تاريخ الفكر العربي في نشوئه وتطوره بالترجمة والنقل عن الحضارة اليونانية
١
للعقل الإنساني منازعُ قد تَسوقُ إلى نَوَاحٍ من التأمل بعيدةٍ كل البعد عن المنزع الحقيقي الذي كان سببًا في تحريك الفكر نحو النظر في المعقولات، فإذا نظرت في الخلافات التي وقعت بين النصارى لدى أول عهدهم بالوجود، لما استطعت أن تدرك بادئ ذي بدء، إلى أي حد سوف يذهب خلافهم، وتنتهي مناظراتهم.
كان الخلاف على طبيعة المسيح مبدأ مناقشات تناولتها الشِّيَعُ الكَنَسِيَّة في القرون الأولى، وكان لاختلاف المذاهب في تلك المسألة أكبر الأثر في النظر في المعقولات وفي التأمل الفلسفي.
اشتهرت أنطاكية بأنها من أُولى مدن المسيحية التي قام زعماء الدين فيها بأول حركة من تلك الحركات الفكرية، التي كانت ذات أثر كبير في شيوع الفلسفة، وفروع الفلسفة اليونانية خاصة، ذلك بعد مناظرات دينية طويلة لا محل لذكرها، وقام بالحركة في أنطاكية مُعلِّمان يقال لأحدهما: «دبودوروس» والآخر «تيودوروس المصيصي»، وكانا شديدَيْ الاعتقاد في كمال الناسوتية في المسيح — عليه السلام.
وكان أكبر المؤيدين لهذا المذهب راهب من رهبان أنطاكية يقال له: «نسطوريوس»، انتقل إلى القسطنطينية أسقفًا لها سنة ٤٢٨م، وتبع تأييد «نسطوريوس» لهذه الفكرة مناقشات حادة، حتى انتهى الأمر بعقد مجلس ديني في مدينة «إفسوس» سنة ٤٣١م، فانتصر حزب الإسكندرية، وهو الحزب القائل بما يضاد المذهب النسطوري، واعْتُبِرَ نسطوريوس وأتباعه هراطقة.
كان النساطرة على اعتقاد كامل في أنَّ نظراءهم بعيدون عن حكم العقل والضرورات الطبيعية؛ لذلك سعوا بعد مضي عامين على حكم مجلس «إفسوس» إلى جمع شملهم، وعلى الرغم من مطاردتهم والاستبداد بهم، نزلوا مصر واتخذوها مقرًّا لبث تعاليمهم.
أصبحت مدرسة «الرها» بعد ذلك موطنًا لأفراد من زعماء النساطرة الذين لم يقبلوا حكم مجلس «إفسوس»، غير أنَّ الإمبراطور «زينون» أغلق تلك المدرسة سنة ٤٣٩م بحجة أن صبغتها نسطورية متطرفة، فلم يجد أهلها من موئل سوى الهجرة إلى البلاد الفارسية، فهاجروا تحت رئاسة كبيرهم «بارسوما» سنة ٤٥٧م.
ومن ثم انتشر النساطرة في جوف آسيا وبلاد العرب، ينشرون تعاليم المسيحية، ولم يكونوا عاملين على نشر المسيحية فقط، بل أرادوا أن ينشروا معها تعاليمهم الخاصة في طبيعة المسيح، فأخذوا يستعينون على بث أفكارهم بأقوال ومذاهب منتزعة من الفلسفة اليونانية، فأصبح كل مبشر نسطوري بحكم الضرورة معلمًا في الفلسفة اليونانية، كما أنه مبشر بالدين المسيحي.
ترجم النساطرة كتب زعمائهم، وعلى الأخص كتب «تيودوروس المصيصي» إلى السريانية؛ ليستعينوا بها على بث أفكارهم، ولكنهم لم يقتصروا على ذلك، بل ترجموا كثيرًا من كتب أرسطوطاليس والذين علقوا عليها؛ لأنهم وجدوا فيها أكبر نصير يشد عضدهم في فهم المسائل اللاهوتية العويصة، التي كانوا يبشرون بها بين أمم لم تشم من ريح المدنية إلا قدرًا يجعل نشر مثل تلك التعاليم متعذرًا، ما لم يستعن عليها بمبادئ من الفلسفة ومباحث في التأمل.
غير أنَّ كثيرًا من تلك التراجم قد صُبَّ في قالب لم يُراعَ فيه نقل الفلسفة اليونانية لذاتها، بل اتخذت التراجم ذريعة لبث مذهب ديني، هو مذهب النساطرة، والطعن في قياصرة الروم، والكنيسة الرومانية، فقلَّت الثقة بالنقل من هذه الوجهة وحدها، حيث كانت الضرورة تقضي بأن يختلط قليل من الفلسفة بكثير من تعاليم المذهب النسطوري أو بالعكس؛ للاستعانة بذلك على بث المذهب الديني، وهو الغرض الرئيسي.
تلك كانت النواة التي أشعت بالفلسفة اليونانية، وعلى الأخص بفلسفة أرسطوطاليس والأفلاطونية الجديدة في جو آسيا خارج حدود الإمبراطورية البيزنطية، وسوف نرى في سياق هذا البحث كيف أنَّ جماعة من مترجمي النساطرة كانوا أول من نقل تلك الفلسفة من السريانية إلى اللغة العربية، وبذلك انتشرت في العالم العربي كله.
غير أنك تجد رغم هذا أنَّ في الحركة النسطورية أوجهًا من النقص شأن كل شيء يصدر عن الإنسان، فإنَّ انْبِتَاتَ صلاتها بالعالم اليوناني خارج الإمبراطورية البيزنطية، جعل حركتها التعليمية مصبوغة بصبغة الانحصار في بقعة محدودة من آسيا.
والظن الغالب على كثير من المؤرخين أنَّ الكنيسة المصرية قد تبعت القائلين بالطبيعة الواحدة، ففي القرن السادس قام يعقوب السروجي وأنشأ شيعة اليعاقبة، وهو الذي كون الكنيسة اليعقوبية المصرية، وجمع شمل أعضائها وأقام أسسها، وأكبر دليل على ذلك أنَّ اسم «أقباط» مشتق من يعاقبة، فإن اسم هؤلاء في العالم اللاتيني «جاكوبيت»، وأقباط أقرب الأشياء تحريفًا إليه.
والظاهر لكل من درس علم اللغات أنَّ هنالك فاصلًا حقيقيًّا بين اللغة السريانية كما استعملها اليعاقبة في الغرب والنساطرة في الشرق؛ فإن اليعاقبة قد انتحلوا لهجات حديثة، يغلب أن يكون السبب فيها راجعًا إلى طبيعة استيطانهم وتوزعهم الجغرافي.
إذا اعتبرنا النتائج التي حدثت من خروج النساطرة واليعاقبة، استطعنا أن نفهم لماذا ترجمت أعمال الفلاسفة اليونان إلى اللغة السريانية، بينا نجد أنَّ الحركة النسطورية قد أصبحت بالتدريج الوسط الذي تركزت فيه ثمار التثقيف اليوناني، وانتشرت في آسيا خارج حدود الإمبراطورية البيزنطية خلال بضعة القرون التي تقدمت انتشار الإسلام.
ولا خفاء في أنَّ تعاليم أرسطوطاليس وأتباعه المَشَّائِين، وكذلك تعاليم فلاسفة المدرسة الأفلاطونية الجديدة، كانت ذات أثر بارز في التأثير على كل من تعمد الخوض في معارك الطوائف الدينية في ذلك الزمان، وكذلك منطق أرسطوطاليس، فإنه كان كبير الفائدة وعليه بنيت طريقة الجدل التي اتخذها زعماء الدين ذريعة لإثبات مزاعمهم.
وبعد أن انفصل النساطرة واليعاقبة عن لغتهم الأصلية، نقلوا كثيرًا من الكتب المسيحية إلى اللغة السريانية، فأصبح في هذه اللغة مجموعة كبيرة من المؤلفات الفلسفية والعلمية والدينية، على أنَّ السبب في أنه لم ينقل إلى اللغة القبطية من المؤلفات بقدر ما نقل إلى اللغة السريانية، أنَّ اليعاقبة في مصر لم تدعهم الحالات إلى مواجهة مسائل معضلة في الدين، كما كان النساطرة في آسيا.
كان العصر الواقع بين بدء المجادلات الدينية في الكنيسة المسيحية، وظهور الرغبة عند المسلمين في درس الفلسفة، عصر ترجمة وإنتاج ذهني، عُلِّقَ خلاله على كثير من مسائل الفلسفة، واسْتُعْرِضَتْ فيه طائفةٌ كبيرة من أفكار اليونان ومذاهبهم، ولم يُعْنَ الناقلون في ذلك العصر بالفلسفة وحدها، بل عمدوا إلى الطلب وعلم الكيمياء والفلك، فترجموا في تلك العلوم كثيرًا؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنَّ بين الطب وبين الكيمياء والفلك آصرة قريبة ونسبًا أدنى، فكانوا يقولون بأن لعلم الفلك من الوجهة الطبيعية علاقة بنشوء الأمراض، وحالات الحياة والموت والصحة والمرض.
كانت المباحث الطبية أكثر ذيوعًا في مدرسة الإسكندرية منها في أية مدرسة أخرى، أما الفلسفة بمعناها الحقيقي، فكانت علاقتها باللاهوت مباشرة، حتى اضطر دارسو العلوم إلى أن يفصلوا بين مباحثهم وبين الفلسفة بقدر ما كان ذلك في المستطاع، على ما كان عليه الفكر في تلك العصور من عدم القدرة والعجز عن التفريق بين كفايات العقل البشري.
ولذلك انتخبوا ست عشرة مقالة من مقالات «جالينوس»، وترجموها ليؤلفوا منها برنامج الطب في المدرسة، ثم اختصروا بعضها واتخذت المختصرات كرءوس موضوعات تلقى على نسقها المحاضرات التعليمية شرحًا وتفصيلًا. وغالب الظن أنهم ما نزعوا إلى اختصار مقالات «جالينوس»، واتخاذها رءوس موضوعات فقط، إلا لِمَا أَنِسُوا في أنفسهم وفي أساتذتهم من قوة الابتكار والتعمق في الدرس، لأبعد مما كان يحدده لهم «جالينوس» في مقالاته، وفي ذلك الزمان أصبحت مدرسة الإسكندرية منبعًا للكثير من الأبحاث المبتكرة المحققة النفع، لا في مادة الطب وحدها، بل في علم الكيمياء، وكثير من العلوم الطبيعية. وما أشبه مدرسة الإسكندرية قبيل الفتح العربي بخليَّة تدوي بمختلف البحوث العلمية.
كان أول احتكاك للعرب بالآراء اليونانية في مدينة الإسكندرية؛ لذلك كانت وراثتهم منها أقرب من وراثتهم عن سوريا، ولهذا انتشر عندهم التنجيم، ودلف العرب بقدمهم في مفاوزه الوعرة، وظلوا عليه عاكفين حتى آخر عصور مدنيتهم؛ ذلك لأن نجم الإسكندرية في العلم قد أطفأ أنوار السريانية، وأخص ما يأخذ بِلُبِّ الناس في مثل تلك الحالات خداع الشهرة وَبُعْدِ الصيت؛ لهذا أكب العرب تحت تأثير تلك العوامل على نواتج العقل في الإسكندرية، دون ما تضمنت السريانية من مباحث العلم والفلسفة.
