الحب تحت المطر
١
تيارٌ من الخلق لا ينقطع، يتلاطم في جميع الاتجاهات، تندُّ عنه أصواتٌ من شتى الطبقات، ويُشكِّل في جملته خليطًا من ألوان الطيف. سارا جنبًا إلى جنب صامتَين؛ هي في فستانٍ بنيٍّ قصير، وشعرها الأسود يتهدَّل حول الرأس وفوق الجبين. وهو بقميصه الأزرق وبنطلونه الرمادي وشعره المرسَل إلى اليمين. في عينَيها نظرةٌ عسليةٌ مستطلعة، وفي عينَيه جحوظٌ خفيف، ولكنه يوائم تمامًا أنفه الحادَّ المستقيم. وبقدر ما استسلمت للمشي كان هو يتحيَّن الفرص. قال: الزحام لا يُطاق.
فتمتمت باسمةً: ولكنه مسلٍّ للغاية.
واعتبر ردَّها مناورةً لطيفة ليس إلا، بل استجابةً لرغبته القلبية. وأشار بذراعه المفتولة إلى كافتيريا هارون، فمالت معه إليها بلا تردد. ومضيا إلى الحديقة الخلفية، فاختار مجلسًا شبه خالٍ تحت تكعيبة اللبلاب، وتفحَّصا المكان، وتبادلا نظرات. استشعر دون شكاية حرارة الجو المشبعة بالرطوبة، وطلب قدحَين من شراب الليمون. وكان يتوثب للكلام فيما يهمه، ولكنه قال لنفسه فليأتِ الكلام في وقته وبطريقةٍ عفوية، فهذا أفضل. قال: مضى عهد الجامعة كحلم.
فقالت تكمل جملته: بمتاعبه ومسرَّاته.
– وما هي إلا أشهر، حتى يتسلم كلٌّ منا وظيفته.
فأحنت رأسها بالإيجاب، ثم تساءلت: ولكن إلى أين تمضي الدنيا؟
هذ السؤال الذي يرتطم به في كل مكانٍ وزمان. إلى أين؟ حرب أم سلام؟ وطوفان الشائعات؟
– لتمضِ إلى حيث تشاء.
وشربا الليمون، حتى دمعت عيناهما، ثم سألها: وما أخبار أخيك إبراهيم؟
– بخير، رسائله قليلة، ولكنه يجيء من الجبهة مرةً كل شهر.
وكأنما أرادت أن تعتذر عنه فقالت: مرزوق .. لو لم تكن وحيد أبويك لاستُدعِيت مثله إلى الجندية!
فلم يعلق بحرف، واستسلما معًا للصمت. وعاوده التوثب للكلام في موضوعه، فقال ضاحكًا: لا يجوز أن نضفي البراءة على اجتماعنا أكثر من ذلك.
فلعبت في عينَيها نظرةٌ مرحة وقالت: إذن فاجتماعنا بريء!
فقال بجدية: أعني الموضوع الذي حدثتْكِ عنه أختي سنية.
فقالت بحذر: لا تنقصك الصديقات فيما أعلم؟
فقال بجديةٍ أكثر: نحن نتحرك بدافع اللهو كثيرًا، ثم يجيء وقت فلا يقنعنا إلا الحب الحقيقي.
– الحقيقي؟
– هذا ما أعنيه تمامًا يا عليات.
فترددت قليلًا، ثم تساءلت: ألا يُعدُّ الزواج في حالتكَ سابقًا لأوانه؟
فقال بازدراء: ذلك من كلام السلف، ولكن لا أهمية للوقت ما دمنا نسيطر على مصيرنا.
فسألته باهتمام: وهل أنت واثقٌ من مشاعرك؟
فرمقها بحنانٍ وهو يقول: من عيوبي الجوهرية أنني لا أحسن التعبير عن مشاعري، كم مرة التقينا؟ ومع ذلك فلم أُنوِّه بجمالك أو ثقافتك مرةً واحدة.
ولما لم تنبس سألها بحرارة: لمَ لا تتكلمين؟
فقالت وهي تتنهد: لا أدري، كأنني خائفة!
فقال برقَّة: الحق أني أحبك كأعزِّ شيءٍ في الدنيا.
فغمغمت باسمة: هذا أفضل.
فضحك بسرورٍ وقال: عندي ما هو أجمل!
واعترفت قائلة: والحق أني لم أكن سلبية في المعركة، وأنت تعلم ذلك.
فاستخفَّه الطرب وقال: اعتبريني مجنونًا بكِ!
فخفضت بصرها وهمست: وأنا سعيدة كما يجدر بإنسانٍ يبادلك مشاعرك!
فاجتاحه السرور والإلهام وقال: ما كان أحب إليَّ أن أتلقَّى هذه السعادة في مكانٍ لا يشاركنا فيه أحد.
وضحكا معًا. وصمتا وهما يتبادلان النظرات. واقترح عليها الذهاب إلى حديقةٍ ما. وقاما وهي تقول: لا تنسَ أنه توجد في الطريق متاعب.
فهزَّ منكبَيه قائلًا: أعتقد أنها متاعب لا تُذكَر بالقياس إلى متاعب العالم.
٢
انتصف الليل، فخلا مقهى الانشراح بشارع الشيخ قمر من زبائنه. لم يبقَ من عماله إلا عم عبده بدران النادل، وعشماوي ماسح الأحذية. ومضى عشماوي بهيكله الضخم الخاوي إلى الخارج، فجلس القرفصاء جنب مدخل المقهى ينظر إلى لا شيء بعينَيه العمشاوين. أما عم عبده فاقتعد كرسيًّا وسط المدخل، وأشعل سيجارة. وبعد ربع ساعة مرقت سيارة مرسيدس بيضاء أمام المقهى، ثم وقفت على مبعدةٍ يسيرة لصق الطوار، فرفع عشماوي رأسه نحوها وهو يقول: الأستاذ حسني حجازي.
وقام عم عبده بدران ليستقبل القادم، الذي أقبل بجسمه الطويل النحيل، ورأسه الضخم رافلًا في بدلةٍ بيضاءَ آيةٍ في الأناقة. حيَّا الرجلَين باسمَيهما، واتخذ مجلسه، على حين مضى عم عبده ليجيئه بالنارجيلة، وزحف عشماوي ناحيته ليمسح حذاءه. ولأن حسني حجازي هو زبون ما بعد منتصف الليل الوحيد — كلما سمح له الوقت — فقد نشأت بينه وبين الرجلَين علاقةٌ حميمة، وحوارٌ متبادل. والحق أنه يأنس إلى وقار عم عبده — في الستين من عمره — ويعجب ببذلة عمله العتيقة، وصلعته المستديرة الضاربة للاحمرار، ونظرة عينَيه الثقيلة الطيبة. وأيضًا فهو يعجب كثيرًا بعشماوي الذي لا يُعرَف له سن، وإن قدره بما بين السبعين والثمانين، ويثيره منظر هيكله الضخم الخاوي كحفرةٍ متبقية من زمن الفتونة، ويحيي بكل إجلال صموده في معترك الحياة، رغم هوان الصحة والسمع والنظر وزوال المجد. وكان عم عبده يُعنى بنارجيلة الأستاذ عنايةً خاصة. لا من أجل البقشيش فحسب، ولكن لعلمه بأنها السر وراء زيارات الأستاذ للانشراح، بالإضافة إلى حنينه إلى مسقط رأسه بشارع الشيخ قمر. والأستاذ حسني في الخمسين، ولكنه يفيض بحيويةٍ عجيبة، ولم تشب له شعرةٌ واحدة، ويبدو أنه يسعد حقيقة بوجوده في المقهى المتواضع بين صاحبَيه، وفي مناجاته الطويلة مع النارجيلة. وكالعادة بدأ الحديث بتبادل النيران في الجبهة، وتساؤلاتٍ عن الغد القريب والبعيد، وكلماتٍ رقيقة بقصد الاطمئنان على إبراهيم ابن عم عبده، وغيره من المجندين من أهل درب الحلة موطن عشماوي. وكان يعتبر عشماوي نموذجًا لجماهيرَ غفيرةٍ لا يُتاح له الاتصال بها، هي المتحمسة حقًّا للقتال بلا قيدٍ ولا شرط، وبلا خوف، وبلا اكتراث للعواقب. وقال لنفسه علامَ يخافون وهم لا يملكون إلا الكرامة والأسطورة؟ وقال لنفسه أيضًا إن المعذبين حقًّا هم الوطنيون الصادقون. ولما فرغ عشماوي من مسح الحذاء اقترب عم عبده بدران من مجلس الأستاذ ومال نحوه قليلًا وهو يقول: عليات ابنتي طلب يدها شاب من زملائها.
فانبعث في صدر الأستاذ اهتمامٌ حقيقي، وقال: مبارك يا عم عبده.
فقال برضًى وفي غير ما حماس: الستر مطلوب، ولكن العريس — مثلها — لم يتوظف بعدُ!
– هكذا تجري الأمور في هذه الأيام.
– ولكني رجلٌ مثقل بالأعباء، والابن الوحيد الذي أتم دراسته مجند في الجبهة كما تعلم.
فقال حسني حجازي بثقة: ابنتك متعلمة وهي تدرك ذلك كله، وماذا يقال عن العريس؟
فقال الرجل بامتعاض: على الحديدة. حال أبيه كحالي، وهو كاتب في محلٍّ تجاري!
– جُنِّد؟
– مُعفًى؛ لأنه وحيد أبويه.
ثم مستدركًا: بقية ذريته بنات، وإحداهن زميلة وصديقةٌ حميمة لعليات.
وهنئ الأستاذ مليًّا بتدخين النارجيلة، ومضى يقول لنفسه إن النادل الطيب يعيش أيضًا في أسطورة، وإن الحقيقة خليقة بأن تصعقه، وإن أخلاقنا غير حقيقية، وهي تقوم على الريح. وقال لعم عبده: توجد فتياتٌ ذكيات، يفضلن الاقتران بالكهول الأغنياء، طلبًا للاستقرار في الحياة.
فهزَّ الرجل رأسه في حيرةٍ وقال: لا أدري.
– على أي حال، فإن كريمتك ليست واحدة منهن.
– ربنا معها.
فقال الأستاذ حسني، وهو يداري بسمةً ساخرة: آمين.
فقال عم عبده بدران بحماسٍ طارئ: عليات فتاةٌ عالية الهمة، سعت إلى الرزق، حتى وهي طالبة، واكتسبت نقودًا لا بأس بها من الترجمة، فاستطاعت أن تظهر في الجامعة بالمظهر اللائق، الذي لم يكن في مقدوري توفيره لها.
– فتاة عالية الهمة حقًّا!
– ولكن هل ادَّخرت من النقود ما يكفي لتجهيز ولو حجرةً واحدة؟
– هذه هي المسألة!
– أما هي فلا يهمها ذلك على الإطلاق.
فضحك حسني حجازي، وقال: جيل يستحق التحية والإكبار.
وسرحت خواطره إلى شقته الأنيقة بشارع شريف، فقال لنفسه بأن الصراع الحقيقي في هذه الحياة هو ما يقوم بين الحقائق والأساطير. وقال له عم عبده: سعادتك لم تفكر في الزواج أبدًا؟
– أبدًا.
ثم أشار إليه بسبابته محذرًا، وقال: ولم أندم على ذلك قط.
وتذكَّر كيف سأله صحفي في ريبورتاج عابر بالاستديو — ضمن مجموعة من العاملين في فيلم — سأله عن فلسفته في الحياة، وكيف بُهت ولم يُحِر جوابًا.
ولكن أهو حقًّا بلا فلسفة؟!
٣
ثمينةٌ جدًّا الساعات القلائل التي يقضيها إبراهيم عبده في القاهرة. تأبطت شقيقته عليات ذراعه، وهو في بذلته العسكرية ومضيا يشقَّان الطريق وسط خضمٍّ هائل من البشر تحت فيضٍ متدفقٍ من الأضواء. وكان يشبهها لدرجةٍ محسوسة، بعينَيه العسليتَين خاصة، ورغم ما بأنفه من فطسٍ خفيف، وما في شفتَيه من دسامة، وما في بنيانه من متانة. وكان يلتهم كل شيء بحواسه، ويتلقَّى سيلًا متواصلًا من المشاعر، ويدخل أحيانًا في وجودٍ غريبٍ عابرٍ بين الواقع والحلم، أو يتردد مع خواطره بين الواقع والحلم. وسألته أخته: كيف تجد الليلة صدمة الانتقال من باطن الأرض المزلزلة بالانفجارات إلى دنيا القاهرة الثملة بالصخب؟
وكانت تستعيد كلماته القديمة بالحرف، ولكنه أجاب بلا اكتراث: أصبحت عادة.
– وامتعاضك العتيد؟
فأجاب بنفس اللهجة: أصبح عادة أيضًا.
ثم وهو يبتسم: الموت نفسه أصبح عادةً يومية.
فسألته برقَّة، وهي تتفادى من شابٍّ ينطلق كالصاروخ: كيف تريد لنا أن نعيش؟
– لا أريد تغيير نظام الكون، أريد فقط أن أشعر بأنني أُستقبَل بين أصدقائي استقبال العائد من جبهةٍ مشتعلة في سبيل الدفاع عن الوطن.
فلاذت بالصمت، فمضى وهو يقول: لا أعني تكريمًا أو هتافًا. أطمع فقط في شيءٍ من الاهتمام والجدية.
– ولكن لا حديث للناس إلا الحرب!
– … دون المستوى المطلوب.
فقال بعد تردد: لهم بعض العذر!
– اللعنة .. مهما كان، مهما يكن، فالموت شيءٌ حقيقي!
فضغطت على ذراعه، وقالت: لا تسمح لشيءٍ بأن يفسد عليك ساعةً طيبة .. نتناول بعض الشطائر، ثم نذهب إلى السينما.
فلم يعارض، ولكنه قال: غريب أنني لم أعرف خطيبك مرزوق من قبلُ!
– ألا يعجبك؟
– شكله لطيف، ولكن أخته ألطف!
فنظرت إليه باهتمام وهما يقفان في ظل عند مشرب قهوة على الناصية، وتساءلت: سنية؟
– أجل، أظنها صديقتكِ؟
– جدًّا، سبقتْني بعام، وهي موظفة بالإصلاح الزراعي. الظاهر أنها أعجبتك؟
فقال بيقين: جدًّا!
فضحكت عليات وتساءلت: حب من أول نظرة؟
فقال ضاحكًا: أعتقد أني نلت منها مائة نظرة!
– كل ذلك من وراء ظهورنا؟
– المهم …
ولما سكت تساءلت: المهم؟
– أهي لائقة كزوجة؟
– ما شروط اللياقة في نظركَ؟
– نحن كما تعلمين أسرةٌ محافظة!
– أعترف بأنكَ متشبع جدًّا بأبي.
– تهمني الأخلاق.
فلفتته إلى إعلانٍ سينمائيٍّ فاضح، يوشك أن يكون مضاجعة، وقالت محذرة: اخفض صوتك!
– أنتِ نفسكِ محافظة في الناحية الأخلاقية على الأقل.
– أشكر لكَ حسن ظنك!
– والآن خبريني؟
فقالت بضيق: ما أعرفه عنها يشهد بأنها ممتازة.
– لا أحب أن أقلق.
فضحكت، ولكنها قالت بعطف: لا يجوز أن يقلق جندي لأسبابٍ تجيئه من المدينة!
وانطفأت الأنوار بغتة، كأنما ماتت بسكتةٍ؛ فغرق الطريق في ظلامٍ دامس. وهللت هتافاتٌ شابة مهرجة في عبثٍ ومجون، وصرصرت آلات التنبيه بالسيارات. توترت أعصاب إبراهيم، واجتاح رأسه أصداءُ أوامرَ خاطفةٍ بالاستعداد والقبوع في المواقع، ولكن جاءه صوت عليات ناعمًا، وهي تقول: تنطفئ الأنوار كثيرًا لأسبابٍ مجهولة.
فاستردَّ راحته، وقبض على يدها، فتراجع بها، حتى لامس ظهراهما جدار المشرب، وسألها: أيطول ذلك؟
– من دقيقة لساعة. وأنتَ وحظك!
وسرعان ما ألِفت عيناه الظلام، فرجع يسألها: بمَ تنصحينني؟
– ننتظر حتى يعود النور.
– أعني سنية!
فضحكت قائلة: سنية .. تزوجها إن كنتَ تحبها.
– الحب ليس المشكلة!
فسألته ساخرة: بمَ نحكم عليك لو أخذنا بماضيك؟
– ليس الرجل كالمرأة!
فضربت الأرض بقدمها غيظًا، ولكنها لم تنبس، فعاد يقول: لا تريدين أن تعطيني رأيًا قاطعًا!
فقالت بحدة: قلتُ إنها ممتازة، فتزوجها إن كنتَ تحبها.
– سأقابلها صباح الغد.
فضحكت عليات وتساءلت: لماذا يطفئون الأنوار إذا كانت أمهر المؤامرات تدبر في رابعة النهار؟
٤
لم يكن الجو شديد الحرارة، ولكن أشعة الشمس تدفقت حاميةً لاسعة، وترامت تحت دفقاتها حديقة الأسماك عاريةً أو شبه عارية. وكانا أول قادمَين. تمشيا بلا هدف، وإبراهيم يقول لنفسه: مثل آدم وحواء، مثل آدم وحواء قبل الخطيئة، وابتسم لخواطره وهو لا يدري، فضبطت سنية ابتسامته، وسألته بحياء: ترى ماذا يضحكك؟
فارتبك ثانيًا، ولكنه قال: لأني سعيد!
وبسط راحتَيه لأشعة الشمس، وقال: يوجد مجلس تحت الجبلاية.
وذهبا صوب الجبلاية تفعم أنفَيهما رائحةٌ نباتية تزفرها الأعشاب المخضلَّة برشاش الماء. وكانت متوسطة القامة، أو دون ذلك بقليل، فلم تجاوز قمة رأسها الكستنائي منكبه، ولكنها كانت متناسقة التكوين، وذات عينَين خضراوَين صافيتَين. وجلسا متجاورَين فوق أريكة من جذع النخيل. قال: حضوركِ منَّةٌ عظيمة.
فقالت ببساطة: لسنا غرباء، فنحن أسرةٌ واحدة.
وأضفى القبو على الجو قتامة، وجرت في ثناياه نسمةٌ رطيبة كحال الأماكن التي لا تزورها الشمس. وكانت أعينهما تكلمت كثيرًا أمس؛ فلم يشعرا في جلستهما بغربةٍ مطلقة. ولاحظ أنها تنظر إلى بذلته العسكرية بحب استطلاع، فسألها: ليس لكِ أهلٌ مجندون؟
فهزَّت رأسها بالنفي، فقال: إنها لا تمنع من التفكير في المستقبل، كأننا نعيش أبدًا!
فقالت بعذوبةٍ وحرارة: الأعمار بيد الله وحده.
فابتسم في تسليمٍ وارتياح. وقال لنفسه: لا يمكن اقتحام الموضوع بلا تمهيد، ولا يجوز — في ذات الوقت — أن يطول التمهيد ما دامت فرصة اللقاء لن تتجدد قبل شهرٍ كاملٍ إن وُجدت أصلًا! ولعلها حامت حول الأفكار نفسها، ولكنها وجدت مخرجًا، فقالت: الحياة هناك شاقة بلا شك؟
وامتنَّ لسماع ملاحظتها التي لا يسمعها عادة بعيدًا عن نطاق أسرته، فقال: فوق ما تتصورين!
– وكيف تتحملونها؟
فقال بصدق: أصبحت أُومن بأن الإنسان يستطيع أن يعيش في الجحيم نفسها، وأن يألفها في النهاية.
ثم نظر إليها باهتمامٍ وقال: ولا يمنعه ذلك من التطلع إلى النعيم والسعادة.
فابتسمت، وتورَّد وجهها القمحي، وتبدَّت سعيدة، فقال لنفسه: إنها ليست طفلةً ولا ممثلة، ولكنها قوية الشخصية والأخلاق. وسألته: ترى هل تقوم الحرب من جديد؟
فقال وكأنه لم يسمع سؤالها: علمت أنكِ غير مخطوبة!
– إذن، فأنت تجري عني تحريات!
– لنا صديقٌ مشترك؛ عليات.
– ولمَ تشغل بالكَ بما لا يهمك؟
– وهنأتني على إعجابي بكِ.
– حقًّا؟
فقال بلهجةٍ ذات مغزًى: وتمنَّت لي السعادة والتوفيق!
ومرَّت فترة صمت مفعمة بالرضا. واعتقد أنه اجتاز خطًّا هامًّا، وأنه اجتازه بنجاح، وأنه لم يُضع دقيقةً من وقته الغالي سدًى. وقررت هي التهرب من نظراته، فسألته: لم تجبني على سؤالي؛ هل تقوم الحرب من جديد؟
فقال وهو نشوان بعواطفه: تحدثتُ عن أشياءَ يقينيةٍ مثل إعجابي بك.
– ولكنكَ لا تعرف عني شيئًا.
– القلب يعرف أكثر مما يتصور العقل.
فغمغمت، ولكنه لم يسمع، فسألها: ماذا تقولين؟ أنتِ لم تتكلمي بعدُ!
فقالت ببساطةٍ وصراحةٍ وبنبرةٍ غير ملعثمة: أنا سعيدة!
فتجلَّت في عينَيه نظرةٌ ممتنة، وتناول يدها بين يديه بحرارةٍ وقال: في المرة القادمة سنخطو خطوةً حاسمة، وحتى يجيء ذلك الوقت، سأحيا حياةً غنية وجديدة رغم كل شيء.
– حفظكَ الله من كل شيء!
فقال بسرور: كسبتُ قلبًا جديدًا سيشعر بنا على نحوٍ ما.
وتفكرتْ فيما يعنيه، وفطن هو إلى ما تُفكِّر فيه، فقال: يخيل إليَّ أن أحدًا لا يشعر بنا سوى أهلنا!
فارتبكت، ثم قالت كالمعتذرة: إنها تجربةٌ جديدة علينا، هذا هو الواقع، ولكن ماذا عما يجب أن يكون؟ ومن رأي الأستاذ حسني أنها سياسةٌ مرسومة.
– من الأستاذ حسني؟
– موظفٌ كبير في قسمنا بالمصلحة.
– وماذا يعني؟
– يعني أنهم لا يريدون تعبئة الشعب للحرب إلا قبيل دخول المعركة.
– الحق أني لا أفهم!
– ولا أنا، ولا يدعي أحد بأنه يفهم، هل ستقوم الحرب من جديد؟!
– في الجبهة نؤمن بذلك.
– هنا لا نكاد نصدق!
– كيف ترون الأمر؟
– ممكن أن تسمع كافة المتناقضات.
فضحك إبراهيم وقال: إنكم تودون أن تجدوا النصر يومًا ضمن أخبار الصحف!
وضحكت. وبالضحك أفلتا من حصار القلق، فعادا إلى موعدهما تحت الجبلاية. وتبادلا نظرة اعتذار طويلةً وحنونة.
٥
قام حسني حجازي من مجلسه فوق الكنبة الاستوديو. انطلقت قامته الطويلة وسط حجرة الجلوس كالمارد. في شقته يجد راحةً شاملة، وإحساسًا بالسيطرة على كل شيء. الدواوين والمقاعد تصلح للاضطجاع كما تصلح للجلوس. وأجهزة التسلية قائمة بالأركان وسط تهاويل الديكور. والتحف مصفوفة فوق الأرفف عارضة ألوانًا من فنون اليابان وخان الخليلي. من أعماقه يشعر بأنها توثق علاقته بالدنيا، وتدفع عنه غوائل الفناء. مضى إلى البار، فملأ كأسَين من الكوكتيل الذي يعده بيده بخبرةٍ وأناةٍ، ثم رجع إلى وسط الحجرة، فوضع كأسًا فوق ذراع فوتيل على بعد قيراط من يد سنية. ولبث واقفًا ثم حرك كأسه قائلًا: في صحتك!
وأفرغ كأسه، ثم قال: لم يعد غريبًا على هذه الحجرة أن تشهد وداع الأحبة!
فقالت سنية: أنت رجلٌ كريم، في الحياة والحب!
فقال متظاهرًا بالاهتمام: من حسن الحظ أني حصلت أخيرًا على فيلمٍ ممتاز لا تقلُّ مدة عرضه عن ربع ساعة!
فابتسمت سنية، ولكن بلا حماس. وتذكرت كيف صرخت عند رؤية المشهد الأول من أول فيلم. كان ذلك منذ سنوات، وكانت طالبة بالجامعة أو تلميذة بالثانوية. وكانت المفاجأة بالغة الإثارة والرعب. وقال بأسف: عليات انتهت، خسارةٌ فادحة!
– إنها مخطوبة، وتستعد للحياة الزوجية، ماذا تتوقع؟
فقال في دعابة: لا بأس من إباحة اللهو حتى الزفاف!
فرمقته بعينَيها الخضراوَين، وقالت بلهجةٍ ذات معنًى: فكرة الزواج تخلق المرأة من جديد!
– كم من متزوجات …
فقاطعته: هذا موضوعٌ آخر.
ثم وهي تضحك: ألا تريد للحب أن يُحترَم يومًا أو بعض يوم؟!
– حاولتُ إقناعها.
– أهي مهمة حقًّا عندك؟
– العِشرة عندي غالية دائمًا.
فضحكت ساخرةً هذه المرة وقالت: يخيل إليَّ كثيرًا أن جميع النساء اللاتي يمررن من شارع شريف أنهن ذاهبات إلى شقتك أو راجعاتٍ منها.
فقهقه حسني حجازي وقال: جاحدة من تحدثها نفسها بالسخرية من هذه الشقة.
– أنت ترى أنني جئت بكل احترامٍ لأودِّعها.
فهتف باسمًا: حتى أنتِ يا سنية!
فقالت بسرور: جاء دوري يا قيصر.
– حدثني عنه أبوه، إنه جندي، أليس كذلك؟
– بلى.
– أقرأ في وجهكِ الرضا.
– شابٌّ لطيف وجذاب.
– وهكذا قررتِ هجر العش كصديقتكِ عليات!
– إني أحب من يرغب في الزواج مني!
وقال لنفسه: إن المرأة مثال الحكمة، وإنها المخلوق الوحيد الذي يستحق أن يعبد، ولكنه قال لها مداعبًا: إذن فهي المصلحة!
فقالت بعجلةٍ واهتمام: لقد أحببته، صدقني!
– أنتِ مصدَّقة، ولكني سآسف كثيرًا لغيابك.
– لن تذوق في هذه الشقة الوحدة أبدًا.
– ولكنها مكان عبور ليس إلا!
– إنه شعار يصلح لأي مكان.
فتراجع إلى الكنبة الاستوديو ثم جلس. أغمض عينَيه قليلًا، ثم قال: زرت الجبهة أخيرًا ضمن وفد المصورين السينمائيين، والتقطتُ صورًا لبورسعيد شبه الخالية. هل سبق لكِ أن شاهدت مدينةً خالية؟
– كلا.
– كالحلم المرعب!
– زرتُ بورسعيد يومًا واحدًا قبل الحرب.
– أما أنا فعشت فيها ثلاثة أسابيع، ونحن نصور فيلم «فتاة فلسطين» منذ أعوام، وهي تعيش وتنام كالمدن، ولكنها تصحو في أي ساعةٍ من الليل لدى وصول أي سفينة، وسرعان ما تخلق فيها الحياة بقوة وسرعة، فتدبَّ الحركة، وتشعُّ الأنوار، وترتفع الحرارة، وفي الأماسي تترامى من جنبات الميناء أغانٍ شعبية غاية في الفتنة!
