما لو كان يسكن عالمًا بعيدًا عن عالمي (الحقيقي)، عالمًا غير ذي صلة بعالمنا، عالمًا واهيًا في خداعه بصورة مفجعة.
جلست على الفراش وراءه.
«أوين.»
لم يجبني، فعندما كان يمارس ألعابه لم يكن يرغب في وجود أي شخص حوله.
«ماذا تظن أنه يحدث للإنسان بعد الموت؟»
فقال أوين متمردًا: «لا أعرف.»
«هل تؤمن بأن الرب يحتفظ بروحك حية؟ هل تعرف ما هي الروح؟ هل تؤمن بالرب؟»
فاستدار أوين نحوي وفي عينيه نظرة من وقع في الشَرَك. لم يكن لديه ما يخفيه ولا ما يظهره سوى لامبالاته الساذجة النابعة من القلب.
فقلت له: «من الأفضل أن تؤمن بالرب، استمع إليَّ جيدًا.» وأخبرته بأمر دعائي ومادة الاقتصاد المنزلي، فاستمع إلي حزينًا. لم أجد ضالتي لديه، وشعرت بالغضب لهذا الاكتشاف. بدا حائرًا لا يجد ما يدافع به ولكنه طيع ككرة مطاطية صلبة. كان يستمع إليَّ إذا ألححت، ويوافقني الرأي إذا ما أصررت، ولكن في قرارة نفسه، لم يكن يوليني أي اهتمام. هذا غباء.
وهكذا، كنت أحاصره كثيرًا بهذه الطريقة، كلما نجحت في الانفراد به، وكنت أؤكد عليه: «لا تخبر أمي.» فقد كان هو كل ما لدي كي أختبر إيماني عليه؛ إذ كان عليَّ أن أعثر على شخص ما، ولكنني لم أحتمل عدم اهتمامه في قرارة نفسه، والرضا الذي يشعر به في عالم بلا إله، وظللت أكرر محاولاتي في هذا الجانب. كما كنت أشعر أيضًا أنه نظرًا لأنه أصغر مني وظل تحت سيطرتي لفترة طويلة، فإن عليه التزامًا بأن يتبعني، وعدم اعترافه بذلك كان يمثل علامة على التمرد.
وفي غرفتي، كنت أغلق الباب، وأقرأ في كتاب الصلوات العامة.
وأحيانًا وأنا أسير في الشارع كنت أغلق عينيَّ (بنفس الطريقة التي اعتدنا بها أنا وأوين ممارسة لعبة الأعمى) وأقول لنفسي وأنا أقطب ما بين حاجبي وأدعو «يا رب، يا رب، يا رب»، ثم أتخيل لبضع ثوانٍ متقلقلة سحابة كثيفة مشرقة تهبط على جوبيلي وتلتف حول رأسي، ولكن فتحت عينيَّ فجأة وأنا أشعر بالقلق، فلا يمكنني أن أسمح لتلك الحالة بالسيطرة عليَّ، أو أسمح لنفسي بالتعبير عنها بوضوح، كما خشيت أيضًا أن أصطدم بشيء وأجعل من نفسي أضحوكة.
ثم جاءت الجمعة الحزينة، وكنت أستعد للخروج عندما جاءت أمي إلى البهو وسألتني: «لم ترتدين قلنسوتك؟»
لقد حان الوقت كي أتخذ موقفًا، «إنني ذاهبة إلى الكنيسة.»
«لا توجد كنيسة اليوم.»
«إنني ذاهبة إلى الكنيسة الأنجليكانية، فهم يذهبون إلى الكنيسة في يوم الجمعة الحزينة.»
اضطرت أمي للجلوس على الدرج، ورمقتني بتلك النظرة المتفحِّصة الشاحبة الغاضبة، التي رمقتني بها قبل عام عندما وجدتْ رسمًا رسمتُه أنا وناعومي في كراستي لامرأة بدينة عارية، ذات ثديين منتفخين ومكمن ضخم من شعر العانة الأسود البارز.
«هل تعرفين ما هي ذكرى الجمعة الحزينة؟»
فقلت باقتضاب: «الصلب.»