في وسط هذه الصورة الذهنية نبتت مؤلفات «بولس الأجانيطي» الذي مر بنا ذكره، وقد ظلت مؤلفاته طوال العصر العربي والعصر اللاتيني في القرون الوسطى مادة التعاليم الطبية.
وبينما كانت مدرسة الإسكندرية غارقة في المباحث الطبية، كانت كنائس آسيا وأديرتها ومدارسها، ممعنة في المباحث المنطقية والفلسفية التأملية.
وكان من الطبيعي أن يأخذ اليعاقبة عن تعليقات «يوحنا فيلوبونس» في تدريس علم المنطق؛ لعلاقتهم بمصر أولًا، ولأن فيلوبونس من شيوخهم ثانيًا.
غير أنهم لم يفعلوا لك، بل رجعوا والنساطرة إلى مختصر «فرفوريوس الصوري» في المنطق المسمى «إيساغوجي»، وأخذوه كمدخل لعلم المنطق، ولا يزال هذا الكتاب يُقرأ في الأزهر حتى اليوم كمدخل لذلك العلم.
أما في الميتافيزيقا «ما وراء الطبيعة» والبسيكولوجيا «علم النفس»، وتطبيقهما على علم اللاهوت، أو في الاستعانة بهما على فهم المسائل اللاهوتية، فقد كان ميل اليعاقبة إلى الأفلاطونية الجديدة والباطنية أقوى من ميل النساطرة، كما كانت حياتهم وتعاليمهم أكثر استكانة في الأديرة، في حين أنك تجد أنَّ النساطرة قد نزعوا إلى الطريقة القديمة في تأسيس المدارس، ولو أنَّ ذلك لم يَحُلْ دون اتخاذهم أديرة، كانت بدورها منبتًا للعلم والفلسفة. وإذ أنت على ذلك إذا بك تجد أنَّ نظام المدارس قد انقلب في آخر الأمر إلى نظام الرهبنة.
وبعد ذلك بقليل أسس «كسرى أنوشروان» ملك الفرس المشهور مدرسة زرادشتية في «جنديسابور» من أعمال «خوزستان»، وحكم «أنوشروان» بين ٥٣١–٥٧٨ من الميلاد، وكان قد تأثر بتعاليم اليونان، حينما كان يحارب سورية البيزنطية، فأضاف جمعًا من الفلاسفة اليونان، والفلاسفة العارفين بالفلسفة اليونانية، عندما أغلق الإمبراطور «يوستنيانوس» الهياكل والمدارس في أثينا.
وكان الذين وفدوا على «كسرى» من الفلاسفة سبعة، فأكرم وفادتهم وأضافهم، وأمرهم بتأليف كتب الفلسفة أو نقلها إلى الفارسية؛ فنقلوا المنطق والطب، وألفوا فيهما كتبًا، فطالعها هو ورغَّب الناس فيها (راجع الفهرست ص٢٤٢)، على أن في رواية صاحب الفهرست شكًّا كبيرًا، إذ كيف ينقل الفلاسفة اليونان الوثنيون الذين لا احتكاك لهم بالفارسية، وعلى الأخص الفهلوية، كتب المنطق والطب إلى لغة فارس، في حين أنَّ الراجح ألا يكون لهم إلمام إلا بلغتهم اليونانية القديمة، يبقى ذلك الشك ما لم يثبت أنَّ الفلاسفة اليونان كان لهم سابقة في دراسة الفارسية في عصر متقدم على عصر أنوشروان.
ويقول بعض المؤلفين: إنَّ أنوشروان عقد المجالس للبحث والمناظرة، كما فعل المأمون من بعده بقرنين ونيف، حتى «خيل للإغريق الذين جالسوه أنه من تلامذة أفلاطون»، أما عقد أنوشروان لمجالس العلم فذلك محتمل؛ لأن أخباره مع وفود العرب وعقد المجالس لهم معروفة مشهور أمرها بين الأدباء، أما بقية الرواية فأمر مشكوك فيه؛ لأن عهد أنوشروان بفلسفة اليونان كان قصيرًا إلى حد لا يعقل أن يبرز فيه أنوشروان في الفلسفة إلى هذا المدى الْقَصِيِّ، ومما يجعل الرواية أَدْخَلَ في الشك أنَّ أفلاطون علم في القرن الرابع قبل الميلاد، ولم يعقد أنوشروان مجالس الفلسفة والعلم إلا في القرن السادس بعد الميلاد؛ فكيف يخيل إلى الفلاسفة اليونان الذين حضروا مجلسه أنه تلميذ من تلامذة أفلاطون، في حين أنَّ تلاميذ أفلاطون كان قد أكلهم الْبِلَى من قبل ذلك بألف عام؟
ومما يدلك على اهتمام «أنوشروان» بأولئك السبعة الذين وفدوا عليه من فلاسفة اليونان، أنه وضع في المعاهدة التي عقدها والإمبراطورية البيزنطية نصًّا خاصًّا بهم، ضمن لهم به حريتهم المدنية والدينية، وعدم الاستبداد بهم فيما لو أرادوا العودة إلى وطنهم.
وعقب عليه الأستاذ «ديلاسي أوليري» فدبج في مؤلفه الذي طبع سنة ١٩٢٠ عن الفكر العربي فصلًا في الصوفية، هو الفصل السابع من ذلك الكتاب (ص١٨١–٢٠٧) أوضح فيه أواصر العلاقة بين الباطنية المبثوثة في تضاعيف «الأفلاطونية الجديدة»، وبين الباطنية الفارسية في العصر الوثني، وما كان من أثرها فيما بعد على صور التصوف التي اختصت بها فارس وأبناء العرب بعد الإسلام.
وكان أساس التعليم في مدرسة «جنديسابور» غير مقصور على المؤلفات اليونانية والسريانية، بل أضيف إلى ذلك تعاليم من فلسفة الهند وآدابها وعلومها، ترجمت إلى اللغة الفهلوية، وهي اللغة الفارسية القديمة، وهنالك نمت علوم الطب حين تخلصت من جو الضغط والاستبداد الذي حوطتها به التعاليم اللاهوتية. ومن غريب الأمر أن يكون من أشهر الذين علموا الطب في ثوبه الجنديسابوري الحديث فئة من أشهر النساطرة المسيحيين.
ومن الذين اشتهروا من العرب قبل الإسلام في مدرسة «جنديسابور» الحارث بن كلدة الذي عرف من بعد كطبيب، وابنه «النضر» الذي ذكره الرئيس ابن سينا كأحد أعداء سيدنا محمد — عليه الصلاة والسلام — وكان مع الذين هزموا يوم «بدر»، فَأُسِرَ وقتله علي بن أبي طالب صبرًا، على رواية أبي إسحاق الحصري القيرواني (راجع زهر الآداب ص٢٧ مجلد أول). فعرضت للنبي ﷺ أخته قُتَيْلَةُ بنت الحارث فأنشدته:
وقتلُ علي بن أبي طالب للنضر صبرًا — أي حبسًا — غير صحيحة على ما يظهر من شعر أخته قُتَيْلَة، فإنها تقول:
أي تنهل منه وتنال، وما يدل عليه الشعر إن صحت نسبته إلى قُتَيْلَة، أنه أُسِرَ أولًا، وربما حُبِسَ كظاهر قولها:
•••
وترجمت في عصر هارون الرشيد بواسطة طبيبه الخاص بضعة كتب عن السنسكريتية إلى العربية في علم الطب، حتى إنه من المتعذر أن تعرف أصل التعاليم الشائعة في الطب العربي إن كانت مستمدة من الإغريق أم من الهند، أم هي مبتكرة، إلا بعد طول المزاولة والصبر على تفهم حقيقتها وطبيعتها ومقارنتها بمنازع الآراء المستمدة من كل من تلك النواحي.
وفضلًا عن المدرستين المسيحية والزرادشتية، فقد وجدت مدرسة وثنية في «حران»، ولا يعلم كيف نشأت، وكيف تطورت! ولا من وضعها، وأقام أسسها! وكانت حران مركزًا للتأثير الإغريقي منذ عصر الإسكندر المقدوني الأكبر، وظلت موئلًا لتعاليم الديانة اليونانية القديمة، بعد أن انقلب العالم اليوناني الوثني إلى عالم نصراني، والظاهر أنَّ «حران» قد ورثت كثيرًا من تعاليم الديانة البابلية القديمة التي كانت قد انتعشت في القرون الأولى من انتشار المسيحية، إلا أن صور تلك الديانة القديمة قد ذهبت بها تطورات الديانة اليونانية الوثنية كما فهمتها «الأفلاطونية الجديدة»، وكما وضعها زعماء تلك الفلسفة في مدينة الإسكندرية، ولا مُشَاحَّةَ في أنَّ حالات الفكر في «حران» تمثل آخر أدوار الوثنية اليونانية والأفلاطونية الجديدة، كما وضعهما «فرفوريوس الصوري» حيث ظلتا عائشتين ممدتين بكل أسباب الحياة، عيشة بعيدة عن معترك العالم الخارج عن حيزهما.
وعلى الرغم من المدارس التي علَّمت على النسق اليوناني، وأذاعت مواد الثقافة اليونانية، فقد اقترنت التعاليم بكثير من المؤثرات الأخر التي لا يمكن لمؤرخ في تاريخ الفكر أن يغفل أمرها، فإن الجنود الفارسية عندما رجعت من غزو سورية نقلت معها كثيرًا من آثار الفكر اليوناني، وطائفة من مظاهر الرفاهية اليونانية.
وكذلك طبعت نفوس أبناء فارس بعد تلك الغزوة بطابع من الإعجاب بالفن اليوناني وهندسة البناء اليونانية، وكان المهندسون والبناءون اليونان الذين أسروا في الحرب أثمن ما رجع به الجيش الغازي من المغانم، حتى إنَّ بلاد فارس بدأت بعد تلك الغزوة تدخل نسق البناء اليوناني فيما تشيد من المباني.
إذن فتاريخ القرون التي تقدمت انتشار الإسلام يدل على ذيوع قسط عظيم من التأثير اليوناني في كثير من فروع الفن والعلم والفلسفة والهندسة والبناء، وفي زخارف الحياة ذاتها، ومن قبل ذلك منذ عصر الإسكندر المقدوني، كان غربي آسيا لا يتنفس إلا في جو مفعم بآثار الفكر الإغريقي.
٢
مر بنا من قبل ذكر «بارسوما» الذي قاد الهجرة النسطورية إلى بلاد فارس، وافتتح مدرسة «نصيبين»، كان لذلك الرجل معلم يقال له: «إيباس»، هو القوة المحركة والعقل المفكر في مدرسة «الرها» في أواخر أيامها، ويظهر من المقارنة التاريخية أنه أول من ترجم «إيساغوجي» مختصر «فرفوريوس» في المنطق إلى السريانية.