– ووجدتَها شبه خالية؟
– ولم تُمسَّ بسوء، بخلاف المدن الأخرى.
وصمتت قليلًا، ثم ساءلت نفسها: تُرى هل تقوم الحرب من جديد؟
فهزَّ رأسه قائلًا: لن يتهيأ لنا ذلك في القريب، ولن يشجعنا أحد عليه، ولكن الصمود يوفر لنا أطيب شروط عقب هزيمة يونيو.
– الجنود يريدون الحرب.
– هذا طبيعي، وكذلك الجماهير، أما نحن فلا ندري ماذا نريد.
وتأوه قائلًا: آه يا وطني العزيز!
فقالت بمرارة: أما نحن فكفرنا بكل شيء!
– أنتم أبناء الثورة، وعليكم أن تحلوا مشاكلكم معها.
ثم سألها مغيرًا نبرته: كأسٌ أخرى؟
فهزَّت رأسها نفيًا، فقال: قلت إني حصلت على فيلمٍ ممتاز!
فتساءلت ضاحكة: أتذكر فيلم القسيس وبائعة الخبز؟
– هذا عن المرأتَين ورجل، ثم ينقضُّ عليهم رجلٌ غريبٌ جديد!
فسألته: لم لا تتزوج قبل أن يفوتك القطار؟
– ولكنه فاتني يا عزيزتي.
– توجد زوجةٌ مناسبة دائمًا.
– تكلمي بخير وإلا فاسكتي!
فسألته بجرأة: هل تحترم حياتك؟
– لم أفكر في تقييمها بعدُ!
فقالت بامتعاض: ما يؤلمني أحيانًا أنني سلمت ابتغاء شراء أشياء، وإن تكن ضرورية.
فقال لها بعطف: المجتمع يقوم على الأخذ والعطاء فلا تتألمي!
فضربت الأرض بقدمها الصغيرة وتساءلت: متى نرى الفيلم الجديد؟!
٦
وخيم الهدوء الشامل على مقهى الانشراح، فلم يندَّ عنه إلا قرقرة النارجيلة المتقطعة. وكان عشماوي يتناول عشاءه — رغيفًا وطعمية — عند الباب، أما عبده بدران فجلس على مبعدةٍ يسيرة من حسني حجازي متحفزًا للحديث أو لتقديم أي خدمة. وتساءل حسني حجازي في نفسه: كيف يواجه رجل مثل عبده بدران أعباء الحياة الفاحشة الغلاء بأسرته الكبيرة؟ كيف تتوازن ميزانيته المحدودة، ولو اقتصر الطعام على الخبز، والكساء على مخلفات سوق الكانتو، والمسكن على بدروم؟ وأولاده مع ذلك تلاميذ في المدارس، واثنان منهم — إبراهيم وعليات — أتمَّا تعليمهما الجامعي، فأي معجزة تمارس في غفلةٍ من المؤمنين! وقال إن ما ينفقه في ليلةٍ يكفي لإعالة أسرة بضعة شهور، ومع ذلك فهو لا يخلو من تذمر، وإذا مرَّ شهران دون عمل في فيلمٍ طويل أو قصير تولَّاه القلق، فماذا يكمن وراء نظرة عم بدران الثقيلة الهادئة؟! وأقنعته عليات بأنها تحافظ على المظهر اللائق بفتاةٍ جامعية بفضل النقود التي تربحها من الترجمة، فصدَّق الرجل الطيب، ولم يخطر بباله أن نقوده هو ضمن النقود التي تسهم في تربية كريمته! آه .. يوم عرف عليات عرف أنها كريمة عم بدران، وداخله قلق، وشيء من مناقشة الضمير، ولكنه قتل وساوسه بعقله البارد. وقال إنه لا يؤمن بذلك كله. ولم يتزعزع احترامه لعليات. وقال: عليهم اللعنة، فهم يقبلون الضيم والظلم والاستعباد، وينقلبون أسودًا فاتكة في وجه الحب واللهو.
وهمَّ أن يسأل عم عبده كيف يواجه الحياة، ولكنه سرعان ما أقلع عن فكرته، خشية أن يفسد عليه هدوء جلسة نصف الليل، أو أن يشجعه سؤاله على استجداء مساعدة، أو طلب سلفة. ولما طال صمت الأستاذ قال عم عبده بدران: تمت خطبة إبراهيم وسنية أخت مرزوق.
علم بذلك في حينه، فأتحف العروس بهبةٍ ماليةٍ كما أتحف عليات من قبلُ، ولكنه قال: ليحفظ اللهُ العريسَ ويُسعد العروسَ.
– ناس طيبون وعلى قدِّ حالهم مثلنا، وهي موظفة بالإصلاح الزراعي!
فجاء صوت عشماوي من عند الباب قائلًا: لا تعجبني المرأة الموظفة!
فقال له عم عبده بدران: جميع بنات درب الحلة تلميذات والكبار منهن موظفات.
فقال العجوز بسخرية: ولو!
– لو كانت لك بنتٌ لتغيَّر رأيك.
فقال بفخار: أنجبتُ أربعةً كلهم ذكور!
ولكن حسني حجازي يسمع لأول مرة عن أبناء عشماوي، فسأله: ماذا يعملون يا عشماوي؟
– اثنان بين الخمسين والستين في المذبح.
ثم بفتور: الثالث قُتل تحت الترام، والرابع في السجن!
وصمتوا دقيقةً إعرابًا عن التأثر والتأمل، ثم سأل الأستاذ حسني عم عبده: وهل يتزوج إبراهيم في أول فرصة أو يؤجل ذلك لوقت السلم؟
– هذا شأنه، أنا أتمنى أن يتزوج اليوم قبل الغد، ولكن متى تنتهي الحرب؟
– من يدري يا عم عبده!
– حقًّا من يدري، إنهم يعانون معاناة الأبطال.
– هذا حق.
– ومع ذلك فلا يهتم بهم أحد!
– كلا، ليس هذا صحيحًا، المسألة أن الناس لم يتخلصوا بعدُ من مرارة الهزيمة.
وجذب حديثُ الحرب عشماوي من الخارج إلى الداخل، فجاء بهيكله الضخم، وهو يقول: ولكن الله سينصرنا في النهاية!
فقال حسني حجازي: قل إن شاء الله.
فقال عشماوي: كل شيء بمشيئته، لا بد أن نهزمهم وإلا فقل على الدنيا السلام.
فسأله حسني: وإذا انتهى الموقف بحلٍّ سلمي؟
فهتف العجوز الأعمش: أعوذ بالله!
وأراد أن يدلل على قدرة الله، فقال: ربك كبير، أتصدق أنني ضاجعت الولية ليلة أمس مرتين؟
فذُهل الأستاذ حسني وهتف: مرتين؟!
– وحق كتاب الله!
– عوفيت .. عوفيت يا عشماوي!
– فلا تيئسوا من رحمة الله!
وضحك حسني عاليًا، ونظر صوب عبده بدران، فأحنى رأسه مصدقًا! وعاد عشماوي يقول: لم حصل ما حصل؟ لأننا خسرنا الدين والأخلاق!
وقال حسني لنفسه: ولكن ما الأخلاق؟ أزمتكم الحقيقية أنكم في حاجةٍ إلى أخلاقٍ جديدة!
٧
اكتظَّت ناصية الأمريكين فلا موضع لقدم. تلاصق الشبان تحت الأضواء، وانحصر المارة بين الأجسام الحارَّة الفتية. وقلَّ الكلام أو انعدم، وحملقت الأعين وتحركت بعض السيقان بالرقص الخفيف. وثار سالكٌ بحريمه في عباب الزحام غضبًا لكرامته الشخصية فيما بدا، وصاح: اخجلوا من أنفسكم، واذهبوا إلى الجبهة إن كنتم رجالًا!
ولم يخجل أحد فيما بدا أيضًا. وتساءل صوت: لم يريد أن يرسلنا إلى الجبهة قبل الأوان؟
وقال صوتٌ آخر ساخرًا: لعله يظن أنهم يرسلون النساء والكهول!
وشبعت شلة من وقفتها، فانسحبت من معسكرها، ومضت إلى «جنيفا»، فتجمعوا حول بضع زجاجات من البيرة، وجعلوا يشربون ويتكلمون كما يحلو لهم، وغالبًا بلا ضابط ولا نظام، غير أن مرزوق أنور تولى مهمة ملء الأقداح وتوزيعها.
– مشكلة الجنس في …
قاطعه: في الجبهة مشكلة أهم.
– إنما أتكلم عن المشكلات الداخلية.
– دعه يتكلم، المقاطعة ممنوعة.
– حدثني أحد الكبار، فقال إنه كان يوجد على أيامهم بغاءٌ رسمي.
– زماننا أفضل، فالجنس فيه كالهواء والماء!
– الماء لا يصل إلى الأدوار العليا.
– ولكنه يصل إلى الأدوار السفلى!
– ليس كالهواء والماء، فالبنات تعلَّمن الاستغلال.
– إنها ضرورات العصر.
– البراءة تنهزم أمام السيارة مثلًا.
– توجد دائمًا فرصٌ طيبة.
– كما توجد الباصات.
– وحفلات الساعة الثالثة في السينما.
– لا أهمية لذلك، المهم هل الله موجود؟
– ولمَ تريد أن تعرف؟
– كان شغلنا الشاغل الوحدة العربية والوحدة الأفريقية.
– وما دخل ذلك في وجود الله؟
– أصبح شغلنا الشاغل متى وكيف نزيل آثار العدوان.
– معي دقيقةٌ واحدة، أهو موجود؟
– كانت أيامًا مجيدة.
– كانت حلمًا.
– بل كانت وهمًا.
– ويضيقون بوقوفنا دقائق في الناصية!
– الكلاب!
– إذا قدر لليهود أن يخرجوا فمن سيخرجهم غيرنا؟
– من يُقتَل كل يوم غيرنا؟
– ومن قُتل عام ١٩٥٦؟ من قُتل في اليمن؟ من قُتل عام ١٩٦٧؟
– يظن العجوز أن المحافظة على بنت نصف عارية هي كل شيء!
– علينا أن نبدأ من الصفر!
– أن تُزاح عن صدورنا الكوابيس.
– لا أحد يريد أن يجيبني، أهو موجود؟
– طيب يا أخي، إذا حكمنا بالفوضى الضاربة في كل مكان، فلا يجوز أن يوجد!
– أليس من الجائز أنه يملك ولا يحكم؟
– يكفي أن يكون المصريون من عباده لكي يملك ويحكم!
– أأنت شارع في الزواج حقًّا؟
– نعم. خذ قدحك.
– لماذا؟
– لأني أحب.
– وما العلاقة بين هذا وذاك؟
– يجب أن نفعل شيئًا على أي حال.
– بماذا نفسر تفشي الزواج المبكر بين الشبان؟
– بالفقر!
– بالموت!
– بنظام الحكم!
– سنضطر إلى الوقوف غدًا من شدة الزحام.
– أليس من الأفضل أن نهاجر بدلًا من أن نتزوج؟
– الزواج هجرةٌ داخلية.
– الحق أنه يلزمنا شيء من انتهازية الأجيال السابقة.
– لا غنى عنها في الزحام.
– إذن فلماذا يخشى العالمُ الحربَ؟
– ليست الحرب بأفظع ما يتهدد العالم.
– أيوجد ما هو أفظع؟
– الفرد غير آمن تمامًا بين أهله، والأسرة تخشى الجيران، والوطن مهدَّد من أوطانٍ شتى، والعالم يحيط به عالمٌ خفي من الكائنات الضارة، والأرض قد يخربها خلل بالمجموعة الشمسية، والمجموعة الشمسية قد تنفجر وتختفي في ثوانٍ.
– أنت مجنون!
– ولكن علينا أن نضحك، وألَّا نسمح لشيءٍ بأن يفسد علينا حياتنا الغالية.
– آمين.
– آمين.
– آمين.
٨
ارتسمت في وجه عشماوي صورةٌ غير عادية. انغرست في أساريره غضبةٌ كالحةٌ فولاذية، انداحت فوق جفاف الشيخوخة، وبروز الفكَّين، وتهدُّل اللحيَين. وعندما استُقبل الأستاذ حسني حجازي لم ينجلِ شعاعٌ واحد للبشاشة في وجهه، حتى توجَّس الأستاذ خيفةً مجهولة، فقال — وهو يتخذ مجلسه — لعم عبده بدران: خير إن شاء الله؟!
وسمعه عشماوي، فأقبل نحوه، حتى وقف أمامه، وتدفَّق قائلًا: إني ألعن كل شيء، وألعن فوق كل شيء نفسي، إني ثائرٌ على ضعفي وعجزي واندحاري في صندوق القمامة بلا حول، ومَن أنا؟! أنا عشماوي الخشن، صاحب القبضة الحديدية والنبُّوت المخضَّب بالدماء، أنا من يرتجف عند ذكر اسمه الرجال، وتتوارى النساء، ويستعيذ بالله منه رجال الشرطة، أنا المجرم الجبار الفتاك الطاغية السفاك النمرود الشيطان!
واختنق بأنفاسه، فقال حسني حجازي بلين ودعابة: وكيف تشكو الضعف وأنت ذلك كله؟!
– إني أحكي عن الماضي، عن الماضي أحكي لا الحاضر، افهمني يا أستاذ، كنت رجل درب الحلة وحاميها، وكان الويل نصيب مَن يتعرض لأحدٍ من أهلها بسوء، بفضلي نعموا بالسلام والأمان، بفضلي بغوا على الخلق، وهم في أمنٍ من العواقب، كان اسمي قانونًا وسيفًا ونعمةً وغنًى وفقرًا، ماذا جرى يوم اعتدى نذل من القبيسي على رجلٍ من حارتنا؟ هجمتُ على الحي كالقضاء والقدر، لم أفرق بين متهم وبريء، تهاوت الضربات على رءوس المارة، حطمتُ الدكاكين، احترقتْ عربات اليد، انهمرت الأحجار على النوافذ والأبواب، واسأل عني أيام سعد، ولا تسأل عن عدد ضحاياي، وقد عُرفتُ بشارب الدماء منذ ذبحتُ إنجليزيًّا، وشربتُ دمه المسفوح، هذا هو عشماوي الخشن!
فقال حسني حجازي وهو يلعنه في سره: تاريخك معروف يا عشماوي، ولكن لمَ أنت غاضب؟!
ولكن العجوز لم يُجب. ورجع إلى مجلسه عند الباب، وغرق مرةً أخرى في الحزن والصمت. ونظر حسني حجازي إلى عم عبده بدران في فضول، فقال عم عبده بدران بإشفاقٍ بلغ حد الخوف: أصيب شابان من أهل درب الحلة.
فقال حسني باستنكار: ظننت أن أيام الفتونة والمعارك، قد انتهت إلى غير رجعة.
فقال عبده بدران بوجهٍ شاحب: أصيبا في الجبهة!
فوجم حسني حجازي، ثم تفكر في كلمةٍ مناسبةٍ يقولها، ولكن عشماوي سبقه صائحًا: قصدتني جدة أحدهما مستغيثة بي كالأيام الخالية، ظنت الولية أن عشماوي ما زال كعهده القديم يُستغاث به فيُغيث!
فقال حسني حجازي: إنهما بطلان يا عشماوي!
فقال الرجل بحنق: أنت لم ترهما ولم ترَ العنبر.
– زرتَهما في المستشفى؟
– زرتُهما، رأيت وسمعت وشعرت بعجزي، فلعنت كل شيء كما لعنتُ نفسي.
فقال حسني بروحٍ عالية، وهو يقصد أولًا عم عبده بدران: هما بطلان، وهكذا الحرب في كل زمانٍ ومكان.
فصاح عشماوي: إني ألعن العجز!
– سليمة سليمة بإذن الله.
وقال عم عبده بدران ليُبدِّد مخاوفه الشخصية بدعابة: وأنت يا عشماوي ألا تطالب دائمًا بالحرب والنصر؟
فتحوَّل غضبه إلى حزنٍ وهو يردد: الحرب والنصر، ولكني عجوز لا خير فيه!
– حسبك أنك شربتَ من دم الإنجليز في شبابك!
ثم نظر عبده بدران إلى الأستاذ حسني، وقال: في الثورة الأولى كنت دون السن اللازم للجهاد، واليوم أنا فوق السن المناسب للحرب، فلم أفعل شيئًا يُذكر للوطن.
– ولكن ابنك في الجبهة، خبِّرني هل يؤلمك تصورك أنك لم تفعل شيئًا؟
– أحيانًا، ولكن أعباء الحياة تغرقني حتى القمة.
وتذكَّر حسني أنه ذو موقفٍ مماثل، وأنه كان يحاسب نفسه في أزماتٍ تلمُّ به، وأنه كان يطفئ سعارها ببرودة العقل الخالدة، وأنه أوشك أن يقنع نفسه بأنه يفتح شقته للأفراح البريئة والخير! وسأله عبده بدران: على أي وجه سينتهي الموقف يا أستاذ؟
فضحك حسني عاليًا، وقال: السؤال الخالد! ماذا يمكن أن يقال؟ فلننتظر.
– ولكن الموت لا ينتظر.
– إنه سباق ونحن لا نموت وحدنا!
وعند ذلك تساءل عشماوي: وهل أولاد الأغنياء يُقتلون أيضًا؟
فلم يتمالك حسني نفسه من الضحك، وقال: ولكن التجنيد لا يفرق بين غني وفقير يا عشماوي!
فهز رأسه في ارتيابٍ وعاد يسأل: وهل يرسلونهم حقًّا إلى الجبهة؟ قلبي يحدثني بغير ذلك!
– لا تصدق قلبك يا عشماوي.
وعكف على النارجيلة. وقال لنفسه: إن جلسة الليلة خسرت هدوءها العتيد، وإن الحزن فيها امتزج بالضحك، وإن الهزيمة مُرة وعواقبها تنتقل من مركزٍ إلى مركز في المخ، ولكنها لن تُمحى، وإن جبلًا شامخًا انهار، وتبدد حلمٌ عجيب، وإن خير ما يريح به نفسه أن يترك الأمانة لحامليها. وساءل نفسه وهو ينفث الدخان من فيه وأنفه أين يجد مكانًا لا يتردد فيه ذكر الحرب؟!
٩
جمعت الشرفة المطلة على النيل الصديقات الثلاث: عليات عبده وسنية أنور ومنى زهران. وكان الخريف يبث في الجو برودةً لطيفة، ويزين سماء الأصيل بسحبٍ ناصعة البياض. وقد لبت عليات وسنية دعوةً عاجلة إلى مسكن منى بالمنيل، فتوقعتا أخبارًا جديدة وسعيدة. وهن صديقات حميمات منذ الدراسة الثانوية، وتمتاز منى بجمالٍ رائق يتمثل في بشرتها الضاربة للبياض وعينيها السوداوين الجذابتين، وقامتها الرشيقة المائلة للطول، كما تمتاز بأسرتها المتوسطة ذات الدخل الموفور — الأب مدير إدارةٍ قانونية، والأم ناظرة مدرسة متقاعدة باختيارها — فضلًا عن أنها موظفة بالسياحة منذ عام. وكان لها شقيقان أحدهما مهندس في بعثة بالاتحاد السوفيتي، والآخر طبيب بالمنوفية، ويتوقع اختياره في بعثةٍ قريبة، ولذلك كانت طموحة تداعبها الأحلام ولا تستقر. وكان مسكن منى يذكر عليات وسنية بمسكن الأستاذ حسني حجازي، رغم الفارق المحسوس بينهما، ولكن الحسد لم يتسلل إلى نفسيهما بفضل العلاقة الحميمة الحارة. وقد توقعتا أخبارًا جديدة وسعيدة، ولكن منى قالت باقتضابٍ مثير: فسخت خطوبتي قبل أن تعلن!
انزعجت الفتاتان حقًّا، وقالت عليات: غير معقول!
وقالت سنية: أي خبر!
وكانت منى قد قدمت لهما — منذ شهر — في دار الشاي الهندي شابًّا يدعى سالم علي، قاضٍ بمجلس الدولة، باعتباره الصديق والخطيب المنتظر، ولذلك توقعتا من وراء الدعوة العاجلة أخبارًا جديدةً سعيدة لا هذا الخبر الأسيف. وقالت سنية وهي تهز رأسها هزة ذات معنًى: وطبعًا كنت أنت البادئة؟!
فقالت منى بتحدٍّ: ظنك صادق دائمًا معي!
– ولكنه شابٌّ جذاب وذو مركز يا منى؟
وقالت عليات: وكان واضحًا أنه يحبكِ، وأنكِ تبادلينه الحب.
عند ذلك تململت من الضيق، وربما من عاطفة لم تستطع بعدُ أن تقتلعها من أعماقها، فثبت لهما أنها إنما دعتهما لحاجتها إلى الأنس والعزاء، ولكنها قالت بنبرةٍ لم تخلُ من حدة: عرفت عن يقين أنه يقوم بتحرياتٍ عني!
وساد الصمت حتى قالت سنية: أهذا ما أخذتِه عليه؟
– وهو كافٍ وفوق الكفاية.
فقالت عليات: أراهن على أنه فعل ما فعل بحسن نية!
– أنا لا أتهمه بسوء النية، ولكن بسوء العقلية أتهمه!
ثم مستدركة بانفعالٍ شديد: ولم أتردد فواجهته بالتهمة، تلعثم وحاول أن يفسر سلوكه بغير بواعثه الحقيقية، ولكني رفضت تفسيره وطالبته باحترام نفسه، فاعترف واعتذر بسخافاتٍ لا أذكرها، ولا أحب أن أذكرها فلم أقبل عذره، وقلت له ولم لا تسعى إلى الزواج عن طريق خاطبة، وسألتُه عما يريد معرفته عني أكثر مما يعرف، أو مما يمكن أن يعرف بالاتصال المباشر وبالحب المزعوم، قال إنه بريء، وإنه يحبني، وإن سمعتي نقية مثل الورد فضحكت ساخرة، وقلت له إني أحتقر تحرياته، وأحتقر النتائج التي وصل إليها، وإنه خدع، أو إنه لم يحسن التحري. وقلت له ماضيَّ ملكي وحدي كما أن ماضيه ملكه وحده، وإنني أرفض كافة أنواع العبودية في أي زيٍّ تزيَّت، وبأي اسمٍ تحلَّت، وإنه لا يصلح لي كما لا أصلح له!
وسكتت وهي تلهث، والغضب يرتعش في شفتيها، ويدلهمُّ في عينيها. وبدا أن صديقتيها لا تؤيدانها في موقفها، وإن شاركتاها في الإحساس والرؤية. تساءلت عليات: ألم تبالغي يا منى؟
وقالت سنية: هي تقاليد بلادنا!
فهزت منى رأسها بعنادٍ وقالت: إني أرفض ذلك كله!
فقالت سنية: إنهم معقدون، ويحتاجون إلى ترويضٍ طويل.
وقالت عليات، وكأنما تتم الكلام: لا إلى التحدي.
فقالت منى بعجرفة: أفضل أن أبقى بلا زواج إذا كان الثمن كذبةً سخيفة وجراحةً دنيئة!
فقالت عليات: ولكن ظروفنا حرجة كما تعلمين.
– لا يمكن أن أتهاون في مبادئي وأخلاقي.
أجل فهي معروفة بأخلاقياتها، وهي لم تمارس الجنس إلا بدافعٍ من الحب، ولم تضطر — مثلهما — إلى ممارسته في أحيانٍ كثيرة لاقتناء ما يحتاجان إليه من ملابس وأدوات زينة وكتب. ولعلها كانت تحتقر سلوكهما وإن عطفت عليه من أعماق قلبها المحب. وقد تابعت خطوات خطوبتهما، وما اقتضته من شهادات الزور والأكاذيب وغير ذلك، ولم ترتحْ لشيءٍ منه وإن تعزت بأن جميع تلك السخافات إنما ارتكبت باسم حبٍّ حقيقي. وكانت محاولة إثنائها عن موقفها ميئوسًا منها لما تعرفان من عنادها وكبريائها ومثالياتها، فسلمتا بالواقع في حزنٍ وكآبة. وقالت لها عليات: أنتِ يا منى جميلة وممتازة وجديرة حقًّا بزواجٍ سعيد!
فسألتها منى: ترى هل تطمئنان إلى مستقبلكما القائم على كذبةٍ كبيرة؟
فقالت سنية: إنه يقوم على الحب.
أما عليات فقالت بقلق: إن رجلًا مثل حسني حجازي خليقٌ بصون سرنا.
فقالت منى: حسني حجازي لا نتوقع منه الخيانة.
فعادت عليات تقول: أحيانًا أتذكر المصادفات المرعبة التي تقلب الأمور في السينما!
فقالت سنية بقوةٍ متحدية: لم يكن في وسعنا أن نفعل خلاف ما فعلنا وعلينا أن نواجه مصيرنا.
وفجرت الزيارة في نفس عليات وسنية دوامات من القلق، ولكن استقر في أعماقهما في النهاية قول سنية: «علينا أن نواجه مصيرنا.»
١٠
لم تسعد منى بانتصار كبريائها، أو لم تسعد كما قدرت، وفي أوقات انفرادها بنفسها غزتها الكآبة كالغبار. خافت أن ترتكب حماقاتٍ بلا نهاية. اعترفت لنفسها المتمردة بأنها ما زالت تحب سالم على رغم حماقته وسخافاته. أدركت أنها تقف حيال مشكلة، وأن المشكلة تتطلب على أي حالٍ حلًّا. وجاء شقيقها الدكتور علي زهران إلى القاهرة في إجازةٍ، فسُرَّت بحضوره وقصت عليه تجربتها الفاشلة. وأسف الرجل، ولكنه كان مستغرقًا بهمومٍ طارئة، فقال لها: إني أفكر في الهجرة!
فدهشت منى وتمتمت: الهجرة؟!
– الحق أني جاوزت مرحلة التفكير، فاستقر رأيي على الهجرة.
– ولكنك تنتظر فيما أعلم بعثةً علمية؟
– لم ألقَ إلا المماطلة، ففكرت في الهجرة، ثم استقر رأيي عليها.
– وكيف يتم لك ذلك يا أخي؟
– إني على وشك الانتهاء من بحثي عن الطفيليات، وسوف أرسله إلى زميلٍ مهاجر بالولايات المتحدة ليعرضه على الجامعات، وبعض المراكز الطبية، ومن ثم أنتظر أن أُدعى للعمل في إحداها، وهو ما حصل معه بالضبط.
فشهقت بقوةٍ من شدة الانفعال وقالت: أهاجر معك!
ثم بثقة: إني متخصصة في الإحصاء، وأتقن الإنجليزية.
فابتسم الدكتور وقال: لأن نهاجر اثنين خير من أن أهاجر وحدي!
وعارض الوالدان الفكرة، ولم يدركا لها حكمة ما دام للشقيقَين مستقبلٌ مرموق في مصر، فقال الدكتور لوالديه: البلد بات مقرفًا.
وقالت منى: وهو لا يطاق.
وأراد الأب أن يستثير عاطفتهما الوطنية، ولكن الدكتور علي قال بجرأةٍ عدها الأب قاسية: لم يعد الوطن أرضًا وحدودًا جغرافية، ولكنه وطن الفكر والروح!
