الانتصار الخالد
إلى أهل النرويج محبي الجمال والحرية …
وإلى الشعب اليوناني منبع الفكر الحر والديمقراطية …
وإلى كل شعب حي يجاهد في سبيل استرداد «مطرقته الفضية» …
رمز القوة المعنوية والحيوية الروحية.
جاء في أساطير النرويج القديمة، أن قصف الرعد يحدث من عجلات مركبة إله يُدعى «ثر»، يركض بها فوق السحب، يجرها وعلان عظيمان. ويُروى أن لهذا الإله قصرًا أحجاره من الزمرد والياقوت، به أكثر من خمسمائة حجرة، مشيدًا في «أسجارد» مدينة الآلهة والأبطال. على أن قوة «ثر» ومعجزته هي في «مطرقة» هائلة من الفضة الخالصة يملكها، لها مزية عجيبة؛ فهي ترتد دائمًا من تلقاء نفسها إلى قبضته، بعد أن تصيب ما يقذفه بها، لهذا حرص «ثر» كل الحرص على هذه المطرقة الثمينة. غير أن سوء الطالع شاء يومًا أن يفقد هذا الإله مطرقته، وأن تقع في يد عدوه «ثريم» العملاق … الذي سلبها واستولى عليها مستعينًا بسلاح الخيانة والغدر، طامعًا في حبسها بأرض العمالقة، فأوفد «ثر» رسولًا من قِبله إلى العملاق يفاوضه في الشروط التي يقبلها لرد المطرقة الفضية.
•••
لبث «ثر» أيامًا في قصره ينتظر عودة سفيره، وقد كاد يمزق أوصالَه القلق. إلى أن دخل عليه ذات نهار بعض أتباعه يصيحون:
– السفير! السفير!
– عاد؟
– دخل من باب القصر الكبير.
– أحضروه!
ودخل السفير يلهث، فابتدره «ثر»:
– قُص عليَّ ما صنعت.
– ذهبت إلى أرض العملاق … فرأيت …
ووقف عن الكلام يمسح عرقه المتصبب. فصاح فيه: تكلم … ماذا رأيت؟
فأجاب السفير:
– لكأن اللعنة حلت حقًّا بتلك الأرض. كل شيء هناك يدل على أن العملاق هو حقًّا عدو «أودين» إله الشعر والخير، فكل أهل تلك الأرض يعيشون في فزع دائم … يهمسون ولا يتكلمون كأن يدًا جهنمية هائلة تخنق كل شيء، وكأن قدمًا ضخمة عاتية تطأ كل شيء.
– والنوع البشري كيف هو هناك؟
– مثله مثل الأغنام الحبيسة في الحظيرة، قد وكل بأمرها الكلاب!
– وهل رأيت العملاق؟
– رأيته وجهًا لوجه! وقلت له: إن الخيانة والغدر لا يليقان بالعدو الشريف. وإن «ثر» يقبل دائمًا نزاله على قواعد الصدق والأمانة والشجاعة الحقيقية. أما أن يحتال على تجريده من سلاحه قبل الهجوم، بهذه الوسيلة المنكرة، فهو ما لا تقره الأخلاق الرفيعة.
– وبماذا أجاب؟
– قهقه ضاحكًا، وقال إنه لا شأن له بالأخلاق والشرف، فحسبه أن ينتزع قوة خصمه، ليصبح في مقدوره أن يجتاح أرضه، وأن يُذل عنقه، إذا لم يذعن لمطالبه.
– وما هي مطالبه؟
– أن تسلم له في الحال إلهة الجمال والحب «فرييا» الشقراء.
فما تمالك «ثر» أن صاح: «فرييا»؟
– نعم! ليجعل منها جاريةً له.
– هذا مستحيل.
– أفهمته ذلك! فقال إن لم تحضروا إليَّ «فرييا» بأيديكم فانتظروا إغارتي لآخذها بنفسي.
– «فرييا» الجميلة! هذا مستحيل!
صاح بهذا القول الإله «ثر»، ونهض يمشي في المكان ثائرًا فاهتزت تحت أقدامه السحب، فقال السفير: فلنسألها، فلعلها ترضى أن تبذل نفسها من أجلك.
فقال «ثر»: يا للعار! أوَأقبل أنا هذا؟ ماذا يبقى لنا إذا ضحينا بتلك الإلهة التي تنثر في أرضنا الحب والرحمة والحرية والجمال؟ وما قيمة الحياة بغير هذه الأشياء؟
فأطرق السفير قائلًا: حقًّا. لا قيمة للحياة بغير هذه الأشياء.