ويعتبر هذا الكتاب مدخلًا لمنطق أرسطوطاليس كما قدمنا، ويدل ذلك على أنَّ المنطق كان يعتبر العلم الرئيسي الذي عُنِيَ بتدريسه النساطرة، والظن الغالب أنه لم يكن ليقل اعتباره في نظر اليعاقبة عند ذلك.
ومن الوصف الذي خصت به التراجم السريانية عن أرسطوطاليس تعرف أنَّ العرب لم يقتصروا على النقل عنهم إلى العربية، بل اتبعوا نفس الطريقة، وذات الأسلوب الذي تبعه المترجمون إلى السريانية، لا في تراجمهم فقط، بل في مؤلفاتهم أيضًا.
كان من عادة المعلقين على أرسطوطاليس قبل العصر العربي أن يأخذوا مقطعًا قصيرًا من متنه المترجم إلى السريانية، وقد لا يزيد عن بضع كلمات، يعلقون عليه بإطناب، وقد يذهب التعليق إلى عدة صفحات طويلة، وقد يقتصر على إشارات مقتضبة، حسب ما يقتضي الحال من حاجة إلى الإطناب أو الإيجاز، كما لو كان معلم في المدرسة يقرأ فقرة، ويلحق بأخرى بعد أن يفرغ من شرح الأولى.
ولو نظرت في كتاب «المواقف» لعضد الدين، أو نظرت في تفسير القرآن، لوجدت أنَّ «عضد الدين» قد اتبع هذه الطريقة نفسها في كتابة مؤلفه الفلسفي، كما اتبعها المفسرون في تفسير كتاب الله.
وكان «سرجيس الراس عيني» المتوفى سنة ٥٣٦ ميلادية أعظم مؤلفي اليعاقبة، وكان مترجمًا، كما كان مؤلفًا في الفلسفة والطب والهيئة والفلك، وكان اشتغاله بالطب عمله الرئيسي، بيد أنه ترجم إلى السريانية الجزء الأعظم من مؤلفات جالينوس، وأمضى زمنًا في الإسكندرية حيث أتقن اللغة اليونانية، ودرس الكيمياء والطب في مدرستها الطبية لدى أول عهدها بتدريس ذلك العلم، أما نشأته فكانت برأس العين بالعراق، ولا تزال بعض ترجماته عن جالينوس محفوظة حتى اليوم في المتحف البريطاني ضمن المجموعة ١٤٦٦١ والمجموعة ١٧١٥٦.
وقد انتشرت مؤلفات «سرجيس» بين النساطرة واليعاقبة على السواء، وكان الكل يحسبونه مرجعًا من المراجع العليا في الطب والفلسفة، وثقة من ثقاتهما، ويقال: إنه أسس مدرسة سريانية في الطب أصبحت فيها بعدُ النبعَ المنبثق بما استسقى منه العرب، على أنَّ الراجح أنه لم يؤسسها، بل كان له أثر كبير في تأسيسها وقيامها.
كان مذهب «سبنسر» في النشوء، ومذهب «هردر» في «الميكزوكوزم»؛ أي العالم الصغير يرميان إلى إثبات وحدة الفكر، وإحداث ذلك التصور العميق الذي يسوق إلى الاعتقاد بأن الأشياء تحتفظ ببقائها، وأنَّ الحوادث الكونية تقع خضوعًا لعلاقة كائنة بينهما يمكن إدراكها، وأنَّ وجهتي النظر الديني والعلمي في هذه الحياة يمكن التوفيق بينهما.
في القرن التاسع عشر حصرت طائفة من الكتاب همها في وصف العالم وصفًا دقيقًا، حتى إنَّ مؤلفاتهم قد كونت في عقل «هردر» حالة تساءل معها — في وسط تلك الصورة التي صورت بها الطبيعة، وفي جوف التغيرات التي تنتاب هذا الكون الأكبر: أين يوجد الكون الأصغر؟
إنَّ صور هذه الدنيا العظيمة إذ تتغلغل في أعماق سحيقة من الإدراك العام، إنما تلزمنا الرجوع إلى أنفسنا؛ لكي نعاود التساؤل كما تساءل «هردر»: «أية قيمة لحياة الإنسان والإنسانية، بما فيها من الخصائص الخالدة، وبما في تاريخها من أوجه التغاير في وسط هذه الطبيعة من مجموعها؟»
أما إذا أردنا أن نعرف إن كانت هذه الفكرة بذاتها هي التي قامت في رأس «أخوديما» في القرن السادس الميلادي، ثم عادت إلى التكون في عقل «هردر» في القرن التاسع عشر، والفاصل بينهما ثلاثة عشر قرنًا من الزمان، فيغلب أن تكون محفوظات المتاحف الأوربية كفيلة بذلك.
•••
كان هذا فجر الفتح العربي، ففي سنة ٦٣٨ من الميلاد فتح العرب سوريا، وتبعها فتح ما بين النهرين والعراق في سنة واحدة، وبعد أربع سنوات فتحوا بلاد فارس، وسنة ٦٦١م استقر الملك لبني أمية في دمشق، ولكن هذا الفتح لم يؤثر في حياة الجماعات المسيحية، حيث كانت طوائفهم تعيش تحت الحكم العربي ممتعة بكل ضروب الحرية السياسية والدينية، ولم يتعرض حكامهم العرب لشئونهم الذاتية، وكل ما كان يطلب منهم للحكومة إنما هو الخضوع لقوانينها الزمنية ودفع الجزية.
•••
إنَّ هؤلاء الأعلام الذين عرض ذكرهم حتى الآن في سياق هذا المقال، هم الذين يكونون تاريخ الفكر في العصور القديمة منذ انفصل النساطرة واليعاقبة حتى الفتح العربي، وإنَّ هذا لكاف لإظهار أنَّ المتكلمين بالسريانية قد ظلوا طوال تلك الأعصر على ما كتب أرسطوطاليس في المنطق، وما بعد الطبيعة عاكفين، ولم يفتهم أن يعنوا بالطب، ودرس كثير من فروع العلوم الأخر.
غير أنك إن بحثت في أعمال هؤلاء جميعا لما وقعت على شيء من قوة الابتكار الحقيقي، أو على تعمق في الدرس العلمي، أو التأمل الفلسفي الصحيح؛ لأن جماع ما في تلك الحركة لم يكن إلا نقل المتون الموجودة بين أيديهم، مع إصدار تراجم جديدة فيها، أو تعليقات عليها، أو مقالات تفسيرية تُحشى بها، على أنَّ هذه الأشياء بدورها قد سدت فراغًا كبيرًا في تاريخ الفكر الإنساني.
على أنَّ الفتح العربي لم يحدث من أثر يصد تلك البحوث العلمية عن الانبعاث في طريقها، فبنو أمية لم يفكروا يومًا في التعرض لشئون المدارس الفلسفية، وكان الطلاب السريان ممتعين بأقصى حد من الحرية تحت حكم العرب.
وكانت سنة ٧٤٠م — أي سنة ١٣٣ للهجرة — بدء عهد جديد في تاريخ العربية، إذ أخذ أبناؤها يبدون حظًّا غير قليل من الاشتراك في تلقي الفلسفة والعلم، وبدأت التراجم والتعليقات تظهر في اللغة العربية، على أنَّ الدراسة باللغة السريانية لم تفقد أهميتها فجأة، بل ظلت موئلًا للعلم ومهدًا للفلسفة حتى زمان «أبي الفرج بن العبري» في القرن الثالث عشر الميلادي ١٢٨٦، الذي ينتهي به تاريخ الآداب السريانية، سوف نعود إلى الكلام فيه.
وكُوِّنَتْ أول مدرسة صحيحة للترجمة في العالم العربي من حنين بن إسحاق وابنه إسحاق بن حنين، وابن أخته حبيش الأعسم الدمشقي، مع غيرهم من المترجمين، تلك المدرسة التي أسسها في بغداد الخليفة المأمون لتنقل المتون اليونانية في الفلسفة والعلوم إلى العربية، وذلك ما سوف نعود إليه بعد.
وفي ذلك العصر ألف الطبيب «يوحنا بن ماسويه» ٨٥٧م مؤلفات كثيرة في الطب باللغتين السريانية والعربية، وكان كما كان حنين بن إسحاق أحد الذين انتخبهم العباسيون واحلُّوهم محلًّا رفيعًا من الاحترام والإجلال، وحوطوهم بالعناية في بغداد عاصمة ملكهم، لينقلوا فلسفة اليونان إلى العربية، وعاصر هؤلاء فئة من الكتاب السريانيين كتبوا تعليقات على منطق أرسطوطاليس، وهو كما يقول العرب «أبو زكريا يوحنا بن ماسويه»، وكان أبوه صيدليًّا في جنديسابور، وثقفه في بغداد جبرائيل بن بختيشوع. واشتهر في زمان المأمون والواثق إلى زمان المتوكل (راجع أخبار الحكماء ص٢٤٨ طبع مصر).
وأبو الفرج إن كان قد كتب في كثير من فروع العلوم المعروفة في عهده، إلا أنَّ شهرته تنحصر في العالم اللاتيني على الأخص في تأليفه كتابًا وضعه في تاريخ العالم منذ الخليقة إلى زمانه، وكتبه في السريانية أولا، وبعد زمان كتب له مختصرًا في اللغة العربية، وقيمة الكتاب الحقيقية على ما يقول كثير من المستشرقين تنحصر في كلامه عن الأمم الشرقية وأصلها كالعرب والتتار والمغول وغزوات جنكيز خان، أما ما بقي بعد ذلك فمملوء بالأغلاط؛ لأنه لم يكن واقفًا على عدة من اللغات القديمة، التي كان لا بد له منها للاستعانة بها على ضبط أسانيده.
وقد اعْتُبِر «أبو الفرج» من الثقات في السريانية وعلومها وترجماتها، وظل له الخطر الأكبر في نظر طلاب العلم زمانًا طويلًا، في حين أنه لم يتعد — كما يؤخذ من تاريخه الذي حققه المستشرقون — حد الجمع عمن سبقه من الكتَّاب والفلاسفة في موسوعة تضمنت أبحاثهم.
ولا سبيل إلى القول بأن علم العرب في الطب والكيمياء كان عبارة عن تدجيل صرف، كما يقول بعض الذين لم يتجشموا مئونة البحث والتحقيق، ففي العربية مؤلفات قيمة خدمت هذين العلمين أجلَّ الخدمات وأكبرها شأنا؛ ولو أنَّ الجمود الفلسفي الذي شاع في مصر كان في الغالب السبب في صد تيار للتقدم فيهما وعاق خطى الباحثين دون الابتكار طويلا.
•••
- أولًا: النساطرة، الذين كانوا أول من علم المسلمين، وأول الذين خدموا الطب في العصور الأولى.
- ثانيًا: اليعاقبة الذين كانوا أول من أدخل الباطنية والأفلاطونية الجديدة في الجو العربي.
- ثالثا: الزرادشتيون في فارس وعلى الأخص مدرسة جنديسابور، ولو أنَّ هذه المدرسة قد امتزجت بعنصر قوي من عناصر النسطورية.
- رابعا: وثنيو «حران» ولو أنَّ أثرهم في الإسلام لم يأتِ إلا مؤخرا.