وتألم الأب الذي ينتسب إلى جيل ١٩١٩؛ جيل الوطنية المصرية الخالصة، واستمع إلى ابنه بانزعاجٍ، فخيل إليه أنه يطالع ظاهرةً غريبة تستعصي على الإدراك والتفسير. وكان يسلم بأنه لا يستطيع أن يثنيهما عن عزم إن اعتزماه، فتساءل في جزعٍ كيف يمكن أن يحتمل الحياة بدون وجودهما معه في وطنٍ واحدٍ على الأقل! وكانت منى تحب أباها كثيرًا، ولكنها لا تكاد تتفق معه في رأي، وعجبت كيف أن هزيمة ٥ يونيو فجرت وطنيته من جديد، فعادت سيرتها الأولى على حين أنها منيت بخيبةٍ شاملةٍ تدفعها باستمرارٍ إلى تغيير جلدها خليةً خلية. وهو ما حصل لعليات وسنية وغيرهما، وما حصل لشقيقها. وقالت مخاطبة الدكتور: إننا نحيا بلا هدف!
فقال لها بامتعاض: وأنا أحيا بلا حياة!
– يجب أن نهاجر.
– سنهاجر عند أول فرصة.
واعتبرت منى نفسها سائحةً عابرة، فشعرت براحةٍ نفسية لم تشعر بها مذ قطعت علاقتها بسالم علي. وسرعان ما ذاع الخبر بين صديقاتها وزميلاتها، وفي الأوساط التي تنتقل فيها. وراحت تحلم بحياةٍ جديدةٍ نقيةٍ توفر للفرد سبل التقدم والازدهار والأمن. وكانت عائدة من مكتبها عصرًا عندما وجدت أمامها سالم علي في ميدان طلعت حرب. لم تكن مصادفة، ولم يحاول ادعاء ذلك، ولكنه مدَّ لها يده، وهو يقول: علمت أنك ستهاجرين إلى الولايات المتحدة، فعزَّ عليَّ ألا أودعك.
فصافحته ببرود أخفت به انفعالها، وقالت: أشكرك.
ومضت في سيرها، فسار إلى جانبها فرمقته باحتجاجٍ، ولكنه تجاهلها، فعادت تقول: قلت أشكرك!
فقال بهدوء: ولكني لن أترككِ.
فسألته بالبرود نفسه: لماذا؟
فقال وكأنه يعترف: وضح لي أني أحبك، وأنني لم أستطع الإقلاع عن الحب.
ووجدت أنها سعيدة لدرجةٍ فاضحة، فغضَّت بصرها وهي تقول: ولكنني وُفقت في ذلك.
– إذن فلنذهب إلى دار الشاي الهندي.
وسارا جنبًا لجنب، وقد انقلبت أحلامها رأسًا على عقب، فقال وهو يتنهد في ارتياح: الحب أهم شيء في الدنيا!
ثم بارتياحٍ أعمق وشى بما عاناه من عذاب: إي والله، الحب أهم شيء في الدنيا، وكل ما عداه باطل!
ونظر إليها متسائلًا: هل ستهاجرون حقًّا؟
فأجابت بفتور: نعم.
– ليتني أستطيع الهجرة أيضًا.
فسألته باسمة: وماذا يمنعك؟
– تخصصي لا يؤهلني لها.
ثم وهو يضحك: لا مفر من البقاء في مصحة الأمراض العقلية.
١١
في قرارٍ واحد أصبح مرزوق أنور وخطيبته عليات عبده موظفَين في الحكومة؛ تعينت هي في وزارة الشئون الاجتماعية، أما هو فتعين في المنطقة التعليمية ببني سويف. تكدرت فرحة التعيين، وأطل شبح الفراق على الحبيبَين وتساءلا: كيف يجتمع شمل عروسَين واحدة في القاهرة والآخر في بني سويف؟ وذهب مرزوق إلى محطة مصر، فصحبه أبوه وعليات، وجلسوا حول مائدة في البوفيه، حتى يأزف ميعاد قيام قطار الصعيد. كان الأب في الستين، ولكنه بدا أكبر من عمره بعشرة أعوام على الأقل، وكان ممن يأخذون الأمور بتسليمٍ وبساطة، كما كان يعتبر ابنه من «المفقودين» على أي حالٍ، سواء أبقي في القاهرة أم رحل إلى أسوان. لذلك شجعه طيلة الوقت، وضرب له مثلًا بحياته هو في الثلاثينيات — سنوات الأزمة الاقتصادية — عندما تقاذفته بلدان القطر، والإفلاس يطارد التجار، ويصفي المحالَّ التجارية واحدًا بعد آخر. ومالت عليات نحوه، وسألته همسًا: أتعرف ذلك الرجل الذي يجلس أمامنا؟
فنظر نحو الأمام، فرأى رجلًا جالسًا، يدخن غليونًا، ويتفحصه بنظرٍ ثاقبٍ غير هياب، فقال على الفور: كلا.
لم يكن يعرفه، ولكن خيل إليه أنه لا يراه لأول مرة، فمتى رأى هذا الوجه شبه المربع الريان، وهاتين العينَين البراقتَين، وهذين الحاجبَين الكثيفَين، وهذا الرأس القوي الأصلع؟ وهمست عليات مرةً أخرى: إنه لم يحول عنك عينَيه طوال الوقت.
ولا بد أنه يريد أن يحولهما عنه بعد أن تنبه إلى نظراته. ولم يقنع بذلك، فقام بهدوءٍ وتقدم خطواتٍ، ثم وقف أمامهم، وأحنى رأسه تحية، وقال يقدم نفسه: محمد رشوان .. مخرجٌ سينمائي.
فقام مرزوق أنور بدوره، أحنى رأسه وقال: مرزوق أنور .. موظف .. تشرفنا يا فندم.
فسأله وهو يواصل فحصه: أليس لك تجربةٌ سابقة في فن التمثيل؟
فأجاب مرزوق بدهشة: كلا.
– ألا تحب أن تجرب نفسك؟
فضحك مرزوق رغم توتر أعصابه، وقال: لم يخطر لي ذلك ببال.
فقال وهو يهزُّ رأسه هزة خبير: عندي لك دور بطولة.
فهتف مرزوق في ذهول: بطولة!
– كنت مشغول البال بحثًا عمن يلعبه، فلما وقعتْ عليك عيناي وجدتُ ضالتي ماثلة أمامي، فما رأيك؟
فقال مرزوق بصوتٍ متهدج: أمهلني قليلًا.
وقال الأب: إنه في طريقه لتسلُّم وظيفته الجديدة!
وسألته عليات: هل يضمن بهذا الدور عملًا ثابتًا؟
فقال محمد رشوان: عندي له أكثر من دور بطولة وأنا أتنبأ له بالنجاح.
فقالت عليات: ولكنه لم يسبق له أن مارس التمثيل!
– هذا أفضل، سيخرج من تحت يدي كالجنيه الذهبي!
وكان رأس مرزوق قد دار وثمل، فقال متخذًا قراره: موافق!
فقال له أبوه: فكِّر قليلًا يا بني.
ولكنه قال بإصرار: موافق وسأجرِّب حظي!
وأعطاه محمد رشوان بطاقته وهو يقول: تقابلني غدًا في هذا العنوان في العاشرة صباحًا، عندك تليفون؟
فهزَّ مرزوق رأسه نفيًا، فقال: ودورك جديد في الواقع، دور شابٍّ جامعيٍّ مجند، يزور القاهرة في إجازةٍ قصيرة، فتقع له أحداثٌ هامة، وتحبه سيدةٌ مجهولة الجنسية، وتدعوه للهرب معها.
فتساءل مرزوق: وهل يهرب معها؟
– هذا ما سيجيب عنه الفيلم، والمهم أن تبقى الحال على ما هي عليه، حتى يعرض الفيلم.
– أي حالٍ تقصد؟
– أقصد الموقف في الجبهة.
فسأله الأب: وهل تتوقع أن يتغير الموقف قبل ذلك؟
– المنتج يؤكد أن الموقف سيبقى على ما هو عليه أعوامًا .. أما …
فتساءل مرزوق: أما؟
فضحك محمد رشوان، وقال: أما إذا انهزمنا مرةً أخرى، أو حتى إذا انتصرنا، فستكون العواقب وخيمة على الفيلم وصاحبه!
١٢
التقى مرزوق بالسيدة المجهولة الجنسية. كانت تطارده وهو لا يدري، ولكنها تظاهرت بالبرود، وسألته سؤالًا عابرًا، وأجابها بأدبٍ وبلا اهتمام أولًا، ثم جذبه بغتةً جمالها المضيء، فصعق تمامًا. وكان يرتدي بدلته العسكرية، وتتجلَّى البراءة في عينَيه.
ووقف وراء الكاميرا ضمن نفر من المراقبين عليات عبده وسنية أنور ومنى زهران وإبراهيم عبده وسالم علي. حتى التنفس مارسوه بحذر؛ فسادَ الصمت، وشمل كل شيء، ولم تدب الحياة إلا تحت الأضواء الباهرة داخل البلاتو. ولما أعلن محمد رشوان انتهاء اللقطة خرج الممثلان من دورهما وردَّت الروح إلى الواقفين وراء الكاميرا، فقالت منى زهران: إنه ممثلٌ أصيل.
وقال إبراهيم عبده: شيء لا يصدَّق!
وعبثًا حاولت عليات إخفاء توتر أعصابها، والفرحة التي انطلقت في حنايا قلبها. وأقبل مرزوق نحوهم، فصافحهم وعانق إبراهيم. ووقف أمام إبراهيم في زيٍّ عسكري واحد يتبادلان النظر والابتسام. وقالت عليات مخاطبةً أخاها إبراهيم: إنه يلعب دورك في الفيلم.
وتفحَّصه إبراهيم بعنايةٍ وقال: ولكنك أنيق كضابط.
فقالت سنية ضاحكة: لأنه يمارس الحب لا القتال.
فسأله إبراهيم: وهل يمتد دورك إلى الجبهة؟
فأجاب مرزوق: أجل، قرأته في السيناريو، وهو يصوِّر بطولةً خارقة.
فضحك إبراهيم ولم يعلق بحرف. وجاء المخرج محمد رشوان، فصافح الجميع. وكان قد عرف عليات وسنية من قبلُ، فتعرف بمنى زهران وخطيبها سالم علي. وكان يتفحص الوجوه كما يتفحص الصائغ الحلي. واقترب من إبراهيم وقال له: سنحتاج إليك في بعض المعلومات الضرورية.
فتساءل إبراهيم ضاحكًا: تقصد بعض الأسرار؟!
– كلا .. إنما ما يُسمح بتصويره.
– ليس كل ما يسمح بتصويره مما يحسن تصويره!
فقال محمد رشوان: إنما هدفنا أن نحيي بطولتكم!
ثم التفت إلى منى زهران، وسألها: ألا توافقين على ذلك؟
فهزَّت رأسها بالإيجاب. ثم عاد إلى إبراهيم وقال: كلنا جنود، ولكن تختلف الميادين!
فضحك إبراهيم بفتور وقال: ولكننا نقاتل وأنتم تمثلون!
وضحك الجميع. وأزف وقت تصوير لقطةٍ جديدة، فذهب مرزوق ومحمد رشوان. وعند ذاك قالت منى زهران: هذا المخرج لا يوحي بالثقة!
فقالت عليات: ولكنه ذو فراسةٍ مذهلةٍ ومقدرةٍ خارقة.
فلوت منى شفتَيها، وقالت: إني على خلاف الكثيرين أحترم الأفلام الهزلية!
فسألها سالم علي: لماذا يا عزيزتي؟
– هي على الأقل صادقة!
فضحك إبراهيم في مرحٍ صافٍ لأول مرة وقال: صدقتِ.
ثم همس في أذن سنية خطيبته: كدت أفقد حياتي أمس مرتَين!
فقبضت على كفه بحنانٍ وهمست: لا سمح الله!
عكست عيناها الخضراوان نظرةً ساهمة. وسألت علياتُ منى بمرحٍ عابث: متى تهاجرين؟
فأشارت منى إلى سالم وقالت: هذا الرجل هو المسئول عن فشل المشروع.
فقالت له عليات: نحن مدينون لك بالشكر.
فقالت منى: الهجرة على أي حال سُنَّة!
فسألها إبراهيم: ولو كانت إلى الولايات المتحدة؟
فأجابت بتحدٍّ: ولو كانت إلى الجحيم!
١٣
في زيارةٍ طارئة تلاقت عليات وسنية مع منى زهران في مسكنها بالمنيل. لم تكن زيارةً عادية، أو هذا ما قرأته منى في عينَي صديقتها. وقالت عليات: لدينا رسالةٌ هامة!
فأثار ذلك حب استطلاعها إلى أقصى حدٍّ، وتساءلت: أي رسالة؟ وممن؟
– من مرزوق أنور.
– الفنان الكبير؟!
فقالت سنية: محمد رشوان المخرج يرغب في مقابلةٍ خاصة.
فذهلت منى واتسعت عيناها، ولم تدرِ ماذا تقول، فقالت عليات: إنه يفتح لكِ دنيا الكواكب والنجوم!
وقالت سنية: وإن أردتِ الحق فكأنكِ خلقتِ لذلك.
وتفكرت منى وهي في غاية الانفعال، وتمتمت: لم يجرِ لي ذلك في خاطر.
فقالت عليات: ولا كان جرى في خاطر مرزوق.
– أودُّ أن أستأنس برأيكما!
فقالت عليات: جربي حظك بلا تردد.
وقالت سنية بتوكيد: بلا تردد.
– ولكنني لم أجرب هذا الفن من قبلُ.
فقالت سنية: الحب قد يسبق الفن، وقد يلحق به، لا أهمية لذلك!
وفي الساعات القلائل التي تلت المقابلة جعلت تفكر في الأمر، فاجتاحتها فكرته، ووقعت أسيرة لسحره. وتلفنت لسالم علي أن يقابلها في دار الشاي الهندي، ولما أخبرته بما اعتزمته ذُهل الشاب وصُعق وقال: لا شك أنها دعابة!
فقالت بتوكيد: بل إنني أعني ما أقول تمامًا.
فهتف بيأس: ممثلةٌ سينمائية!
فقطبت متسائلة: ولمَ لا؟
فقال بغضب: لا!
– ولم تعجبها لهجته وأشعل غضبُه كبرياءها؛ فقالت: لا أقبل هذه اللهجة!
– وأنا أرفض الفضيحة.
– فضيحة! أنتَ … أنتَ …
فقاطَعها بحدة: لقد قبلتُ من أجلك ما لا أستطيع تجاوزه بخطوةٍ أخرى واحدة!
فصاحت: أنت تمنُّ عليَّ بذلك!
– إني أعني تمامًا ما قلت!
فاصفرَّ وجهها وقالت بانفعالٍ شديد: كفى .. كفى .. أرجوك .. لا ترني وجهك بعد الآن!
فقام وهو يقول: أنتِ معقدة ومجنونة!
وفسخت الخطوبة للمرة الثانية.
واستجابةً لانفعالها الشديد، فضلًا عن رغبتها الأصلية، سعت إلى مقابلة محمد رشوان. زارته بصحبة مرزوق أنور، في مكتبه بشارع عرابي. ورحب بها بحرارة وجلس إلى مكتبه وهو يقول: إنهم يسمونني يا آنسة منى كولمبس؛ لكثرة ما اكتشفتُ من نجوم وكواكب، ولم تخب نظرتي مرةً واحدة، فأبشري مقدمًا بالنجاح!
فأشار مرزوق إليه، وقال لها: إني أُومن بهذا الرجل!
وعاد محمد رشوان يقول: إني أرشحك لبطولة فيلم أعتزُّ به جدًّا، هل تغنين؟
فأجابت بحياء: كلا.
– لا يهم، ممكن الاستغناء عن الغناء، ولكنني لن أفرغ للفيلم الجديد قبل ستة أشهر.
فقال مرزوق: وهي فرصة لإجراء الاختبارات الضرورية والدعاية اللازمة.
– برافو مرزوق! وإذن فقد تم الاتفاق على كل شيء.
وعقب مرور يومين على المقابلة استدعاها المخرج تليفونيًّا إلى مكتبه. وفي ذلك الاجتماع الذي اقتصر عليهما، التقط لها بعض الصور الفوتوغرافية، وأجرى لها بعض الاختبارات الصوتية، كما دعاها إلى تمثيل موقفٍ درامي من أحد أفلامه. وطيلة الوقت شجعها بابتسامةٍ لطيفة فأنست إليه، وخفق قلبها بالامتنان. غير أنها لم ترتحْ إلى نتائج الاختبارات رغم تشجيعه الودود. ومالت إلى الاعتقاد بأنها لم تخلق لهذا الفن، وأن أي اجتهاد تبذله فيه مصيره الضياع. ولم تخفِ عنه مخاوفها، فقالت: إني غير راضية عن نفسي!
– هذا بالحرف ما قالته فتنة ناضر عن نفسها في أول اختبار.
فعاودها شيء من الأمل في صورة ابتسامةٍ حلوة، فقال: وفتنة ناضر في الأصل جامعية مثلك، وهي اليوم جوهرةٌ غالية في دنيا الفن!
وتعددت اللقاءات وتكررت الاختبارات. ومضى أكثر الوقت في أحاديثَ عامة عن الفن والحياة. ولاحظت منى أن الأمية تغلب على تفكيره رغم شهرته ونجاحه، وأنه كان يمكن استساغته بشيءٍ من التساهل، لولا غروره الهرمي الذي لا يُحتمَل. ولاحظت أيضًا أنه يعجب بها أكثر مما يعجب بفنها. بل باتت تؤمن بأنه لا يكترث لفنها على الإطلاق، وأن المسألة من أولها لآخرها مجرد شَرَك. وعند ذاك تجمَّعت في صدرها أبخرة الغيظ والغضب وخيبة الأمل. ولما قال لها وهو يظن أنه آن له أن يمد يده لجني الثمرة: جو المكتب غير مناسب لهذه الأحاديث الطلية، فأنا أدعوكِ للعشاء!
لما قال لها ذلك أدركت ما يعنيه، وهي تشعر بالغثيان. أما هو فاستمر يقول: يجب أن تري عشي الخلوي بالعامرية!
وأحسَّت بأنفاسه المشبعة بالتبغ، وهي تتردد على خدها، فثار غضبها، ولطمته على وجهه!
تراجع في وقفته حتى استقام عوده، وتحجرت نظرته وانتفخ خداه بالغضب، وبسرعة هوى على خدها بكفِّه الغليظة، فترنحت وتهاوت على الأرض. وصاح بها: تظنين أنك امرأة لا يجوز مسها في عرف اللياقة العصرية، يا خنزيرة يا بنت الخنزيرة!
قامت مشعثة الشعر، ورأسها يدور، وهي لا تصدق، فصاح بها مرةً أخرى: اخرجي يا عاهرة، وقُصِّي هذه القصة على أمك!
ما زال رأسها يدور، وتناولت حقيبتها، وسوت شعرها، ومضت نحو الباب، وصوته يتبعها قائلًا: دعوتي للعشاء ما زالت قائمة، وتحياتي لأمك!
١٤
ثار سالم علي ثورةً جامحة تخطت جميع الحدود. صمم على نبذ منى واحتقارها، واعتبرها فتاةً مجنونة، وأن من حسن حظه حقًّا أنه عرفها على حقيقتها قبل أن يتورط في الزواج منها. ولم يقتنع شقيقه الأصغر حامد بثورته، فقال له: ما زلتَ تحبها يا أخي.
فصاح بغضب: أبدًا، وسوف تعرف ذلك بنفسك.
وكان حامد يحب شقيقه، ويؤمن بأنه يفهمه، فقال: أنت يا أخي برجوازي، ويناسبك الزواج البرجوازي!
فتضاعف غضب سالم، وقال: عيبكم الأساسي هو تعلقكم بالمصطلحات، انتظر وسوف ترى!
فقال له بإشفاق: إن مركزك القضائي …
ولكنه قاطعه: انتظر وسوف ترى!
وعاد إلى بؤرةٍ قديمة كان هجرها مذ عرف منى زهران. ذهب إلى ملهى «مركب الشمس» بالهرم، وهو نصف ثمل. وانزوى في الحديقة رغم برودة الجو، وطلب من النادل أن يدعو سميرة لمشاربته. وسميرة كانت صديقته، وهي راقصة من الدرجة الرابعة ترقص ضمن مجموعة في خلفية المسرح عندما يغني مطرب بالملهى. وهي في الخامسة والثلاثين، وبها مسحة جمال، وجسمها أجمل من وجهها، ورخيصة الثمن نسبيًّا، وقد دهشت لعودته عقب غياب استمر أكثر من نصف عام، فتظاهرت بغضب لا أساس له، وقالت له: رجعت يا خائن!
وراحا يشربان. ولاحظت أنه — بخلاف عادته — يشرب بإفراط. وكانت ترتاح إليه؛ لأنه مهذب، ولأنه يملك سيارةً صغيرة، وأخيرًا لأنه كريم. وقالت له ضاحكة: أنت تشرب كالوحش.
فقال لها: سأنتظرك آخر الليل.
ومع أنها رحبت بذلك في أعماقها، إلا أنها قالت متسائلة مع رغبة في تأديبه: كلا!
وتبادلا نظرةً طويلة، ثم قالت: مرتبطة الليلة.
فهتف بضجر: كلا!
– كلا!
– كيف حال بنتك الصغيرة؟
– مع أمي كما تعلم.
فأفرغ كأسه، وقال: عندي فكرة لا بأس بها …
– فكرة؟!
فتريث قليلًا؛ لأنه شعر رغم سكره بأنه مقدمٌ على أخطر خطوة يتخذها في حياته. وغضب لتريثه، فقال: أرغب يا سميرة في أن نعيش معًا!
فتفكرت قليلًا، ثم تمتمت: فيها قولان!
– ولكنكِ لم تدركي مقصدي!
– أعتقد أنه واضح.
فقال وهو يركز عينيه في كأسه: أريد أن أتزوج منكِ!
فطالعته بإنكار، ثم قالت بحدة: أنت سكران!
– بل رجعتُ إليك لتحقيق ذلك.
فجعلت تنظر إليه في ريبة، فقال: ما قولك؟
– أفق!
– الليلة إن أمكن!
ثم وهو يتناول يدها: ستبقى الصغيرة عند والدتك، ولكني سأرتب لها مصروفًا معقولًا، لستُ غنيًّا ولستُ فقيرًا.
فتساءلت بدهشة: أأنت جاد حقًّا؟
– هيا بنا في الحال إن شئت!
فضحكت وسألته: ماذا جعلك تقرر ذلك؟
– أريد أن أستقر، أستقر مع امرأةٍ معقولة بلا خداع، فهل أنتِ على استعداد لنسيان الماضي، وبدء حياةٍ جديدة؟
فضحكت ضحكةً عصبية، وقالت: لا يوجد مأذونٌ مستيقظ في هذه الساعة!
فقام وهو يقول: لا أهمية لذلك ما دام سيستيقظ في الصباح الباكر.
١٥
كان الدكتور علي زهران يرنو إلى شقيقته منى بحزن. كان باطنه يغلي، ولكن لم يبدُ في وجهه إلا الحزن. قال لها: أنت يا منى فتاةٌ ممتازة، وأنا لا أتصور ذلك.
فقالت بأسًى: لننسَ ذلك.
– ولكني أشعر باللطمة فوق وجهي!
– خير من ذلك أن تحدثني عن مشروع الهجرة.
– الهجرة!
ثم بفتور: الإجراءات طويلة، ولكني أنتظر.
– لا أريد أن أبقى في هذا البلد يومًا آخر.
فقال وباطنه ما زال يغلي: عيبكِ أنك شديدة الحساسية، ما كان يجب أن تقطعي رجلًا مثل سالم علي في لحظة غضب!
فقالت بنبرة تشي بالدمع النابع من جذورها: لا أريد أن أبقى في هذا البلد يومًا آخر!
– رجلٌ ممتاز ويحبك.
– دعنا من تلك السيرة!
– إنني أتساءل أحيانًا لماذا نعتبر أنفسنا على حق دائمًا؟
فقالت باسمة: لأننا على حق.
– الهزيمة زلزلتنا.
– ونوَّرتنا.
– أتسمحين لي بالاتصال بسالم علي؟
فانتترت قائمة في فزع، وقالت: كلا.
– فكِّري قليلًا.
– كلا.
– ألا تريدين أن …
فقاطعته بحدة: أريد أن أهاجر.
وهزَّ منكبَيه، ثم ودعها وغادر البيت. مضى إلى صيدلية واتصل تليفونيًّا بمكتب المخرج محمد رشوان سائلًا عنه، فكان الجواب أنه يعمل في استوديو مصر. وحاول الاتصال بالاستوديو، ولكن الرقم ظل مشغولًا، فاستقلَّ سيارته، وانطلق بها بسرعة إلى الاستوديو. وهناك — وكانت الساعة العاشرة مساءً — علم بأنه غادر الاستوديو، وأخبره موظف أنه ذهب إلى «جاميكا» لتناول العشاء. ووجه سيارته إلى جاميكا بالطريق الصحراوي. ومضى يجوب حديقتها، ويتفقد البهو، ولكنه لم يعثر له على أثر. وقال له المدير: إن الأستاذ لم يحضر بعدُ، فمضى يتمشى أمام المطعم. وحوالي الحادية عشرة وقفت سيارة في الموقف أمام المطعم، وتركها رجلان، فأشار البواب إلى أحدهما، وقال للدكتور علي: ها هو الأستاذ محمد رشوان!
كان يتقدم مرزوق أنور بخطوات، ويسير على مهلٍ وهدوء وفي خيلاء بجاكتته الجلدية الطحينية وبنطلونه الكحلي. اتجه الدكتور علي زهران نحوه في هدوء أيضًا على ضوء المصباحين المغروسين في أعلى المدخل، فالتفت الرجل إليه في غير اهتمام، ولعله توقع أن يسمع كلمة إعجاب أو اقتراح من نوعٍ ما يتصل بعمله. ودون أن يتفوه الدكتور بكلمة ركله في بطنه بكل قوة عضلاته وأعصابه. انطلق من فم محمد رشوان خوار. حملقت عيناه، ثم تهاوى ساقطًا على وجهه. حدث ذلك بسرعةٍ خاطفة، حتى ذُهل مرزوق أنور، فتجمد كتمثال. وخرج من ذهوله صائحًا: أنت مجنون؟
وأقبل البواب مهرولًا، وتجمع بعض سائقي السيارات. أحاط بعضهم بالدكتور علي، وانحنى الآخرون على الأستاذ الملقى.
وصاح الدكتور علي زهران يخاطب الرجل الملقى أمامه: أنا شقيق منى زهران يا وغد!
فانقضَّ عليه مرزوق أنور، حتى قبض على عنقه وهو يهتف: أنت مجنون! لن تفلت من يدي!
فنزع يديه بغضبٍ، وهو يصيح: إنه وغد يستحق التأديب!
وارتفع صوت من بين العاكفين على الرجل الملقى وهو يقول: مات الرجل .. اقبضوا على القاتل!
١٦
ذهبت منى برفقة أبيها إلى مكتب الأستاذ حسن حمودة المحامي بشارع صبري أبو علم. وقد تذكره الأستاذ زهران في محنته لا لزمالة قديمة فحسب، ولكن لاعتقاده بأنه أحد ثلاثة يعتبرون قممًا كمحامين جنائيين. وكانت حجرة مكتبه واسعة وفخيمة. فاستقبلهما بقامته المديدة، ووجهه الأسمر الغامق وعينَيه المشعتَين، ثم رحب بالأستاذ زهران، ووقفت عيناه — ثواني — شبه مبهورتَين عند منى قبل أن يدعوهما للجلوس ثم جلس.
وشرع الأستاذ زهران في قصِّ قصته، وسرعان ما قاطعه الأستاذ حسن: أهو ابنك؟ لم يخطر لي ذلك على بال!