«إنه يوم وفاة المسيح من أجل تكفير خطايانا، هذا ما يخبروننا به. هل تصدقين ذلك؟»
«نعم.»
فقالت أمي وهي تهب واقفة على قدميها: «المسيح مات من أجل تكفير خطايانا.» وفي مرآة البهو حدقت بعدوانية في وجهها الشاحب وتابعت قائلة: «حسنًا، حسنًا. الافتداء بالدم. إنها فكرة لطيفة. ربما تصدقين أيضًا الآزتك وهم ينتزعون القلوب الحية لأنهم يعتقدون أن الشمس لن تشرق وتغرب ما لم يفعلوا ذلك، والمسيحية ليست أفضل حالًا. ما رأيك في إله يطلب الدماء؟ دماء، دماء، دماء. استمعي إلى ترانيمهم، إن هذا كل ما تدور حوله. ماذا عن إله لم يرضَ حتى عُلق شخص على صليب لمدة ست أو تسع ساعات، أيًّا كان؟ فلو كنت أنا ذلك الرب فلن أكون متعطِّشة للدماء هكذا، فالبشر الطبيعيون لا يتعطشون للدماء هكذا، باستثناء هتلر. ربما يصبحون كذلك يومًا ما ولكن ليس الآن. هل تفهمين ما أقول؟ هل تدركين مقصدي؟»
فقلت بصراحة: «كلا.»
«إن الرب من صنع الإنسان! وليس العكس! الإنسان هو من صنع الرب أثناء مرحلة من تطوره أكثر انحطاطًا وأكثر تعطشًا للدماء مما هو عليه الآن، نأمل في ذلك. لقد صنع الإنسان الرب على صورته، وقد ناقشت القساوسة في ذلك الأمر، وأنا على استعداد لمناقشته مع أي شخص، فلم أقابل من يجادل ضد هذا الافتراض ويقول كلامًا منطقيًّا.»
«أيمكنني الذهاب؟»
فقالت أمي: «أنا لا أمنعك من الذهاب.» رغم أنها قد تحركت كي تسد الباب بالفعل. «اذهبي واحصلي على كفايتك، وسوف ترين أنني على حق. ربما كنت تشبهين أمي.» وحدقت في وجهي بحثًا عن آثار للتعصب الديني، وتابعت قائلة: «لو كنت كذلك، فأعتقد أن الأمر خارج عن سيطرتي.»
لم تثبط مجادلات أمي من عزيمتي، ليس كما لو كانت صدرت عن شخص آخر. ورغم ذلك، فبينما كنت أقطع طرقات المدينة، ظللت أبحث عن دليل على وجهة النظر المناقضة لوجهة نظرها، وشعرت ببعض الارتياح لأن المتاجر كانت مغلقة والستائر مسدلة على النوافذ، وهذا يثبت شيئًا، أليس كذلك؟ فإذا قرعت أبواب كل المنازل في طريقي وسألتهم: «هل توفي المسيح من أجل تكفير خطايانا؟» فلا شك أن الإجابة الممزوجة بالدهشة والارتباك سوف تكون بالإيجاب.
أدركت أنني لا أهتم كثيرًا بوفاة المسيح من أجل تكفير خطايانا، فكل ما كنت أريده هو الرب، ولكن إذا كانت فكرة وفاة المسيح تكفيرًا لخطايانا هي الطريق إلى الرب فسوف أسلكه.
كان يوم الجمعة الحزينة يومًا مشمسًا لطيفًا — بصورة غير مناسبة — تتساقط فيه الكتل الثلجية وتتفتت والأسطح يتصاعد منها البخار وجداول صغيرة من المياه في الشوارع، وكانت أشعة الشمس تتسلل عبر النوافذ الزجاجية العادية للكنيسة. كنت قد تأخرت بسبب أمي، وكان القس قد وصل للمقدمة بالفعل، فتسللت حتى المقعد الخلفي ورمقتني السيدة شيريف ذات العمامة المخملية بنظرة خاوية تنم عن الغضب، وربما لم تكن غاضبة بل شديدة الاندهاش فحسب. بدا الأمر كما لو أنني قد جلست بجوار نسر على مجثمه.