- خامسا: العبرانيون، على أنهم لم يكونوا على صلة بالفلسفة الأرسطوطالية، وظلت مدارسهم في صور Sora «وبامباديثا» Pambaditha عاكفة على درس شرائعهم التقليدية.
٣
لم تمض على سقوط دولة بني أمية في الشام ثمانون عامًا، إلا وكان بين يدي العرب مترجمات عن أكثر ما كتب «أرسطوطاليس» وتعليقات الذين اشتهروا من زعماء «الأفلاطونية الجديدة»، وبعض كتب أفلاطون، والجزء الأكبر من كتب «جالينوس» وأجزاء أخر نقلت عن كتب بعض الأطباء والذين علقوا عليها، وطائفة غيرها من كتب حكماء اليونان وكتاب الهند وفارس.
لم يأتِ بعد هذه الحركة العلمية من مثيل لها في التاريخ، إلا حركة النهضة العلمية في إيطاليا بعد سقوط القسطنطينية في يد محمد الفاتح، مؤسس دولة بني عثمان في ربوع أوروبا.
وينقسم تاريخ الترجمة عند العرب إلى قسمين عظيمين: يبتدئ أولهما بقيام دولة العباسيين إلى قيام المأمون بن هارون الرشيد؛ أي من سنة ١٣٢ﻫ/٧٤٩م إلى سنة ١٩٨ﻫ/٨١٣م، وقد ترجم في هذا العهد كثير من الكتب نقلها كتاب ومترجمون نالوا الحظوة الكبرى عند خلفاء بني العباس، وكان كل منهم يشتغل مستقلًّا بنفسه، وأكثرهم من المسيحيين والإسرائيليين، وبعض الذين اعتنقوا الإسلام من أهل الوثنية والديانات الأخرى، ويبدأ ثانيهما بقيام المأمون والذين عقبوه على كرسي الخلافة من العباسيين، وأخص ما يمتاز به هذا العصر تأسيس تلك الأكاديمية الكبيرة — بيت الحكمة — التي أقامها المأمون في بغداد، فجمعت بين جدرانها فئة صالحة من المشتغلين بالعلم والفلسفة والترجمة، وكان همهم أن يصيغوا الكتب التي ينقلونها، أو التي نقلت، في قالب يستطيع به طلاب العلم من العرب الوقوف على أسرار العلم والحكمة.
كان أول عهد للترجمة في العالم العربي مقرونًا باسم «عبد الله بن المقفع»، وهو من أبناء فارس، زرادشتي الديانة، اعتنق الإسلام على يد محمد بن علي أبو السفاح.
ولقد عثرت على قصيدة فيها ذكر للمانونيين وتقديسهم لظلمة الحلك، وضعها حافظ بك إبراهيم ترجمة لقصيدة شكسبير في رواية «مكبث»، وكان قد ترجم الرواية كلها، ولكن الترجمة فُقِدَتْ، وإليك مطلع القصيدة:
وقال بعد أن تملكتْ من «مكبث» نزوةُ القتل ونهمة الدماء:
قال هذا في مناجاة «مكبث» لنفسه قبل أن يُقْدِمَ على الفتك بضنكان، والقصيدة مطولة نشرتها جريدة الأهرام منذ بضع سنين.
غير أنَّ كتَّاب المسلمين استعملوا لفظ «زنديق» مطلقًا من غير تحديد على فئات من الخارجين عن الإسلام، فكان يُعنى به أتباع «زرادشت» آونة، أو النصارى آونة أخرى، وكثيرًا ما كان يعني به المجوس، عبدة العناصر.
ومما يستدل به الكتاب على زرادشتية ابن المقفع، واتخاذه الإسلام ستارًا رواية رواها بعض الكتاب، إذ ذكر أنَّ ابن المقفع مر يومًا ببيت من بيوت النار فتمثل بقول الأحوص:
وقيل: إنه كثيرًا ما كان يقول:
على أنَّ ابن المقفع قد نقل بالفعل شيئًا من مبادئ المانوية عن تعاليم «ماني بن فاتك»، وكتب «ابن ديسان» إلى العربية، (بذلك يقول المسعودي جزء ٨ ص٢٩٣. طبع ليبزج م).
وفي زمان الخليفة المنصور نُقِلَتْ كتب عديدة إلى العربية عن اليونانية والفارسية والسريانية، على أنَّ الكتب التي نُقِلَتْ عن الفارسية والسريانية لم تكن في أصلها إلا تراجم عن اليونانية.
وأشهر ما ترجم ابن المقفع كتاب «كليلة ودمنة»، أو كما كان يُدعى في الفهلوية والسنسكريتية القديمة «أساطير الفيلسوف بيدبا»، ترجم ابن المقفع هذا الكتاب، وكان قد نقل لكسرى أنوشروان إلى اللغة الفهلوية عن السنسكريتية، لغة الهند القديمة، نقله الحكيم «برزويه» بعد أن سافر إلى بلاد الهند في طلبه، واستنسخه من الخزانة الملوكية مع طائفة أخرى من كتب الهند.
ويُجمِع المستشرقون أو هم يكادون يُجمعون، على أنَّ ترجمة «بوز» النسطوري لكتاب «بيدبا» المنقولة إلى السريانية عن الفارسية، المأخوذة بدورها عن الأصل السنسكريتي، هي الترجمة الخالية من آثار الوضع والحذف والإضافة، أما النسخة العربية التي نقلها ابن المقفع فظاهر فيها من آثار الانتحال ما يظهر في كل التراجم السريانية، التي ظهرت في أواخر العصر السرياني، وفي كل التراجم التي أخذت عن النسخة العربية إلى الفارسية الحديثة، وإلى اللاتينية والعبرية والإسبانية والإنجليزية والفرنساوية والألمانية واليونانية، على أنه لولا الترجمة العربية؛ لما نال هذا الكتاب ذلك الصيت البعيد. وأسلوب ابن المقفع في كليلة ودمنة يعد مثال الأساليب العربية المنتقاة.
وعاش ابن المقفع أكثر عمره في زمان الخليفة المنصور العباسي، ويقول المسعودي (جزء ٨ ص٢٩١-٢٩٢ طبع ليبزج): إنَّ ذلك الزمان كان خصيبًا في الترجمة والإنتاج الأدبي، فنقل فيه عدة مقالات عن أرسطوطاليس، وكتاب المجسطي لبطليموس في الفلك، وكتاب إقليدس في الهندسة، ومواد أخرى عن اليونانية.
•••
أما المقالة الرياضية التي وفد بها ذلك الهندي مع كتاب «السند هند»، فكان لها أثر كبير في درس الرياضيات، ولو لم يكن لها من أثر إلا إدخال الأرقام الهندية واتخاذها أساسًا للعدد في العربية، لكفى بذلك أثرًا خالدًا، فقد تطور على أثرها علم العدد عند العرب، وسار بتلك الخطى الحثيثة التي كان يعوقها دائمًا استعمال العرب لغير الهندية من الأرقام المعقدة المهوشة.
وهنا يحق لنا أن نتساءل: «ماذا كان أثر ذلك على العقل العربي؟ وماذا ترك من الآثار؟»
يخطر على البال عند هذا السؤال علم الجبر، على أنَّ لعلم الجبر تاريخًا يتقدم وجود العرب، لهذا نتكلم باختصار لنعرف تاريخ نشأته، وكيف انتقل إلى العرب؟ وماذا كان أثرهم فيه؟
نتساءل: في أي عصر وفي أية بقعة من بقاع الأرض وجد علم الجبر؟ ومن هم أول الذين كتبوا فيه؟ وكيف نشأ؟ وبأية وسيلة من الوسائل؟ وفي أي عهد من التاريخ ذاع ذلك العلم؟
كان الاعتقاد السائد في القرن السابع عشر أنَّ رياضيي اليونان لا بد من أن يكونوا قد استكشفوا تحليلًا دقيقًا لطبيعة علم الجبر على الصورة التي عرف بها في الأعصر الحديثة، وبه استطاعوا أن يحللوا تلك المعضلات التي لا يسعنا إلا الإعجاب بثبات قدم كتَّابهم في معالجتها، وأنهم أخفوا طرق التحليل وأظهروا النتائج فقط.
على أنَّ هذه الفكرة قد تبددت الآن؟ فقد دلت المستكشفات الحديثة على أنَّ رياضيي القدماء كان عندهم طريقة للتحليل، ولكنها اقتصرت على الهندسة، وأنهم لم يعرفوا من الجبر على صورته الحديثة شيئًا، غير أنه إن لم يثبت لدينا أنَّ متقدمي الإغريق كانوا على علم بالتحليل الجبري، فإننا نجد في عصورهم الأخيرة آثارًا تدل على أنَّ مبادئ التحليل الجبري كانت معروفة لديهم.
في أواسط القرن الرابع الميلادي، وهو عصر بلغت فيه الرياضيات أحط دركاتها، قنع المشتغلون بذلك العلم بأن يعلقوا على ما كتب الذين تقدموهم، على أنه بالرغم من ذلك بدأ علم الجبر يتبوأ المكان اللائق به بين العلوم والمعارف الإنسانية.
قد يصح أن يقال: إنَّ «ذيوفانتس» هو واضع علم الجبر في اللغة اليونانية وبين الإغريق، غير أنَّ الدلائل تدل على أنَّ المبادئ الأولية التي بثها في كتابه كانت معروفة من قبل، وأنه اتخذها قاعدة بنى عليها كثيرًا فيما كتب، وأنه ابتكر فيها مبتكرات ذات بال، ومن الثابت أنَّ هذا العلم ظل واقفًا عند الحد الذي تركه فيه «ذيوفانتس» حتى نقلت مقالاته إلى إيطاليا في بدء النهضة العلمية.
ويدعى هذا الكاتب عند العرب «ذيوفنطس»: وجاء في أخبار الحكماء ص١٢٦ أنه «ذيوفنطس» اليوناني الإسكندراني فاضل مشهور في وقته، وتصنيفه وهو صناعة الجبر كتاب مشهور مذكور خرج إلى العربية، وعليه عمل أهل هذه الصناعة، فكأن ذيوفانتس كان من نوابغ مدرسة الإسكندرية في أوائل القرن الخامس الميلادي.
وكان أول ما كشف كتاب «ذيوفانتس»، الذي ألمعنا إليه مكتوبًا باللغة اليونانية في أواسط القرن السادس عشر الميلادي في مكتبة قصر الفاتيكان، والراجح أن يكون قد نُقِل إليها عند ما سقطت القسطنطينية في يد محمد الفاتح.
إنَّ كتاب «ذيوفانتس» إن كان ذا شأن كبير في تاريخ علم الرياضيات، فإن أوروبا الحديثة لم تتلق ذلك العلم بداءة ذي بدء عنه، بل عن طريق العرب، فإن العرب كانوا بعد اليونان أول من عرف للعلوم قيمتها الحقيقية، في ذلك الزمان الذي كانت فيه أوروبا غارقة في ظلمات الجهالة، فحملوا أمانة العلم، وأدوها للذين من بعدهم كاملة غير منقوصة، بل مزودة بثمار العقل العربي.