ومضى الرجل في قصته، التي أصبحت قضية، حتى فرغ منها وهو يتنهد، فقال الأستاذ حسن: البقية منشورة في الصحف!
ثم وهو ينظر إلى منى مجاملًا: من المؤسف أن قتل مَن يستحق القتل عن غير جهة اختصاص يعتبر جريمة!
فقالت بصوتٍ ضعيفٍ مقهور: لم أتصور أن ينتهي الأمر بمأساةٍ طاحنة!
– ثمة مأساةٌ معقولة ومأساةٌ لا معقولة.
– وأخي لم يُعرَف عنه يومًا أي ميل للعدوان.
– لو كان خبيرًا في العدوان لما تورط في جريمة غير مقصودة.
وطلب منها أن تقصَّ القصة التي بدأت بها المأساة فقصَّتها عليه بتفاصيلها، سألها: هل يوجد شهود؟
– كنا وحدنا في حجرة مكتبه.
وتساءل الأستاذ زهران: وهل من مبررٍ لادعاء الباطل عليه؟
فقال الأستاذ حسن حمودة باسمًا: أنت أدرى بدقة القانون.
فقالت منى: واضح أنه لم يقصد قتله.
– يجب أن أطلع على ملف القضية أولًا، غير أن المنشور في الصحف يدل على أن الدكتور كان يسعى للقاء القتيل، وأنه بحث عنه في استوديو مصر كما بحث عنه في مطعم جاميكا، ثم انتظره، ثم كان ما كان …
– ولكن هل يكفي هذا لإثبات أنه قتله عن تعمدٍ وإصرار؟
– كلا، ولكن ترى هل أصابه في مقتل؟
– حتى لو كان ذلك صحيحًا، فلا شك أنه وقع مصادفة.
– ولكننا مطالبون بإثبات أي رأيٍ نرتئيه، ولا تنسى أنه دكتور، وأنه — في نظر المحكمة — خبير بالمَقاتِل!
وغشى الظلام عينَي الفتاة، فعاد يقول ملاطفًا: ولكن حول ذلك سيتركز نضالنا، وعلينا أن نثبت أنه ضربٌ أفضى إلى القتل.
فتساءلت وهي تنهار تمامًا: والأمل؟ ألا يوجد أمل؟
فقال الأستاذ بصوتٍ رنان: طبعًا! وهو أملٌ كبير .. والله المستعان.
وعاشت منى الأيام التالية في الجحيم. ولم تكد تفارقها عليات وسنية. وكانت تقول: حتى لو بُرِّئ من القتل المتعمد، فقد قُضي على مستقبله!
ولم توجد كلمةٌ صالحة للعزاء، فمضت تصرخ: عليَّ اللعنة! أنا المسئولة عن كل شيء.
وسعت إلى لقاء شقيقها في السجن. وبكت بحرارة وجنون. ومن عجب أنها وجدته هادئًا مستسلمًا. وقال لها: كفِّي عن البكاء يا منى فلا جدوى منه.
فقالت وهي تنتحب: ولكني السبب اللعين!
فقال بهدوء: أنت معتدًى عليك، وكان طبيعيًّا أن تفضي إليَّ بحزنك، كما كان طبيعيًّا أن أغضب.
وغمغم بكلامٍ لم تدركه، ثم قال: ثمة خطأٌ أعمى لا أدري عنه شيئًا، قُتل الرجل وقُضي عليَّ!
– أنا الخطأ الأعمى يا أخي!
– هو أقوى منكِ ومني، كفَّي عن البكاء!
– ليتك لم تغضب يا أخي!
فقال بضجر: ولكني غضبت، وعليَّ أن أواجه المصير.
١٧
عُهد بالفيلم إلى المخرج أحمد رضوان، فأتم المراحل الباقية منه محافظًا ما أمكن على أسلوب محمد رشوان. وحظي مرزوق أنور بإعجاب المخرج الجديد، لدرجة لم يتوقعها، فبعثت فيه روح الأمل من جديد. وكان أحمد رضوان مخرجًا ناجحًا، غزير العقود، عُرف في ميدانه بسرعة الإنجاز مع الإتقان، وحسن التوفيق لدى الجماهير، فانفتحت أمام مرزوق أبواب العمل. وقال له أحمد رضوان: أنت فنانٌ موهوب، وسأجعل منك الخليفة الحق لأنور وجدي!
فاهتزَّ مرزوق طربًا، وحلم بالمجد، فعاد يقول له: ولكن لا تجمد نفسك في نمط، النمطية مفيدة، ولكن المرونة خير وأبقى، المرونة التي أعنيها أن تمثل الشيء ونقيضه، الطيب والشرير، ولك البطولة في الحالَين.
وتنهد في حزنٍ وقال: لم يكن كذلك رأي المرحوم محمد رشوان.
ثم وهو يهز رأسه في أسًى: كان لطيفًا وراح هدرًا، أنت تقول إنك تعرف منى شقيقة القاتل؟
– معرفة سطحية جدًّا، ولكنها صديقة شقيقتي وخطيبتي.
– أتصدِّق ما ادعته في التحقيق؟
فهزَّ منكبَيه، وقال: سمعت همسًا يقول إنه كانت توجد علاقة جنسية بين القاتل والقتيل؟!
فذهل مرزوق، وقال: ولكن المرحوم .. أعني أنني لم أسمع عنه.
فقاطعه: ما علينا، سيكشف التحقيق عن الحقيقة، الله يرحمه، لا يجوز أن يذكر بسوء وهو بين يدي الله.
وكانا يجلسان بمطعم الاستوديو، فانضمت إلى مجلسهما فتاة بلا استئذان، فقدمه إليها، ثم قدمها قائلًا: فتنة ناضر، نجمةٌ جديدة مثلك، ولكنها لمعت في سماء الفن منذ عام.
وكان مرزوق يعرفها من صورها، كما علم بعلاقتها الخاصة بأحمد رضوان عن طريق المرحوم محمد رشوان. وكانت ذات جمالٍ خاص لا يدرك من أول وهلة، ولكنه نافذ الأثر. خُيل إليه أنه يوجد قدر من عدم التناسب بين قسماتها، ولكن جاذبيتها طاغية. وجسمها يميل للصغر في جملته، ولكنه في حدوده مليء ورشيق وجنسي إلى أبعد الحدود. وكان أحمد رضوان في الخامسة والخمسين، والدًا لفتاةٍ متزوجة من موظف في السلك الدبلوماسي، وشاب مهندس في بعثة في الاتحاد السوفيتي. واتسم غرامه بجنون الكهولة. و«فتنة» في الأصل جامعية، ومعروف في الوسط أنها عشيقة لثريٍّ عربي يدعى الشيخ يزيد، فرش لها شقة في الدور العشرين بعمارة النيل، ولم يكن يزور القاهرة، إلا في مواسم أو عابرًا، وقال له أحمد: «فتنة» موهبةٌ سخية، وستعمل معها في الفيلم القادم.
وربت على يدها بحنانٍ، وقال مخاطبًا مرزوق: ومن مزاياها أنها شقيقة ضابطٍ شهيد، فُقد في حرب يونيو.
وعرض فيلم مرزوق، فحقق نجاحًا ملحوظًا، أما هو شخصيًّا، فاعتُرف به كفنانٍ موهوب، وتنبأ له أكثر من ناقدٍ بمستقبلٍ باهر.
وتعاقد معه أحمد رضوان على ثلاثة أفلام، فاستقرت الأرض تحت قدمَيه، وعزم على الزواج من عليات في أقرب فرصة. وعندما اشترك مع فتنة ناضر في تمثيل أول الأفلام المتعاقد عليها، شعر بأنها توليه عنايةً خاصة، فتلقى ذلك بحذرٍ شديد، حرصًا على علاقته الطيبة بأحمد رضوان. وكانا — مرزوق وفتنة — يستريحان في حديقة الاستوديو بين فترات التصوير حين سألته: أحق ما يقال عن زواجك؟
فأجابها بطيبة: في أقرب فرصة.
– مبارك مقدمًا.
ثم مستدركة: ستكون أول وجه جديد متزوج.
– أجل!
– ولكن ألا تحتاج إلى حريةٍ مطلقة، وخاصةً في البداية؟!
– طالت مدة الخطوبة، وليس ثمة ما يبرر التأجيل.
فسكتت قليلًا مستسلمة لبرودة الليل، ثم سألت: وهل خطيبتك من الوسط الفني؟
– كانت زميلةً جامعية، وهي الآن موظفة بالشئون الاجتماعية.
– أعتقد أنها مطالبة بحكمة سقراط؛ لكي تسعد معك.
– يا لها من مبالغة!
ومشت قليلًا حتى غابت في الظلام تمامًا، ثم عادت إلى منطقة النور، وهي تقول: توجد فرصة لإنشاء شركة بيننا!
فدهش مرزوق، وتساءل: شركة؟!
– ليس بالمعنى التجاري، أعني ثنائيةً ناجحة.
– سمعتُ ذلك من الأستاذ أحمد وسعدتُ به.
– فعلينا أن نتحمس لثنائيتنا!
– بكل سعادة من ناحيتي!
– لي الثقة كل الثقة في رأي أستاذي أحمد.
ورمته بزهرة بنفسج كانت تفرُّها بين إصبعيها وذهبت؛ اضطرب مرزوق، اجتاحته عاطفةٌ سعيدة وآثمة؛ تذكر عليات فيما يشبه الاعتذار والندم.
١٨
بدا حسني حجازي جادًّا أكثر من المألوف. وقف في حجرة الجلوس ينظر باهتمامٍ وإشفاقٍ إلى منى زهران. ولم تكن تبادله النظر، عيناها السوداوان شبه مغمضتَين مستسلمة إلى مسند الفوتيل الكبير كالنائمة، تعلوها الكآبة. وقال لنفسه إنها الصديقة الوحيدة التي لم تستسلم لنزواته، والتي لا تستسلم إلا للحب. وهو يذكر كيف زارته أول مرة وهي طالبة بصحبة عليات وسنية مسوقة بحب الاستطلاع، وكيف شاهدت أفلامه الجنسية المثيرة، ولكنها لم تنزلق رغم الإثارة، فلم تهبه أكثر من الصداقة، وكفَّ هو منذ زمنٍ بعيدٍ عن مطالبتها بمزيد، قال: دعوتك لأني شعرت بأنكِ في حاجةٍ إلى صديق في محنتك.
فجرت على شفتَيها ابتسامةٌ خفيفة إعرابًا عن شكرها، فعاد يقول: دعوتك من قبلُ، ولكنك لم تلبي!
– كنت في غاية الحزن.
فمال نحوها قليلًا، وقال بحنان: على أي حال احمدي ربنا، حسن حمودة محامٍ قادر، وقد أنقذ عنقه من المشنقة!
فقالت بأسًى: ولكنه سيقضي في السجن عشر سنوات، وخسر مستقبله إلى الأبد!
– قضاء أخف من قضاء.
فقالت بعصبية: وأنا المذنبة الحقيقية!
– ماذا كان بوسعكِ أن تفعلي؟ ما فعلتِ إلا أن شكوتِ همك لشقيقك!
– لن يهوِّن قولكَ من شعوري بالإثم!
ورفع الرجل كأسًا بيده إلى فيه، ثم نظر إلى كأسٍ موضوعة على ذراع الفوتيل على كثب من يدها، كأنما يدعوها إلى الشراب، وتراجع خطوات، حتى استند إلى حافة البار، ثم قال: فكِّري في الهموم من حولنا تَهُنْ عليكِ همومنا.
– لا أظن.
فابتسم متسائلًا: مصممة على الحزن؟
– لست حزينة، إني أعيش حياتي، ولكن بلا طعم!
فهز رأسه الضخم وقال: قد يعرض لي عارض حزن، أتدرين كيف أعالجه؟ أتذكر آلاف القتلى، وما يخبئه الغد من احتمالات، وسرعان ما يهون عليَّ حزني.
فرفعت منكبيها في وجوم، ولم تنبس، فقال: وهزتني ثورة الطلبة من الأعماق، ثم تذكرت أننا قد نُدفن تحت الأنقاض في أي لحظة.
فهتفت بحدةٍ مباغتة: هناك ما هو أدهى وأمرُّ، وهو أننا نعيش في الحقيقة على التسول!
فضحك حسني عاليًا وقال: يا له من تعبيرٍ صادقٍ ومثير!
– لم ضحكت عاليًا؟
– صدقيني أنني لم أضحك ضحكةً واحدة من قلبي منذ ٥ يونيو.
ثم مستطردًا: هي مجرد أصوات يا عزيزتي منى.
– كيف يهنأ بعض الناس بالنوم؟
– إنهم يضعون على أعينهم نظارات التاريخ السحرية، فتتجلى لهم رؤيةٌ أخرى.
– ألا ترى تلك النظارات عشرات الألوف من الضحايا؟
– كلا، ولكنها ترى ما هو أخطر!
– أأنت جاد فيما تقول؟
– كل الجد.
– إذن فأنت راضٍ؟
– لست من صانعي التاريخ، فنظرتي رهن بضعف بصري، وهي مليئة بالشجن والعبث.
وولَّاها ظهره ليملأ الكأس من جديد، فتناولت كأسها وشربت، حتى النصف. ثم تحول نحوها قائلًا: اشربي، يلزمك ثلاث كئوس على الأقل.
فابتسمت لأول مرة وقالت: بك حنين ملحوظ إلى الوطنية، فهل قمت بواجبك؟
فصبَّ الشراب في جوفه دفعةً واحدة، ثم قال: في مثل سنِّي يكفي أن أحمل الكاميرا، وأزور الجبهة لأقوم بواجبي!
– ثم ترجع إلى بيتك السحري!
– هنا أنتهب لذاتٍ عابرةً بدافع الذعر والحزن.
– سعداء هم الكهول!
– ما أتعس البلد الذي يحسد فيه الكهول على كهولتهم!
وتبادلا نظرةً طويلة لا تخلو من عذوبة، ثم قال: دعوتك لأسليك فانظري …
فقاطعته بهدوء: الأستاذ حسن حمودة يرغب في الزواج مني!
فذُهل حسني حجازي، صمت مليًّا، ثم هتف: إنه يماثلني في السن!
فهزَّت رأسها نفيًا وقالت: إنه في الأربعين!
– أراهن على أنكِ ستوافقين!
– لم تتوهم ذلك؟
– ربما احتجاجًا على الحب الذي أعطيتِه أعز ما تملكين، ثم لم تجني منه إلا التعب.
فقالت بنبرةٍ ساخرة: سالم علي تزوج من مومس!
– لم يعد لهذه الكلمة من معنًى!
فتساءلت وهي تتنهد: أليس من المضحك أن يفعل اثنان بنفسيهما ما فعلنا وهما يتبادلان الحب؟
– اشربي كأسك وتزوجي من حسن حمودة، فلا خير في أن تبقي وحيدة لتجترِّي أحزانك حتى تقتلك!
وحدَّثها حديثًا مطولًا عن حسن حمودة، وأسرته الصعيدية العريقة، وأرضه التي صُفِّيت في الإصلاح الزراعي، ونبوغه في المحاماة، ثم سألها: هل شاهدت آخر أفلامي؟
فضحكتْ، على حين اتجه هو نحو غرفة العرض.
١٩
كانت جلسةً واجمة لا تبشر بخير .. ها هي قهوة الانشراح عقب منتصف الليل، ولكنها لا تعد بمسرةٍ واحدة. دخن حسني حجازي نارجيلته في صمتٍ شامل. اختلس من عبده بدران نظرة، فرآه غارقًا في الأفكار. وفي الركن تحت النصبة قرفص عشماوي، وهو يرسم على البلاط خطوطًا وهمية بإصبعه. وقال لنفسه: ليلةٌ ثقيلة، وسيكون لليالي المقبلة طعم العلقم .. والتقط عبده بدران نظرة من نظراته، فقال: وهكذا أُلغيت الأفراح!
فقال حسني حجازي مواسيًا: تأجلت لا أُلغيت!
– ربنا يسمع منك!
– ربنا كبير يا معلم عبده.
فقال عبده بدران بأسًى: لما لم يحضر في ميعاده دق قلبي بعنف، وقبل ذلك رأت أمه حلمًا فظيعًا!
– جرح بسيط بإذن الله!
– من أدراني؟ لم يسمح لي في زيارته بأكثر من دقيقة، لم أرَ منه شيئًا، اختفى الوجه والرأس والعنق تحت الشاش تمامًا.
– إجراءٌ طبي ليس إلا.
فتنهد الرجل وقال: وكنا نستعد للاحتفال بزواجه هو وأخته عليات: سيتم الاحتفال بعد أسبوع أو بعد شهر.
وساءل حسني نفسه: ترى أهذا هو حال الآباء والأمهات في جميع الأمم، أم إنه توجد شعوبٌ أخرى مشبعة بروح القتال والجهاد؟ وهل زيَّف التاريخ حكاية البطولات، فلم تصلنا على حقيقتها؟ أهو عيبٌ فينا أم هي الطبيعة البشرية في كل زمانٍ ومكان؟ وإذا كان ذلك كذلك، فكيف أمكن سوق الجماعات البشرية إلى حرب في إثر حرب؟ ما أعظم الفارق بين صورة التضحية في جريدة يومية أو كتاب تاريخ أو ديوان شعر وبينها في مقهًى أو بيت أو حارة! ومع ذلك لم يقبل البشر على امتهان مهنة وهي كره لهم مثل الحرب.
ورفع عشماوي رأسه من فوق ركبته وقال: نحن مساكين يا أستاذ.
فصدق عبده بدران على قوله قائلًا: أجل، نحن مساكين.
فقال حسني: ماذا أقول: لو كنت شابًّا لوجب أن أتحمس للحرب!
فقال عشماوي: بتر ساقا ابن جارتنا!
– هي الحرب يا عشماوي، ووطنك محتل!
فقال العجوز بغضب: أود عندما أرى شخصًا ضاحكًا أن أبصق على وجهه!
– ماذا تظن؟ الحرب تشدنا خطوة فخطوة، وإذا استعر لهيبها، فلن ينجو من نارها مخلوق، في الجبهة كان أم في داره.
وساءل نفسه مرةً أخرى: ماذا يقول الرجل لو علم بما يدور في مسكنه الخيالي؟ اللعنة. ماذا تريدون؟ لم يبقَ على النهاية إلا القليل. والحياة عزيزة وحبها معقول. وأنتِ يا مصر عزيزة، وحبك لا معقول! لا شك أنه توجد نقطة في العلو تذوب فيها الفوارق، وتنمحي الانفعالات المهلكة، وتنغص عليه صفوه تمامًا. وحكم على نفسه بالغباء والحماقة. وقال إنه ما زال ينقصه قدرٌ مخيف من الغباء والحماقة ليكون من عظماء التاريخ. شعلة الحياة والجنون والغموض الخلاق.
وقال عشماوي: من العدل أن تتوزع المصائب بالمساواة الحقة.
– صدقت.
وقال عبده بدران: أنا لا أفهم!
فرمقه حسني بنظرة استفهام فقال: أيام الكروب تتتابع كالمطر!
– نحن قلب العالم، فماذا تتوقع؟
– الاحتلال، الاستقلال، ١٩٥٦، اليمن، ١٩٦٧، الاحتلال!
فقال وهو يداري ضجرًا بدأ يزحف: غدًا يخلق وطنٌ جديد!
– قلبي غير مطمئن!
– لأنك راجع من المستشفى بعد التأهب للاحتفال بفرح!
– آه يا بلدي.
فقال عشماوي: بلد الأولياء والصالحين!
ثم بعنفٍ استرد به بعضًا من وحشيته القديمة: يا عرب!
وقال حسني لنفسه للمرة الثالثة: ما أشق ما تطالبنا به الحياة، الضعف والقوة، الحماقة والحكمة، النعومة والخشونة، الجهل والعلم، القبح والجمال، الظلم والعدل، العبودية والحرية، وأين أنا من هذا كله؟! لا همة ولا موقع يصلح للعمل ولا بقية من عمر، ولكني أحبكِ يا مصر، فمعذرة إذا وجدتِني مع حبك أحب الحياة في ساعات وداعها الحمقاء!
٢٠
وقفت السيارة أمام عش سقارة. غادرها في وقتٍ واحد الأستاذ حسن حمودة ومنى زهران. مضيا إلى خميلة في الناحية الجنوبية من الحديقة، فجلسا تحت مصباحٍ خافت يرسل نورًا أزرق من خلال أوراق اللبلاب. جميلة كعادتها، ولكن ثبتت في أعماق عينيها نظرةٌ حزينة. وكان يعتبر أنه تخطى العقبات الأساسية، فتبدَّى مرحًا بقامته الطويلة، وبشرته العميقة السمرة، وثقته بنفسه التي تلازم حركاته وسكناته. ونظر إليها طويلًا. وجعل يبتسم وكأنما يدعوها إلى الابتسام أيضًا. وقال وهو يتنفس بعمق هواء الليل المعبق بروائحَ نباتية: المكان هادئ، بعيد عن الدنيا، ينتمي إلى عالمٍ آخر.
فهمست: نعم.
وشعرت بأنها جاوزت الحد في الاعتراف بالسعادة، فاستدركت: ولكنا نحمل في قلوبنا هموم العالم الأول.
– لكِ نصيب موفور من الهموم، ولكنكِ لست أتعس مَن على سطح الأرض، هل تدركين معنى خسارة ألف فدان في ثانيةٍ واحدة؟ ومصرع أبٍ مهيب بأزمةٍ قلبية، وتلويث سمعة أسرةٍ كبيرةٍ كريمة شاركت في حياتنا الوطنية منذ الثورة العرابية؟
وترددت وقتًا قبل أن تتساءل: ترى ألا تعلم بأنني لا أعد صديقة للإقطاع؟
فابتسم بسماحة وقال: لا يدهشني ذلك بطبيعة الحال، فأنتِ من جيل الثورة، ولكن لعلكِ لا تعدين نفسك عدوة لثورة الطلبة؟
– هذا أمرٌ مختلف.
– ليكن، ولنعد إلى همومكِ الحقيقية، فأقول لك ألَّا ذنب عليكِ مطلقًا!
– ولكننا كما ترى، أما هو …
فقاطعها بقوة: أكرر ألا ذنب عليكِ!
وأدنى وجهه حتى انعكس الضوء الخافت على جناحي أنفه، وقال: ستظل القبور مكتظة، وكذلك المستشفيات، ولن يمنعنا ذلك من أن نأكل ونشرب ونتزوج!
وتنهدت بصوتٍ مسموعٍ وتمتمت: كنا على وشك الهجرة!
فقال ضاحكًا: شد ما تمنيتُها، ولكن بلا أمل، وعلى أي حال، فخيرٌ لنا أن نختار موضوعًا آخر للحديث.
فواصلت حديثها بإصرار: وقيل لنا تفكران في الهرب، وسفينة الوطن تواجه الشدائد؟
– آه .. أعترف لكِ بأنني نشأت وطنيًّا، ولكنني لم أعد أبالي شيئًا، ساعديني من فضلك على تغيير الموضوع.
– ألا يهمكَ أن ينتصر الوطن؟
فضحك يائسًا، وقال: يهمني أن نعيش في سلامٍ وسعادة، فإن تحقق ذلك عن طريق النصر فأهلًا به وسهلًا، وإن تحقق عن طريق الهزيمة فأهلًا بها وسهلًا.
فنظرت إليه بذهولٍ وقالت: لا أفهم!
– لكِ العذر، ولكني جئت بكِ إلى هنا لأني أحبكِ.
الواقع أنه كان يريد أن يقول أكثر من ذلك، وفي الموضوع الذي يتهرب منه. وقال لنفسه: لا مهرب من السياسة، فهي كالهواء. وقال: لو أنهم انتصروا في حرب يونيو، فماذا كان يفعل أمثالنا؟ فالهزيمة رغم شرِّها لا تخلو من بركة للمغلوبين على أمرهم!
صمتت منى. خُيِّل إليه أنها لا تستطيع هضم قوله، وأراد أن يؤكد رأيه بنغمةٍ جديدة، رقيقة نوعًا، فقال: الوطن هو الأرض التي يسعد فيها الإنسان ويكرَّم.
– وهل نسعد ونكرَّم إذا هزمتنا إسرائيل؟
فلم يستطع أن ينبس بكلمة. فنفخت في ضيقٍ وقالت: على أي حال، فلن أرميك بحجرٍ ما دمت قد عزمت يومًا على الهجرة؟
وجاء النادل متمهلًا، فأمر — بعد مشاورة — بزجاجة بيرة وحمام مشوي، ثم قال بعد اختفاء الرجل في ظلام الحديقة: لقد رُميتُ بألف حجر!
ثم قال بنبرة وعظٍ وإرشاد: كلما اشتد البلاء حُقَّ للإنسان أن يتفانى في البحث عن السعادة.
– رأيٌ غريب!
– ولكنه طبيعي وحقيقي، ولا شيء كالهم يمتصُّ من السعادة رحيقها الشهي!
فقالت منى بأسف: لي صديقتان عزيزتان، توقفت مشروعات سعادتهما بسبب الحرب!
وساءل نفسه: كيف نتملص من هذه اللعنة؟ وروت له مأساة عليات وسنية، وهو يتظاهر بالانتباه والاهتمام. وقال لنفسه: إنها شديدة المراس، ولكنها ستكون زوجةً ممتازة، ولكن ماذا أبغي من ورائها؟ لا حنين إلى الأبوة ولا إلى الاستقرار، ولا إلى الخلود، ولكني أريد الحب! ورفع قدحه وهو يقول: في صحة زواجنا القريب!
٢١
في زيارة الفنانين للجبهة لم تسمح فتنة ناضر لمرزوق أنور بمفارقتها دقيقةً واحدة. بدأت الرحلة مع الصباح الباكر. وتقرر السفر إلى بورسعيد لهدوئها النسبي بالقياس إلى بقية المناطق المتفجرة المشتعلة. واختار منظمو الرحلة طريق رأس البر — رغم طوله — لموقعه البعيد عن مرمى مدفعية العدو. واطمأن الجميع إلى أنهم سيستمتعون بسفرٍ آمن وصحبةٍ هنية. وسخرت فتنة في نفسها من أستاذها أحمد رضوان، الذي تخلف عن الرحلة، معتذرًا بمرضه، متأثرًا في الواقع بجبنه وإيثاره السلامة بأي ثمن. ووصلوا إلى بورسعيد في الظهيرة، فدُعوا من فورهم للاجتماع بالمحافظ. وتبودلت كلمات الترحيب من جهة والحماس من الجهة الأخرى، ثم تقضت ساعات في زيارة بعض الثكنات في المدينة، وبعض المواقع في الجبهة. تلاقت الأيادي في مصافحاتٍ حارة. وتبودلت النظرات في إعجابٍ ومحبة. وأحاط الضباط والجنود بفنَّاناتهم وفنانيهم المفضَّلين. وتذكرت فتنة شقيقها الفقيد فدمعت عيناها، كما تذكر مرزوق صاحبه إبراهيم عبده الذي يرقد في المستشفى بين الحياة والموت. ورجعوا إلى بورسعيد عند الأصيل، فتجمعوا في استراحة المحافظة. أما فتنة، فاقترحت على مرزوق أن يتجولا قليلًا في النواحي القريبة من المدينة. سارا في شارعٍ طويلٍ عريض يبدأ من الميدان أمام مبنى المحافظة. وعقب دقائق معدودات انفصلا تمامًا عن الحياة التي يضج بها الميدان بما فوق سطحه من سيارات وجنود وموظفين. غاصا في خلاءٍ شاملٍ، وغرقا في صمتٍ مروع. لا حركة ولا نأمة، ولا ظل لإنسانٍ أو حيوان. العمارات والبيوت تقوم على الجانبين مغلقة النوافذ والأبواب كأن لم يطرقها حي، نائمة أو ميتة، أو هي هياكل ومشروعات لم تنفخ فيها الحياة بعدُ. وتاقت الأعين لرؤية أي شيء، وتلهفت الآذان على سماع أي صوت، نافذةٌ مفتوحة أو بابٌ موارب، أو غسيل يرفرف في شرفة، أو طفل يصرخ، أو قطة تموء، أو كلب ينبح، كلا ولا ورقة يدفعها الهواء، أو عقب سيجارة ملقًى، أو قمامة مكومة تحت الطوار، أي شيء، أي شيء، أي أثر لإنسان. وهمست فتنة: إنه كابوس.