– هي وحدها التي جعلت في أرضنا البشر أبطالًا، والأبطال آلهة!
– نعم! وهي وحدها التي تميز مملكتنا النبيلة عن مملكة ذلك الجبار الهمجي! لكن …
– لكن ماذا؟
– ينبغي أن نذكر دائما أننا إذا لم نسلم لهذا العملاق بمطالبه فإنه يأتي ويطأ أرضنا الحرة الجميلة بأقدامه الوحشية!
فصاح «ثر» بصوت دوَّى في المكان: فلندافع عن أرضنا، ولندافع عن إلهة الحب والجمال بكل ما لدينا من قوة!
فقال السفير: لا تنس أنك قد جُرِّدت من القوة.
فأطرق «ثر» مليًّا. ثم رفع رأسه وقال: أين «فرييا»؟ أريد أن أرى «فرييا» الجميلة!
فقال أحد الحراس الأتباع: إن «فرييا» إلهة الحب والجمال قد خرجت منذ الفجر تجوب الغابات والأدغال! وتنثر بسماتها على البشر، وتودع أسرارها قلوب الآلهة والأبطال!
ولكن حارسًا آخر تطلع من النافذة ثم صاح: ها هي ذي إلهة الحب والجمال قد عادت من نزهتها في مركبتها المرصَّعة باللآلئ، تجرها قطتان ناصعتان، في لون النرجس والياسمين!
ودخلت «فرييا» فانحنى لها الجميع إجلالًا. واستقبلها «ثر» قائلًا: جئت في الحين المناسب.
فنظرت إليه مليًّا ثم قالت: أرى في وجهك شيئًا ذا خطر.
– نعم يا «فرييا». لقد عاد السفير.
– عاد السفير، وما الذي جاء به؟
فليخبرك هو بما جاء به. تقدم أيها السفير.
فجمد السفير في مكانه وعقد الحرج لسانه. فغمغم: أرجو من «ثر» أن يتولى ذلك عني.
فقال الإله: خجلت من عرض تلك المطالب! حقًّا إنها لمذلة تشق على نفس كل حر!
فقالت «فرييا» في قلق: أي مطالب؟
فأجاب «ثر»: مطالب الهمجي الطاغية. لقد وضع شروطًا قاسية … قاسية.
– ما هي؟ أخبروني!
فصمت «ثر» لحظة ونظر إلى عينيها الجميلتين طويلًا. ثم قال:
يطلبك أنت، ويريد أن يجعل منك جاريةً له!
فوجمت إلهة الحب والجمال. وشحب لونها. ولبثت جامدة كالتمثال. وتحركت أخيرًا. ولفظت صيحة ألم وغضب: أنا؟ أنا جارية لعدو «أودين» إله الشعر والخير! أنا أوضع تحت أقدام عدو النوع البشري! أنا أذهب إلى أرض الغدر والخيانة والوحشية!
فهدأ «ثر» من روعها وقال: ذلك ما رأيته أنا أيضًا مستحيلًا.
– نعم؛ هذا مستحيل. ولن أرضى هذا العار أبدًا، ولن ترضاه الآلهة جميعًا، ولن ترضاه البشرية النبيلة. ولو كان فيه رد مطرقتك!
وغادرت المكان، وذهبت مسرعة، تاركةً الجميع في إطراق وتفكير، ولم يدرِ «ثر» ما يصنع.
وتملكه شيء من القنوط. ولكن من حوله تصايحوا قائلين:
فلنحارب! فلنحارب! ولنذُدْ عن «فرييا» مهما يكن من أمر. إنه لعار أبدي أن نترك «فرييا» لهذا العملاق.
فرفع «ثر» رأسه وقال: نعم! فلنحارب لكن … أين السلاح؟
فقال أحد الذين حوله: فلنلجأ إلى سلاح الدهاء.
وقال آخر: لقد لجأ ذلك الغادر إلى الخديعة! فلنقاتل الخديعة بالخديعة.
وصاح صوت من بين الجمع: لم لا نلجأ إلى ذلك الداهية البارع «لوكي»؟ فهو بذكائه قدير على حل المعضلات.
فأشرق الإله «ثر» بالأمل وصاح: أصبت. لقد كنت نسيت هذا الحاذق الماهر. أحضروه.
فذهبوا إلى «لوكي» وأتوا به. وأخبره «ثر» بما حدث، وبما كان من أمر مطالب العملاق، فتفكر «لوكي» ساعة، وهرش لحيته الطويلة، ثم قال: عندي وسيلة ناجحة تحل لكم المعضلة.