ولكنني سررت لرؤيتها، رغم ذلك، شعرت بالسعادة لرؤيتهم جميعًا؛ الأشخاص الستة أو الثمانية أو العشرة الحقيقيين، الذين ارتدوا قبعاتهم وغادروا منازلهم وساروا في الشوارع عابرين جداول الثلج الذائب كي يحضروا إلى هنا. إنهم لن يفعلوا ذلك بلا سبب.
كنت أرغب في أن أجد مؤمنًا، مؤمنًا حقيقيًّا يزيل شكوكي. كنت أرغب في مشاهدة ذلك المؤمن وأن أستمد منه الراحة والتشجيع، لا أن أتحدث معه. في بادئ الأمر، ظننت أن ذلك الشخص قد يكون السيدة شيريف، ولكنها لا تصلح، فاختلالها العقلي يفقدها الأهلية لهذه المهمة، وعلى المؤمن الذي أقصده أن يكون عاقلًا بصورة واضحة.
جلست أفكر في معاناة المسيح، فضممت قبضتيَّ بقوة بحيث أتمكن من الضغط بظفر واحد بكل ما أوتيت من قوة في راحة اليد الأخرى، وظللت أضغط يدي وألفها، ولكنني لم أستطع أن أسيل دمائي، فشعرت بالخجل، وأنا أدرك أن هذا لا يجعلني مشاركة في تحمُّل المعاناة. لو كان الرب يتمتع بأي قدر من التمييز، كان سيحتقر تلك الحماقة (ولكن هل كان لديه بالفعل؟ انظروا إلى ما ارتكبه القديسون وحصلوا على الموافقة عليه) وسيعلم ما أفكر به وأحاول التغلب عليه في ذهني، وهو: «هل كانت معاناة المسيح بهذا السوء حقًّا؟»
هل كانت بهذا السوء، وأنت تعلم وهو يعلم والجميع يعلمون بأنه سوف ينهض سليمًا متألقًا خالدًا ويجلس على يمين الرب الأب القدير من حيث يأتي كي يحاكم الأحياء والأموات؟ فالكثير من الناس — ربما ليس كلهم أو حتى معظمهم ولكن عددًا ليس بالقليل — قد يعرضون أجسادهم لتحمل آلام مماثلة إذا كانوا واثقين من أنهم سيصلون إلى ما وصل إليه بعد ذلك، بل وقد فعل الكثيرون ذلك بالفعل وهم القديسون والشهداء.
حسنًا، ولكنْ ثمة فارق. فهو الرب، وهذا تدني أو خنوع بالنسبة له. هل كان هو الرب في تلك اللحظة أم ابن الرب الأرضي فحسب؟ لم أتمكن من فهم تلك النقطة بوضوح. هل كان يفهم كيف يحدث كل شيء عمدًا ويفهم أن كل شيء سيصبح على ما يرام في نهاية الأمر، أم أن صفاته الإلهية قد توقفت مؤقتًا بحيث لم يرَ سوى هذا الانهيار؟ «إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟»
وبعد المزمور الطويل الذي يضم نبوءات عن تقاسم الثياب والاقتراع، صعد القس إلى المنبر وقال إنه سيُلقِي موعظة قصيرة حول آخر كلمات المسيح على الصليب، نفس الأمر الذي كنت أفكر به، ولكن اتضح أن كلماته الأخيرة كانت تزيد عن تلك التي أعرفها. بدأ بكلمة «أنا عطشان» التي توضح — كما يقول — أن المسيح كان يعاني جسديًّا كما كنا سنعاني في نفس الموقف بالضبط وليس أقل من ذلك، وأنه لم يخجل من الاعتراف بذلك وطلب المساعدة، وأعطى الجنود المساكين فرصة للحصول على الرحمة بفضل قطعة الإسفنج المغموسة في الخل. «يا