فردد مرزوق: نهاية العالم.
– قلبي .. لا أدري كيف أصف مشاعري.
– تجربةٌ جديدة، ومشاعرُ جديدة.
– يخيل إليَّ أني تعيسة أو سعيدة جدًّا، وأحلم بالرجوع إلى بطن أمي.
– أشعر بأني حر، حريةً كاملة، من الحضارة والتاريخ.
– هل يمكن أن نُجنَّ فجأة؟
– وممكن أن نحادث الأرواح!
ووجدا نفسيهما أمام مدخل كازينو. مفتح الأبواب وبلا جليس، ووقف صاحبه — فيما يبدو — في مقدم التراس مرتديًا بلوفر وبنطلونًا ومشمر الساعدين. منظر مفاجئ مذهل ولا يصدق.
– لعله مفتوح بأمر المحافظ.
– لعله.
ونظرت فتنة إلى الرجل فحياها بابتسامة عرفان، فسألته: ممكن نشرب فنجال قهوة.
– أو أي شراب …
جلسا في أقصى عمق التراس بعيدًا عن مرأى الطريق الخالي. وجاءت القهوة فراحا يحتسيانها بارتياح، وقالت: بقدر ما سعدتُ بين الجنود، بقدر ما جننتُ هنا!
– حديثهم مؤثر ولهفتهم على القتال واضحة.
– أجل، لا أتصور كيف يواجه الناس الموت!
– إنه جو وعادة وعقيدة، وهذه هي المشكلة.
– وراء ذلك هزيمةٌ خاطفة لم تُهضَم بعد.
– ولعلهم أفاقوا — مثلنا — كالمجانين!
– ليجدوا كل شيء مثل هذا المقهى الخالي.
وكانت شاحبة الوجه. وذهبت إلى دورة المياه. ورجعت باسمة. وجدته يدخن سيجارة بعمقٍ فقال لها: قرأت اليوم أن أخذ النفس بعمقٍ سببٌ رئيسي في إصابة الشخص بسرطان الرئة!
– أتصدق ذلك؟
– لم تعد لي ثقة بما ينشر في الصحف.
فسألته مداعبة: صف شعورك عندما تعطل مشروع زواجك؟
فسألها متظاهرًا بالاستياء: أتسخرين من المصائب؟
فقالت بجرأة: أعترف بأني سعدت بذلك.
فتورَّد وجهه، وقال وهو يقوم: أنا ذاهب إلى دورة المياه.
وذهب مسرعًا، وعاد وقد غسل وجهه ومشط شعره فسألته ضاحكة: ماذا فعلت؟
– لعنت زماننا!
– ولكنك نجم!
– الفن مهرب كالهجرة التي أصبحت موضة هذه الأيام.
– لا أحب الفلسفة.
فقال بمرارة: أنا مُعفًى من التجنيد، ولكن لم لا أتطوع مع الفدائيين؟
فقالت بسخرية: الفنان جندي أيضًا.
فقال بنفس المرارة: الحق أني كفرت بكل شيء.
– ولكنك ترغب في الزواج!
– ماذا تتوقعين عندما يتمخض الجبل عن فأر؟
فصفرت برشاقة، ثم سألته: متى نرجع إلى القاهرة في تقديرك؟
– حوالي الفجر.
فقالت ضاحكة: إني أدعوك إلى السحور.
فتورَّد وجهه وقال: لك رجلان، ألا يقنعك ذلك؟
– أحدهما يقوم بالرعاية والآخر بالأستاذية، فمَن لقلبي الخالي مثل هذه المدينة؟
وقاما ليغادرا المكان، فقال: أنا رجل في حكم المتزوج.
فقالت بتحدٍّ: لا تكابر، أنت ملكي أنا، ألم تدرك ذلك بعدُ؟
٢٢
كان مرزوق أنور واقفًا في حديقة الاستوديو في فترة الاستراحة عندما وجد أمامه — على غير ميعاد أو توقع — سنية شقيقته وعليات خطيبته. ارتبك وشعر بأنه وقع في مأزق، وكان عليه أن يتمالك نفسه، فتمالكها، ومد يده للمصافحة وهو يغمغم بكلمات ترحيبٍ مخنوقة لم تُسمَع. وأخرسهم الصمت وقتًا، وكادوا يستسلمون له إلى ما لا نهاية، حتى خرقته سنية، فقالت وهي متوترة الأعصاب: ليس العثور عليك بالميسور في هذه الأيام.
انقطع عن بيته تمامًا منذ عشرة أيام، فلم يدرِ ماذا يقول. ودست سنية يدها في حقيبة عليات، فتناولت خطابًا وسألته: أهذا خطابك؟
فأحنى رأسه، لم ينبس ولم يعترض، فقالت سنية: مخجلٌ مؤسف بلا حدود.
فخرج من صمته متمتمًا: أشاركك عواطفك.
– أنت تقول ذلك!
– أجل، تعذبت طويلًا، ولكن لا يمكن أن تقوم حياةٌ كريمة على أكذوبة!
فتساءلت عليات بصوتٍ متهدج: تعتبر الآن ما كان بيننا أكذوبة!
فقال برقَّةٍ وحزن: تقديري لكِ بلا نهاية، كذلك خجلي منكِ، ولكنه قضاء لا حيلة فيه!
فسألته سنية بامتعاض: أيموت حبٌّ كبير في دقيقة، ليحلَّ محله حبٌّ جديد؟
وهتفت عليات: شيءٌ حقير جعلني أعتقد بأنني كنت بلهاء.
فقال: إني آسف، لا حيلة لي، وأنت شابةٌ جميلة، وسيبتسم لك كل شيء.
فقالت سنية: قل إنها نزوة أو مصلحة.
فهز رأسه بأسفٍ وقال: هي ليست كذلك.
فقالت عليات بعصبيةٍ شديدة: يجب أن أذهب.
فقال لها بتوسل: اغفري لي ذنبي.
فصاحت رغم غربة المكان: يحق لي أن أشكر الحظ، الذي كشف لي عن حقيقتك!
وتهدج صوتها منذرًا بالبكاء، فابتعدت عن المكان حتى اختفت في الظلام. عند ذلك قالت سنية بلهجةٍ قاسية: يا للعار!
فرفع منكبَيه مستسلمًا، ثم قال مغيرًا وجهة الحديث: أبعدني العمل المتواصل عن البيت، ولكني سأزوركم في أول فرصة.
فقالت ساخرة: تكاليف الفن باهظة فيما يبدو!
فتجاهل سخريتها قائلًا: زرت إبراهيم في المستشفى، ولكن تعذَّر عليَّ محادثته.
فقالت وهي تحني رأسها وفي تأثرٍ بالغ: لعلك لم تعلم بأنه فقد بصره!
فصعق لحظاتٍ في انزعاجٍ حقيقي على حين صدرت عن الفتاة زفرات بكاء.
– فقد بصره؟!
– أجل.
– نهائيًّا؟
– طبعًا.
– وهل عرف الحقيقة؟
– أجل.
وساد الصمت فوضح صوت النسيم في غصون الأشجار، ثم تمتم: آسف على حظك يا سنية!
– هو على أي حالٍ خير من حظ عليات!
– وماذا قررتِ؟
– يا له من سؤال! سأتمسك به إلى ما لا نهاية.
فتساءل بدهشة: أتعنين ما تقولين؟
– بكل توكيد.
– لن يهملوه من الناحية المالية، ولكن …
فقاطعته: قدرتُ كل شيء، ثم اتخذت قراري.
فتردد قليلًا، ثم قال: أرجو أن يكون قرارك نتيجة لتفكيرٍ سليمٍ لا لفورةٍ عاطفيةٍ زائلة!
– إني أعرف نفسي أكثر مما تتصور!
– إذن فتقبَّلي صادق تمنياتي!
فتساءلت مغيِّرة الحديث بدورها ومرجعة إياه إلى مجراه الأصلي: ألا يمكن أن تعدل عن قرارك فيما يتعلق بعليات؟
فقال بهدوءٍ وتصميم: كلا للأسف!
– إنك تُفرِّط في حبٍّ حقيقي.
– سنتزوج في أقرب فرصة.
وفصل الصمت بينهما مرةً أخرى، حتى قال: إني معجبٌ بك!
فقالت وهي تهم بالذهاب: ليتني أستطيع أن أقول ذلك لك.
٢٣
جلس حسني حجازي على الديوان الأوسط تحت النجفة في شبه استلقاءٍ وهو يراقب المخرج أحمد رضوان في ذهابه وإيابه، أو وقوفه القلق مستندًا بكوعه إلى حافة البار. وقال له: اجلس واشرب واهدأ.
فهتف المخرج بحنق: لن أجد مشاركةً وجدانية عند أحد!
فابتسم حسني حجازي، وقال لنفسه: إن الجنون هو الطابع المميز لهذه الأعوام. وتذكر أنه أحب مرةً واحدة في حياته، ثم نسي الحب تمامًا. هل يُقضى عليه بأن يحب من جديد، وأن يتولَّه ويجنَّ وهو يتعثر في الحلقة السادسة؟
وقال أحمد رضوان بغضب: طالما لاحظتُ أشياء وتغاضيتُ عنها، ثم ظننتها عابرة!
فقال حسني حجازي برقَّة: يا عزيزي أحمد، دعني أفكرك بذلك الرفيق الرهيب الذي نسميه الزمن!
– إني أقوى من بغل.
– اجلس واشرب كأسًا.
– إني أفكر تفكيرًا جديًّا في قتلها!
– اسمعوا ماذا يقول الزوج القديم والأب الوقور!
فقال بتقزُّز: الزواج والأبوة لا يمنعان من الحب، ولا من القتل!
– آه لو جلست وشربت!
فضرب الأرض بقدمه وقال: واتفقنا على الزواج، الزواج مرةً واحدة، أتعرف ماذا يعني هذا؟ أن تخسرني أنا والشيخ يزيد في آن، الشيخ يزيد الذي نقلها من بيتٍ قديمٍ بشارع الصقلبي إلى عمارة النيل، وأنا الذي خلقتها!
فقال حسني حجازي ملاطفًا: ربما أتيح لنا أن نُخلق، ولكن لن يتيسر لنا التحكُّم في مخلوقاتنا إلى الأبد.
– المجنونة بنت المجنونة، ألا تدري بأن نورها سينطفئ، وأنه لن يجد من يتعاقد معه على عمل؟
– قم برحلة في ربوع أوروبا.
– على الرحلة وعلى أوروبا اللعنة!
– إني حزين عليك أيها الزميل القديم!
– أليس عندك دواء خير من ذلك؟
– عندي مأساةٌ مماثلة، فأنا أعرف خطيبة مرزوق الأولى. وهي تتألم مثلك تمامًا.
فقال بمرارة: ستشفى من دائها في ساعة أو ساعة ونصف.
فضحك حسني على رغمه وقال: إذن فأنت العاشق الوحيد في هذا الوطن!
فتنهد أحمد وقال: الله يحرقها كما تحرقني، الحق أني لا أتصور الحياة بدونها.
– صبرك، إنها متقلِّبة الأهواء، وأراهن على أن هذا الزواج لن يعيش أكثر من شهر!
– وما عليَّ إلا الصبر والتألم!
– اجلس واشرب.
– ليس لديك إلا النصائح المحفوظة!
– ماذا بوسعي أن أفعل؟
– بوسعي أنا أن أقتل!
– كلا، لستَ من فصيلة سفاكي الدماء!
فقال بحنق من تطارده ذكرياتٌ مذلة: حتى الزواج اقترحته عليها!
– الله معك!
– وماذا كان جواب العاهرة؟ إنها قررت الزواج أيضًا، ولكن من الآخر!
وكور قبضته مهددًا واستطرد: إنهم يقيمون الاستعدادات للوقاية من الغارات الجوية، ويتوقعون حربًا شاملة، عظيم، إني أتنبأ بكارثة ستحيق بهذه الأرض اللعينة!
وتذكر حسني اللون الأزرق الذي يطلون به النوافذ والمصابيح، وقوائم الطوب الأحمر أمام الأبواب، فانقبض صدره. وقال لنفسه إن عزاءه الوحيد في الحياة يتركز في مسكنه الجميل الحافل، فكيف تمضي الحياة إذا تهدم، كيف تمضي الحياة إذا وجد نفسه بين المهجَّرين في معسكرٍ من الخيام؟ وقال للرجل: أنصحك بالقيام برحلةٍ إلى الخارج عقب الانتهاء من فيلمك.
فتأوَّه أحمد، وهو يستدير نحو البار ليملأ كأسًا، وقال بمرارة: إني بحاجةٍ إلى رحلةٍ طويلةٍ جدًّا.
٢٤
دقَّ جرس التليفون على مكتب منى زهران، فكان المتكلم سالم علي. رجاها بكل جديةٍ واحترام أن تقابله «دقائق» في دار الشاي الهندي، أو في أي مكانٍ تفضله. واعتذرت من ناحية المبدأ، فألحَّ عليها إلحاحًا شديدًا. سألت عن السبب، فقال إنه لا يستطيع أن يفصح بما لديه في التليفون، ولكن لديه ما يقوله، وهو هامٌّ وخطير. وذهبت إلى الموعد وهي في غايةٍ من الضيق والقلق. وتقابلا وتصافحا وجلسا معًا. ولاحظت من النظرة الأولى أنه ليس على ما يرام، وارتاحت لذلك، ولكنها لم ترتح لارتياحها. فَقدَ من وزنه قدرًا ملموسًا، وخبا نور عينَيه، وشحب لونه. وقرأت في عينَيه انعكاس صورتها، فخُيِّل إليها أنه لاحظ أيضًا تغييرًا استوقفه، فهل صبغتها الأحزان بلونها القاتم وهي لا تدري؟ وشكر لها «تفضُّلها» بالحضور، فصارحته بأنها لا تريد أن تبقى أكثر مما يجب. أحرجته الإجابة قليلًا، ولكنه كان على أي حالٍ يتوقعها، فقال: منذ آخر لقاء تلقَّى كلانا تجارب قاسية، وكم وددت أن ألازمكِ في محنتكِ!
فلم تعلق بحرفٍ، فقال: واتسمت تصرفاتي طيلة تلك الفترة بحماقاتٍ لا وصف لها.
فلم تنبس أيضًا، فواصل حديثه: أقدمتُ على زواجٍ كأنه أسلوب من أساليب الانتحار.
فقالت ولو أنها سرعان ما ندمت على قولها: فاتني أن أهنئك في وقتها!
فازدردها متجاهلًا، وقال: وعلمت أنكِ ستتزوجين قريبًا؟
– جدًّا.
وكان جياشًا بانفعالاتٍ يخشى ألا يسيطر عليها، فصمت قليلًا لينظم تشتته، ثم قال: معذرة، أود أن أسألك: هل تتزوجين عن حبٍّ حقيقي؟
فتساءلت باحتجاج: بأي حق؟
– لا حق لي مطلقًا، ولكني تعلمت عن تجربة أن أي تصرفٍ مستهترٍ يمسُّ حياتنا، فهو يتمخض عادةً عن كارثة.
– ثوب الواعظ لا يناسبك بتاتًا!
فتنهد بعمقٍ واعترف قائلًا: منى، أحبك، ما زلت أحبك كأول يوم، لا حياة لي بدونك!
فرمقته بنظرة ازدراءٍ وغضب، فقال: ماذا فعلتُ بنفسي؟ تزوجتُ من راقصةٍ تعيسة، لماذا؟ بصراحة أعتبركِ المسئولة!
– مسئولة؟!
– لم ترعَي حبنا بما يستحقه من احترام، تجنيتُ عليه أنا بعنادي السقيم، وطعنتِه أنتِ بكبرياء جاوزت الحد، هكذا يستهين بعض الناس أحيانًا بسعادتهم الحقيقية!
فقالت، وهي تقطب لتضفي على وجهها قسوة تداري بها انفعالاتها: ما الداعي إلى نبش أشياء قد ماتت وشبعت موتًا؟
– لا ينبغي لها أن تموت.
– ولكنها ماتت بالفعل!
– لا أصدق أن الموت يجوز عليها.
– هذا وهمكَ أنت وحدك!
– أما أنا فلم ألقَ إلا العذاب، حتى حررتُ نفسي بالطلاق.
نظرت بعيدًا كأن شيئًا استرعى بصرها ولم تعلق، فقال: انكشف زواجي عن لعبةٍ سخيفة، أدركت أنني لا يمكن أن أواصل الحياة مع المرأة المسكينة، فلا حب يجمعنا، ولا شيء مشترك البتة، ماذا أقول؟ إنها امرأةٌ سيئة الحظ، أفسدتها حياة الليل، وجففت ينابيع الإنسانية في قلبها، سلسلةٌ متصلة من العادات الجهنمية، وإدمان قاتل للأفيون!
– لا أدري لمَ تحدثُني عن ذلك؟
– لأني أحبك!
وانتظر دقيقة حتى تستقر الكلمة في وعيها، ثم استطرد: إن يكن للحب عندكِ قيمة، فيجب أن تصغي إليَّ، وأنا أعلم أنك تقدسين الحب، إن كنت تحبين الرجل فمعذرة عن تبديد وقتك، وأما إذا أردت أن تملئي بالزواج فراغًا، فلا شيء يملأ فراغ الحب إلا الحب نفسه!
فسألته بحدة: ماذا تريد؟
– أن نرجع إلى حبنا.
فضحكت ضحكةً فاترة، وقالت: يا له من مطلبٍ مضحك!
– هو مطلبي الوحيد في الحياة!
فرفعت منكبَيها استهانةً ولم تنبس لتطمئن إلى سيطرتها على انفعالاتها، فقال: إن الأمل يضيء قلبي كالإلهام!
فقامت قائلة: آن لي أن أذهب.
فتبعها وهو يقول: لن أسلم بخيبة مسعاي، مع السلامة، ومعكِ قلبي إلى الأبد!
٢٥
لم يبقَ في الحجرة إلا إبراهيم، بمجلسه فوق الكنبة بين سنية خطيبته وعليات شقيقته. ارتدى جلبابًا فضفاضًا، برز من طوقه رأسه الحليق ووجهه النحيل الشاحب، والنظارة السوداء التي أخفت عينَيه. ذاك أول يوم رجع فيه إلى بيته، حيث تلقَّى سيلًا من كلمات العزاء والتشجيع، ثم أُخليت الحجرة إلا من ثلاثتهم، فأسند رأسه إلى الجدار البارد، وأخذ يستحوذ على إرادته. بالنسبة إليه انتهى القتال، وانطوى تاريخ، واختفى النور إلى الأبد. عندما انقضَّت عليه الحقيقة قال: «ليتني متُّ!» لم يعد يرددها، وسرى إلى قلبه دفءٌ عجيب في بيته، ولم يعد يشك أن الحي خير من الميت، ولم تكفَّ سنية عن الكلام، قالت ضاحكة: لا يأس مع الحياة، كم من مرةٍ كتبتها أو ردَّدتُها، ونسيت للأسف قائلها، ولكني لم أدرك معناها إلا اليوم!
ابتسم لصوتها المحبوب، فعادت تقول: سأقرأ لك، وستتعلم القراءة على طريقة برايل، وستشق لنفسك طريقًا جديدًا!
فتمتم: سنية، أنا ممتنٌّ جدًّا، أنتِ ملاك!
وتردد قليلًا، ثم استطرد: ولكني أعفيك من أي تعهدٍ سابق!
وضعت سبابتها على شفتيه بحنانٍ، وقالت: لم أسمع شيئًا.
– بل فكري طويلًا، إن أبعد قراراتنا عن الصواب هي ما نتخذها ونحن منفعلون.
فقالت بقوةٍ وثقة: فكرتُ .. وتبين لي أنني لم أكن بحاجةٍ إلى تفكيرٍ البتة!
– أما أنا فلا أحب أن أكون أنانيًّا.
– إنه قراري أنا، وكيف تقرن الأنانية بشخصكَ بعد أن ضحيت بالعزيز الغالي!
فأسند رأسه إلى يده، وقال: ولكني خجلان.
– أما أنا فسعيدةٌ جدًّا.
وقالت عليات: صدِّقْها، إني مطلعة على مكنون قلبها!
وكانت في الخارج تعصف رياحٌ مزمجرة، ثم هطلت الأمطار خمس دقائق صفا بعدها الجو، وتفشى الدفء والنقاء، وشذا السماء. وأوى إبراهيم إلى فراشه، وسرعان ما نام نومًا عميقًا. وبقيت عليات وسنية في حجرة الجلوس وحدهما، وبين أيديهما إبريق شاي، وطبقٌ مملوء بالفول الأخضر. وتبدت سنية سعيدة، وجياشة الصدر بعواطف لم تفصح عنها بعدُ. وانبعث في صدرها ينبوع إلهام، فأشعرها بشجاعةٍ متحدية وفدائية. قالت: إني أفكر.
فرمقتها عليات مستطلعة، فقالت: لا أريد أن أخدعه!
ففزعت عليات قائلة: كلا!
– لا أريد …
فقاطعتها بخوف: أخي رغم شبابه متشبع بآراء أبي وأمي في هذه المسألة بالذات، فلن يفهمك أبدًا!
– أعتقد العكس.
– كلا، حسبكِ أنك مخلصة له حقًّا.
فتساءلت سنية في ارتياب: أليس من حقه أن يعلم؟
– كلا، لا أعترف بحق لا يجلب إلا الشقاء، وهو لن يفهمك!
– وإذا تراءى له أن يسأل؟
– حسبكِ أنك مخلصة له، والإخلاص يحجب ما كان قبله!
وتفكرتا معًا في صمتٍ وقلقٍ، حتى قالت عليات: لم نشقَ باللهو، فلا يجوز أن نشقى بالحب الحقيقي.
ولمست في نبرتها حسرة على تعاستها، فقالت متأثرة: ستجدين الحب مرةً أخرى، إنه مع الحياة دائمًا!
– كوارث السلام لا تقل عن كوارث الحرب!
– أعتقد أن كارثة حلَّت بأخي مرزوق، وهو لا يدري!
فهزَّت عليات رأسها في أسًى، ثم قالت مستسلمة لذكرى هفت على قلبها فجأة: والدكتور علي زهران ضحية من ضحايا العبث!
وتذكرت سنية منى زهران فجرت على شفتَيها ابتسامة، فسألتها عليات عما جعلها تبتسم، فقالت: قرارات منى زهران!
فضحكت عليات وقالت: عليها أن تعلن نشرةً يومية عن تذبذبات إرادتها.
– هل تظنينها قطعت الأستاذ حسن حمودة نهائيًّا؟
– أعتقد أنها ستتزوج من سالم علي في أقرب فرصة.
– رغم جنونها فهو قرارٌ حكيم.
– كلاهما مجنون.
وساد السكوت قليلًا، حتى سألت عليات: متى يتزوجان؟
– منى وسالم؟
– مرزوق وفتنة!
فأجابت سنية في وجوم: لا أدري .. يقال إنهما سيتزوجان عقب الانتهاء من تصوير الفيلم!
وشعرت سنية بأسًى سرعان ما جفف ينابيع إلهامها.
٢٦
دُعي الأستاذ حسن حمودة لتناول العشاء بفيلا الصحفي صفوت مرجان بشارع أحمد شوقي. انعقدت الجلسة في الفراندة المطلة على الحديقة، فجلس حسن حمودة بين صديقَيه صفوت وحرمه نهاد الرحماني. تناول طعامه بشراهةٍ وشرب كثيرًا، وصمم طيلة الوقت على التظاهر بالاستهانة وتجاوز الأزمة. وقال له صفوت مرجان: خشيتُ أن أجدك تعيسًا.
فقال ببساطة توحي بالصراحة: لا وجه للتعاسة!
ثم مستدركًا: مسألة كرامة ليس إلا!
الحق أنه لم يتصور أن يجد نفسه في الموقف الذي خلقته له منى. كان بصدد تحديد يوم الزواج، وقرر الاحتفال به في الأوبرج، وعلم بذلك الأهل والأصدقاء والزملاء. وعندما جابهته بجرأتها المعهودة معتذرةً صُعق تمامًا، صُعق وذهل؛ توسل إليها أن تراجع نفسها. وكان أحبها وامتلأ إعجابًا بها، وحلم بحياةٍ سعيدةٍ معها. أي لعنة! أكُتبَ عليه أن يعاني في الحب ما عاناه في السياسة؟!
وسألته السيدة نهاد الرحماني: وماذا تنوي بعد ذلك يا عزيزي؟
فأجاب برزانة: سألوذ بالجبل كمجرمي وطني الصعيد، ثم أقطع الطريق على الرائح والغادي.
فضحك الأستاذ صفوت مرجان، وقال يداعبه: مالك أنت وبنات اليوم! احمد ربنا على تلك النهاية!
وقالت له نهاد: خير ما تفعله الآن أن تتزوج زيجةً معقولة قبل أن يفوتك القطار.
فتساءل بامتعاض: معقولة؟!
– أعني أن تناسبك في السن والأسرة.
فقال لها صفوت: يبدو أن عندكِ عروسًا!
– العروس الصالحة توجد دائمًا، ماذا تظن؟
فقال حسن حمودة: أمهليني حتى تمضي فترة الانتقال.
وقال لنفسه ساخرًا إن قانون الأشياء يقضي بأن يتزوج صفوت الاشتراكي من امرأة مثل نهاد من أسرة، أما هو فعليه أن يتزوج من إحدى بنات الشعب! وإذا بصفوت يقول: حكاية منى معك تعيد حكايةً قديمة حدثت منذ عشرين سنة!
فبُهت حسن حمودة ثواني، ثم ضحك، أما نهاد فتساءلت: أي حكاية؟
فأجاب صفوت: حكايةٌ قديمة كان حسن بطلها!
فقال حسن ساخرًا: كنت الوغد لا البطل!
فسأله صفوت: ماذا كان اسمها؟ لقد نسيته تمامًا.
فقال حسن: سمراء وجدي.
فقالت نهاد: لم أسمع باسمها ولا بقصَّتها.
فقال صفوت مرجان: كنا طلبة بالحقوق، وعشقها صاحبنا، وكانت من أسرةٍ كبيرة، وإن كان فرعها الخاص لا يملك شيئًا!
فتساءلت نهاد: وخطبها؟
– عشقها فقط، وكان عشيقًا جريئًا، يتسلل إليها ليلًا في قصر عمها على النيل والناس نيام!
– ألف ليلة وليلة .. الله .. الله!
وذات ليلة شعر به الخفير، طارده، أطلق النار، أصابت الرصاصة خد الفتاة ولاذ صاحبنا بالفرار، وعند التحقيق قالت إنها شعرت بخطواتٍ غريبة، وإنها خرجت لتنادي الخفير، فأصابتها الرصاصة!
– رائع!
– ولكن وجهها تشوَّه، أو خدها على الأقل!