فقال الإله «ثر» وجميع من حوله في صوت واحد: ما هي؟
فقال «لوكي» في صوت رزين متئد: أن تقبلوا مطالبه! وأن تسلموا له «فرييا».
فصاح «ثر» حانقًا: أهذه هي الوسيلة التي حلت المعضلة!
فقال «لوكي» في هدوء: نعم، والآن دعوني أشرح لكم كيف ترسلونها …
فقاطعه الإله: لا نريد أن نسمع منك شرحًا أكثر من ذلك! أيها المخرف الأخرق!
– بل اسمعوا: إننا سنعلن قبولنا للمطالب، وسنرسل «فرييا» ولكن «فرييا» التي ستذهب هي شخص آخر قد تنكر في زيها وهيئتها.
فهدأ ثائر الإله. ونظر إلى «لوكي» راضيًا وقال: ومن هذا الآخر الذي يتنكر في زي «فرييا»؟
فأشار لوكي بأصبعه إلى «ثر» قائلًا: أنت نفسك.
أنا؟
– نعم؛ أنت، وسأذهب أنا معك.
•••
وضعت هذه الخطة في الحال موضع التنفيذ. وأعلن السفير أن «ثر» قد رضي بشروط العملاق … وأن «فرييا» ستُرسَل إلى أرض العمالقة.
وتنكر «ثر» في زي إلهة الحب والجمال ومضى في صحبة «لوكي» حتى بلغا مملكة «ثريم» العملاق. فاستقبلهما بالترحاب. وأعد لهما وليمة عظيمة! حوت فاخر الطعام وجيد الشراب. فجعل «ثر» يأكل أكلته الخليقة ببطل، فاسترعى ذلك التفات العملاق. فمال على «لوكي» وهمس في أذنه دهشًا متعجبًا: انظر! إن إلهة الحب والجمال قد أكلت ثورًا بأكمله!
فقال «لوكي»: إنها لم تطعم شيئًا طوال أيام الرحلة.
فسكت العملاق. ثم عاد فألقى نظرة أخرى على «ثر» وهمس في أذن «لوكي»: انظر! انظر! إن إلهة الحب والجمال قد أكلت حوتًا من السمك!
فقال «لوكي»: إن طعامك شهي لذَّ لها.
فصمت العملاق. ثم أبصر «ثر» يشرب، فعطف على «لوكي»:
– انظر! انظر! إنها قد شربت ثلاثة أدنان من الخمر!
فقال «لوكي»: إن سرورها برؤيتك قد حبب إليها الشراب.
غمغم العملاق وقال كأنه يخاطب نفسه:
ثور وحوت وثلاثة أدنان خمر! إن إلهة الغرام والجمال تعشق الأكل والشرب فيما أرى.
فسمعه «لوكي» وقال له: إن عشق الأكل والشرب نوع من العشق على كل حال.
وجعل العملاق يتأمل «ثر» عن كثب ويقول:
وددت لو تخلع نقابها لأمتع عيني بجمالها!
فبادره «لوكي» قائلًا: إن تقاليد الحب والغرام تقضي بأن يقدم المحب هدية لحبيبه عند كشف النقاب.
فقال العملاق من فوره: إني أقدم إليها ما تشاء.
فقال «لوكي» في لباقة: فلتكن هديتها إذن «المطرقة» الفضية التي من أجلها طلبتها.
– فكرة صائبة.
وأمر العملاق فحملت «المطرقة» وأحضرت، فأمسك بها ووضعها عند أقدام «ثر» المتنكر. ثم نظر إلى عينيه خلف النقاب، فتراجع وهمس في أذن «لوكي» قلقًا: ما بالي أرى عينَي إلهة الحب والجمال تشعان ببريق حاد مخيف وتضيئان بشيء كأنه جمر ولهب.
فقال «لوكي» في ابتسامة غريبة: لأنها شديدة الشوق إلى …
ولم يتم عبارته؛ فقد كانت قبضة تلك الجميلة الوهمية قد امتدت إلى المطرقة الفضية وقذفتها على الجبار. فتحطمت أعضاؤه تحطيمًا، وتناثرت أجزاؤه في الجو كأنها غبار.
وخلع «ثر» رداء «فرييا» الجميلة، ورجع بمطرقته يتبعه «لوكي» الحاذق الأمين، إلى أرض الجمال والحب والحرية، وقد تم لها وللبشرية: الطمأنينة الدائمة والنصر الأبدي … ذلك أن الحكمة العليا للوجود لا يمكن أن تمنح الانتصار الخالد لغير الجمال والحب والحرية.