الخاتمة: المصور
«هذه المدينة تعج بحالات الانتحار.» كانت هذه إحدى العبارات التي ترددها أمي كثيرًا، ولفترة طويلة كنت أحمل هذه العبارة الغامضة الجازمة في عقلي أينما ذهبت وأُومن بصحتها، أومن أن حالات الانتحار في جوبيلي أعلى من غيرها من الأماكن الأخرى كما أن بورترفيلد بها الكثير من الشجارات والسكيرين، وأن حالات الانتحار هذه ميزت المدينة مثل قبة دار البلدية. لكن فيما بعد، تغيَّر سلوكي تجاه كل ما قالته أمي، وأصبحت نظرتي له نظرة متشككة ومنكرة، بل وجادلتها في الواقع أنه لا توجد سوى حالات انتحار محدودة في جوبيلي، وأن عددها لا يتجاوز المعدلات العادية، وكنت أتحداها أن تسمي لي هذه الحالات. فكانت هي تحصيها بشكل منهجي بذكر كل الحالات التي حدثت في كل شارع على حدة في عقلها قائلة: «… ذلك الذي شنق نفسه عندما كانت زوجته وأولاده في الكنيسة … وذاك الذي خرج من غرفته بعد الإفطار وأطلق الرصاص على رأسه …» لكن لم تكن هناك في الواقع حالات كثيرة، وكنت أنا أقرب للحقيقة منها على الأرجح.
وكان ثمة حالتا انتحار غرقًا، إذا ما عددنا حالة الآنسة فاريس معلمتي القديمة. أما الحالة الثانية فقد كانت حالة ماريون شيريف، والتي كانت أمي — وغيرها — تقول عن عائلتها بنبرة لا تخلو من الكبر: «هذه العائلة قد نالت نصيبها من المآسي!» فقد مات أحد أخويها من الإفراط في احتساء الكحوليات، والأخ الآخر يعيش في المصحة في تابرتون، وماريون «سارت حتى غرقت في نهر واواناش». كانوا دائمًا يقولون عنها إنها «سارت» حتى غرقت، بينما في حالة الآنسة فاريس يقولون إنها «ألقت بنفسها» في النهر. ونظرًا لأنه لم يَرَ أحد ما فعلته هذه أو تلك، فالأرجح أن اختلاف الصياغة هذا يرجع لاختلاف شخصيتي المرأتين؛ فالآنسة فاريس كانت مندفعة ودرامية في كل ما تفعله، أما ماريون شيريف فكانت متأنية وتفكر مليًّا قبل اتخاذ قراراتها.
أو على الأقل هكذا كانت تبدو في صورتها التي كانت معلقة في قاعة المدرسة الثانوية الرئيسية، فوق الصندوق الذي يحوي الكأس الرياضية للفتيات التي أحرزتها ماريون إيه شيريف، وهي عبارة عن كأس فضية تُمنح كل عام لأفضل فتاة رياضية في المدرسة، ثم يحفر اسمها عليها وتعاد الكأس إلى مكانها مرة أخرى. في تلك الصورة، كانت ماريون شيريف تحمل مضرب تنس وترتدي تنورة بيضاء ذات ثنيات وسترة بيضاء بها خطان أسودان حول الياقة التي على شكل رقم ٧. وكانت تفرق شعرها عند المنتصف وتثبته بالدبابيس عند صدغيها بشكل غريب، وكانت ممتلئة الجسد ذات وجه متجهم غير مبتسم.
كانت فيرن دوجرتي تقول: «إنها حامل، هذا مؤكد.» وكانت ناعومي كذلك تقول هذا، الجميع فيما عدا أمي.