امرأة هوذا ابنك!» و«هوذا أمك!» توضح تلك الكلمة أن آخر أفكاره كانت في الآخرين، إذ كان يجري ترتيباته لهم كي يجدوا العزاء بعضهم في بعض بعد رحيله (رغم أنه لم يرحل بالفعل)، وحتى في لحظة احتضاره وآلامه، لم ينس العلاقات الإنسانية ومدى جمالها وأهميتها. «إنك اليوم تكون معي في الفردوس.» توضح تلك الكلمة بالطبع اهتمامه المستمر بالعاصي المذنب الذي يلفظه المجتمع ويعلقه على الصليب. «يا الله، الذي لا يرفض صنعة يديه … الذي لا يشاء موت الخاطي مثل ما يرجع ويحيا …»
ولكن لماذا؟ لم أستطع أن أتوقف عن التفكير في هذا الأمر رغم أنني أعلم أنه لن يجلب لي السعادة، لماذا يكره الرب أي شيء من صنيعه؟ وإذا كان سيكرهه فلم صنعه من البداية؟ وإذا كان قد صنع كل شيء كما أراد، فلا يسعنا إلقاء اللوم على أي شيء لما هو عليه، مما يستبعد فكرة الخطيئة تقريبًا، أليس كذلك؟ إذن فلم كان على المسيح أن يموت تكفيرًا لذنوبنا؟ لقد كان تأثير الموعظة عليَّ تأثيرًا سلبيًّا، فقد أصابتني بالحيرة وحب الجدال، بل إنها جعلتني أشعر بنفور من المسيح نفسه — رغم أنني لم أستطع الاعتراف بذلك — بسبب الطريقة التي يشار بها دائمًا إلى مثاليته. «إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟» قال القس: إن المسيح قد فقد الاتصال مع الرب للحظة قصيرة، نعم حدث ذلك بالفعل، حتى له هو. لقد فقد الاتصال، وفي الظلام صاح يائسًا، ولكن ذلك كان جزءًا من الخطة أيضًا، وكان ضروريًّا كي نعلم أنه في أحلك لحظات حياتنا فإن شكوكنا وتعاستنا قد شاركنا فيها المسيح نفسه، وعندما نعلم ذلك فسوف تمرُّ شكوكنا سريعًا.
ولكن لماذا؟ لماذا يجب أن تمر سريعًا؟ فلنفترض أن تلك كانت صيحة المسيح الحقيقية الأخيرة، آخر شيء حقيقي سمعه الناس منه. علينا أن نفترض ذلك على الأقل، أليس كذلك؟ علينا أن نضعه في اعتبارنا، افترض أنه صاح تلك الصيحة ثم مات ولم يقم مرة أخرى، ولم يكتشف قط أن كل ذلك جزء من الدراما الإلهية الصعبة. كان ثمة معاناة. نعم، تخيل أنه يدرك فجأة أن «الأمر ليس حقيقيًّا، لا شيء من ذلك كان حقيقيًّا.» إن ألم اليدين والقدمين الممزقة لا يعد شيئًا بالمقارنة بذلك؛ لا يعد شيئًا مقارنة بالنظر عبر شقوق العالم، بعد أن قطع كل ذلك الطريق وقال ما قال، ثم ماذا يرى؟ لا شيء. أخذت أصيح في داخلي للقس: تحدث عن هذا الأمر! أرجوك فلتتحدث عن هذا الأمر، اطرح تلك النظرية صراحة، ثم فنِّدها.
ولكننا نفعل ما بوسعنا فعله، ولم يستطع القس القيام بما هو أكثر من ذلك.
قابلت السيدة شيريف في الطريق بعد مرور بضعة أيام، وكنت وحدي تلك المرة.
«إنني أعرفك. ماذا تفعلين طوال الوقت في الكنيسة الأنجليكانية؟ ظننت أنك تتبعين الكنيسة المتحدة.»