ولقد ثبت من تقاليد التاريخية أنهم صرفوا أكبر عناية في جمع ما كتب رياضيو اليونان، وترجموا كتبهم، وكتبوا عليها تعليقات وشروحًا ذات أثر كبير في تقدم علم العدد، يكفي في الدلالة على ذلك أنه لولا ما كتب العرب في تلك العلوم لما عرفت أوروبا شيئًا عن هندسة إقليدس مثلًا.
ينسب العرب استكشاف الجبر عادة إلى أحد رياضييهم، محمد بن موسى، الذي عاش في أواسط القرن التاسع الميلادي في عهد الخليفة المأمون العباسي، والمحقق تاريخيًّا أنَّ محمد بن موسى ألَّف مقالة في الجبر، فإن ترجمةً لاتينيةً لتلك المقالة كانت قد أُذيعت في عصر النهضة العلمية في أوروبا غير أنها فُقِدَتْ، على أنَّ القدر قد حفظ نسخة من الأصل العربي لا تزال في مكتبة «بودلي» بجامعة إكسفورد، ويقال فيها: إنها نُسِخَت سنة ١٣٤٢ ميلادية، وينوه ناسخها في أول صفحة من صفحاتها بأن كاتبها فلان «العربي القديم»، وعلى هامش تلك الصفحة تعليق فيه ما يدل على أنها أول مقالة كتبت في الجبر وأذيعت بين «المسلمين»، أما المقدمة ففضلًا عن تعريفها بالمؤلف فإنها تثبت أنَّ «محمد بن موسى» كان يحثه الخليفة المأمون العباسي على أن يجمع في كتاب واحد ما تناثر خلال كتب الرياضة من مبادئ الحساب الجبري، وكانت هذه الفقرة سببًا في أن يعتقد الباحثون في تاريخ العلوم أنَّ «محمد بن موسى» جمع كتابه هذا جمعًا من عدة مؤلفات كانت متداولة بين أيدي طلاب العلم في البلاد العربية، أو من مؤلفات وصلت إليهم في لغات أخرى.
على أننا لا نجد من دليل يؤيد وجهة نظر الآخذين بهذا الرأي؛ فإنه لم تَجْرِ عادة المؤلفين لا من العرب ولا من غيرهم أن يعرفوا بأنفسهم في مقدمات يضعونها لمؤلفاتهم، إذن فمقدمة كتاب «محمد بن موسى» التي يعثر فيها على ذلك القول من عمل غيره، والراجح أيضًا أنها وضعت لنسخة نسخت من الكتاب بعد زمان «محمد بن موسى» أو في سني حياته، ثم تداولتها الأيدي بالنقل حتى وصلت إلى مكتبة «بودلي»، ولهذا نرجح أنَّ كتاب «ابن موسى» لا يمكن أن نميز فيه ناحية النقل عن ناحية الابتكار الصرف.
وقد اشتغل الهنود والعرب بعلم الجبر، غير أنهم لم يضيفوا إلى موضوعات اليونان فيه شيئًا يذكر ولم يستعملوه إلا في حل المسائل العددية، وبقي عندهم مسلكًا متوعرًا وهم يعتبرونه حسابًا عاليًا.
ثم بعد برهما غوبتا بزمن طويل؛ أي في الربع الأول من القرن التاسع الميلادي نشر محمد بن موسى الخوارزمي قيم خزانة كتب المأمون كتابًا بأمر المأمون في الجبر والمقابلة، وهو أول كاتب كتب بالعربية في هذا الفن، فهو واضع الاصطلاحات الجبرية، وهو الذي أعطاه هذا الاسم العربي الذي نقله الإفرنج بلفظه عن عرب الأندلس وعرب المشرق، حتى خيل للكثيرين أنَّ العرب هم واضعو الجبر، وأنه لم يسبقهم إليه أحد.
وقد اشتهر هذا الكتاب في الشرق والغرب، وطار ذكره في جميع الأصقاع، وكثرت شروحه وترجماته إلى لغات كثيرة في أزمنة مختلفة، وكان هو المعول عليه في هذا الفن مدة طويلة، ولا يشك الأوروبيون اليوم أنَّ محمد بن موسى أخذ هذا العلم عن الهنود واليونان؛ فهو كان قَيِّمَ خزانة الكتب في بغداد، وله الاستطاعة أن يستنبث ركازها ويقف على محتوياتها.
أما أبحاث الكتاب فهي الجمع والطرح والضرب للكميات الحاوية مجهولًا واحدًا، أو جذر المجهول أو مربعه. وطرائق الجمع والطرح موضحة بخطوط يعبر بها عن القيم، وفيه بعض أمثلة على المعادلة المفردة من الدرجة الثانية محاولة بعد إيضاحات طويلة مبهمة، وفيه باب التجذير والترقية للكميات ذات الحد الواحد.
وقام بعده تلميذه «ثابت بن قرة» فألف كتابًا بَيَّنَ فيه كيفية استخدام الجبر في الهندسة وجمع بين الاثنين، وكثرت بعدهما كتب العرب في هذا الفن، غير أنَّ جميع ما ألف بعدهما لم يخرج عما وضعه محمد في كتابه الأول، فكلهم نقلوا عنه كما نقل هو عمن سبقه من الهنود واليونان.
وذكر ابن خلكان (مجلد ثامن ص١١٧، ١١٨ طبع مصر) أنه توفي سنة ٣١٧ﻫ/٩٢٩م عند رجوعه من بغداد بموضع يقال له «قصر الحضر»، وقال بأن الزِّيج نسختان أولى وثانية، وأنَّ الثانية أضبط وأجود، ولا أعلم أية من النسختين هي المحفوظة في مكتبة الفاتيكان.
وكذلك ذكر ابن خلكان أنَّ له كتابًا اسمه «معرفة مطالع البروج فيما بين أرباع الفلك»، ورسالة في مقدار الاتصالات، وكتاب شرح أربعة أرباع الفلك، ورسالة في تحقيق أقدار الاتصالات، وأنه شرح أربع مقالات بطليموس.
وترجمه ابن خلكان باسم أبو عبد الله محمد بن جابر بن سنان الحراني الأصل البتاني الحاسب المنجم.
وفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة مات أبو عبد الله محمد بن جابر بن سنان الحراني المعروف بالبتاني أحد المشهورين برصد الكواكب، ولا يُعلم أحد في الإسلام بلغ مبلغه في تصحيح أرصاد الكواكب وامتحان حركتها، وكان أصله من حران صائبًا.
إنَّ من أشرف العلوم منزلة علم النجوم؛ لما في ذلك من جسيم الحظ وعظيم الانتفاع بمعرفة مدة السنين والشهور والمواقيت، وفصول الأزمان وزيادة النهار والليل ونقصانهما، ومواضع النَّيِّرَيْنِ وكسوفهما، وسير الكواكب في استقامتها ورجوعها، وتبدل أشكالها ومراتب أفلاكها وسائر مناسباتها، وإني لما أطلت النظر في هذا العلم ووقفت على اختلاف الكتب الموضوعة لحركات النجوم، وما تهيأ على بعض واضعيها من الخلل في ما أصلوه فيها من الأعمال، وما ابتنوه عليها، وما اجتمع أيضًا في حركات النجوم على طول الزمان لما قيست أرصادها إلى الأرصاد القديمة، وما وجد في ميل فلك البروج على فلك معدل النهار من التقارب، وما تغير بتغيره من أصناف الحساب، وأقدار أزمان السنين، وأوقات الفصول واتصالات النَّيِّرَيْنِ التي يستدل عليها بأزمان الكسوفات وأوقاتها، أجريت في تصحيح ذلك وإحكامه على مذهب بطليموس في الكتاب المعروف بالمجسطي، بعد إنعام النظر وطول الفكر والروية، مقتفيًا أثره، متبعًا ما رسمه، إذ كان قد تقصى ذلك من وجوهه، ودلَّ على العلل والأسباب العارضة فيه بالبرهان الهندسي العددي، الذي لا تُدفع صحته، ولا يُشك في حقيقته، فأمر بالمحنة والاعتبار بعده، وذكر أنه قد يجوز أن يُستدرك عليه في أرصاده على طول الزمان، كما استدرك هو على أبرخس (راجع القفطي ص٥٠ و٥١ طبع مصر) وغيره من نظرائه، ووضعتُ في ذلك كتابًا أوضحتُ فيه ما استعجم، وفتحتُ ما استغلق، وبينتُ ما أشكل من أصول هذا العلم وشذ من فروعه، وسهلتُ به سبيل الهداية لم يأثر به ويعمل عليه في صناعة النجوم، وصححتُ فيه حركات الكواكب ومواضعها من منطقة فلك البروج على نحو ما وجدتها بالرصد وحساب الكسوفين وسائر ما يحتاج إليه من الأعمال، وأضفتُ إلى ذلك غيره مما يُحتاج إليه، وجعلتُ استخراج حركات الكواكب فيه من الجداول لوقت انتصاف النهار من اليوم الذي يُحسب فيه بمدينة الرقة وبها كان الرصد والامتحان على تحذيق ذلك كله.
- أولًا: أنَّ ميل فلك البروج على فلك معدل النهار هو ٢٣ درجة و٣٥ دقيقة، وكان أبرخس قد حسبه ٢٣ درجة و٥١ دقيقة، وهو الآن ٢٣ درجة ونحو ٢٧ دقيقة. وقد حسب علماء الفلك المتأخرون أنه يتغير قليلًا، وقد كان في زمن البتاني ٢٣ درجة ونحو ٣٤ دقيقة فأصاب في رصده وحسابه إلى حد دقيقة واحدة.
- ثانيًا: أنَّ طول السنة الشمسية ٣٦٥ يومًا و٥ ساعات و٤٦ دقيقة و٢٤ ثانية، وكان أبرخس وبطليموس قد حسباه ٣٦٥ يومًا و٥ ساعات و٥٥ دقيقة و١٢ ثانية، وهو ٣٦٥ يومًا و٥ ساعات و٤٨ دقيقة و٤٦ ثانية، فأخطأ البتاني بمقدار دقيقتين و٢٢ ثانية فقط، وسبب خطئه في اعتماده على رصد بطليموس لا من رصده هو.
- ثالثًا: دقق في حساب إِهْليلَجَة فلك الشمس، فقال: إنَّ بعد الشمس عن مركز الأرض إذا كانت في بعدها الأبعد يساوي ١١٤٦ مرة مثل نصف قطر الأرض، وإذا كانت في بعدها الأقرب يساوي ١٠٧٠ مرة مثل نصف قطر الأرض، وإذا كان في متوسط بعدها يساوي ١١٠٨ مرات مثل نصف قطر الأرض، والنتيجة التي وصل إليها قريبة جدًّا مما وصل إليه العلماء الآن.
وَيُحِلُّهُ الأوروبيون في المحل الأرفع بين كل علماء الهيئة الذين ظهروا في كل العصور.