«لم يثبت هذا أبدًا، لماذا تلوثون سمعتها؟»
فتجيبها فيرن بتأكيد: «أحدهم ورطها في هذه المشكلة ثم تخلَّى عنها، وإلا فلماذا ستغرق نفسها وهي في السابعة عشرة من عمرها؟»
أتى عليَّ وقت لم تكن فيه كل الكتب الموجودة بمكتبة دار البلدية تكفيني، فوجدت أني بحاجة لأن أؤلف كتبًا خاصة بي، ورأيت أن أفضل ما أفعله في حياتي هو أن أكتب رواية. اخترت عائلة شيريف لأكتب عنها روايتي، لأكتب ما حدث لهم؛ فأعزلهم وأحصرهم في الخيال. غيرت اسم العائلة من شيريف إلى هالوواي، وغيرت مهنة الأب من صاحب متجر إلى قاضٍ؛ إذ كنت أعرف من خلال قراءاتي أنه في عائلات القضاة — كما في عائلات كبار ملاك الأراضي — يعد الانحلال والجنون من الأمور المتوقعة، أما الأم فيمكنني أن أبقيها كما هي كما اعتدت رؤيتها في الأيام التي كنت أذهب فيها إلى الكنيسة الأنجليكانية؛ حيث كانت تتواجد دائمًا بهيئتها النحيلة المسيطرة وهي تنخرط في الصلاة بصوت مرتفع مهيب. ونقلتهم من البيت الذي يعيشون به — ذاك البيت الصغير الذي يماثل لونه لون الخردل وهو مزخرف بالجص، والذي يقع خلف مبنى جريدة «هيرالد أدفانس»، الذي عاشوا فيه طوال حياتهم، وحتى الآن تعيش فيه السيدة شيريف وتحافظ على حشائش الحديقة مقلمة وأحواض الزهور نظيفة — إلى بيت من تصميمي؛ بيت مرتفع مبني من الطوب، وله نوافذ طويلة ضيقة ومدخل للعربات، ويحيط به الكثير من الشجيرات المقلمة بعناية على أشكال ديوك وكلاب وثعالب.
لم يعرف أي أحد بشأن هذه الرواية، ولم تكن هناك حاجة لأن أخبر أي أحد بها. كتبت شذرات قليلة من الرواية وحفظتها في مكان بعيد، لكن سرعان ما اكتشفت أن محاولة كتابة أي شيء ما هي إلا خطأ، فما أكتبه قد يفسد جمال الرواية وتكاملها في ذهني.
كنت أحملها — فكرة الرواية — معي في كل مكان أذهب إليه، كما لو كانت واحدة من تلك الصناديق السحرية التي تتمسك بها إحدى شخصيات الحكايات الخيالية، والتي ما إن يلمسها تتلاشى كل مشاكله. حملتها معي عندما كنت أتمشى مع جيري ستوري بجانب شريط القطار ويقول لي إنه يومًا ما — إذا استمر العالم دون أن يفنى — سوف يمكن تحفيز المواليد الجدد بموجات من الكهرباء؛ فيصبحون قادرين على تأليف مقطوعات موسيقية مثل مقطوعات بيتهوفن وفيردي، أو أيٍّ ما يريدون، وأخذ يشرح لي كيف يمكن أن يتم دمج ما يريده الناس من مواهب وذكاء وتفضيلات ورغبات بداخل عقولهم، بالكميات المناسبة، لم لا؟
سألته: «كما في رواية «عالم جديد جميل»؟» فأجاب: وما هذه؟
ولما أخبرته قال ببساطة: «لا أدري فأنا لا أقرأ الروايات الخيالية أبدًا.»
احتفظت بفكرة الرواية، وأحسست بشعور أفضل؛ لأن هذا جعل ما يقول غير مهم، حتى لو كان حقيقيًّا. أخذ جيري يغني أغاني عاطفية بلكنة ألمانية ويحاول تقليد مشية الإوزة على طول شريط القطار حتى سقط كما توقعت.
«صدقيني إذا كانت كل هذه الخيالات السخيفة الصغيرة …»
تخلَّصت من الأخ الأكبر السكير في روايتي؛ فثلاث مصائر مأساوية أمر مبالغ فيه حتى بالنسبة لرواية، وبالتأكيد كان أكثر مما يمكنني أن أتعامل معه. أما الأخ الأصغر منه فقد صورته مهذبًا محبًّا يحمل براءة مبالغًا فيها في مظهره: وجهه ذو نمش وردي وجسده ضعيف يميل إلى السمنة، وكان الأولاد الآخرون يتنمَّرون عليه في المدرسة وغير قادر على تعلم الحساب أو الجغرافيا، ولا يشعر بالسعادة أبدًا سوى مرة واحدة في العام حين يسمح له بركوب الأرجوحة الدوَّارة في مهرجان كنزمن، حينها كانت ترتسم على وجهه ابتسامة تنم عن ابتهاج كبير. (استلهمت هذه الشخصية بالطبع من فرانكي هال، ذاك الأحمق المسن الذي كان يعيش في طريق فلاتس، والذي كان قد مات آنذاك، وكان دائمًا يركب هذه اللعبة طوال اليوم مجانًا، وكان يلوح للناس بغطرسة ملكية على الرغم من أنه لم يهتمَّ بأي أحد من قبل.) كان الأولاد يسخرون منه بسبب أخته … «كارولين!» نعم اخترت اسم كارولين، وقد برزت فجأة صورة هذه الشخصية في ذهني، شخصية ساخرة كتومة لتطغى تمامًا على شخصية ماريون لاعبة التنس القصيرة البدينة. هل كانت قميئة؟ هل كانت تعاني الشبق الجنسي؟ كلا، ليس الأمر بهذه البساطة!