•••
عندما ذاب معظم الجليد وانحسر النهر، كنا نذهب أنا وأوين إلى طريق فلاتس إلى المزرعة كل على حدة في أيام السبت. وأصبح المنزل الذي كان يسكنه العم بيني طوال الشتاء ويسكنه أبي معظم الوقت — فيما عدا عطلات نهاية الأسبوع التي كان يقضيها معنا — أصبح قذرًا حتى إنه لم يعد منزلًا على الإطلاق، بل أصبح امتدادًا للطريق في الخارج لكنه مسقوف. وضاعت رسمة مشمع المطبخ وشكلت الأوساخ التي تراكمت عليه رسمة أخرى. قال لي العم بيني: «والآن ها هي فتاة التنظيف، ما نحتاجه بالضبط.» ولكنني لم أعتقد ذلك. كان المكان بأسره تفوح منه رائحة الثعالب، ولن توقد نار في الموقد حتى المساء وظل الباب مفتوحًا. وبالخارج كانت الغربان تنعق فوق الحقول الموحلة، والنهر مرتفع يميل إلى اللون الفضي، وشكل الأفق هو بالضبط كما نتذكره ثم ننساه ثم نتذكره مرة أخرى، وكأنه سحر. كانت الثعالب تعوي في عصبية؛ لأنه كان ذلك الوقت من العام الذي تضع فيه الإناث صغارها، ولم أكن أنا وأوين مسموحًا لنا بالذهاب عند الحظائر.
كان أوين يتأرجح على الحبل المعلق أسفل شجرة الدردار حيث كانت أرجوحتنا في العام الماضي.
«ميجور قتل أحد الخراف!»
كان ميجور كلبنا، ولكنه الآن أصبح يُعد كلب أوين رغم أنه لا يولي أوين أي اهتمام خاص، ولكن أوين كان يوليه اهتمامًا خاصًّا. كان كلبًا بنيًّا ذهبيًّا كبيرًا هجينًا من فصيلة كولي، وقد كان شديد الكسل الصيف الماضي حتى إنه لم يطارد السيارات، ولكنه كان يغفو في الظل، وسواء أكان مستيقظًا أم نائمًا كان يبدو عليه وقار متمهل كأعضاء مجلس الشيوخ، والآن أصبح يطارد الخراف، لقد تعلَّم الإجرام في كبره كما قد يتعلم أحد أعضاء مجلس الشيوخ القدامى المتفاخرين الحريصين طوال حياتهم السابقة ارتكابَ الرذائل علنًا في كبره. عدت أنا وأوين كي نُلقي نظرة عليه، وظل أوين يخبرني في الطريق أن الخروف كان ملك آل بوتر الذين كانت أرضهم تجاور أرضنا، وأن أبناء آل بوتر قد رأوا ميجور من شاحنتهم، فتوقفوا وقفزوا من فوق السور وهم يصرخون، ولكن ميجور كان قد فصل هذا الخروف عن الآخرين وظل يتتبعه حتى قتله.
«قتله»، تخيلته غارقًا في الدماء ممزقًا. لم يصطد ميجور أو يقتل أي شيء في حياته من قبل، فتساءلت بحيرة واشمئزاز: «هل أراد أن يأكل؟» واضطر أوين لأن يوضح لي أن عملية القتل كانت حادثة عارضة نوعًا ما؛ فيبدو أن الخراف يمكن أن تموت من الركض، أو تموت من الخوف، فهي كائنات ضعيفة بدينة مذعورة، وربما يكون ميجور قد قفز على ذلك الخروف وأصابه بالذعر من باب الحفاظ على شكله ليس أكثر — رغم أن ميجور قد أخذ تذكارًا ملء فمه من الصوف الدافئ — ثم كان عليه أن ينطلق عائدًا بسرعة البرق إلى المنزل (هذا إذا كان بإمكانه أن يندفع بسرعة البرق) لأن آل بوتر كانوا قادمين.
قُيد ميجور في الحظيرة وتُرك الباب مفتوحًا كي يمنحه بعض الضوء والهواء، وقفز أوين منفرج الساقين على ظهره كي يوقظه — وكان ميجور يستيقظ دائمًا بسرعة وجدية بلا أي ضوضاء، حتى إنه كان يصعب علينا التأكد مما إذا كان نائمًا بالفعل أم أنه يتظاهر بذلك — وأخذ يتقلَّب معه على الأرض محاولًا أن يحثه على اللعب معه. قال أوين وهو يلكزه متفاخرًا: «يا قاتل الخراف العجوز، يا قاتل الخراف العجوز.» وتحمل ميجور ذلك، ولكنه لم يكن مازحًا أكثر من المعتاد، ولم يبدُ أنه قد استعاد شبابه بأي طريقة، إلا بتلك الطريقة التي أصابتنا بالصدمة، فلعق ميجور أعلى رأس أوين بطريقة متعالية، وعاد للنوم مرة أخرى بعد أن تركه أوين.