– مسكينة!
– وكما هرب الأستاذ من القصر، هرب من حياتها!
– من حياتها؟!
– وإلى الأبد.
وهمت بالتعليق، ولكنها أمسكت، ولحظ حسن ذلك فقال ضاحكًا: انطقي بالحكم، سمعتِ كل ما يمكن أن يقال.
فقالت: كان عليكَ أن تتمسك بها!
– كان لهوًا لا حبًّا، وكنت مجنونًا بالشباب، وها أنا أُعامَل بالمثل!
فسأله صفوت مرجان: ترى ماذا كان مصيرها؟
فقال حسن: إنها تملك اليوم محلًّا لبيع لوازم السيدات بشارع شريف.
– ألم تجمع بينكما مصادفةٌ ما؟
– مرة منذ سنوات في مشرب بيجال وتجاهلتني تمامًا.
فقالت نهاد: لستَ قاسيًا فيما أعلم.
– الحق أني لم أخلُ من ألم وتنغيص، حتى تراكمت عليَّ المصائب بقدوم الثورة المباركة، فطهرتني من الألم بما هو أشد وأفظع!
فقالت نهاد: أمامك فرصةٌ نادرة، فتزوَّج منها.
فضحك عاليًا وقال: نهايةٌ ممتازة لميلودراما، أما الواقع فإنها اليوم قوادة يُشار لها بالبنان!
– قوادة؟!
– قوادة هاوية.
فسأله صفوت: ماذا تعني؟
– بيتها خلية للبنات، لها عليهن سيطرةٌ أسطورية، وتسهر معهن في بيوت الأصدقاء، بدافع اللهو والعبث لا المال!
– يا لها من نهاية!
– وسمعت بأنها تقول ساخرة إن عصر البراءة قد زال مع الرجعية والإقطاع والاستعمار!
وسألته نهاد: ألا تعتبر نفسك مسئولًا عن تلك النهاية؟
– كلا يا عزيزتي، كان يمكن أن تكون زوجة، أو مجرد صاحبة محل مستهترة، أو قديسة …
فيم يثيرون هذا الحساب العاطفي من أجل ماضٍ ميت، وينسون ما أعانيه في قلبي وكرامتي! أليست سمراء وجدي بأسعد مني ألف مرة؟ ألم تفقد أسرتنا ابن أخت في غارات الأعماق؟ كما مات أبي، وكما لُوِّثت سمعتنا ظلمًا وبهتانًا. غير أن أخطر شيءٍ أن يستسلم المرء لعاطفة حبٍّ خائبٍ، وهو في الأربعين. والتفت نحو صفوت فسأله: ماذا عن الأخبار؟
فأجاب الرجل الذي لرأيه وزنه دائمًا: لا جديد، ولكن الأمور تتحسن فيما أعتقد.
فقال حسن حمودة بضيق: الله يسامحك.
فضحك صفوت من أعماقه، وقال: نسيتُ أنني أخاطب رجلًا هواه مع جيش إسرائيل ضد جيش مصر.
فتساءل وهو لا يخلو من شعورٍ بالاستياء: أهذا هو تصويرك لموقفي؟
– المسألة مسألة موقفٍ وطني قبل كل شيء.
– أي موقف وطني! إما الديمقراطية أو الاشتراكية، أمريكا أو روسيا، وإذا كان من حقكم أن تحبوا روسيا، فلم لا يكون من حقِّنا أن نحب أمريكا؟!
فقال صفوت بجدية: المهم ما يريده الشعب.
– أي شعب؟
– الشعب؛ الشعب التحتاني الذي لا تعرفه.
وفاض قلبه بالتهكم والمرارة، والكراهية والسخط، وفي تلك اللحظة كره كل شيء، حتى الحديقة التي تضوع بشذا زهر البرتقال، والليل الرطيب، وصفوت مرجان، وحتى نهاد الرحماني، وقال لنفسه: صبرًا، ففي غمضة عينٍ قد تقع كارثة لا تخطر على بال!
٢٧
شهدت عليات حفلَي زواج في أسبوعٍ واحد؛ حفلٌ متواضع جمع بين أخيها الضرير وسنية، وحفلٌ أقيم في بهو عمر الخيام جمع بين منى زهران وسالم علي. وقالت إنه مهما يكن من شأن الصداقة التي تربطها بسنية ومنى، فلن تبقى هي هي بعد الزواج، هكذا تعلَّمت من تجاربَ سابقة، فشعرت بفراغٍ مروع لم تشعر بمثله من قبلُ. وكرهت فكرة العودة إلى اللهو والعبث، فالحق أنها كانت تتوق إلى الحب. وزارت الأستاذ حسني حجازي مساءً بناءً على دعوةٍ تلقتها منه تليفونيًّا، وهي في الوزارة. تلقاها بحنانٍ قبَّل وجنتيها، وهو يقول: توقعت أن تزوريني من زمن!
لما لم تجب سألها: ماذا تفعلين؟
فقالت بفتور: آكل وأشرب وأنام.
– يجب أن نتعلم من مرارة الأيام التي نتجرعها ألا نحزن أكثر مما ينبغي مهما يكن المصاب!
فقالت بالفتور نفسه: إني أتعلم، ولكن التعليم كما تعلم يحتاج إلى زمن.
– أنتِ شجاعة، وأنا مطمئنٌ إلى مستقبلك.
وضحكت على رغمها، فنظر إليها مستطلعًا: ماذا أضحكك؟
– ما أجملك في ثوب الواعظ!
فتساءل وهو يمضي إلى البار ليملأ قدحَين من كوكتيله المشهور: ترى هل سمعتِ هذا القول من قبل؟
– لم دعوتني؟ .. هل وراءك فيلمٌ جديد؟
فقدم لها القدح قائلًا: إني أفكر في مستقبل بناتي، ولا أنساهن كما ينسينني؛ لذلك حدثت المخرج أحمد رضوان في شأنك!
فاشتعلت عيناها في اهتمام ودهشة وتمتمت: شأني؟
– قلت إنكِ فتاةٌ ممتازة وجميلة وتصلحين للشاشة!
فهتفت في ذهول: أنا!
– أنتِ طبعًا!
فضحكت بعصبيةٍ وقالت: لا أتصور، لا أستطيع!
– وهل كان مرزوق يتصور أو يستطيع؟
– لستُ ممثلة .. ثم أنسيتَ أبي؟
– سيثور طبعًا، ويرفض، وسأحدثه طويلًا، وسوف يذعن في النهاية!
– إنه أصلب مما تتصور، ولكنه ليس العائق الحقيقي، العائق هنا!
وأشارت إلى نفسها، فقال: لندع الأمر للتجربة.
– إذن فأنت جاد؟
– وهو على استعدادٍ لاختبارك!
– وما الذي جعلك تفكر في ذلك؟
وهو يضحك: حتى لا تقتصر حياتك على الأكل والشرب والنوم!
ودارت قلقها بالضحك، فقال: توقعت أن تتحمسي أكثر من ذلك، فالحياة تطالبنا بالحماس، حتى في أسوأ الظروف.
وشربا معًا، وأغمضت عينَيها لتفكر، وراح هو يتمشى بين البار والتلفزيون. فتحت عينَيها، فالتقت بعينَيه، فسألها: ماذا قلتِ؟
– ليكن، ليس في الإمكان أسوأ مما كان.
فضحك وقال: الغم يخلق حكمًا جديدة.
فقالت: الشوارع في شبه ظلمة!
– لا يمكن أن تفهمي شيئًا أو تستنتجي شيئًا.
– المستقبل مليء بكافة الاحتمالات.
– في مثل هذه الظروف يحسن العناية بكل دقيقةٍ خالية من كارثة.
– الأقاويل كثيرة جدًّا.
– لو ضربت القاهرة، فستقوم القيامة.
– مسكينٌ أخي، ربنا يأخذ بيده!
فقال حسني حجازي بجدية: استُدعي ابن أخي الأكبر أمس للتجنيد، أما أختي وهي أرملةٌ غنية، فقد فعلت المستحيل لتُجنِّب بِكريَّها التجنيد، وذلك بإرساله إلى كندا كمهاجر.
– كيف أمكنها ذلك؟
فضحك ضحكةً قصيرة، وقال: تخيلي الأمر بنفسك! المهم أنه قتل في الأسبوع الماضي في حادث تصادم!
فندَّت عنها آهة تعجب، فقال حسني: اضحكي إن شئتِ!
فتساءلت: هل تنقصنا روح القتال؟
– زوار الجبهة يلمسون روحًا عالية، ولكن الأهالي يعيشون في بلبلة!
ثم استدرك بنبرة يقين: ولا تنسي الفدائيين فهم معجزة هذه المرحلة!
ودقَّ جرس الباب الخارجي، فمضى إليه باهتمامٍ وهو يقول: أظنه أحمد رضوان، كوني شجاعة من فضلك!
٢٨
شهدت فتنة ناضر اليوم الأخير للتصوير وحدها؛ إذ لم يكن لمرزوق دور في ذلك المشهد. وانتهى العمل حوالي منتصف التاسعة مساءً، فتبودلت التهاني، وشُربت أكواب الشربات، ووزع أحمد رضوان نقودًا على العمال. ودعا فتنة إلى فنجان شاي في البوفيه، فغيرت ملابسها، ولحقت به، وجلسا معًا يحتسيان الشاي، ويتناولان البسكوت. وساءلت نفسها أهي جلسة الوداع؟ وكانت ثمة أنباء نمت إليها عن أنه يعدُّ مفاجأة في الوجوه الجديدة بقصد القضاء عليها، فلم تكترث كثيرًا، مطمئنةً إلى ما أحرزته من نجاحٍ بين الجماهير. وفي الوقت نفسه تمنَّت لو تتفادى من تطاحن سخيفٍ لا معنى له، تمنت أن يثوب إلى رشده إن يكن ذلك في الإمكان. وكان يلاحظها طيلة الوقت، فسألها: ترى فيم تفكرين؟
فأجابت بصراحة: كيف يمكن أن نظل أصدقاء؟
فقال بامتعاض: الصداقة لا تصلح بديلًا عن الحب.
– يجب أن تحاكمني بعدالة.
– أهذا يعني أنكِ ستتزوجين حقًّا؟
– صارحتُك بذلك في حينه.
فقال محتجًّا: ولكنني لم أكن في حياتك شيئًا على الهامش!
فاعترفت قائلة: لا جدال في ذلك، نور نجاحي مستمد من روحك!
فقال برجاء: أشكرك، ولكن لم الزواج يا فتنة؟ لا داعي للزواج يا فتنة!
– يخيل إليَّ أنكَ لم تصدقني بعد.
– يعزُّ عليَّ تصديقك.
– لا تصدق أن الجنون ممكن؟
فقال باستسلام: بما أنني مجنون، فأنا أُومن بالجنون، ولكن …
وتوقف فتساءلت: ولكن؟
– ولكن هل يبلغ الجنون حد الاستهانة بالمستقبل؟
ها هو يعود للتهديد! هو هو لا يتغير. وقالت: المستقبل بيد الله وحده!
فقال ساخرًا: يعجبني إيمانك!
فلم تضحك، فأدنى رأسه إليها، وقال: إذن فلتبقَ علاقتنا كما كانت!
فقالت باستياء: ولكني جادة يا أستاذ!
فقال بحنق: إذن لم تكوني جادةً فيما مضى؟
فتنهدت ولم تنبس، فتمتم مغيظًا محنقًا: اللعنة!
ثم منذرًا: أخشى أن تنطفئ الشعلة في صدرَينا معًا!
– إن صدقت نيتنا على النجاح، فلن نلقى ما نخشاه.
– أعتقد أنكِ لا تفهمين نفسك، أنت لا تحبين إلا الفن!
فتوسَّلت إليه قائلة: دعني لمصيري.
فهتف بوجهٍ متقلص: أنت تدفعينني إلى هاوية!
– أملي في حكمتك لا حدود له.
– عار أن تعترفي بزيف عواطفك القديمة.
فقطَّبت في ضيقٍ وقالت: دعنا مما كان.
ووضعت يدها على يده، وقالت: افتح قلبك لصداقةٍ جديدة.
فقال بغضب: لا تتحدثي عن الحب كأنك تجهلينه!
فغمغمت في يأسٍ مسدود: لا فائدة!
فقال بوحشية: لا فائدة!
وصمتا. وساءلت نفسها: كيف تنتهي هذه الجلسة التي لا تحتمل. واستدعيت للتليفون، فقامت وهي تتنهد في ارتياح. وجعل يراقبها من بعيدٍ وهي تتكلم.
ورآها تعيد السماعة في عجلةٍ ولهوجة. شيء وقع؛ شيء ذو خطورة، أخطر مما يتصور؛ بصرها زائغ ونظراتها جنونية، إنها تبتعد ناسية تمامًا حقيبتها، وتناول الحقيبة وهرول نحوها، وما كاد ينطق باسمها، حتى صرخت في وجهه: أنت .. أنت .. أنت المجرم!
وجرت نحو سيارتها كالمجنونة.
٢٩
استسلمت فتنة للكرسي المعدني محمرة العينين، رقد مرزوق فوق سريره بالمستشفى، غارق الرأس والوجه في الأربطة. وكانت قد أجريت له جراحةٌ معقدة في الفك الأسفل والذقن والجبهة عقب الحادث مباشرة. وجلس في الاستراحة المتصلة بالغرفة إبراهيم وسنية وعليات. حتى أحمد رضوان زاره، ولما وجد الجو معاديًا غادر المكان بسرعة.
ولما سئل مرزوق بعد مضي وقتٍ مناسب، قال في التحقيق إنه كان يسير في شارع ابن أيوب في مطلع المساء، في ظلامٍ شامل، وفي طريقٍ خالٍ، حين هاجمه شخص أو أكثر، وانهالت على وجهه اللكمات، حتى غاب عن وعيه تمامًا، ثم لم يسترده إلا في المستشفى. وتلقَّى السؤال التقليدي إن كان له أعداء، أو كان يتهم أحدًا، فأجاب بالنفي، ولكن التحقيق جرَّه إلى ذكر قصة حبه بملابساتها؛ مما استدعى سؤال أحمد رضوان، بل وعليات عبده. ولم يكن الشيخ يزيد بمصر، وأنكر أحمد رضوان أي علاقة بالحادث، وكذلك عليات، واستمرت المباحث في البحث، خلال جوٍّ كثيف الغموض.
وتركز القلق حول مسألةٍ هامة شغلت عقول أهله وأحبابه، فتساءلت سنية: ترى إلى أي حدٍّ سيتغير وجهه؟
فقال إبراهيم عبده: على ذلك يتوقف مستقبله.
فعادت تقول: فتنة بكت بحرارة.
– إنها تبكي عليه وعلى نفسها.
ومرت فترة الانتظار ثقيلة على القلوب المحبة. وغادر مرزوق المستشفى بوجهٍ جديد! رغم ما قدم الطب من معجزاتٍ فقد خرج بوجهٍ جديد. لم يكن القبح طابعه، ولكنه فقد شخصيته ومذاقه وروحه. كان ثمة تجويفٌ صغير في جانب الجبهة، واعوجاج في الفك أضفى عليه قسوة من غير معدنه، وانحدار في الذقن إلى الخلف. وعندما رأى صورته في المرآة، نظر إليها طويلًا في ذهول حتى امتلأت عيناه بالضباب، ثم تهاوى جذعه، فتقوَّس من اليأس وهتف: انتهيتُ!
وتحول إلى فتنة بوجهٍ ملؤه الخذلان وكرر: انتهيتُ يا فتنة!
فأحاطت عنقه بذراعيها، وقالت بحرارة: كلا!
– انتهيتُ وأنتِ تدركين ذلك!
– كلا!
– كلا؟!
– ربما .. ربما.
فقاطعها متسائلًا: ربما؟
فقالت وهي تخفض عينَيها: يوجد أكثر من دورٍ ناجح للممثل القادر مثلك.
فهتف يائسًا: أنتِ توافقينني على رأيي بأسلوبٍ آخر.
فضمته إلى صدرها وهي تقول: لنؤجل التفكير في ذلك!
– وهل يوجد ما هو أهم؟
فقرصته في خده معابثة وقالت: نحن نستعد للزفاف!
فرنا إليها بذهول، وعينه اليسرى ترتعش وتضيق، وتساءل: ماذا؟
– الزفاف يا عزيزي الجاحد!
– أهو مجرد عناد؟
فصاحت بغضب: كلا!
وساءل نفسه: تُرى هل تعني ما تقول؟ هل تتحقق تلك المعجزات فوق الأرض؟ وكان صدرها يجيش بالحب والعطف والتحدي. وكانت مصممة على تحطيم درع الدناءة الصلب، والبصق على وجه الشماتة الكالح. وضمَّته إلى صدرها بقوةٍ، وهي تقول: فلنمضِ في استعدادنا للزفاف!
٣٠
تلقاها حسني حجازي بين ذراعَيه، أنامت رأسها فوق صدره في استسلام، فشعر بشدة توقها إلى الحنان، وقال وهو يربت على ظهرها: قلق الدنيا والآخرة مطبوع فوق وجهكِ العذب يا عليات.
فتملَّصت من ذراعيه، وانحطت فوق الفوتيل، وهي تسأله: أين كنت في الفترة الماضية؟
– سافرت إلى يوغسلافيا للاشتراك في مهرجان للأفلام القصيرة.
– ألم تسمع عما حدث لمرزوق أنور؟
– إنه حديث الوسط الفني، وكثيرون يتهمون أحمد رضوان، وهو مجرد ظن لم يقم عليه دليل، ما رأيكِ؟
– لا أدري، أنا نفسي سُئلتُ في التحقيق!
– فداكِ نفسي يا عزيزة.
– وتم زواج فتنة ومرزوق.
– إنه حديث الوسط أيضًا، ولكن لا يستطيع أحد أن يتنبأ بالنتيجة!
فقالت بفتور: سنية وإبراهيم سعيدان، وهي تجربةٌ مماثلة!
– كلا .. ثمة اختلافٌ جوهري، ولكنكِ لم تحدثيني عن تجربتك!
– أي تجربةٍ تقصد؟
– مع المتهم أحمد رضوان؟
فقالت باستهانة: فشلت تمامًا. لا ذرة من استعداد عندي للتمثيل.
فنظر إليها بإشفاقٍ وقال: أهذا ما يحزنك؟
– كلا!
– ولكنكِ افتقدتني في غيابي فلماذا؟
– كنت أقرع جرسك كل مساء!
فتساءل باسمًا في سخرية: هل اكتشفت أخيرًا أنني معشوقك الحقيقي؟
فصمتت. أشارت إلى بطنها، ثم قالت: يوجد هنا شيء غير مرغوب فيه.
فهتف بدهشة: كلا!
– هي الحقيقة.
– ولكنكِ حريصة دائمًا!
فقالت بمرارة: تعبت من الحرص كما تعبت من الحياة!
فجعل ينظر إليها، وهو يتذكر منظر جزر الأدرياتيك كما تلوح لعيني المشاهد في دوبروفنيك في ليالي القمر، ثم سألها: من؟
– لن يخطر لك على بال!
– يوثانت؟
– سائحٌ مجهول ذو لحيةٍ شقراء، وشعر مضفور دعاني للعشاء فلبَّيت!
فضحك حسني طويلًا، ثم قال: احتفظي به فسيكون درة!
– كدت أجن في غيابك!
فقال بعطف: غلبك الحزن أكثر مما يجوز.
فقالت بتأثرٍ شديدٍ منذر بالدمع: كان التحقيق، ثم الزواج، وشعرت بأن الدنيا ماتت ولن تبعث.
وراح يملأ قدحَين وهو حزين، وقدم لها قدحها قائلًا: صحتك!
وأفرغا القدحين معًا. وقال — لا عن صدق — ولكن عن عطفٍ حقيقي: تذكرتك وأنا جالس في حديقة تحت الأرض في دوبروفنيك، فتاقت نفسي إليكِ بحنانٍ عجيب!
– لعلي كنت أفكر فيك، وأنا أقرع جرسك فلا يرد.
– قلبي معك، لا تخافي يا عزيزتي!
فتنهدت بصوتٍ مسموعٍ تردد كالنغمة في جو الحجرة السحري. وكان يروض رغبة طفرت إلى أعصابه، رغبةً طارئة وناعمة في أن يلعب الحب معها. ولم يعلنها، وذهب إلى التليفون وأدار القرص: ألو .. سمراء؟ .. كيف أنت .. جميل أن تعرفي صوتي من أول كلمة .. أريدك على عجل .. الآن إن أمكن .. إلى اللقاء.
ورجع إليها وهو يسأل: أتعرفين سمراء وجدي؟
فهزَّت رأسها نفيًا، فقال: آن لكِ أن تعرفيها.
٣١
ظل حسن حمودة أربعين عامًا لا يفكر في الزواج، ولا يهتم به، حتى عرف منى زهران. وبعد أن فشل مشروع زواجه منها لم يعد له من شاغلٍ إلا الزواج. وأثير الموضوع من جديد، أثارته نهاد هانم عقب عشاء دُعيت إليه هي وزوجها صفوت مرجان في قصر الأستاذ حسن حمودة بشارع الفضل بالعجوزة. وهو قصرٌ ضخم ذو حديقةٍ كبيرة ورثه عن أمه، ويقيم فيه وحده مع الخدم. وهو يمتاز بحيازته لطاهٍ فاخرٍ خليق بأن يعتز به مطعمٌ عام من مطاعم الدرجة الأولى. وهو أكول وذواقة للطعام الجيد، وتماثله نهاد في ذلك، بخلاف صفوت الذي يقنع بكأسَين من الويسكي ومختارات من الشواء والخضر والفاكهة. ودار الحديث عن الزواج، وكان هو الذي فتحه برغم ما عرف عنه من ولعٍ خاصٍّ بحديث السياسة الذي لا ينتهي. قال لها: أود أن أسمع آخر أنباء عن عروسك!
فقال صفوت: أراهن على أنك ستتزوج قبل نهاية هذا العام.
وقالت نهاد هانم: هي أرملة وأم لبنتٍ وحيدة في الجامعة، ومن أسرةٍ كبيرة مثل سعادتك.
فغلبه الفتور وقال: لن يقل سنها عن الأربعين.
– هي في الأربعين!
فقال محتجًّا: ولكنني في الأربعين وتلزمني عروسٌ شابة.
فقالت نهاد ضاحكة: لست خاطبة.
وقال صفوت: عليك أن تجدها بنفسك في سينما أو في مرقص أو في الطريق!
فقال يائسًا: لا وقت عندي للبحث، ولولا جناية دُعيتُ للدفاع فيها ما عرفت منى زهران.
فقالت نهاد: ما عليك إلا أن تنتظر جنايةً أخرى.
وسأله صفوت: ولكن هل تناسبك فتاة من هذا الجيل؟
– لم لا؟
– لهن رؤيةٌ جديدة في الحياة والحب.
فقال بلا تردد: أنا في هذا المجال تقدميٌّ أكثر مما تتصور!
فضحك صفوت مرجان وقال: لستَ أول شخص يجمع في ذاته بين الرجعية في السياسة والتقدمية في الحب!
اكفهرَّ وجهه الأسمر الغامق، وازداد إشعاع عينَيه حدة. أثارته — كما تثيره عادة — تهمة الرجعية. إنه يعتبر الديمقراطية غاية التقدم، وما عداها نوعًا من النازية أو الفاشستية. وهو يفهم الديمقراطية على أنها أسلوب من التعامل بين الصفوة في المجتمع. الصفوة من أصحاب المصالح الحقيقة وأهل الفكر والثقافة. أما عامة الشعب فلا يعترف بهم، ولا يعمل لهم حسابًا في قائمته الإنسانية؛ لذلك لم يحنِ هامته أمام الموجة الشعبية الهائلة التي أطلقتها الثورة. وكان يسخر من بعض أهل طبقته الذين تأثروا بها، فراحوا يهزون شجرة الأسرة بعنف لعلهم يعثرون على غصنٍ فقير … «شعبي» يلوذون به في الإعصار العاصف الذي يقتلعهم من جذورهم. كان يعتز دائمًا بأصله الرفيع، والعمالقة من أعمامه وأجداده، وينظر إلى الأشياء والناس نظرةً أرستقراطيةً متعصبة. وقد انتشلته ملاحظة صفوت مرجان العابرة من حديث الزواج، فردَّته إلى موضوعه الأبدي، وهو السياسة، فقال: الديمقراطية الأمريكية رجعية؟! أمريكا أمةٌ علمية، وقد تجاوزت بالعلم خزعبلات الشيوعية ونبوءاتها الكاذبة.
فقالت نهاد: نحن لا نكفُّ عن الكلام، لا أحد يتكلم مثلنا، والغارات تمتد إلى أعماق بلادنا.
فقال حسن حمودة بحنق: المسألة أننا أمةٌ مهزومة، ولكنها تأبى الاعتراف بهزيمتها!
ثم نظر إلى صفوت وسأله: متى نعترف بالواقع في تقديرك؟
فأجاب صفوت وهو يشعل سيجارة: سيخطو الروس خطوةً جديدة وهامة في تقوية دفاعنا.
الروس أيضًا! إنه يكره الروس أكثر من الكوليرا. ولولاهم لكان ٥ يونيو يوم السعادة الحقيقية والفردوس المفقود. وسأله: هل نصمد حتى تصل المعونة الروسية الجديدة؟
فقال صفوت بثقة: لن يسمحوا بهزيمتنا مرةً أخرى!
– مبارك عليكم هذا الأمان!
فضحك صفوت وقال: الروس لا يستغلون …
وقهقه حسن حمودة عاليًا. اعتدَّها نكتة فروَّح بالضحك عن حقده المشتعل. روَّح بالضحك عن أحلامه الدموية المكبوتة. وكانت نهاد تملُّ حديث السياسة بسرعة، فسألته بنبرةٍ مرحة: لم لا تعلن عن رغبتك في الزواج في إحدى المجلات.
ح. ح. محامٍ ناجح، غني، من أصلٍ أرستقراطي، في الأربعين من عمره، أمريكي الهوى، إسرائيلي الرؤية، يرغب في الزواج من فتاة في العشرين، مثقفة عصرية، جميلة.
فواصل حسن ضحكة، وقال: سيجيئني الرد من وزير الداخلية!
٣٢
أمضى مرزوق وفتنة شهر العسل في أسوان، ولما رجعا إلى القاهرة أقاما في شقة بشارع فني، وتأهبا لمواجهة الغيب. وكان مرزوق قد استرد كثيرًا من الثقة المفقودة، وتألقت في خياله أحلام غير شاحبة. ودعيت فتنة للقيام ببطولة فيلم، فاقترحت أن يلعب مرزوق الدور الأول أمامها، ولكن اقتراحها رُفض بأسلوبٍ اعتدَّته غير مقبول، فرفضت الفيلم بصلف. وتكرر ذلك مرةً أخرى في نفس الأسبوع! عند ذاك رأى مرزوق أن الأمر يستحق المناقشة. تزعزعت ثقته، وتبخرت أحلامه، فأقبل على المناقشة بقلبٍ جافٍ وتصميمٍ يائس. قال لها: لا يجوز أن ترفضي فيلمًا بعد الآن، وإلا …
فقاطعته: إنني مؤمنة بأنك، ستكون عنصر نجاح.
– المهم أن يؤمن الآخرون، فاقترحي إذا شئت، ولكن لا ترفضي!
وشعر بأن النجاح الذي أحرزه إنما يخصُّ شخصًا آخر، لا علاقة له به. وبحسرةٍ قال لها: يحسن بي أن أفكر جديًّا في وظيفتي التي لم أشغلها.