قد قام بتحقيق حصة الدرجة طائفة من القدماء كبطليموس صاحب المجسطي وغيره، فوجدوا حصة الدرجة الواحدة من العظيمة المتوهمة على الأرض ستة وثلاثين ميلًا وثلثي ميل، ثم قال بتحقيقه طائفة من الحكماء المحدثين في عهد المأمون، وحضروا بأمره في برية سنجار، وافترقوا فرقتين بعد أن أخذوا ارتفاع القطب محررًا في المكان الذي افترقوا منه، وأخذت إحدى الفرقتين في المسير نحو القطب الشمالي، والأخرى نحو القطب الجنوبي، وساروا على أشد ما أمكنهم من الاستقامة، حتى ارتفع القطب للسائرين في الشمال وانحط للسائرين في الجنوب درجة واحدة، ثم اجتمعوا عند المفترق وقابلوا على ما وجدوه، فكان مع إحداهما ستة وخمسون ميلًا وثلثا ميل، ومع الأخرى ستة وخمسون ميلًا بلا كسر فأخذ بالأقل وهو ستة وخمسون ميلًا.
ولم يذكر أبو الفدا إلا عملًا واحدًا، والحقيقة أنهما عملان وقعا في آن واحد، أحدهما في برية سنجار في بلاد ما بين النهرين، والآخر إلى الشمال من بلد الشام بين تدمر والفرات، وقد أثبتهما ابن يونس، وهو من أشهر الذين نبغوا في علم الهيئة في الخلافة العباسية، توفي سنة ٣٩٩ﻫ/١٠٠٨م.
أمرني المأمون أن أحقق وخالد بن عبد الملك درجة في الدائرة العظيمة على سطح الأرض، فذهبنا لذلك، وسار علي بن عيسى الإصطرلابي، وعلي بن البحتري من طريق أخر، أما نحن فتوجهنا إلى أن وصلنا بين فامية وتدمر، فوجدنا الدرجة ٥٧ ميلًا، ووجدها كذلك علي بن عيسى وعلي بن البحتري، وبعثنا بالخبر فوصل في آن واحد.
وذكر ابن يونس رواية أحمد بن عبد الله الملقب بحبش في كتابه «مطالع الأرصاد»، وحاصلها أنَّ العلماء ساروا في برية سنجار وقاسوا الدرجة، فوجدوا أنها ستة وخمسين ميلًا وربع ميل من أميالهم.
أما الطرق المتبعة الآن في قياس الدرجة فعمادها حساب المثلثات، وهو حساب دقيق جدًّا (راجع المقتطف م٢٨ ص٤٤٠ و٤٤١).
•••
وبعد أن أسس الخليفة المنصور العباسي مدينة بغداد سنة ١٤٨ بعد الهجرة ٧٦٥م، استقدم الطبيب النسطوري «جورجيس بن بختيشوع» من مدرسة جنديسابور وعينه طبيبًا ملكيًّا، ومنذ ذلك الحين توارث الأطباء النسطوريون وظيفة التطبيب في قصور الخلفاء زمانًا، وأسسوا مدرسة طبية في بغداد.
ولما مرض «جورجيس» في بغداد وأذن له الخليفة بالرجوع إلى جنديسابور عين مكانه تلميذه «عيسى بن صهاربخت»، وقد ألف كتابًا في فن الأدوية «الأقرباذين» غير أنَّ القفطي صاحب كتاب «أخبار الحكماء» يقول: «لما طلب المنصور جورجيس بعد رجوعه إلى جنديسابور مريضًا وعوفي، وُجِد عند الطلب ضعيفًا من سقطة سقطها من سطح داره، فاعتذر عن ذلك، وتقدم إلى عيسى هذا بالمضي إلى المنصور فامتنع، فسير عوضه إبراهيم تلميذه، وبقي عيسى هذا في البيمارستان بجنديسابور مقيمًا.»
غير أنَّ أكثر المؤرخين على الضد من رواية القفطي يثبتون أنَّ عيسى قدم بغداد وطب بها.
وظل الطب عند العرب واقفًا عند حد النقل والترجمة تأليفًا، وعند تجارب مدرسة الإسكندرية عمليًا، ولقد أشرنا من قبل إلى تلك الأساطير التي تخالطت بالطب والكيمياء في مصر بمدرسة الإسكندرية، فإن هذه الأساطير قد ظلت مؤثرة أثرها المحتوم في العرب طوال أيام مدنيتهم، وكان هذا الأمر سببًا في أنَّ العقل العربي لم يثب إلى الابتكار في علم الطب مبكرًا شأنه في كثير من ضروب المعارف التي زاولها، فإن الابتكار في الطب لم يأتِ إلا في عصور متأخرة من المدنية العربية.
وفي أواخر القرن الثالث الهجري نقع على أبي العباس أحمد بن الطيب السرخسي، وكان تلميذًا للكندي، ويقال: إنه كتب مقالة في الروح، ومختصرًا لإيساغوجي، والمدخل إلى صناعة الطب (راجع المسعودي جزء٢ ص٧٢ طبع ليبرج).
ولا مُشَاحَّة في أنَّ إدخال العنصر اليوناني الصرف في المؤلفات الطبية والاستعاضة به عما كتب أطباء مدرسة الإسكندرية نقلًا عن القدماء، كان أعظم ما قام به مؤلفو العرب لصناعة الطب من الخدمات، على أنَّ مؤلفات «الرازي» قد سادت فيها الفوضى ووصفت بضعف التأليف، فهي ليست سوى مجموعة من المقالات مفككة العرى غير متواصلة الحلقات، ولهذا السبب وحده رجع طلاب الطب عن مؤلفاته إلى ما كتب ابن سينا؛ لأن مؤلفات ابن سينا فيها من الألفة والنظام بقدر ما في مؤلفات «الرازي» من التفكك وعدم التواصل.
ولقد تلقى «الرازي» العلم بعد أن كبر، ولما نبغ تولى رياسة الأطباء في بيمارستان بغداد، ومن الأمثال التي كانت جارية على الألسنة وتدل على منزلة «الرازي» قولهم: «كان الطب معدومًا فأحياه جالينوس، وكان متفرقًا فجمعه الرازي، وكان ناقصًا فكمله ابن سينا»، وهذا المثل يدل واضح الدلالة على أنَّ مؤلفات «الرازي» خليقة بما وصفناها به من قبل.
واشتغل «الرازي» بالكيمياء واستكشف ما سماه «زيت الزاج»، وهو الحامض «الكبريتيك» والكحول، واستحضر الأول باستقطار كبريتات الحديد، واسمه في العربية «الزاج الأخضر»، فلما استقطره خرج منه سائل أسماه «زيت الزاج»، ولا تزال الطريقة التي اتبعها «الرازي» في استخراجه ذلك الحامض متبعة في استخراجه حتى اليوم، وأما الكحول فقد استحضره باستقطار مواد نشوية وسكرية مختمرة.
وألف في استخراج الذهب من المعادن الأخرى مؤلفًا كان لا يعتقد أنه حق وعلم صحيح، ولكن الراجح أنه ما ألف فيه إلا ابتغاء الرزق والمال ليستعين به على تجاريبه الكيماوية، وألف كتبًا كثيرة لم يبقَ منها إلا القليل، ويقال: إنها كانت مائتي مؤلَّف، والباقي منها كتاب «الحاوي» وهو أهمها، كتبه في الأمراض ووصفها ومداواتها، وكتاب «الطب المنصوري»، وكتاب «الجدري والحصبة»، وكتاب «الفصول في الطب»، وكتاب «الكافي»، وقد ترجم إلى العبرية، وهو موجود الآن في جامعة إكسفورد، وكتاب «برء الصناعة» وكتاب «الطب الملوكي».
وكان الخليفة المنصور أكبر مشجع للأطباء النسطوريين على أن يسكنوا بغداد ويعلموا فيها، وكان له ضلع كبير في ترجمة الكتب العلمية والفسلفية عن اللغات اليونانية والسريانية والفارسية، غير أنَّ اهتمام الخليفة المأمون بهذا الأمر كان أكبر، وحمايته للعلماء والحكماء أثبت وأكثر تشجيعًا.
٤
وهو من المؤلفين في السريانية والعربية، أما مقالته في الحميات فقد كانت العمدة في دراسة ذلك المرض زمانًا طويلًا، ونقلت من بعد إلى اللاتينية والعبرية.
أما أكبر الأعمال التي قام بها بيت الحكمة شأنًا، فترجع إلى المجهودات التي بذلها تلاميذ يحيى وتابعوه، وعلى الأخص «أبو زيد حنين بن إسحاق العبادي»، المتوفى سنة ٢٦٣ﻫ/٨٧٦م، وهو ذلك الطبيب النسطوري الذي مر ذكره في تاريخ النقل عن اليونانية إلى السريانية، فقد نقل فضلًا عن المؤلفات الطبية جزءًا من منطق أرسطوطاليس «الأورغانون»، وبعد أن درس أبو زيد في بغداد رحل إلى الإسكندرية، وعاد منها مزودًا بكل ثمار الدرس التي كانت شائعة متقنًا للغة اليونانية التي استخدمها فيما بعد أداة للنقل إلى السريانية والعربية.
وكان القرن الرابع الهجري في الحقيقة العصر الذهبي في تاريخ الترجمة والنقل عند العرب، أما ذلك العمل العظيم الذي تم في ذلك العهد، فإن كان في واقع الأمر راجعًا إلى فئة من المسيحيين الذين كانوا يتكلمون السريانية، واحتذوا الأمثال التي درسوها في لغتهم، إلا أنَّ عددًا عظيمًا من الترجمات قد نقلت إذ ذاك عن اليونانية مباشرة، نقلها مترجمون درسوا تلك اللغة في الإسكندرية أو في إغريقية، وغالب ما كان المترجم منهم قادرًا على أن ينقل عن اليونانية إلى العربية والسريانية معًا، وكان هناك مترجمون عن السريانية، غير أنهم كانوا يعتبرون في المنزلة الثانية بعد المترجمين عن اليونانية.
أما وقد بلغنا هذا المبلغ من البحث فليس ثمة من حائل يحول دون الكلام فيما وقف عليه العرب من مؤلفات أرسطوطاليس.
كان «الأورغانون»؛ أي المنطق لأرسطوطاليس، من أوليات ما عرف العرب عن المعلم الأول، وقد عرفوا معه كتاب بريطوريقا «الخطابة» والبويطيقا «الشعر» مع كتاب إيساغوجي لفرفوريوس.
ومن غريب الأمر أنَّ سياسة أرسطوطاليس لم يعرفها العرب، ولم يعنوا بها، واستعاضوا عنها بقوانين الجمهورية لأفلاطون.
ويرجَّح أنَّ هذا هو السبب المباشر في أنَّ نظم الحكومات ظلت عند العرب غارقة في طيات النظر الغيبي، وأعانهم على ذلك إدماج الحكومة في الدين والخلط بين السلطتين الدينية والدنيوية، وعدم التفريق بين سلطات التشريع والقضاء والإدارة.
وقد نسب العرب إلى أرسطوطاليس كتابًا في المعادن وآخر في الميكانيكا لا يعرف الباحثون في العصور الحديثة عنهما شيئًا، وليس ذلك بكافٍ في إثبات أنهما لغيره، ولكن الدليل الذي يرجح أنهما لغيره أنَّ أرسطوطاليس لم يشر إلى هذين الكتابين في بقية كتبه التي استكشف أصلها اليوناني في أوائل القرن التاسع عشر.