كانت متقلبة المزاج وخفيفة كورقة شجر، وكانت تسير في طرقات جوبيلي كما لو كانت تحاول أن تخترق جدارًا غير مرئي. كان شعرها طويلًا أسود اللون، وكانت تغدق المنح الجنسية على الرجال على حسب أهوائها، ليس للرجال ذوي الوسامة الذين يظنون أنها من حقهم، ولا لأبطال المدارس الثانوية المتجهِّمين الرياضيين الذين يجري في دمائهم الحارة حب الانتصار، وإنما على الأزواج في منتصف العمر الضجرين من حياتهم، والباعة المتجوِّلين الفاشلين الذي يمرون بالمدينة، بل وحتى على بعض المشوهين والمختلِّين بعض الشيء. لكن كرمها هذا كان يسخر منهم، «وجسدها الذي يجمع بين الحلاوة والمرارة بلونه المشابه للون اللوز المقشر» كان يدمر الرجال بسرعة ويترك طعم الموت. لقد كانت قربانًا، يمددون جسدها للجنس على شواهد القبور العتيقة غير المريحة، ويدفعونها بقوة قبالة جزوع الأشجار القاسية، وجسدها الواهن ينسحِق في الطين وروث الحظائر، ويعاني تحت الثقل القاتل لأجساد الرجال، لكن رغم ذلك كانت هي — وليس هم — من ينجو ويبقى على قيد الحياة.
ذات يوم جاء رجل إلى المدرسة الثانوية ليلتقط الصور، في البداية رأته مغطًّى بقماش المصورين الأسود، لم يبدُ منه سوى ظهر محدودب مغطى بقماش مهترئ أسود ورمادي ظاهر خلف الحامل ثلاثي القوائم، ورأت عدسة الكاميرا الكبيرة والطيات السوداء التي تشبه انثناءات آلة الأكورديون التي تميِّز الكاميرات القديمة. لكن كيف بدا عندما أخرج رأسه من وراء الكاميرا؟ شعره أسود مفروق من المنتصف ومصفَّف إلى الخلف، وتملأ قشرة الشعر قسمي الشعر، وله صدر وكتفان نحيلان، وبشرة شاحبة متقشِّرة، ولكن رغم مظهره المهلهل واعتلال بدنه كانت تشع منه طاقة شريرة، وكان ذا ابتسامة فاقعة لا تعرف الرحمة.
لم يكن له اسم في الرواية، وإنما كان يُطلق عليه «المصور»، وكان يتنقَّل في أرجاء المدينة بسيارة مربعة مرتفعة ذات سقف قمته من القماش الأسود يخفق عندما تتحرك السيارة. لكن الصور التي كان يلتقطها كانت غير عادية، بل إنها كانت مرعبة، فكان الناس يرون أنفسهم في هذه الصور وقد شاخوا عشرين أو ثلاثين سنة، وكان من هم في منتصف العمر يرون في ملامحهم تشابهًا مروعًا متزايدًا ومحتومًا بذويهم الموتى، والفتيات والفتيان الشباب رأوا كم ستصير وجوههم نحيلة أو معتمة أو حمقاء عندما يبلغون سن الخمسين. وبدت العرائس في تلك الصور حوامل، وبدا الأطفال كما لو أنهم يعانون من زوائد أنفية، ولهذا لم يكن مصورًا يلقى إقبالًا رغم رخص سعره. لكن برغم هذا لم يرفض أحد خدماته لأنهم كانوا يخشونه؛ فكان الأطفال يتوارون في الحفر عندما تمر سيارته بالطريق. أما كارولين فقد كانت تلاحقه، وكانت تجول في الطرقات تحت القيظ تفتش عنه، انتظرته وتربصت به ثم عرضت عليه نفسها دون أن تظهر الاحتقار الدفين والاستعداد غير المكترث الذي كانت تتعامل به مع الرجال الآخرين، وإنما بلهفة وتوق وأمل وبكاء. وذات يوم (حين شعرت أن رحمها متورم «مثل ثمرة يقطين صفراء صلبة في بطنها») وجدت سيارته مقلوبة بجانب الجسر، مقلوبة في خندق بجانب جدول مياه جافٍّ. كانت السيارة خالية، لقد اختفى، وفي تلك الليلة مشت هي حتى غرقت في نهر واواناش.