«يجب أن يقيد حتى لا يطارد الخراف مرة أخرى، قاتل الخراف العجوز هذا. ويقول آل بوتر إنهم سوف يطلقون عليه الرصاص إذا أمسكوا به مرة أخرى.»
كان ذلك حقيقيًّا. كان ميجور بالفعل محطَّ الأنظار، وأتى أبي وعمي بيني كي يلقوا عليه نظرة في كبريائه وبراءته المصطنعة وهو يرقد على أرض الحظيرة، ورأى العم بيني أن مصير ميجور الهلاك، فمن وجهة نظره لا أمل في أن ينجح كلب اكتسب عادة مطاردة الخراف في التغلب على تلك العادة. قال العم بيني وهو يداعب رأس ميجور: «عندما يكتسب هذا الميل ويذوق طعم هذه التجربة، فإنه يستمر هكذا للأبد، لا يمكنكم أن تدعوا قاتل الخراف يعيش.»
فصحت قائلة: «أتعني أن نطلق عليه الرصاص؟» ولم تكن تلك الصيحة مدفوعة في الواقع بحبي لميجور، ولكن لأنها بدت نهاية قاسية لما اعتبره الجميع قصة فكاهية، بدا الأمر كاقتياد عضو مجلس الشيوخ ذي الشعر الأبيض إلى الإعدام في ميدان عام عقابًا على مقالبه المحرجة.
«لا يمكن الاحتفاظ بقاتل خراف، فسوف يتسبب في إفلاسكم بسبب سداد ثمن كل الخراف التي قتلها، وعلى أية حال فسوف يقوم غيركم بذلك ما لم تفعلوه أنتم.»
فقال أبي — بعد أن رجوناه — إنه ربما لا يعاود ميجور مطاردة الخراف، كما أنه مقيد على أية حال، وقد يبقى مقيدًا طوال حياته إذا لزم الأمر، أو على الأقل حتى يجتاز مرحلة طفولته الثانية ويصبح أضعف من أن يطارد أي شيء، وهي المرحلة التي لا تبدو بعيدة الآن.
ولكن أبي كان مخطئًا، أما العم بيني بتشاؤمه العابس وتوقعاته الكئيبة، فكان على صواب؛ فقد هرب ميجور من الأسر في الصباح الباكر، وكان باب الحظيرة مغلقًا، ولكنه مزق جزءًا من شبكة الأسلاك التي تغطي نافذة ليس بها زجاج وقفز خارجًا منها، ثم انطلق إلى منزل آل بوتر كي يأخذ حظه من المتعة التي اكتشفها مؤخرًا، وعاد للمنزل بحلول موعد الإفطار، غير أن الحبل الممزق والنافذة التي قُطعت أسلاكها والخروف الميت في مرعى آل بوتر؛ كل ذلك روى القصة التي لم يرها أحد.
في ذلك الوقت، كنا نتناول الإفطار بعد أن قضى أبي الليلة في المدينة، فاتصل به العم بيني بالهاتف وأخبره بالأمر، وعندما عاد أبي إلى المائدة قال: «أوين، علينا أن نتخلص من ميجور.»
أخذ أوين يرتجف ولكنه لم يتفوَّه بكلمة، وفي كلمات قليلة أخبَرَنا أبي بأمر الهروب والخروف الميت.
فقالت أمي بتعاطف كاذب: «إنه كلب عجوز وقد حظي بحياة طيبة، ومن يدري ماذا قد يحدث له الآن على أية حال، مع أمراض الشيخوخة ومتاعبها؟»
فقال أوين واهنًا: «يمكنه أن يأتي ليقيم معنا، وهنا لن يعرف مكان الخراف.»
«كلب كهذا لا يمكنه العيش في المدينة، ولا ضمانات لأن لا يعاود الكرة مرة أخرى.»