وظل «الأورغانون» قاعدة التعاليم الإنسانية عندهم، ومشى جنبًا لجنب مع علومهم الأصلية، كالنحو والفقه، والظاهر أنَّ ذلك أمر طبيعي الوقوع في كفاءات العقل الإنساني، أمر طبيعي أن يأتلف المنطق وعلوم الكلام، فإن هذه الظاهرة إن كانت قد وجدت متسعًا في العقل السَّامِيِّ في آسيا، فإن آثارها ظهرت في أوروبا لدى انتشار الفلسفة المدرسية في العالم اللاتيني، قبل أن يكون لزعماء هذه الفلسفة؛ أي احتكاك بالعرب، فكأن العقل اللاتيني والعقل التيوتوني الآرييْنِ، لم يَعْدُوَا القاعدة التي جرى عليها العقل السَّامِيُّ.
عرفنا قبل أنَّ البسيكولوجيا لأرسطوطاليس لم تفسر عند العرب إلا بالاستعانة بما كتب فيها الإسكندر الأفروديسي من التعليقات، وبذلك اصطبغت بصبغة من الألوهية وما بعد الطبيعة «الغيبيات» أكملتها من بعد المدرسة «الأفلاطونية الجديدة»، وتعاليمها المستمدة من كتاب «إيثولوجيا» للشيخ أفلوطين الإسكندري على الأخص، وهو كتاب في القول بالألوهية نسب خطأ إلى أرسطوطاليس، وكان سببًا في أن يعنت المعلم الثاني أبو نصر الفارابي نفسه في سبيل التوفيق بين أفلاطون وأرسطوطاليس، ولم تذع الفكرات الخاصة بالقول بالألوهية في «الأفلاطونية الجديدة» بين العرب إلا بعد أن ترجم كتاب «إيثولوجيا» المنسوب إلى أرسطوطاليس إلى العربية سنة ٢٢٦ﻫ/٨٤٠م.
قد يؤخذ على هذا المترجم أنه لم يكن أمينًا في النقل، وأنه أظلم مفاوز العلم وأضل العلماء، غير أننا لا ننسى أنَّ اسم أفلاطون وأفلوطين متقاربين في اللغة العربية، كما هما في اللغة اللاتينية، وربما كانا متقاربين في اللغة السريانية أيضًا، فلا يبعد أن يكون «ابن ناعمة» قد تأثر بالرأي الذي شاع في مدرسة الإسكندرية من القول بأن فلسفة أرسطوطاليس وفلسفة شيخه أفلاطون، غير مختلفتين في الجوهر، وأنَّ التوفيق بينهما مستطاع، وتلك فكرة ورثها العرب، ومضوا عليها عاكفين.
ولما ذاع كتاب «إيثولوجيا» اقترن درسه بدراسة تعاليم الإسكندر الأفروديسي، وكلاهما يشرح أصول المذهب الأفلاطوني الجديدة، فكان لذلك أثر ظهر بارزًا في ما كتب العرب من كتب الفلسفة الإسلامية في سائر فروعها.
أما بين يدي الفلاسفة، والذين هم جديرون بحق أن يسموا فلاسفة، فقد ظهر بين العرب فيما كتبوا ضربٌ من الأفلاطونية الجديدة مصبوغًا بالصبغة الإسلامية، تشكل في آخر حالاته بما كتب الرئيس ابن سينا، والفيلسوف ابن رشد، ونقل على هذه الصورة إلى الفلسفة المدرسية في العالم اللاتيني في أوروبا، فكان أثره بين اللاتين لا يقل عن أثره بين العرب، ولما استشم هذا المذهب ريح الفكر الغيبي انقلب إلى «باطنية» قاسية الأحكام ظهرت تحت عنوان «التصوف» عند العرب، وكانت سببًا في ذلك الضرب من «اللاهوت التأملي» الذي نمته الباطنية وشربته بروحها الخيالية، وكثيرًا ما تخالطت الفكرات الشائعة في ذلك المذهب باللاهوت الإسلامي الصحيح، وظهرت ممزوجة به أو ممزوجًا بها، مزجًا يظهر جليًّا في سطور المؤلفات التي تناولت تلك الأبحاث.
أما التعاليم الأولى لتلك «الأفلاطونية الجديدة» كما تحنرت في اللاهوت الإسلامي، فتنحصر أولًا في الاعتقاد بالعقل الإيجابي — ويسمونه «العقل الفعال» — الذي كان الإسكندر الأفروديسي أول من قال به، على أنه فيض من فيوض الله، ثم العقل السلبي — ويسمونه العقل المستقل — ويختص به الإنسان وحده، ولا ينشط هذا إلا بقوة يبعثها فيه العقل الفعال، وما هذا المذهب في مبناه وتفصيله إلا مذهب الأفروديسي إذ يقول: «إنَّ غرض الإنسان من الحياة ينحصر في أن يصل بين عقله الهيولاني والعقل الفعال بوحدة متينة»، غير أنَّ طريقة هذا الاتصال تختلف عند الفلاسفة وعند الباطنيين.
•••
يأتي بعد الفلسفة علم الطب، وهو من أكبر ما ورث العرب عن اليونان، غير أنَّ هذا العلم، وقد استمد من مدرسة الإسكندرية ومن بيئتها، لم يظهر بين العرب إلا مسممًا بتعاليم المدرسة المصرية المتأخرة، فظهرت تعاليم جالينوس وأبقراط ممزوجة بضروب من السحر والطلسمات والتنجيم، فظلت هذه العوامل شديدة الأثر في أكثر ما خرج في الطب من المؤلفات العربية، أما الأثر الحقيقي في الطب فقد نقل عن اليونان، وقد استمد أولًا من كتب النساطرة في الفلسفة، ثم من بعد ذلك عما كتب النساطرة والزرادشتيون في مدرسة جنديسابور.
بعد ذلك يدخل الأثر الحراني في الطب عند العرب، وكانت مدرسة حران الوثنية ذات صلة وآصرة بالأفلاطونية الجديدة أيضًا، ولما مر المنصور الخليفة العباسي بِحَرَّانَ على رأس جيشه؛ ليحارب إمبراطور بيزنطية، أبدى عجبه من زي تَزَيَّى به بعض الذين قدموا من حران ليؤدوا فروض التحية والولاء، فرآهم مُهْدِلِي الشعر، يرتدون ملابس ضيقة تلاصق أجسامهم، ولما وقف على أمرهم وأنهم ليسوا نصارى ولا زرادشتيين ولا يهود ولا من أهل الكتاب، علم أنه استكشف مستعمرة وثنية في ملكه الإسلامي، فأمرهم أن يعتنقوا دينًا من الأديان ذوات الكتب قبل أن يعود من الحرب، وإلا فإنه يكون في حِلٍّ إذا حَكَّمَ السيف رقابهم، فاعتنق بعضهم الإسلام، وبعضهم الدين النصراني أو الزرادشتي، وظل بعضهم أمينًا لعقيدته الوثنية، غير أنَّ هؤلاء ظلوا في حيرة من أمرهم حتى أدركهم مِدْرَهٌ عربي أعطوه مالًا تلقاء ما ينصح لهم به من سبيل يخلصون به من سيف الخليفة، فنصح لهم بأن ينقلبوا صابئين، وهم من أهل الكتاب بنص القرآن، على أنَّ الخليفة لم يمر بِحَرَّانَ في عودته، ولكن ظل الحرانيون الذين انتحلوا الصابئية آمنين بذلك النعت الجديد، في حين أنَّ الذين اعتنقوا الإسلام أو المسيحية أو الزردشتية، ارتدوا إلى دينهم تحت عنوان الصابئية.
كان «ثابت بن قرة» أعظم من عُرِفَ في مدرسة حران في العالم العربي، توفي سنة ٢٨٩ﻫ، وكان يجيد اللغة اليونانية، كما يجيد السريانية والعبرية، وترجم في المنطق والرياضيات والتنجيم والطب، وكذلك في طقوس الوثنيين وتعاليمهم التي ظل أمينًا عليها ثابت العهد لها، وهو أبو الحسن ثابت بن قرة بن هرون «ويقال: زهرون» بن ثابت بن زكريا بن إبراهيم بن كرايا بن مارينوس بن مالاميروس الحاسب الحكيم الحراني.
«وكان في مبدأ أمره صيرفيا بِحَرَّانَ ثم انتقل إلى بغداد واشتغل بعلوم الأوائل فمهر فيها، وبرع في علم الطب، وكان الغالب عليه الفلسفة، وله تآليف كثيرة في فنون العلم مقدار عشرين تأليفًا، وأخذ كتاب إقليدس الذي عربه حنين بن إسحاق العبادي فهذبه ونقحه وأوضح ما كان مستعجمًا، وكان من أعيان عصره في الفضائل، وخرج من حران لخلاف بينه وبين أهل مذهبه فنزل إلى كفر توشا، قرية كبيرة بالجزيرة الفراتية، أقام بها مدة، إلى أن قدم محمد بن موسى من بلاد الروم راجعًا إلى بغداد فاجتمع به فرآه فاضلًا فصيحًا فاستصحبه إلى بغداد، وأنزله في داره، ووصله بالخليفة فأدخله في جملة من المنجمين، فسكن بغداد وأولد الأولاد» (راجع ابن خلكان مجلد أول ص١٢٤ و١٢٥ طبعة أميرية).
ولقد توارث آل قرة العلم، فكان منهم ابنه أبو سعيد سنان، ومن أحفاده إبراهيم ثابت وأبو الحسن ثابت وإسحاق أبو الفرج، وكل هؤلاء نبغوا في الرياضيات والفلك.
وكان أبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة ببغداد في أيام معز الدولة بن بويه، وقرأ عليه كتب بقراط وجالينوس، وقد سلك مسلك جده ثابت في نظره في الطب والفلسفة والهندسة وجميع الصناعات الرياضية للقدماء.» (راجع ابن خلكان جزء أول ص١٢٥ طبعة مصر الأميرية).
•••
أما ما كان يسمونه الفلاحة فقد نقل أحمد بن على بن قيس الكلداني المعروف بابن وحشية، الذي عاش سنة ٢٩١ﻫ «كتاب الفلاحة النبطية» عن الكلدانية أملاه على علي بن محمد بن الزيات سنة ٣١٨ﻫ وجعله خمسة أجزاء، ومنه نسخ خطية في برلين وليدن وإكسفورد والمتحف البريطاني وباريس ودار الكتب المصرية، ومن الفلاحة أيضًا كتاب للزيتوني يقال له: «مختصر الفلاحة» عن كتاب ابن وحشية.
وقد تقدم أنَّ لِقسطا بن لوقا الطبيب النصراني كتاب «الفلاحة اليونانية» نقله عن السريانية، أما كتاب ابن وحشية هذا فنرجع فيه إلى الأستاذ نلليتو.
والظاهر أنَّ لمعتقد العرب في حركة إقبال الأفلاك وإدبارها سببان: الأول ما ورثوه عن مدرسة الإسكندرية من النزعة إلى التنجيم والباطنية، وما ورثوه عن هذه المدرسة أيضًا في فكرة أنَّ الأفلاك ذوات عاقلة.