هذه هي كل القصة التي كتبتها. فيما عدا أنه بعدما ماتت، رأى شقيقها المسكين حين نظر إلى الصورة التي التقطها المصور لصف أخته في المدرسة الثانوية وجد أن عيني «كارولين كانتا بيضاوين».
لم أنتهِ من التفكير في جميع المعاني الممكنة لهذا الأمر، لكنها بدت متنوعة وقوية.
في هذه الرواية غيرت جوبيلي كذلك، أو انتقيت منها بعض الملامح وتجاهلت ملامح أخرى. في الرواية، أصبحت مدينة أقدم وأكثر إظلامًا وأكثر انحطاطًا، مليئة بالأسوار العالية غير المطلية المغطاة بملصقات دعائية ممزَّقة لرحلات بالسفن، أو لمهرجانات الخريف، أو الانتخابات التي جرت وانتهت منذ زمن طويل. كان قاطنوها إما نحيلين مثل كارولين أو بدناء كالفقاقيع، وكان كلامهم ناعمًا مراوغًا وأحمق بشكل غريب، وتفاهاتهم مجنونة. وكان الوقت الذي تجري فيه أحداث الرواية هو منتصف الصيف؛ حيث الحرارة الحارقة والكلاب الراقدة على الأرصفة وكأنها جثث هامدة، وموجات الريح — التي ترتعش مثل الجيلي — تضرب الطريق السريع الخاوي. لكن كيف إذن سيكون هناك ما يكفي من ماء في نهر واواناش لإغراقها؟ فمن حين لآخر كانت تبرز حقائق صغيرة مهملة لتثير قلقي؛ فبدلًا من أن تمشي كارولين حانية رأسها عارية تحت ضوء القمر مذعنة نحو عمق النهر، سيكون عليها أن تستلقي ورأسها للأسفل كما لو كانت تغرق نفسها في حوض الاستحمام.
تخيلت جميع الصور، وقد كانت لديَّ فكرة غير واضحة عن أسباب ما يحدث، لكن لم أكن قادرة على تفسير هذه الأسباب، وتوقَّعت أن يتضح كل هذا لي لاحقًا. المهم هو أن تلك الأحداث بدت لي حقيقية، ليست واقعية وإنما حقيقية، كما لو أنني اكتشفت هذه القصة وهذه الشخصيات، ولم أختلقهم، وكما لو أن تلك المدينة موجودة خلف هذه المدينة التي أمشي في طرقاتها كل يوم.
لم أولِ آل شيريف الحقيقيين أيَّ اهتمام بمجرد أن حولتهم إلى شخصيات أخرى لأغراض روايتي. عاد بوبي شيريف — الابن الذي كان في المصحة — إلى بيته لفترة ما — وهو ما بدا أنه قد حدث من قبل — وشاهده الناس يتمشَّى في شوارع جوبيلي ويتحدث مع الآخرين. كنت قريبة منه بما يكفي لأن أسمع صوته الناعم المهذب المتأني، ولاحظت أنه كان دومًا يبدو مشذب الشعر معطر الجسد، ويرتدي ثيابًا فاخرة، وكان قصيرًا بدينًا ويمشي بمرح وابتهاج يميز أولئك الذين لا يجدون ما يفعلون. لم أستطع أن أربط بينه وبين شخصية الأخ المجنون الذي ابتكرته في عائلة هالوواي.