فقالت بارتياع: تعمل ست ساعات بسبعة عشر جنيهًا!
– عليَّ أن أتوافق مع الواقع مهما يكن مرًّا!
ورفض من بادئ الأمر أي مغامرةٍ سخيفة أو تفكيرٍ جنوني. قال: واضح أنني لم أعد صالحًا للبطولة.
فقالت برقَّة: توجد أكثر من بطولة في الفيلم، ولكن حذار من الأدوار الثانوية، فهي شَرَكٌ لا فكاك منه!
أجل هي شرك. وهذا المسكن الأنيق شرك أيضًا. وحبه الذي ضحى في سبيله بإنسانيته شركٌ ثالث. وتجهمته الحياة لحد التقزز.
ودقَّ جرس التليفون، كان المتكلم أحمد رضوان! وكان يستأذن في زيارة. ونظرت نحو مرزوق مستطلعةً، فقال رغم انفعاله الشديد: إذا كان لعمل فليحضر!
وجاء في الميعاد. وانحنى باحترامٍ تحيةً متجنبًا — في الوقت نفسه — مغامرة المصافحة. وجلس في أدب لا منتفخًا ولا مزهوًّا. وقال: توجد غشاوة من سوء الظن.
ونقَّل بصره بينهما، ثم قال: علينا أن نبددها؛ لأنه لا مبرر لها، ولأنه لا غنى لنا عن العمل المشترك!
لم يسمع تعليقًا. شعر بجمرات النظرات تلسع وجهه، فقال: كان استدعائي للتحقيق سخفًا، آلمني جدًّا، كما يجدر بإنسانٍ بريءٍ بكل معنى الكلمة!
ولما لم يسمع كلمة التفت نحو مرزوق، وقال: لستُ مجرمًا، أنا فنان مثلك، وحبي لزملائي مضرب الأمثال!
تنبهت فتنة إلى أنها لم ترحب به، ولم تقدم له شيئًا، فأشارت إلى البار، وقالت: معذرة، اشرب شيئًا!
وقام إلى البار، فتناول زجاجة الكورفوازييه شرابه المفضل، فملأ كأسًا، ثم عاد فواصل حديثه الموجه إلى مرزوق: يوجد أكثر من شخص يمكن أن تحوم حوله الشبهات، البراءة لم تسعدني، ما يهمني حقًّا هو أن تقتنع أنت ببراءتي!
لم يسمع إلا أنفاسًا تتردد، فانطبع الأسف في أساريره، وقال: افتح لي قلبك وصارحني بما فيه.
وثبت عليه عينَيه، حتى قال مرزوق: لم أعد أفكر في الأمر تاركًا غوامضه للشرطة!
– عظيم، لننتظر، أنا مطمئن تمامًا، ولنتكلم الآن في العمل!
وشرب كأسه دفعةً واحدة، ونظر إلى فتنة، وقال: كانت بيننا مشروعاتٌ مشتركة!
فهزَّت رأسها بالإيجاب، فقال: ماذا يمنعنا من التنفيذ؟
فقالت بهدوء: الجواب عندك.
فأشارت إلى زوجها، وقالت: كان أيضًا ضمن المشروعات.
فقال بثقة: سيكون له دورٌ محترم!
– أحب أولًا أن أدرس دوره في السيناريو!
– عظيم، ولكن أوصيكِ بالمرونة والحكمة، إنتاج فيلم في هذه الظروف الكئيبة مغامرة يستحق القائمون بها كل تقدير، في أي لحظة، ونتيجة لهجوم أو غارة قد يتوقف العمل في الفيلم، وربما في عالم السينما كله، والعاقل من يدرك ذلك.
فقالت بهدوءٍ وتصميم: قلت رأيي يا أستاذ أحمد.
– تذكري أن همومنا صغيرة إذا قيست بالويلات التي تنصب على الوطن!
فقالت ضاحكةً على رغمها: لا أذكر أنك اهتممت بالويلات من قبلُ!
فتساءل محتجًّا: أهذا كلام يوجه لرجلٍ أخوه يعمل في الجبهة؟
وقام فانحنى مرةً أخرى محييًا، ثم غادر المكان.
٣٣
تعرفت عليات على حامد في بيت منى زهران بالزمالك. كانت دعوة للعشاء حضرتها سنية وعليات، وشهدها حامد باعتباره شقيق سالم زوج منى. ومن بادئ الأمر اهتم حامد بعليات اهتمام إعجاب. وأول الفتاتين إلى محطة الباص، وفي أثناء الطريق أعلن عن رغبته في مقابلة عليات؛ لمزيدٍ من التعارف. وهو ما شجعت عليه سنية، فتم الاتفاق على ذلك. وتقابلا عند الأصيل في ميدان طلعت حرب، وسألها أين تفضل أن يجلسا، فاقترحت دار الشاي الهندي، ربما لتفاؤلها بها بعد أن جمعت بين منى وسالم. وكانت معلوماته عنها لا بأس بها، مثل درجتها العلمية ووظيفتها بالشئون الاجتماعية، وغير ذلك من المعلومات التي اعتقدت أن منى بلَّغتها إياه. ودهشت وهو يحدثها عن وظيفته البسيطة بسكرتارية مؤسسة، التي لم تتناسب مع حديثه الذكي المثقف. سألته: من أي كلية؟
فقال بلا ارتياح: الثانوية العامة فقط!
فارتبكت قليلًا، وقالت: الحق أنك مثقفٌ جدًّا.
– ذاك شيءٌ آخر.
وقرأ في عينَيها تساؤلات تداريها بأدبها، فقال: عقب حصولي على الثانوية العامة اعتُقلت!
فتساءلت باهتمام: لِمَ؟
فقال ضاحكًا: بتهمة الشيوعية!
فنظرت إليه بحب استطلاعٍ وإشفاق، فقال: لم أكن شيوعيًّا عندما اعتُقلت بتهمة الشيوعية.
– ذلك مؤسف بقدر ما هو غريب.
فقال باسمًا: بقدر ما أنتِ جميلة!
وساءلت نفسها: كم مرة سمعت هذه الجملة، ولكن كم مرة قيلت لوجه الجمال وحده؟ قالت: لا تبالغ.
– من أول نظرة شعرت بأنه سيكون لكِ معي شأن.
فقالت ببساطة: شكرًا!
ثم مستدركة في تساؤل: ولكن كيف سقطت عليك تهمة الشيوعية؟
– لا أدري.
– لم أكن أتصور أن الأخطاء تقع بتلك السهولة.
فقال متهكمًا: كل شيء ممكن.
فتجلَّت في عينَيها العسليتَين نظرة تشعُّ سخرية ومرارة معًا.
قال: كنت في الثامنة عندما قامت الثورة، فأنا أحد أبنائها.
وتبادلا نظرةً طويلة قال بعدها: منى زوجة أخي معجبة بك، وحدثتني أيضًا عن أخيك البطل.
– إنه يشق طريقه في الظلام بإرادةٍ قوية.
– وأثارت إعجابي أيضًا بزوجته!
– أحيانًا يرتفع الحب بالإنسان إلى ذروةٍ عالية.
– أظنه كذلك دائمًا.
– كلا، ليس دائمًا!
فقال باسمًا: لا داعي للتشاؤم، فإني أكرهه.
– حسن.
واحتسيا الشاي، وتناولا أربع قطع من الجاتوه، وتبادلا في أثناء ذلك نظراتٍ موحية.
ثم سألته: هل جُنِّدت؟
فأجاب باقتضاب: كلا!
ثم مستدركًا: عيني اليسرى لا تكاد تبصر!
فسألته بإشفاق: مرضتَ بها؟
– فقدتها، أو كدتُ، في المعتقل!
فارتسم الذعر في وجهها، فقال باسمًا: أستطيع أن أعجب بكِ بعينٍ واحدة، فضلًا عن عين وربع!
– ومع ذلك، فأنت بريء من الشيوعية!
فضحك وقال: عندما أفرجوا عني كنت قد انقلبت شيوعيًّا في نظرهم.
وضحكت فضحك، وبدت لهما الأمور في غايةٍ من الفكاهة. وعند ذاك سألها: ماذا تفضلين، السينما أم الرقص؟
فقالت بعذوبة: ليس الليلة من فضلك!
٣٤
نظر حسني حجازي إلى القادمة بدهشة، ثم فتح ذراعَيه، فتعانقا بحرارة، ثم تملصت من ذراعَيه، فسبقته إلى حجرة الجلوس، وهو يقول في أثرها: عزيزتي سمراء وجدي، أي سعادة …
وأسكتت الراديو وهي تسأله: كنتَ تسمع آخر أنباء الغارات؟ بي شوق نهم إلى كوكتيلك.
فاتجه إلى البار وهو يقول: أول مرة تحضرين فيها وحدك!
فقالت بنعومةٍ، وهي تتناول كأسها: إنما أجيء هذه المرة من أجل نفسي لا من أجلك.
متوسطة القامة، رشيقة كلاعبة في سيرك، بيضاء موردة من الأمام، ومن الناحية اليسرى تتبدى جمالًا أنيقًا نبيلًا، أما عارضتها اليمنى، فمشدودة في تقلص، مدبوغة باحمرار ضاربٍ للسواد، وبها بقعٌ منفرة ونتوءات كالدرن. جلست واضعة رجلًا على رجل، وهي ترنو إليه بغموض وتحفز، حتى أثارت حب استطلاعه إلى أقصى حد. قال، وهو واقف أمامها: ما أسعدني بك يا سمراء!
– لا تكذب، أنت تسعد بالعصافير، التي أجيء بها!
– ولكنكِ تعلمين كم أحبك وأحترمك!
فقالت ساخرة: لا يهمني الاحترام!
– لا شيء يرفع من شأن الإنسان كالمأساة.
– لا تذكِّرني بأشياء لم أعد أتذكَّرها.
فقال بلهجةٍ صادقة: نحن في زمنٍ خسيسٍ معبوده المال، وبوسعك أن تربحي منه الآلاف، ولكنك تجودين بكل جميل من أجل اللهو والحب لا المال، أنت من كوكبٍ آخر!
فقالت ضاحكة في سرور: أنا صاحبة محل وغنية!
– لا تبخسي حقك من الثناء، لو أردت لبلغت درجاتٍ أخرى من الغنى لا يقاس بها غناك.
فقامت بنفسها إلى البار؛ لتملأ كأسها من جديد، ثم عادت إلى مجلسها وهي تقول: اسمع يا عزيزي الكهل الفاسق، إنما قصدتك لمسألةٍ تهمني شخصيًّا.
– في خدمتك، لعلك تريدين مشاهدة آخر الأفلام.
فقالت بهدوء، وهي تنفذ إلى روحه بنظرة عينيها: أريد عليات!
لاح لأول وهلة كأنما يحاول تذكر صاحبة الاسم، فقالت بتحدٍّ: الفتاة التي دعوتني لإجهاضها!
– آه، ولكني لا أدري عنها شيئًا تقريبًا، إلا إذا جاءتني بنفسها، هل لي أن أتطفل فأسأل عن السبب؟
فقالت ببساطة: الظاهر أني عشقتها.
فضحك حسني، ثم تساءل: ترى هل تحب هي ذلك؟
– عندي أمل!
– أليس لديكِ من البنات ما …
فقاطعته بحدة: ما هذا الكلام الفارغ الذي لا يُتوقع من كهلٍ فاسقٍ مجربٍ مثلك!
– معذرة، ولكنها كانت بين يديك؟
– زارتني مرة في المحل للشكر، ثم اختفت.
– لعلها اختفت متعمدة.
– كيف أتصل بها؟
– أعدكِ بأن أبلغها رغبتك في زيارتها إذا زارتني يومًا.
فقالت بغضب: لا جدوى منك، أناني تأخذ، ولا تريد أن تعطي، وتنسى أياديَّ البيضاء عليك!
– سعيت يومًا إلى تزويجكِ من رجلٍ ممتاز.
– أنت تعلم أنني لا أحب الرجال؛ فلا تمنَّ عليَّ!
فتفكر قليلًا، ثم قال: أعرف مثلًا أنها موظفة بالشئون الاجتماعية، ولكنني لا أدري في أي فرعٍ هي، ولا ما هو عنوانها، وتتناهى إلى بعض أخبارها أحيانًا عن طريق والدها نادل مقهى الانشراح بشارع الشيخ قمر.
فقالت باهتمام: سأنتظر مكالمةً تليفونية منك.
وتبادلا نظرةً طويلة، ثم قال لها باسمًا: اشربي كأسك يا عزيزتي!
٣٥
الحياة تظلها سحبٌ دكناء من القلق والمخاوف الصامتة. بذلك شعر مرزوق أنور. وفتنة تشاركه مشاعره، وإن تظاهرت بغير ذلك. والاستمتاع بمظاهر الحياة البراقة المحفوف بالضحكات الرنانة، وقرع الأنخاب لا يغير من الحقيقة شيئًا. وكلما زادت المجاملات الناعمة زاد الحذر والتوجس، وتلوَّت في مكامنها كالديدان. وقال لها مرزوق يومًا: ها هو موسم التعاقدات انتهى، ولم نظفر بعقدٍ واحد!
فقالت باستهانة: ليكن عام إجازة.
وكان يقرأ قلبها، ويسمع ما يقال في الوسط، فقال: لا يمكن أن تسير الأمور هكذا.
فقالت بإصرار: فلتسِر كما تشاء.
هذا عناد المعركة لا الحب. ومن يدريني إن كان للحب وجود إلا كقشرة لنواة المعركة الصلبة. الشخص الذي أحبته لم يعد له وجود. قال: لا يجوز أن ننتظر حتى نفلس معًا.
– أنت كثير المخاوف، والدنيا أفضل بكثيرٍ مما تتصور.
– أرجو ألا ترفضي عملًا بسببي مستقبلًا!
– حتى لو كان مع أحمد رضوان؟
– ولو كان مع أحمد رضوان.
– ولكنني مصممة!
فهتف بيأس: إني أرفض!
– أتقبل أي دورٍ ثانوي؟
– لن يكون أفضل من الالتحاق بوظيفةٍ عادية.
فانزعجت وقالت: صارحني بما في قلبك.
– أود أن تعملي في حقلك، وأن أعمل في حقلي الأول.
فأحاطت عنقه بذراعَيها، وقبَّلت خده، وقالت: أنت ضحية حبي!
فقال وهو يداري استياءه: لا مكان للعطف هنا!
فقالت بعتاب: ولكنني أحبك أولًا وأخيرًا.
فقبَّل خدها أيضًا، وقال: أصغي إليَّ، لقد لفظتْ نفسي الفن!
فحوَّلت وجهها عنه في تأثرٍ بالغٍ، فقال: لم يعد يهمني في شيء.
وصمتت قليلًا، ثم قالت: ما يهم حقًّا هو حبنا!
– من الجنون أن نزحف إذا كان بوسعنا أن نُحلِّق!
– ماذا تعني؟
فلم ينبس. أطبق فكَّيه، فتجلَّت قسوته الكاذبة. قالت: ما أكثر وساوسك!
فابتسم وقال: حذار من العطف!
فهتفت بحدة: لا تردد هذه الكلمة!
– سمعًا وطاعة.
وهي تتنهد: ما أتعس المواقف التي ليس لها حل!
– ولكنَّ لكل موقف مهما تعقَّد حلًّا.
– على حساب الكرامة أو السعادة أو الاثنتين معًا.
– هو خير من الجمود الذي يشل الإرادة.
– لا أوافقك.
فقال بضجر: علينا أن نسلم بأن السعادة التي حلمنا بها لم تتحقق كما حلمنا بها!
فصاحت بنبرةٍ منذرةٍ بالبكاء: أنت تهينني!
– كلامي لا يتضمن أي إهانة.
– هذا ظنك!
فقال بأسف: أردنا أن نُركِّب في جسمنا المشترك جناحًا فانقلب عكازًا!
فقالت بحدة: ما أردت إلا أن أتزوج من الرجل الذي أحبه.
فقبَّلها بطريقةٍ آليةٍ، وقال: تقبلي اعتذاري.
ثم قام وهو يقول: سأتمشى في الخارج قليلًا.
– في هذه الساعة من الليل؟
فقال وهو يمضي: في هذه الساعة يعتبر المشي دواءً.
٣٦
كانوا يدخنون في سكون الليل يظلهم صمتٌ مريح. حسني حجازي يناجي الدخان الذي ينفثه بتمهلٍ وانسجام، وعبده بدران يدخن سيجارة، كذلك عشماوي وهو قابع على كثب من دفء النصبة، وفي الخارج ترامت أصوات المنشدين في مولد سيدي البيومي. وجاء بياع الفلافل يحمل رغيفًا محشوًّا تتدلى من أطرافه بعض عيدان البقدونس، فأعطاه لعشماوي، ووقف ينتظر النقود، والآخر يلتقطها من علبة صفيحٍ ببصره الأعمش. وفي فترة الانتظار قال له بياع الفلافل: تسلل رجالنا أمس إلى خطوطهم فدمروها …
فهزَّ عشماوي رأسه باعتزازٍ، فعاد الرجل يقول: وسيعقب ذلك زحف الجيش!
فقال عشماوي وهو يعطيه القروش: ولا تنسَ هجمات طياراتنا، جاء دورنا …
ذهب الرجل راضيًا. ومضى عشماوي يتناول طعامه، ويتمطق بصوتٍ مسموعٍ تخللته قرقرة النارجيلة. والتفت عشماوي نحو حسني حجازي، وقال: جاءوا له بعربة ذات ثلاث عجلات يقتعدها ويُسيِّرها بيديه، ولكنه لا يخرج بمفرده بعيدًا.
لم يدرك حسني حجازي عمن يتحدث بادئ الأمر، ثم تذكر حكاية جاره البطل، الذي بُترت ساقاه، فقال: عظيم .. عظيم!
وسأله عبده بدران: هل يمكن أن يتزوج يا عشماوي؟
– يمكن، علمت ذلك من جدته!
فقال حسني حجازي: زوجه تكسب ثوابًا، الإنسان يعتاد أي شيء، ولكنه لا يطيق الوحدة.
فقال عم عبده: إبراهيم يواجه الحياة بعزيمةٍ ونجاح.
فقال عشماوي: إنك متعلم وذلك ميزةٌ كبيرة.
وبصراحته الخشنة راح يقارن بين العمى وفقد الساقين، ثم تأوَّه قائلًا: في شبابي كنت إذا اخترقت طريقًا يختفي اليهود من جوانبه!
ولم يتمالك حسني نفسه، فضحك حتى سعل. وعادوا إلى الصمت، فترامى إليهم مرةً أخرى صوت المنشدين. وهزَّ عشماوي رأسه طربًا، وقال: كنت يومًا من مريدي البيومي.
فقال له عبده بدران: طول عمرك مجرم، ولا شأن لك بالطريقة!
فقهقه العجوز ولم يعلق. وأقبل عم عبده نحو حسني حجازي كمن ضاق بسره، وكان الأستاذ يحسن قراءة أفكاره، فسأله عما وراءه، فقال: عليات جاءها ابن الحلال.
فأبدى الرجل سروره متمتمًا: حقًّا!
– شابٌّ موظف، أخوه قاضٍ كبير.
– على بركة الله.
وسكت الرجل متفكرًا، ومترددًا، ثم قال: قيل لي إنه كان مسجونًا!
فتساءل عشماوي: هل يوظف المساجين في هذه الأيام؟!
فاستدرك عم عبده قائلًا: لأسبابٍ سياسية.
فقال حسني مخاطبًا عشماوي: إنها لا تمسُّ الشرف يا عشماوي!
وقال عم عبده: وإبراهيم موافق، ولو كانت تمسُّ الشرف لما وافق أبدًا!
فقال عشماوي: وأنا كنت مسجونًا سياسيًّا مرة.
فقال عبده: مرة! ثم عشرات المرات لا علاقة لها بالسياسة!
– إن أردت الحق، فالمخدرات كالسياسة لا تمس الشرف!
– فلنسلم بذلك، والضرب والاعتداء؟
فقال بفخار: فتونة ومجدعة!
فهتف ضاحكًا: عليك اللعنة!
فقال عشماوي، وهو يضرب كفًّا على كف: ماذا جرى للدنيا؟! نسوان عرايا في الشوارع، مساجين موظفون، ويهود غزاة!
ورجعوا إلى الصمت وسماع الأناشيد.
٣٧
كانت عليات تعمل بالوزارة عندما زارتها — بلا سابق معرفة — إحدى العاملات في محل سمراء وجدي. أخبرتها أنها تعبت كثيرًا قبل أن تعثر على مكانها، ودعتها إلى مقابلة سمراء في محلها بشارع شريف. انقبض قلب عليات. إنها لا تنسى فضل سمراء. وسبق أن زارتها في المحل للشكر. ولاحظت أنها راغبة في توثيق علاقتها بها بحرارة غير عادية، وبأسلوبٍ أثار في نفسها الريب. لذلك لم تفكر في زيارتها مرةً أخرى. وانقبض قلبها إزاء دعوتها الجديدة، إنها حزمة من المتناقضات، فهي نبيلة المظهر مترفعة عن المال، ولكنها ذات خبرةٍ فاجرة وعلاقةٍ حميمة بذلك الدكتور التي تشبه عيادته مشرحة الجثث. ومضت ذاك المساء إلى حسني حجازي، وقصَّت عليه قصة الدعوة وجملة وساوسها. وارتبك الرجل بادئ الأمر، ثم قال لها ببساطته المخيفة أحيانًا: سمراء مغرمة بكِ!
ليس من الممكن أن تحمل قوله على محملٍ آخر، رغم قابليته لأكثر من معنًى فارتاعت حقًّا، ولكنها تغابت وسألته: ماذا تعني؟
– أنت تفهمين تمامًا ما أعنيه.
فقطبت وزمَّت شفتَيها، فسألها برقَّة: ألم تكن لك تجربة في ذلك؟
فقالت بتقزز: كلا.
– إذن ستنشأ متاعب!
فتمتمت بخوف: متاعب؟!
حدثها بإيجاز عن تاريخ سمراء وجدي وحاضرها، ثم قال: إنها عالم من التعاسة والمغامرة والمتعة!
فقالت بقلق: لن أذهب.
ثم بتوسل: أنت قادر على تجنيبي أي شر.
فقال لها بعطف: سأحاول، ولكنني لست واثقًا من النتيجة!
ولم يتخلَّ عن مسئوليته، فدعا سمراء. قدم لها الشراب ممزوجًا بمزاحه العذب، وهي تراقبه طيلة الوقت بنظرةٍ ثاقبةٍ من خلال أهدابها الطويلة، ثم قالت له بذكاء: ادخل في الموضوع بلا لفٍّ!
فضحك عاليًا، وقال: صاحبتك ليست من أهل ذلك.
– لم تلبي دعوتي.
– جاءتني أنا.
– صارحتها؟
فقال برقَّة متودِّدة: ليست من أهل ذلك، وهي شارعة في الزواج، فاصرفي عنها النظر!
فاجتاحتها موجةٌ عاتية من الهياج، وهتفت: الخنزيرة!
– سمراء!
– إني إذا غضبت …
– لا داعي للغضب.
– دع تقدير ذلك لي أنا.
فداعب ذقنها بأصابعه، وهو يسأل: وهل بالقوة يمارس الإنسان ما لا يحب؟
– الخنزيرة، هل نسيت؟
– سمراء، عليات عانت تجربةً مريرة مثلك، وهي شارعة الآن في الزواج.
– لن تتزوج.
فهاله القرار، وقال: لستِ قاسية ولا شريرة.
– إذن فأنت لم تعرفني بعدُ.
– ولكن ماذا تنوين يا عزيزتي؟
– سأطلع خطيبها على حقيقتها.
فهتف: لا.
– بلى.
– لا أصدق.
– سوف ترى.
فأسكتته الهزيمة مليًّا، ثم قال: لقد تركتِ معذبكِ الأول يمرح بلا عقاب!
– كنت غرة.
وتحول حسني عنها في يأسٍ ومضى نحو البار.
٣٨
اختفى مرزوق أنور، فلم يُعثَر له أحد على أثر. فعل فعلته واختفى. قضى على نفسه بحبسٍ شبه انفرادي في بنسيون بحلوان. ومن محبسه تابع أخباره في المجلات الفنية. أخبارٌ طريفة حقًّا. مرزوق يهرب من بيت الزوجية، ويرسل إلى فتنة ناضر وثيقة الطلاق ورسالةً مؤثرة، فتنة تنهار عصبيًّا، ويعودها الأطباء، فتنة تبحث عن مطلِّقها في مظانه، فلا تقف له على أثر. وتمضي فترة تخفت بعدها الأصوات، وتنداح الحادثة في خضم الحادثات. وتمضي فترةٌ أخرى، ثم ينشر خبر عن قبول فتنة العمل في فيلمٍ جديد من إخراج أحمد رضوان. وقال مرزوق لنفسه إنه كالميت، ولكن أتيح له ما لم يتح لميتٍ من قبلُ، وهو أن يشهد ما خلفه وراءه من وجودٍ وعدم. وقال أيضًا بأنه لم يكن أمامه إلا إحدى اثنتين، فإما حياة كلبٍ أمين أو قواد. ولما استقر كل شيءٍ في موضعه رجع إلى أهله، وقرر السعي إلى الالتحاق بوظيفة.
وما تدري عليات يومًا — وهي في مكتبها — إلا وهو يفاجئها بزيارة. تطلعت إلى وجهه نصف دقيقة كأنما هي في شكٍّ من هويته. جرحه ذلك حتى أدماه. وقال لها: لم يكن مفر من حضوري.
ولم تفهم مراده، ووضح له أنها بَرِمة بزيارته، ولكنه قال: أود أن أعتذر لأستطيع مواصلة الحياة.
فتمالكت مشاعرها، وقالت: لا أهمية لذلك.
جلس بدلًا من أن يذهب وقال: فلنتناول غداءنا معًا لأقول كلمتَين.
فقالت ببرود: لا معنى لذلك البتة.
– إني مُصرٌّ.
ولمست فيه حالةً مخلخلة تقتضي الملاينة فوافقت. ذهبا إلى الكورسال القديم، فتناولا غداء بلا استطعام، ثم طلب قهوة، وأشار إلى وجهه، وهو يقول: هذا ما آل إليه حالي.
فمسحت بإرادتها أي ظل للتعبير وتمتمت: سوء حظ حقًّا، ولكن يمكن قهره والانتصار عليه.
– شكرًا.
– لا داعي لليأس مطلقًا، تذكر مثال أخي إبراهيم.
فكرر شكرها، وشعر بمناعةٍ تطوق روحها كالحصن، فجعل يفكر صامتًا، ثم قال: لا شك أنكِ غاضبة عليَّ.
فقالت ببساطةٍ صلبة: مضى ذلك وانقضى.
فقال باسمًا بسمة لا معنى لها: ذلك أدهى وأمرُّ.
فلاذت بالصمت، فقال: نرتكب أحيانًا جرائم تحت سيطرة جنونٍ لا معنى له.
فقالت معترضة: بل له معنى.
فقال بلهجةٍ تعلمها من التمثيل، رغم صدقه: قلت لنفسي لعل ما نالني من عقابٍ يشفع لي في الغفران.
– لا أدري عمَّ تتكلم.
فتردد مليًّا، ثم تساءل: هل أطمع في غفرانك؟
– لا أدري عمَّ تسأل.
– لكنه واضح.
– لم يعد لذلك أهمية.
– ولكنه بالنسبة إليَّ هو كل شيء.
– أكرر بأنه لم يعد لذلك أهمية.