وحيث إنَّ معرفة أحوال بابل وآثور القديمة قد اندرست كليًّا منذ قرون عند الشرقيين، اخترع صاحب الفلاحة النبطية الأسماء والنوادر والأخبار، وزور ولفق وموَّه، وفي كل وادٍ هَامَ، وَوَشَّى كلامه ونسج كتابه بالخرافات الشنيعة والأكاذيب الفظيعة.
ثم نرجع إلى علم الكيمياء فنجد أنفسنا مسوقين إلى أن نقرن اسم «جابر بن حيان» بِحَرَّانَ، وهو رجل ذو شخصية محققة الأثر في تاريخ علم الكيمياء، ولم يتحقق الباحثون من تاريخ مولده، ولكن التاريخ يدل على أنه كان تلميذًا يتحقق من تاريخ مولده. ولكن التاريخ يدل على أنه كان تلميذًا للأمير خالد الأموي، وهو أول أمير عربي عُنِيَ بالعلم ليكون عالمًا، وكان ثابت القدم في علم الكيمياء، وتنسب مقالات كثيرة في ذلك العلم لجابر بن حيان، وتدل التقاليد على أنَّ أكثرها صحيح النسب إليه.
ونشر مسيو برتيلو في كتابه ذاك ستة مقالات صحت لديه نسبتها إلى جابر، ويعتبرها مسيو برتيلو كمثال لما وصل إليه العقل العربي في ذلك العلم من الابتكار: ويقول بأن كل الباحثين في هذا العلم من بعده كانوا عالة عليه نقلًا وتعليقًا.
لقد ظل العرب طوال قرون يقصرون مباحثهم في الكيمياء على البحث وراء تحويل المعادن إلى ذهب، ولكن انقلبت الفكرة فيما بعد ذلك فأخذت الكيمياء بضلع أوسع من العلاقة بعلم الطب، ولو أنها لم تتحرر تحريرًا مطلقًا من الأساطير القديمة، وكان لذلك العلم ثلاثة أغراض عند القدماء؛ الأول: إيجاد محلل عام لكل المواد العنصرية، ثانيًا: اكتشاف ما يدعونه بحجر الفلاسفة الذي يحول المعادن إلى ذهب، ثالثًا: العثور على إكسير الحياة، وهو دواء يشفي جميع العلل والأمراض. إنَّ موضوع هذا العلم كما كان يدركه القدماء لا يَمُتُّ بآصرة بعيدة أو قريبة لعلم الكيمياء كما عرف في العصور الأخيرة، غير أنَّ تحويل العناصر إلى بعضها بالتجارب الكيماوية لم يصبح في القرن العشرين ذلك الحلم الخيالي الذي تصور أهل القرن التاسع عشر أنَّ القدماء تعلقوا بأهدابه ضِلَّةً، على أنَّ كل ما يهمنا في هذا الموضوع هو ما أقر عليه المؤرخون في تاريخ العلم عند العرب في أنهم كانوا ذوي كفاءات اختبارية عظيمة، وأنهم أجروا اختبارات جليلة القدر كبيرة الفائدة، ولو أنهم لم يدركوا كلَّ الإدراك ما كان لاختباراتهم تلك من الشأن والخطر الكبير.
إنَّ كل المتون التي نشرها مسيو برتيلو بلا استثناء تبدأ بالتحذير من إذاعة أسرار تلك الصناعة، وغالبًا ما تتضمن فقرات يدرك منها أنَّ كاتب المتن قد تعمد أن يغفل ذكر بعض التجاريب والاختبارات لئلا يتناولها العامة الذين لم يتثقفوا فيفسدون على الناس أمرهم ويَنْكُثُونَ فتل الآداب والأخلاق، بما يصبح بين أيديهم من الذهب الذي يحولونه عن المعادن الأخرى.
والكيماويون من العرب يدَّعُون أنهم وصلوا إلى تحويل المعادن إلى ذهب، وأنهم وقفوا على سر ذلك، والتاريخ مملوء بإشارات إلى تلك الدعوى، غير أنَّ بعض الناقدين من معاصريِ الذين ادَّعوا هذه الدعوى يقولون بأن دعواهم لا دليل عليها ولا صحة لها، وكثيرًا ما أشار المؤرخون إلى أنَّ المعلم الثاني، أبا نصر الفارابي كان يعتقد بصحة ذلك الأمر، وأنه كان ثابت اليقين في إمكان تحويل المعادن إلى ذهب، غير أنه مات فقيرًا معدمًا، بَيْنَا تجد أنَّ الرئيس ابن سينا، وهو ممن لم يعتقدوا ذلك الاعتقاد، مات في كفاف من العيش، وكان في مستطاعه أن يجمع ثروة كبيرة، لو أنه أراد ذلك.
ولقد اختلف المشتغلون بالكيمياء من العرب في كيفية تحول المعادن، أي في صحة الكيمياء كما كانت تعلم في الصور الأولى، فقال بعضهم بأنها تتحرك فيصير النحاس فضة وتصير الفضة ذهبًا، وقال غير هؤلاء: إنَّ المعادن لا تتغير إلا في صورتها لا غير، فيصبغ النحاس فيصير أبيض اللون كالفضة، وتصبغ الفضة فتصير كالذهب، ولكن كل معدن يظل حافظًا لصفاته الأصلية فتظل الفضة فضة والنحاس نحاسًا والذهب ذهبًا (راجع المقتطف م٤١ ص١٠٥ وما بعدها).
قال حجي خليفة في كشف الظنون: «إنَّ الناس في علم الكيمياء على طريقتين؛ فقال كثير ببطلانه، منهم الشيخ الرئيس ابن سينا، أبطله بمقدمات في كتاب الشفا، والشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية، صنف رسالة في إنكاره، وصنف يعقوب الكندي أيضًا رسالة في إبطاله، وكذلك غيرهم؛ لكنهم لم يوردوا شيئًا يفيد الظن لامتناعه فضلًا عن اليقين، وذهب آخرون إلى إمكانه منهم الإمام فخر الدين الرازي، فإنه في المباحث الشرقية عقد فصلًا في إمكانه، والشيخ نجم الدين ردَّ علي الشيخ ابن تيمية وزيف ما قاله في رسالته، ومؤيد الدين الطغرائي صنف فيه كتبًا منها «حدائق الإشهادات»، وبين إثباته والرد على ابن سينا.
ولا يقصد هنا بالإثبات والإنكار إلا مسألة تحويل المعادن بعضها إلى بعض؛ لأن الظاهر أنَّ هذه الفكرة هي التي دار حولها محور علم الكيمياء في كل عصور المدنية العربية.
نسلم بإمكان صبغ النحاس بصبغ الفضة والفضة بصبغ الذهب، إلا أنَّ هذه الأمور المحسوسة يشبه ألا تكون هي الفصول — أي الخواص — التي تصير بها هذه الأجساد أنواعًا، بل هي أعراض ولوازم، والفصول مجهولة، وإذا كان الشيء مجهولًا فكيف يمكن أن يقصد قصد إيجاد أو إفناء؟
الإمكان العقلي ثابت؛ لأن الأجسام مشتركة في الجسمية، فوجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الكل، أما الوقوع فلأن انفصال الذهب عن غيره هو بالرزانة، وكل واحد منهما يمكن التشابه فيه ولا منافاة بينهما.
إنَّ الفلزات واحدة بالنوع، والاختلاف الذي بينها ليس في ماهيتها، وإنما هو في أعراضها، فبعضه في أعراضها الذاتية، وبعضه في أعراضها العرضية، وكل شيئين من نوع واحد اختلفا بعرض، فإنه يمكن انتقال كل واحد منهما إلى الآخر، فإن كان العرض ذاتيًّا عسر الانتقال، وإن كان مفارقًا سهل الانتقال، والعسر في هذه الصناعة إنما هو لاختلاف أكثر هذه الجواهر في أعراضها الذاتية، ويشبه أن يكون الاختلاف الذي بين الذهب والفضة يسيرًا جدًّا.
إذا أراد المدبر أن يصنع ذهبًا نظير ما صنعته الطبيعة من الزئبق والكبريت الطاهرين، فيحتاج إلى أربعة أشياء؛ كمية كل واحد من ذينك الجزأين، وكيفية ومقدار الحرارة الفاعلة للطبخ، وزمانه، وكل واحد منها عسر التحصيل، وأما إن أراد ذلك بأن يدبر دواء وهو المعبر عنه بالإكسير مثلًا، ويلقيه على الفضة ليمتزج بها ويستقر خالدًا فيها ويكسوها لون الذهب ورزانته — المقصود بها الثقل النوعي في الاستعمال الحديث — فاستخراج ذلك بالتجربة يحتاج إلى استقراء حال جميع المعدنيات وخواصها، وإنَّ استخرج بالقياس فمقدماته مجهولة، ولا خفاء في عسر ذلك ومشقَّته.
ومما يلاحظ هنا أنَّ أقوال المثبتين والمنكرين كلها نظرية مبنية على الأقيسة المنطقية، ولا شأن لها بالعمليات.
ومما لا شك فيه أنَّ العرب أخذوا مبادئ الكيمياء عن اليونان، فإن منهم فلاسفة بحثوا في الأصول العنصرية منهم هيرقليطس الإفسوسي، الذي قال بأن النار أصل العناصر، وإمبيذقليس الذي قضى بأن العناصر أربعة: الماء والهواء والنار والتراب، وقد تدعى بالاستقصات الأربعة، وديموقريطس الذي قال بتكون العالم من حركات الجواهر الفردة المكونة للهيولى، وإنا كساغوراس الذي اتبع طريقة قياس التمثيل في حل معضلات الطبيعة الكونية، وأرسطوطاليس الذي قضى بأن الأثير يجب أن يضاف إلى العناصر الأربعة، وأنه عنصر العناصر.
ولما انتقلت علوم اليونان إلى مصر من طريق مدرسة الإسكندرية توسع الكهنة الذين كانوا يدرسون العلوم في الاشتغال بعلم الكيمياء، وزعموا أنهم حولوا المعادن إلى ذهب في أول عصور المسيحية فاضلوا كثيرًا من محبي الاستطلاع والطامعين في الغنى العاجل، حتى اضطر الإمبراطوران ساويرس وديوقلتيانوس أن يأمرا بإعدام كل كتب الكيمياء، ولكن نجت منها طائفة وصلت إلى أيدي العرب فكانت عمدتهم في هذا الموضوع، ومنها اقتبسوا الألفاظ اليونانية المستعملة عندهم في الكيمياء.
•••
على أنَّ الروايات عن جابر كثيرة، والقَصص من حوله عديدة وجوهه، غير أنَّ مسيو برتيلو يعتقد بأن كل الظواهر التاريخية تدل على أنَّ جابرًا كان ذا آصرةٍ قريبةٍ، ونسبٍ أدْنَى إلى حران في أوائل القرن الثاني من التاريخ الهجري.
«ملحوظة»: فهرست أبواب كتاب السند هند، وهي أربعة وعشرون توجد في ص٧٤ من كتاب البيروني المسمى تحقيق ما للهند من مقولة.