كنت أنا وجيري ستوري عندما نعود من نزهاتنا سيرًا على الأقدام نرى جوبيلي بوضوح، فنراها — بعد أن سقطت الأوراق عن الشجر — ممتدة أمام أعيننا بنمط غير معقد من الشوارع التي كانت تحمل أسماء معارك وسيدات وملوك وشخصيات رائدة. وذات مرة بينما كنا نمشي فوق الجسر مرت تحتنا سيارة مليئة بأناس من مدرستنا، وكانوا يطلقون نفير السيارات نحونا، راودتني رؤية — كما لو كنت أرى نفسي من الخارج — حول مدى غرابة هذه الأمور: فكان جيري يفكر في مستقبل يشهد هلاك جوبيلي والحياة فيها ويرحب به، وأنا أخطط سرًّا لتحويل جوبيلي إلى حكاية مأساوية وأدمجها في روايتي، بينما سكان المدينة — الناس الذين يمثلون المدينة في الواقع — كانوا يطلقون نفير سياراتهم — في سخرية لأي شخص يسير ولا يركب في عصر أيام الآحاد — دون أن يعرفوا الخطر الذي يحدق بهم بسببنا.
•••
كل صباح بداية من منتصف شهر يوليو — وقد كان هذا آخر صيف أقضيه في جوبيلي — اتخذت عادة؛ وهي أن أتمشَّى في وسط المدينة بين الساعة التاسعة والعاشرة. كنت أمشي حتى مبنى جريدة «هيرالد أدفانس»، ثم أتطلَّع إلى نافذته الأمامية ثم أعود أدراجي. كنت أنتظر نتائج الاختبار الذي تقدمت إليه في شهر يونيو. كانت النتائج ستأتينا عبر البريد، لكنها كانت تأتي إلى الجريدة قبلها بيوم، وكانت تُلصق على النافذة الأمامية، وإذا لم تأتِ في البريد الصباحي فلن تأتي طوال اليوم. كل صباح عندما كنت أجد أنه لا يوجد شيء معلق على الواجهة — لا أجد سوى ثمرة البطاطس التي تشبه حمامة، والتي وجدها بورك تشايلدز في حديقته، والتي كانت مستقرة على حافة النافذة تنتظر ثمار القرع المزدوج والجزر المشوه واليقطين الضخم الذي سينضم إليها لاحقًا ولا شك — كنت أشعر وكأن حُكمًا ما قد تأجَّل، فيمكنني الشعور بالارتياح ليوم آخر، فأنا أعلم أن أدائي في الاختبارات لم يكن على خير ما يرام. لقد دمَّرني الحب، ولم يكن من المحتمل أن أنال المنحة الدراسية التي ظللت أعوِّل عليها لسنين عدة — أنا وجميع من حولي — كي تحملني إلى خارج جوبيلي.
ذات صباح بعد أن قمت برحلتي اليومية إلى جريدة «هيرالد أدفانس»، مررت من أمام منزل آل شيريف بدلًا من العودة عن طريق الشارع الرئيسي، ففوجئت ببوبي شيريف واقفًا عند بوابة المنزل وقال: «صباح الخير.»
«صباح الخير.»
«هل لي أن أقنعك بأن تدخلي إلى فنائي وتتناولي قطعة من الكعك؟ هذا ما قاله العنكبوت للذبابة، أليس كذلك؟» كان أسلوبه المهذب يتَّسم بالتواضع وأيضًا — في رأيي — بالسخرية. استأنف حديثه قائلًا: «ذهبت أمي إلى تورونتو مستقلَّة قطار الساعة السادسة، ففكرت بما أنني مستيقظ على أية حال، فلماذا لا أجرب أن أخبز كعكة؟»
أمسك الباب فاتحًا إياه، ولم أدرِ كيف أتملَّص من هذه الدعوة، فتبعته مرتقية درجات السلم.
«الجو لطيف وبارد في الشرفة، يمكنك أن تجلسي هناك، هل تريدين كأسًا من عصير الليمون؟ فأنا خبير في إعداد عصير الليمون.»