فالتمعت عيناه ببريق أملٍ وقال: لعله يفتح لنا صفحةً جديدة؟
فقالت بحزم: أي صفحةٍ جديدة؟
– لكنكِ تفهمين قصدي تمامًا.
فقالت بنبرةٍ قاطعة: لا تضيع وقتك سدًى!
– أصغي إليَّ …
– أرفض مجرد التفكير في ذلك.
– لننتظر حتى يهدأ غضبك.
– لست غاضبة. صدقني، ولكني أستعد لصفحةٍ جديدةٍ أخرى.
وأرته دبلة خطوبتها، فتمتم: حقًّا؟
– سأتزوج في وقتٍ قريب.
وساد الصمت حتى تساءل: أهو رأيٌ نهائي؟
– طبعًا.
وقامت وهي تقول: آن لي أن أذهب.
ومضت وحدها. وجدت في قلبها ارتياحًا شاملًا وشعورًا بالتحرر والنصر. ومن أمارات التوفيق أنها لم تضمر نحوه كراهية ولا حنقًا ولا شماتة، فقالت لنفسها: مات تمامًا، فما أعجب ذلك!
٣٩
كانت عليات تجالس حامد في دار الشاي الهندي، وإذا بسمراء وجدي تظهر فجأة، فتقف عند طرف المنضدة بينهما. بُهتت عليات واختفى الدم من وجهها. ودهش حامد، وجعل يردد عينَيه بينهما، وهو لا يفهم شيئًا. وهمَّ بالكلام، ولكنها سبقته، فقالت مخاطبة عليات، ورائحة خمر تتردد مع أنفاسها: أنا عنيدة كما ترين!
فتساءل حامد: ما الخبر؟
فقالت له سمراء: ادعني أولًا للجلوس كما يقضي الذوق.
ورأى في موقف المرأة خطرًا خفيًّا يهدد سلامتهما، فقال: ولكني لم أتشرف بمعرفتك.
فجلست وهي تقول متحدية: ها أنا أجلس بلا استئذان.
وضحكت ضحكة تعتبر مزعجة في وقار السكون، فقال حامد: تصرف حضرتك غير لائق!
فقالت ساخرة: ولكن خطيبتك تعرفني، وقد جئت لأشكوها إليك.
فقال متأثرًا بتضعضع عليات: ما زلتُ أعتبر تصرفكِ غير لائق.
فتجاهلت احتجاجه، وقالت: أشكو إليك فتاتك، فقد قدمت لها خدمة لا تُقدَّر بمال، فلم أنل منها إلا الجحود!
همت عليات بصفعها، ولكنها خافت من تفجر مضاعفاتٍ مجهولة، جبنت فعجزت حتى عن الكلام، وتساءل حامد بغضب: ماذا تريدين؟
فقالت سمراء بتحدٍّ فاجر: نتكلم أولًا عن الخدمة، وسأترك لك تقدير الثمن.
تمتمت عليات: مجرمة، أنت مجرمة!
فضحكت سمراء بقسوة، وقالت: الله يسامحك.
فقال حامد بحنق: من فضلك، أنا لا أسمح.
فقاطعته بقحة: تصور فتاة من أسرةٍ شعبية، اضطربت أحشاؤها بجنين سهوًا، وهي …
فقاطعها بغضب: اذهبي من فضلك.
فواصلت حديثها: كيف تتصور بؤسها؟! وكيف تقدر صنيع من يخلصها من الجنين، ويردُّ إليها شرفها.
وجعل حامد يشير إليها بإصبعه مهددًا، وقد أعجزته انفعالاته عن النطق، ثم قال: من الأفضل لكِ أن تذهبي!
– تهددني؟
– نعم.
فسألت عليات متهكمة: ما رأيكِ يا عليات؟
لم تنبس عليات. وغلب الغضب والانفعال حامد، فخرس واربدَّ وجهه بألوانٍ قاتمة.
وضح أن عاصفةً عاتية اجتاحته. وآمنت سمراء بأنها أصابت الهدف، وأنها أنهت مهمتها على خير وجه. وهمَّت بالقيام تحت تأثير خوف طارئ، ولكن حامد اجتاز أزمته، كبح انفعالاته، مرق منها باردًا صلبًا عنيدًا. سأل المرأة: أأنتِ التي قمتِ بتلك الخدمة؟
فهزت رأسها بالإيجاب، فسألها متحديًا: لعليات؟
فهزت رأسها مرةً أخرى، فقال وقد سيطر على أعصابه تمامًا: أنا مدينٌ لك بالشكر، أيَّ ثمنٍ تطلبين؟
فتفحصته باهتمامٍ لترى لأي درجة هو جاد أو غاضب، فعاد يسألها بهدوء: ماذا تطلبين؟
فداخلها اضطراب وحيرة فقال: يبدو أنكِ لا تريدين شيئًا، وعلى ذلك فأرجو أن تخلي لنا الجو لنواصل حديثنا!
وقامت متعثرة بالحيرة، ثم مضت في عصبية.
أسندت عليات رأسها إلى يدها، وأغمضت عينَيها في إعياء موشكة على الانهيار الكامل.
ونظر إليها في صمتٍ وحزن. وشعر بالعاصفة في قلبها، فمال نحوها بعطفٍ، وقال: أقترح أن نسير في الهواء الطلق.
رفعت رأسها، وقالت باستسلامٍ يائس: حامد …
فقاطعها بلطف: لا داعي للكلام، نحن في حاجةٍ إلى الهواء الطلق.
٤٠
كان حسني حجازي يعاني قلقًا في باطنه، بخلاف عادته في مجلس الليل الهادئ بالانشراح. أطلق كامن قلقه في النارجيلة، فمضى يأخذ أنفاسًا متتابعة، حتى اشتعلت الجمرات، واحترق التبغ نافثًا رائحةً فظة. وتوقع طيلة الوقت أن يروِّح عم عبده بدران عن حزنه، فيعلنه بفسخ خطوبة عليات. وها هو يقف مستندًا إلى غطاء الجدار الخشبي، يدخن سيجارة، ونظرته الثقيلة المعتمة ثابتة، كأنه موشك على النعاس. لعله يتحين الفرصة ليبوح بهمه، وعند ذاك سيجد هو نفسه في صميم مأساةٍ لأول مرة. وكان عشماوي مقرفصًا قرب النصبة. لا يثرثر كعادته، لوعكة بردٍ ألمَّت به، فبدا كعجوزٍ يحتضر. وتجنب النظر ناحية عم عبده. وشم الرجل رائحة التبغ المحترق، فاقترب قائلًا: هل أُبلِّل لك التبغ؟
فانتبه حسني لمعاملته العصبية للنارجيلة، وقال له: غيِّره!
ومضى الرجل بالنارجيلة، فجدد التبغ، ثم رجع بها بتبغٍ جديدٍ كسبيكةٍ ذهبية. وقال: زارنا مرزوق أنور مع سنية وإبراهيم!
فأنس حسني خيرًا، وقال بحماسٍ مفاجئ: يا له من جريء!
– واعتذر، وهنأني على خطوبة عليات الجديدة.
– المسامح كريم.
– وجد وظيفة في مؤسسة النقل، وسيكمل تعليمه للحصول على شهادة بعد الليسانس.
فقال حسني وهو يوغل في الارتياح: جميل أن يجدد الإنسان حياته.
– وأصبح أمله الأول والأخير أن تتاح له الهجرة يومًا ما.
– الهجرة موضة هذه الأيام الغريبة.
وقال لنفسه إن عليات بخير. وإن سهم سمراء قد طاش. وشعر بامتنانٍ نحو العقليات التي تتجدد وتتجاوز الزمن. وتَشجَّع فسأله: وما أخبار عروستنا؟
فقال عم عبده: الخطيب يرغب في الزواج في أقرب فرصة.
– على خيرة الله!
فقال الرجل بأسف: لا أستطيع أن أقدم لها شيئًا ذا بال.
– لا أهمية لذلك.
وترامت إليه حركة عند الباب. التفت فرأى سمراء وجدي واقفة كتمثال. نظر إليها عم عبده أيضًا بدهشة. ورفع عشماوي رأسه، وضيق عينَيه، ثم فغر فاه. ارتجَّ قلب حسني ووقف شعره. وتمتم وهو لا يدري: غير معقول!
ألقت عليه نظرةً باردةً مهدِّدة، ثم حولت عنه رأسها بتحدٍّ. نظرت إلى عم عبده بدران، وتساءلت: عم عبده بدران؟
ذهل الرجل. أقبل نحوها ملبيًا في أدب، ومتأثرًا غاية التأثر بمظهرها الأنيق الفاخر، ثم قال: أفندم؟
مضت إلى ركن المقهى الأقصى فتبعها على الفور. شدت إليها الأبصار. خمن حسني حجازي ما وراء مجيئها بفزع. وتذكر وهو يختنق أنها استدلت على المكان بإرشاداته التي وردت ضمن حديثه بلا قصد. إنه محور الرحى التي تطحن مجموعة من البشر لم يكن لها طيلة حياته إلا المودة. وثمة شر يوشك أن يحيق بالجميع، ولكن بأي حكمةٍ يمكن دفعه؟ التدخل من ناحيته يعني افتضاح أمره، وسيؤدي في النهاية إلى هتك الستر عن البيت السحري، ولكن ينتفي الخطر إذا التزم بموقف المشاهد، وتملَّص من الشلل أو هكذا خيل إليه. فتح فاه، وقال محذرًا: إنها امرأةٌ مجنونة ومخمورة!
ولكن أحدًا لم يسمعه. لم يخرج الصوت من فيه. خذلته قواه فاحتواه العجز. لم تتحول عيناه عنهما. أرهف السمع، ولكنه لم يسمع حرفًا مما يقال. المرأة تهمس والرجل يصغي باهتمامٍ شديد. وعشماوي ينظر ويصغي، ولكن دون جدوى. وتأرجح المجلس بحسني حجازي وغاص في باطن الأرض. وطار عشه السحري في الهواء على أجنحة الزبانية. ركز بصره على وجه عم عبده بدران. ها هو يصغي وتتحرك شفتاه أحيانًا. وها هي نظرته الثقيلة تزداد قتامة. ها هو يقطب ويجتاح وجهه موجةٌ سوداء. تراجع رأسه إلى الوراء كأنما تلقَّى لكمة ثقيلة. سقطت السيجارة من يده. قدحت عيناه شررًا. ندَّت عنه آهة ذبيحة محشرجة. ترنح كالثمل. وفجأة انقض على المرأة يقبض على عنقها بكلتا يديه، وشد عليها بكل قوته. وفزع حسني، فصاح: لا!
قام كالمجنون، فارتطمت ركبته بالنارجيلة، فألقت بها على الأرض، وقام عشماوي وهو يتساءل: ماذا جرى!
هرعا نحو الرجل، وحسني يتوسل إليه: انتبه لنفسك يا عم عبده!
ولكن الرجل لم يفك قبضتَيه الفولاذيتَين، حتى كانت المرأة جثة هامدة.
٤١
– هل خنقت هذه المرأة؟
– نعم.
– لماذا خنقتها؟
– …
– لماذا خنقتها؟
– …
– ما علاقتك بها؟
– لا أعرفها.
– أتقول إنك لا تعرفها؟
– لم أرها قبل هذه الساعة المشئومة.
– فلماذا خنقتها؟
– …
– خنقتها بلا سبب؟
– …
– ماذا قالت لك؟
– …
– الصمت معناه أنك تجود بعنقك لحبل المشنقة.
– …
وأصرَّ عم عبده بدران على الصمت.
ومن خلال شهادة عشماوي تجسدت صورة لظهور سمراء المفاجئ. وتطلعها إلى عم عبده بدران، وهي تتساءل: «عم عبده بدران؟» وقول الأستاذ حسني حجازي: «غير معقول»، ثم ذهاب المرأة وعم عبده إلى الركن الأقصى، وحديثهما الذي لم يسمع منه حرف، ثم الجريمة التي لم يستطع منعها أحد.
– أنادت عم عبده أم تساءلت عنه؟
– نظرت إليه، وتساءلت: «عم عبده بدران؟»
– إذن فلم تكن تعرفه؟
– هو ذلك والله أعلم.
– أليس لديك فكرة عن كيفية مجيئها إليه؟
– كلا.
– ولا عما دار بينهما من حديث؟
– لم أسمع حرفًا.
– ما مدى علمك عن علاقات صاحبك بالنساء؟
– أستغفر الله، إنه رجلٌ طيب محمود السيرة ومسكين!
– كيف تفسر ارتكابه للجريمة؟
– لا أدري، إنه لم يقتل دجاجة في حياته، والعلم عند الله.
– لم قال الأستاذ حسني حجازي «غير معقول»؟
– لا أدري، ولكن مجيء امرأةٍ جميلة إلى «الانشراح» بعد منتصف الليل أمر غير معقول.
– لعله كان يعرفها من قبلُ؟
– لم يتبادلا كلمةً واحدة، والعلم عند ربك.
ولم تأتِ شهادة الأستاذ حسني حجازي بجديد عن مضمون الحادثة. وقد سأله المحقق: لم قلت «غير معقول»؟
– كان مجيئها إلى الانشراح في تلك الساعة غير معقول.
– ألم ترها من قبلُ؟
– بلى، أعرفها معرفةً عامة، فهي صاحبة محلٍّ تجاري في الشارع الذي أسكن فيه.
– هل لك أن تحدد لي نوع معرفتك بها؟
– معرفة عابرة ليس إلا.
– ولكنكما لم تتبادلا ولا تحيةً عابرة؟
– توقعت ذلك، ولكنها تجاهلتني تمامًا.
– ما تفسير ذلك في نظرك؟
– لعلها كانت مستغرقة بالمهمة التي ساقتها إلى المقهى.
– وماذا تعرف عما كان بينها وبين عم عبده؟
– لا شيء البتة.
– وماذا دار بينهما؟
– لم أسمع حرفًا.
– ما تفسيرك للجريمة؟
– إنها مذهلة، ولا تفسير لها عندي.
– ما هي معلوماتك عن القتيل؟
– لا علم لي بدخائلها؟
– ما تفسيرك لصمت المتهم؟
– إنه لغز ولا تفسير له عندي.
٤٢
رجال الشرطة شياطين. وهم يملكون جحيم الأرض، وينفثون النيران في الوجوه الشاحبة. يطرقون الأبواب بأيدٍ أليفة كالأحباب، ثم يفتحون البيوت كالأعاصير. ويقف الكهل بين أيديهم مجردًا من الكرامة، فيفترس الخوف قلبه، ويوقن بأن الحياة وهم وضياع. وينقبون الجدران والحشيات والجيوب والخزائن، فتتلاشى المسرات والأخيلة. عند ذاك يسير بينهم بلا أرجل، بلا أعين، بلا غد، تطنُّ في أذنيه همهمة مغلفة باللعنات، وإن يتبقى له رمق فسيردد بصوتٍ محشرج: لقد انتهيت.
– اسمك؟
– حسني حجازي.
– عمرك؟
– خمسون عامًا.
– مهنتك؟
– مصورٌ سينمائي.
– أتعترف بأنك مالك هذه الأشرطة السينمائية؟
– أجل.
– وأنك عرضتها على عشرات من البنات القاصرات؟
– أجل.
– وأنك مارست معهن الجنس.
– أجل.
– ألا زلت عند قولك عن علاقتك العابرة بسمراء وجدي؟
– كلا، أعترف بأنها كانت صديقةً قديمة.
– أكانت تجيئك بالبنات لمشاهدة أفلامك الجنسية؟
– أجل.
– وما علاقتك بعليات ابنة المتهم عبده بدران؟
– كانت صديقة.
– ألم تكن يومًا عشيقتك أيضًا؟
– بلى.
– أتعترف بأنك يسَّرت لها الإجهاض؟
– نعم.
– كيف؟
– استعنت بسمراء وجدي.
– وهل اعترفت لك سمراء بأنها عشقت عليات؟
– نعم.
– هل استعانت بك لتحقيق رغبتها الآثمة؟
– نعم، ولكني حاولت صرفها عنها.
– أأرشدتها إلى مكان عم عبده بدران؟
– سألتني عن مكان عملها، فقلت لها إني أجهله بالتحديد، وإن كنت أعرف أنها موظفة بالشئون، وقلت لها أيضًا إن علاقتها بي منقطعة تقريبًا، وإنني لا أعرف أخبارها إلا عرضًا، وفي مقهى الانشراح، حيث يعمل والدها نادلًا به، ولم أكن أتصور أنها ستقوم بزيارتها الغريبة التي انتهت بمصرعها.
– ولم قامت بزيارتها الغريبة؟
– كانت مصممة على الانتقام من عليات لعدم إذعانها لرغبتها الآثمة، فانقضَّت عليها، وهي جالسة مع خطيبها وأخبرته على مسمع منها بحكاية الإجهاض، ولما خاب المسعى ولم يصب الهدف، أعادت التجربة مع الأب؛ فقتلها.
– أتعتقد أن ذلك هو الباعث الحقيقي وراء جريمة عم عبده؟
– ولا باعث غيره في رأيي.
– ألديك أقوالٌ أخرى؟
– كلا.
كان حسني حجازي ينطلق بسيارته في أطراف المدينة عند الفجر. توقدت أعصابه، فقضت على أي أمل في النوم. وطاردته أشباح التخيلات طيلة الوقت. ستجري التحريات حول سمراء وجدي، وستكشف عاجلًا عن عالَمٍ حافل بالجنون والغرائب. إنه خبيرٌ بهذه الأمور. سرعان ما يعرف كل شيء. وسيجرُّ التحقيق العشرات من البنات والفتيات. وقريبًا تجتاح العاصفة العاتية عشه السحري السعيد، ويكبله القيد الحديدي. ماذا يوجد في بيت سمراء وجدي من صور وأرقام تليفونات وأسماء؟ ترى هل تدون مغامراتها في مذكرات؟ هل يدعى إلى التحقيق؟ هل يزجُّ به في السجن؟ هل ينتحر؟ هل من مخرج؟
٤٣
اجتمعت عليات وحامد في دار الشاي الهندي. كانت منهوكة الأعصاب دامية العينَين. واستعان هو بقواه الكامنة؛ ليواجه الموقف، ولكنه كان يعيش بوجدانه في جوٍّ مليء بالمخاوف المجهولة. وجعلت تردد: أبي .. أبي .. يجب إنقاذه.
– هذا هو المأمول حقًّا، ولكن كيف؟
قالت مصممة: بأي ثمن.
– سنبذل ما نستطيع وفوق ما نستطيع.
– نحن نعرف كل شيء.
– أجل .. وهو مصرٌّ على الصمت صونًا لسمعتك.
فقالت وهي تكتم انتحابها: لن أتخلى عنه.
– لن نتركه لينال عقوبةً رهيبة لا يستحقها!
فرنت إليه بنظرةٍ دامعة، وقالت: ذاك يعني أن نشهد بما نعلم.
– لا مفر من ذلك.
– ولكن هل يصدقوننا؟
– من رأيي أن نعهد بالقضية إلى الأستاذ حسن حمودة، وأن نشاوره في الأمر قبل أن ندلي بشهادتنا.
– طيب.
– فالطريق واضح.
فعضت على شفتيها وتمتمت: سيعلن السر على الملأ.
– أجل.
– وستنشأ مصاعب ومتاعب.
فقال بإشفاق: ربما.
– إني أضحي لإنقاذ أبي، ولكني سأجرُّك معي!
فقال محتجًّا: لا أوافق على طريقتك في التفكير.
– الحق أني لا أريد أن أحمَّلك فوق ما تستطيع.
وكان قلبه ينقبض حيال العواقب المتوقَّعة، ولكنه قال: هذا شأني أنا.
فقالت وهي تخفض رأسها: أنت في حلٍّ من …
فقاطعها بحزم: عليات! ما هذا الهراء!
استجمع إرادته ليسحق تردده. غاص قلبه في هاوية. سخر من مخاوفه واحتقرها.
قذف بنفسه في تصميمٍ صلب. قال: لن أتخلى عنك.
٣٤
لأول مرة تغرق الحجرة في كآبةٍ شاملة. وكان حسني حجازي وعليات يجلسان متقابلَين ومتقاربَين يتبادلان نظراتٍ جافةٍ باردة كنظرات أصنام الآلهة والحيوانات فوق الأرفف. ولأول مرة تتخلى عن الرجل روح الدعابة والشمول، فتطحنه أشياءُ مجهولة تطبق على الحجرة من عالمٍ مجهول. قال لها: سألتُ عنكِ في كل مكان.
فقالت بنبراتٍ ميتة: كنت قادمة بنفسي على أي حال.
نفذت إجابتها إلى أعماق روحه، فقال بقلق: دائمًا في خدمتك.
– نُصحتُ أن أوكل الأستاذ حسن حمودة المحامي.
فضغط حسني على جناحي أنفه بأصبعيه متأملًا، ولكنه قال: إنه حجة في الجنايات!
فانخفض صوتها قليلًا، وهي تقول: يقال إن أتعابه باهظة!
فتنهد بارتياحٍ، وقال: ستجدين تحت أمرك كل ما يلزمك.
– لا أدري كيف أشكرك.
فتناول يدها بين يديه وتساءل: عليات، ألم أكن دائمًا نعم الصديق؟
فأحنت رأسها بالإيجاب. انحدرت من عينَيها دمعة، فاستقرت فوق ركبتها. قال: لي عندك رجاء.
– ما هو؟
فسكت دقيقة كاملة، ثم قال: ألَّا تذكري اسمي سواء عند المحامي أم في التحقيق!
فقالت، وهي تجفف عينَيها: لا أهمية لذلك فيما أظن؟
فقال وبهجة من الأمل تشيع في نفسه: عين الصواب، فهو لن يقدم فائدة، ولكنه سيضرني كما تعلمين.
– لن أفعل ما يضرك.
– شكرًا، ممكن أن تقولي إنك عرفت سمراء في محلها التجاري. وأنها حاولت أن تنشئ معك علاقةً شاذة فرفضتِ، ومن ثم أرادت أن تنتقم منك إلخ … إلخ.
– هي الحقيقة في جوهرها.
فقبَّل يدها وقال: توكلي على الله، ولا تحملي للنقود همًّا.
ولمدة دقائق — عقب ذهابها — شعر بأن الهم قد انجاب عن قلبه، وبأن تيار الحياة يتدفق من قلبه نشيطًا مهللًا. أنجوت حقًّا؟ إن أكن نجوت، فلن يمسسني الضر مدى الحياة، ولكن لم تدم تلك الحال طويلًا، وُئدت بلا إنذار؛ عاد عقله يعمل، ويفرز سمومه المنطقية؛ ما أهمية وعد عليات؟ وما قدرتها على الإفلات من حصار الاستجوابات؟ وهل تجدي شهادتها إن لم تدعم بشاهد عيان مثله كان محور الأحداث ومحركها؟ وهناك أيضًا التحريات التي تنشط في كل مكان الآن مثل الذئاب الجائعة! لا .. لا .. لا أمان. عليه أن يهرب في أول فرصة. ثمة وعد سابق بتصوير فيلمٍ لبناني، فليطلب السفر فورًا وقبيل أن يذكر اسمه في التحقيق. سيستقر في لبنان إلى الأبد، لا حياة له في هذا البلد.
الوداع يا مصر!
٣٥
يا لها من مفاجأة! أحق تقع هذه الأمور في الحياة؟ وأن يدعى — هو — للدفاع عن قاتل سمراء وجدي؟ نقَّل بصره بين عليات وحامد، مخفيًا انفعالاته وراء قناعٍ بارد من التجرد، وقال: قرأت ما نُشر عن الجريمة في الصحف، ففكرت طويلًا في سر صمت المتهم.
فقال حامد: نحن نعرف الأسرار كلها.
فقال الأستاذ بعجلة: معذرة، احتفظ بها، فإنني لم أقبل القضية بعدُ.
فقالت عليات: ولكنك ستقبلها طبعًا؟
آه، سمراء وجدي. ترى لم قتلها الرجل. لفضيحةٍ ما ولا شك. وسوف يقتضي الدفاع عنه النبش في ماضي الفتاة، والكشف عن فضائحها، والتشهير بها، فهل يقوم هو بذلك؟ وهل يستبعد في تلك الحال أن ينبري شخصٌ مجهول لهتك سره المنطوي، وتعرية الدور الفاضح، الذي لعبه في حياة الفتاة؟ ولم يتردد فأجاب: آسف يا آنسة، لا وقت عندي البتة!
فهتفت عليات: ولكنك لن تتخلى عنا؟
– الأمانة تقتضي أن أتخلى، ولكني سأعهد بها إلى زميلٍ معروف لا يختلف في تقديره اثنان!
– ولكننا قصدناك أنت!
فقال بلهجةٍ مؤدبة، ولكن نهائية: الأمانة وحدها التي تمنعني.
وهمَّت عليات بالكلام، فمال حامد نحوها قائلًا: علينا أن نصدقه ونشكره، إن هي إلا عثرات في الطريق، ولكنه بات ممهدًا لما نأمله.
ولدى انفراد حسن حمودة بنفسه، تمزق قناع الهدوء الذي تخفَّى خلفه. غاص في مقعده، وراح ينظر إلى السقف الأبيض بعينَين ذاهلتَين. لاحت له مخاوف غريبة كأشباحٍ راقصة. وركبه إحساس لا معقول بأنه مطارد. ووثب من مجلسه كأنما هو المسئول عن ضعفه، وراح يتمشى في الغرفة ويقول بصوتٍ مرتفعٍ ليطرد الأشباح: محض أوهام، تاريخٌ ميت، الميت لا يبعث!
وكره الوحدة فغادر المكتب. استقلَّ سيارته، وجرى بها على غير هدًى ساعة، ثم هفا قلبه إلى لقاء صفوت مرجان، فوجهها إلى شارع أحمد شوقي بلا ميعاد سابق. وجد الأستاذ منفردًا في الفراندة بشخصٍ غريبٍ لم يره من قبلُ. همَّ بالانصراف، ولكن صفوت دعاه إلى الجلوس، فجلس وهو يسائل نفسه متى يستطيع أن يروِّح عن صدره، ويفضي بانفعالاته إلى صديقه. وقام صفوت بالتعارف بين الرجلين. وقدم الغريب قائلًا: أبو النصر الكبير من رجال المقاومة الفلسطينية.
فانفجر في صدر حسن حمودة بركان من اللعنات. لم يكن من الذوق أن ينصرف، فبقي على رغمه وهو يتلظَّى. وقال له صفوت: طبعًا سمعت بقبولنا المبادرة الأمريكية؟
فأجاب بفتور: أجل.
– كنا نناقشها.
فقال بلا مبالاة: معذرة، سأشرب كأسًا؛ لأني مرهق.
أما أبو النصر الكبير، فقال يواصل حديثه الذي قطعه مقدم حسن حمودة: ولكن للمسألة وجهًا آخر، فالقضية ممتدة في الزمن، وليست بقضية هذا الجيل وحده، ولا بأس أن يتقرر في لحظةٍ زمانية، ولضرورةٍ أقوى منا مؤقتًا التضحية بمجموعة باسلة من العرب في سبيل صالح العرب ككل، ولكن الكلمة النهائية، ستظل سرًّا مقدسًا في طوايا الغيب، كما سيظل ميلادها رهنًا بالإرادة، فإما نموت موتًا غير مأسوف علينا، وإما نحيا حياةً كريمة كما ينبغي لنا!
تدفق الكلام من فيه هادرًا كالموج.
وتابعه حسن حمودة بأعصابٍ متوترة، عيناه مغمضتان، وكأسه في قبضته لم يبقَ بها إلا ثمالة.