فقالت أمي موبخة: «فكر فيه وهو مقيد في المدينة يا أوين.»
فنهض أوين وغادر المائدة دون أن يتفوه بكلمة أخرى، ولم تناده أمي مرة أخرى كي تجعله يستأذن قبل الانصراف.
كنت معتادة على أمر القتل هذا؛ فالعم بيني كان يذهب لصيد فئران المسك وإيقاعها في الشراك، وكل خريف كان أبي يقتل الثعالب ويبيع فراءها للمعيشة، وخلال العام كان يقتل الجياد الكبيرة السن المعاقة أو تلك العديمة الفائدة كي يطعمها للثعالب. كنت قد رأيت حلمين سيئين بشأن ذلك منذ فترة وما زلت أذكرهما. حلمت ذات مرة بأنني ذهبت إلى المجزر الخاص بأبي، وهو كوخ مستتر خلف الحظيرة يحتفظ فيه في الصيف بأجزاء من الجياد المذبوحة والمسلوخة معلقة على خطاطيف. وكان هذا المكان يقع في ظل شجرة تفاح بري، وكانت الستائر مغطاة باللون الأسود من كثرة الذباب. حلمت بأنني نظرت للداخل ووجدت — وهو ما لم يكن مفاجأة — أن ما كان يعلقه أبي هناك أجساد بشرية مسلوخة ومقطعة. أما الحلم الآخر فكان مستوحى من التاريخ الإنجليزي الذي كنت أقرأ عنه في الموسوعة. حلمت بأن أبي قد وضع كتلة خشب عادية متواضعة على الحشائش التي تقع خارج باب المطبخ، وأوقفنا في صف واحد أنا وأوين وأمي كي يقطع رءوسنا، وقال: «إنه لن يؤلم.» كما لو كان ذلك هو كل ما نخشاه! واستطرد: «سوف ينتهي الأمر في دقيقة.» كان أبي طيبًا هادئًا عاقلًا يجيد الإقناع، وأخذ يوضح لي أن كل ذلك لصالحنا جميعًا. ظلت أفكار الهروب تتصارع في ذهني كذباب وقع في الزيت وأجنحته مفرودة عاجزة عن فعل أي شيء. شعرت بأني فقدت القدرة على الحركة أمام تلك العقلانية، فالترتيبات بسيطة ومألوفة ومسلم بها، إنه الوجه الآخر المُطَمْئِن للجنون.
أثناء النهار، لم أكن أشعر بالخوف كما يوحي هذان الحلمان، ولم يزعجني قط المرور بالمجزر أو سماع صوت إطلاق الرصاص من البندقية. ولكنني عندما فكرت في إطلاق الرصاص على ميجور، عندما تصورت أبي وهو يلقم البندقية على مهل بطريقته المعتادة كما يفعل دائمًا وينادي ميجور الذي لن يشك في أي شيء؛ إذ إنه معتاد على رؤية الرجال ببنادقهم، ويسيران بعيدًا عن الحظيرة بينما يبحث أبي عن بقعة جيدة، رأيت مرة أخرى ملامح ذلك الوجه العقلاني التجديفي. كان ذلك التعمد هو ما فكرت فيه طويلًا؛ الاختيار المتعمد لإطلاق رصاصة على المخ كي توقف أجهزة الجسم عن العمل، ففي ذلك الاختيار والتصرف — مهما كان ضروريًّا وعاقلًا — كانت الموافقة على أي شيء. أصبح الموت محتملًا، لا لأننا لا نستطيع منعه ولكن لأنه هو الشيء المرغوب، الشيء الذي «يريده» كل هؤلاء الكبار والمديرين والجلادين ذوي الوجوه الطيبة لكنها لا تعرف الصفح.