وهكذا جلست في شرفة منزل آل شيريف وأنا أتمنى ألا يمر أحد من هنا ويراني، أحضر لي بوبي شيريف قطعة من الكعك على طبق صغير مع شوكة مناسبة للكعك ومنديل مائدة مطرز. ثم دخل مرة أخرى ليعود بكأس عصير ليمون بها مكعبات ثلج وأوراق النعناع وكرز ماراشينو، واعتذر لأنه لم يحضر الكعكة وعصير الليمون معًا على صينية، وقال إن الصواني في خزانة الأواني تحت كومة من الأطباق؛ ومن ثم تعسر عليه إخراج واحدة، وإنه فضل أن يقضي الوقت معي على أن يضيعه جاثيًا على ركبتيه يعبث في خزانة الأواني المظلمة، ثم اعتذر عن عدم جودة الكعكة قائلًا إنه ليس خبَّازًا ماهرًا، كل ما في الأمر أنه يحب أن يجرب وصفة جديدة بين الحين والآخر، وشعر أنه لم يكن يجدر به أن يقدم لي الكعك دون أن يكون مغطًّى بالكريمة، لكنه لم يُتقِنْ قط فن صنع الكريمة، وكان يعتمد على أن تعدها والدته، لكن هذا ما حدث. ثم قال إنه يتمنى أن أكون قد أحببت أوراق النعناع في عصير الليمون، كما لو أن معظم الناس يدققون بشدة في هذا الأمر، وإنه لا يمكن قط أن نعرف ما إذا كان سيخطر ببالهم إخراج أوراق النعناع ورميها. كان يتصرف كما لو كان مجرد جلوسي في الشرفة وتناول الطعام والشراب هو عملًا في غاية اللباقة والتهذيب وصنيع معروف لم يكن يتوقعه.
كانت هناك سجادة طويلة رفيعة على أرضية الشرفة الخشبية العريضة المشققة والمطلية باللون الرمادي. كانت تبدو كسجادة تُفرش في البهو، لكنها كانت قديمة وبالية بحيث لم يكنْ من الممكن استعمالها داخل المنزل. وكنا نجلس على كرسيين من الخيزران البني عليهما وسائد باهتة اللون من الكريتون بها الكثير من الكتل وأمامنا طاولة من الخيزران كذلك. وعلى الطاولة كان ثمة ما يشبه الكوب الفخاري الصيني أو المزهرية التي ليس بها أزهار وإنما بها راية حمراء صغيرة والعلم البريطاني، كانت تلك واحدة من التذكارات التي كانت تباع أثناء زيارة الملك والملكة إلى كندا عام ١٩٣٩، وكانت وجوههم الملكية الشابة تشع نورًا رقيقًا، كما في اللوحة المعلقة أمام فصل الصف الثامن في المدرسة الحكومية. وكان وجود هذا الشيء على الطاولة لا يعني أن آل شيريف أناس وطنيون بصورة خاصة؛ فهذه التذكارات كانت تتواجد في كثير من بيوت جوبيلي. هذا هو كل شيء. وحقيقة أن كل شيء بالمكان كان عاديًّا وغير مميز أوقفت تدفق أفكار القصة في ذهني فجأة، وجعلتني أتذكر؛ فهذا هو بيت آل شيريف. استطعت من مكاني أن أرى جزءًا من الرواق عبر الباب السلكي، وكان مغطًّى بورق حائط يجمع بين اللونين البني والوردي. هذا هو مدخل البيت الذي سارت فيها ماريون في طريقها إلى المدرسة، وفي طريقها للعب التنس، وفي طريقها لنهر واواناش. لقد كانت ماريون هي كارولين؛ فهي كل ما لديَّ لأبدأ به روايتي: تصرفها وسريتها. لم أفكر في هذا حين دخلت إلى فناء منزل آل شيريف، أو عندما كنت أجلس في الشرفة منتظرة أن يأتيني بوبي بالكعك. لم أفكر في روايتي، بل إنني لم أعد أفكر فيها تقريبًا. لم أحدث نفسي قط بأنني فقدت فكرة الرواية، وإنما كنت أعتقد أنها محفوظة في مكان ما، مستعدة للخروج مجددًا في وقت ما في المستقبل، لكن الحقيقة هي أنها قد أصابها بعض الضرر الذي أيقنت أنه لا يمكن إصلاحه. لقد وقع الضرر وفقدت كارولين وباقي أفراد أسرة هالوواي وبلدتهم قوتها المُقنِعَة، وفقدت أنا إيماني. لكنني لم أرد أن أفكر في هذا، ولم أفكر فيه.
لكنني تذكرت في تلك اللحظة بدهشة كيف اختلقت هذه القصة، هذا الكيان الغامض الذي اتَّضح بعد ذلك أنه غير موثوق به، هذا الكيان القائم على هذا البيت وعلى أسرة آل شيريف وعلى حقائق قليلة ضعيفة وعلى كل الأمور التي لم ترو.
قال لي بوبي شيريف بخجل: «أنا أعرفك، ألم تظني أنني أعرفك؟ أنت الفتاة التي ستذهب إلى الجامعة بمنحة دراسية.»
«لم أحصل عليها بعد.»
«أنت فتاة ذكية.»
سألت نفسي ماذا حدث لماريون؟ ليس لكارولين، بل ماذا حدث لماريون؟ وماذا حدث لبوبي شيريف، عندما كان يضطر للتوقف عن خبز الكعك والعودة مرة أخرى إلى المصحة؟ مثل هذه الأسئلة تظل عالقة، بصرف النظر عن الروايات. إنها لصدمة حقًّا؛ صدمة أن تغير الواقع بقوة ودهاء ثم تعود إليه لتدرك أنه كما هو ولم يتغير. هل سيُظهر لي بوبي شيريف الآن أية علامة على الجنون؟ هل سيقول بصوته المهذب الودود: «إن نابليون هو أبي»؟ هل سيبصق في شقوق الأرض ويقول: «إنني أسقط المطر على صحراء جوبي»؟ هل هذه هي نوعية الأمور التي يقوم بها؟
«هل تعرفين أنني ارتدت الجامعة؛ جامعة تورونتو، في كلية الثالوث؟ نعم فعلت.»
صمت لدقيقة، ثم واصل حديثه — كما لو كنت قد سألته: «لم أنل أي منح دراسية، فقد كنت طالبًا عاديًّا، فكرت أمي أنه من الممكن أن يعدوني لأصبح محاميًا، كانت تضحية منهم أن يرسلوني إلى الجامعة، فقد كان ذلك في وقت الكساد الكبير كما تعلمين، وفي فترة الكساد لم يكن أحد يملك أي أموال، أما الآن فيبدو أن الجميع يملكون الأموال. نعم، منذ وقت الحرب، الجميع يشتري، هل تعرفين فيرجوس كولبي — صاحب متجر كولبي موتورز — لقد أراني قائمة بمن سجلوا أسماءهم كي يشتروا سيارات أولدزموبيل الجديدة، وسيارات شيفروليه الجديدة.
قلت وأنا أشعر بالذنب: «كلا، كلا، كلا.»
«أستميحك عذرًا لو كنت أشعرتك بالملل، أعرف أنني أنجرف في الكلام عن هذا الموضوع؛ هذا لأنني أعتقد أن مشاكلي الخاصة — جميع مشاكلي منذ طفولتي — تتعلق دائمًا بسوء التغذية، بدءًا من المذاكرة بجهد شديد دون تغذية للمخ، لكنني بالطبع لم أمتلك مخًّا عبقريًّا منذ البداية، لا أدعي هذا.»
أخذت أراقبه بانتباه حتى لا يسألني مجددًا ما إذا كان حديثه يضجرني. كان يرتدي قميصًا رياضيًّا ناعمًا أصفر مكويًّا جيدًا ومفتوحًا عند العنق، وكانت بشرته وردية اللون، وكان ذا شبه بسيط بشقيق كارولين الذي اختلقته. كنت أشم رائحة بلسم الحلاقة الذي يستخدمه، واستغربت فكرة أنه يحلق وأن وجهه ينمو فيه الشعر كباقي الرجال وأن في سرواله عضوًا ذكريًّا، تخيَّلته مكورًا حول نفسه رطبًا وطريًّا. كان يبتسم لي برقة ويتكلم باتِّزان؛ هل يمكن أن يكون قد قرأ أفكاري؟ لا بد أن الجنون له سر، «ملكة»، شيء لا أعرفه.