وهل أردته أنا؟ لم أكن أريده أن يحدث، لم أكن أرغب في أن يُردى ميجور قتيلًا برصاصة، ولكن كانت تجتاحني مشاعر انفعال متوتر وندم. هل كان مشهد الإعدام الذي تخيلته، والذي أعطاني تلك اللمحة من الظلام، بغيضًا إلى هذا الحد؟ كلا، فقد فكرت مليًّا في ثقة ميجور بأبي وعاطفته تجاهه — فقد كان يحب أبي حقًّا بطريقته الهادئة بالقدر الذي يمكنه أن يحب به أي شخص — وعينيه المرحتين ذاتي القدرة الضعيفة على الرؤية. ثم صعدت إلى الطابق العلوي كي أرى كيف يتقبل أوين الأمر.
كان أوين يجلس على أرض الغرفة يلهو ببعض الكور الصغيرة المطاطية، ولم يكن يبكي. كان لديَّ آمال غامضة في إقناعه بإحداث بعض المشاكل، لا لأنني أعتقد أن هذا الأمر سيُجدي، ولكن لأنني شعرت أن الموقف بحاجة لذلك.
سألني أوين بصوت فيه إلحاح: «لو أنك دعوت لميجور ألا يطلق عليه الرصاص، فهل سينجو؟»
لم تخطر ببالي فكرة الدعاء قط.
«لقد دعوت ألا تضطري لوضع الخيط في ماكينة الخياطة واستجيب دعاؤك.»
فرأيت بفزع الصدام الحتمي قادمًا؛ الصدام بين الدين والحياة.
نهض أوين من مكانه ووقف أمامي وقال متوترًا: «ادعي. كيف تقومين بذلك؟ ابدئي الآن!»
فقلت: «لا يمكنك الدعاء بشيء كهذا.»
«ولم لا؟»
لم لا؟ كان بوسعي أن أقول له إننا لا ندعو أن تحدث أشياء بعينها أو لا تحدث، بل كي نحصل على القوة والصبر كي نتحمل ما يحدث بالفعل. وهو مخرج جيد تفوح منه رائحة الهزيمة على نحو مخزٍ، ولكنني لم أفكر في ذلك، بل خطر لي — وكنت أدرك — أن الدعاء لن يمنع أبي من الخروج وإحضار بندقيته والنداء على ميجور كي يقتله، لن يغير الدعاء شيئًا من ذلك.
لن يغير الرب هذا، فإذا كان الرب إلى جانب الخير والرحمة والشفقة، فلم جعل تلك الأشياء صعبة المنال بهذا الشكل؟ دعك من القول بأن ذلك يجعلها «تستحق العناء»، دعك من هذا الهراء. فالدعاء بألا تتم عملية إعدام غير ذي جدوى؛ وذلك لأن الرب ليس مهتمًّا بتلك الاعتراضات، لم تكن تخصُّه.
«أيمكن أن يكون ثمة إله لا تحتويه شبكة الكنائس على الإطلاق، وألا يكون التعامل معه عن طريق الأحجبة والصلبان؟ إله حقيقي موجود في العالم بالفعل، إله غريب وغير مقبول كالموت؟ أيمكن أن يكون ثمة إله مذهل ولا مبالٍ أبعد من نطاق الإيمان؟»
قال أوين بإصرار: «كيف تقومين بذلك؟ هل عليك أن تنحني على ركبتيك؟»
«لا يهم.»
ولكنه كان قد انحنى بالفعل وأطبق يديه بقوة في جانبيه، ودون أن يحني رأسه بذل جهدًا شديدًا وهو يطبق ملامح وجهه في محاولة للخشوع.
فقلت بحدة: «انهض يا أوين! لن يفيد ذلك، لن يفلح الأمر، لن يفلح. انهض يا أوين وكن ولدًا مطيعًا يا عزيزي.»
فلوح إليَّ بقبضتيه المضمومتين وكأنه سيضربني، دون حتى أن يفتح عينيه. وبينما كان يدعو، مرَّ وجهه بمراحل عديدة مستميتة؛ من التقطيب، ولَيِّ قسمات الوجه التي بدا لي كل منها تعبيرًا ازدرائيًّا، ووضعًا يصعب النظر إليه كالجلد المسلوخ، فرؤية شخص لديه إيمان عن قرب ليست أيسر من رؤية شخص يقطع إصبعه.
هل مر المبشرون قط بمثل هذه اللحظات؛ لحظات الدهشة والخزي؟