كان يخبرني كيف أن الفئران نفسها كانت ترفض أن تأكل الدقيق الأبيض بسبب ما به من مواد مبيضة، والمواد الكيميائية التي كانت به. أومأت له، ومن وراء رأسه رأيت السيد فاوكس يخرج من الباب الخلفي لجريدة «هيرالد أدفانس» ثم يفرغ محتويات سلة في المحرقة ثم يعود إلى داخل المبنى. لم تكن هناك نوافذ في ذلك الحائط الخلفي، وكان به بعض البقع وبعض الطوب المتكسر وشق طويل يمتد على شكل خط مائل، بادئًا من قبل منتصفه تقريبًا وحتى الركن الأسفل منه بجوار متجر تشينواي.
تفتح البنوك في الساعة العاشرة؛ البنك التجاري الكندي وبنك دومينيون على الجانب الآخر من الشارع. وفي الساعة الثانية عشرة والنصف تمرُّ من المدينة حافلة قادمة من بلدة أوين ساوند في لندن ومتجهة جنوبًا. وإذا أراد أي شخص أن يستقلَّها فيجب أن يتم تعليق علم أمام مطعم هاينز.
كان بوبي شيريف يتحدث عن الفئران والدقيق الأبيض، وكنت أرى في ذهني صورة أخته معلقة في بهو المدرسة الثانوية بالقرب من الخرير المستمر لنافورة ماء الشرب. كان وجهها ينم عن العند ولا يفصح عن الكثير، وكانت مطأطئة الرأس حتى إن الظلال قد سكنت عينيها. كانت حياة الناس في جوبيلي — كما في كل مكان آخر — مملة وبسيطة ومدهشة، ولا يمكن سبر أغوارها ككهوف عميقة مفروشة بورق المشمع الذي يستخدم في المطبخ.
لم يخطر ببالي آنذاك أنني يومًا ما سوف أهتم هذا الاهتمام البالغ بجوبيلي، فقد صرت نهمة ومُضلَّلة كما كان العم كريج في منزله في جنكينز بيند وهو يدوِّن التاريخ؛ فقد كنت أرغب في تدوين بعض الأشياء.
سأحاول أن أعد بعض القوائم؛ قائمة بأسماء المحال والأعمال الموجودة في الشارع الرئيسي وأسماء من يملكونها، وقائمة بأسماء العائلات، والأسماء المكتوبة على شواهد القبور في المقبرة وأي نقوش موجودة تحتها. وقائمة بأسماء الأفلام التي عُرضت في قاعة الليسيوم منذ عام ١٩٣٨ وحتى عام ١٩٥٠ تقريبًا. وقائمة بالأسماء الموجودة على النصب التذكاري (والتي يرجع معظمها إلى الحرب العالمية الأولى لا الثانية)، وقائمة بأسماء الشوارع ونمط تصميمها.
وبالطبع، فإن عقد الآمال على دقة هذه المهام ما هو إلا ضرب من الجنون الذي يفطر القلب.
لكن لم تكن ثمة قائمة بإمكانها أن تحوي ما أريد؛ فما أريد كان كل شيء بالتفصيل؛ كل كلمة وكل فكرة، كل شعاع ضوء يسقط على لحاء الشجر أو على الجدران، وكل رائحة، وكل تجويف، وكل ألم، وكل شرخ، وكل وهم، كل هذا قائمًا ومجتمعًا … مشعًّا وخالدًا.
أما في تلك اللحظة، لم أكن أنظر كثيرًا لهذه المدينة.
تحدث إليَّ بوبي شيريف بحزن، وهو يتناول مني الشوكة ومنديل المائدة والطبق الفارغ.
قال: «صدقيني، أتمنى أن يحالفك الحظ في حياتك.»
ثم فعل الشيء الوحيد المميز الذي فعله لي؛ فبكل ما في يده من أشياء حيَّاني بالوقوف على أصابع قدميه كراقص، أو كراقصة باليه ممتلئة الجسد. بدت لي هذه الحركة — مصحوبة بابتسامته الرقيقة التي ارتسمت على وجهه — مزحة، لكنها ليست مزحة يرويها لي وإنما يفعلها من أجلي، وبدت أن لها معنى وجيزًا، معنى منمقًا؛ بدت وكأنها حرف أو كلمة كاملة في أبجدية لا أعرفها.
آنذاك، كنت أتقبل تمنيات الناس لي — وغيرها من الأمور — وكأنها أمور طبيعية وأنا يخالجني شعور بسيط بالحيرة، كما لو أنها لم تكن قط أكثر مما أستحقه.
فأجبته: «حسنًا»، بدلًا من أن أشكره.