القصد والغاية
منذ أن ترامى أول شعاع أرسله الفكر فشق في ظلمات القرون الأولى للفلسفة طريقًا إلى خفايا العالم المجهول، تساءل الإنسان: لماذا خُلق العالم؟ وأية غاية سبقت في حكم القدر ليخرج هذا الكون قائمًا على ما نرى فيه من نظام؟ إن أردتَ أن تقع على جواب يَنْقَع غُلَّتَكَ ويَرْأَب بقوة أدلَّته ما تصدَّع من يقينك، فأجب: لا أدري؟ كن لاأدريًّا إزاء هذا اللغز الوعر ولا تحفل بما ينقل إليك من التقاليد، أما إذا سُئلت: أهنالك من قصد في خلق العالم؟ وهل من غاية لأجلها خلق الإنسان؟ فأجب إجابة الأدريين، وقل: نعم، لا بد أن يكون من وراء هذا النظام الشامل قصدٌ كامنٌ وغاية مخبوءة لا أعرف من ماهيتها شيئًا؛ فإن هذا النظام إذ يدل على قوة تدبره على مقتضى الحكمة، فلا بد من أن تكمن وراء ظواهره غاية هو سائر في نظامه نحوها، متجه بكل ما فيه من النشوء والارتقاء إلى بلوغ سمتها القصي والانتهاء عند ذروتها العليا.
انقسم الناس منذ أن بزغ فجر الفلسفة في بلاد اليونان، التي وصل إلينا من آثارها العقلية ما نعتبره أكبر ميراث ورثه العقل البشري عن القرون الأولى، إلى فريقين: فمنهم من قال بأن وراء النظام الظاهر قوة تدبره بحكمتها وتحوطه بعنايتها، وأن هذه القوة لا بد من أن تسير بالعالم إلى قصد وتسوقه إلى غاية، نستدل عليهما بما هو مبثوث في أطراف هذا العالم من نظام لا ينتابه خلل، ولا نلحظ في نواحيه من شيء لا يدل على أن له موجدًا، ويقول هؤلاء: إنَّ الإنسان إنما يقيس حالات العالم الخارجي على حالات نفسه، فكما أنَّ الشبح المنعكس من عدسة زجاجية على حائط ليس سوى صورة مكبرة من ذلك الشبح الكائن في العدسة، كذلك النظريات الخاصة بهذا العالم، كما يقول العلامة كروزيار: ليست سوى صورة مكبرة من نظريات العقل الإنساني تسبك عادة على نماذج تستمد من تجاريبنا الذاتية، وعلى هذا لا يستطيع أن يكون في العالم فكرة منطقية على حقيقته المطلقة، غير مقيدة بحدود العقل والذاتية البشرية، هذا مثال الأول.
ومن الفلاسفة من يقول بأن هذا العالم قد صدر عن العماء الصرف على الرغم مما يظهر فيه من نظام، وأنَّ القصد في العالم غير بين، والغاية لا يمكن أن تُدرك من بضعة نظم يسير العالم على مقتضاها، ولا يمكن للعلم أن يدرك منها شيئًا بطرقه الموضوعة، إلا من طريق الحس الإنساني، ولما كان العلم لا يعتمد إلا على الحواس وحدها، ولما كانت الحواس لا تنقل إلى العقل سوى تجاريب لا تدل طبيعتها على أنَّ في خلق العالم قصدًا، أو أنَّ في خلق الإنسان غاية، فلن نستطيع أن نسلم بقصد وغاية تكمنان وراء الظواهر إلا إذا ثبت لنا ذلك من طريق الحواس، إن العالم كتلة موات من المادة والحركة، وإنَّ الحياة والفكر وكل خصائص الإنسان ليست سوى أعراض مختلفة لتفاعل المادة والقوة التي تحرك دقائقها، وهذا مثال الفريق الثاني.
كل فريق من هذين الفريقين بما لديه فرح فخور، فمن أي الفريقين تريد أن تكون؟ تابعني قليلًا ونقِّل معي خطاك في بحث قصير يمكنك أن تكون لنفسك من بعده فكرة مستقلة، إذا عُنِيتَ بعض العناية بتفهُّم الحقائق التي يقوم عليها.
خلق العقل الإنساني مقسورًا على أن يعتقد ببضعة حقائق أولية لا يمكن بدونها أن تحتفظ بألفته التي ينحصر فيها كل معنى من المعاني التي تفضله عن بقية الخلق الأدني منه في الطبيعة نسبًا وأحط مكانة، لهذا ترى الناس منصرفين في حياتهم وهم على شعور تام بأنهم يملكون شيئًا يكمن بين جوانحهم يسمونه القوة المدركة، وأنهم يحوزون شيئًا آخر يدعونه حس الجمال والموسيقى والشعر، وأن هذه الضروب المتنوعة من الحس الكامن إنما تظهر لهم كأشياء أولية ظاهرة بجانب ذلك الشيء الغامض المبهم الذي يسمونه الإرادة الخفية التي لا يستطيع إنسان اكتملت ألفة عقله أن يمضي معتقدًا بأن ليس لها وجود حقيقي، لهذا نسوق مباحثنا لنخلص منها بنتيجة تظهرنا على أنَّ القصد والغاية تكمنان وراء كل الظواهر الطبيعية.
ينكر الماديون أنَّ للإرادة وجودًا حقيقيًّا، ولماذا؟ لأنهم إن سلموا أنَّ للإرادة وجودًا حقيقيًّا لما استطاعوا أن يخلصوا مطلقًا من النتائج التي تترتب على هذا القول، ولما أمكنهم أن يخرجوا من قولهم هذا إلا معتقدين مع الإلهيين بأن للعالم خالقًا مدبرًا حكيمًا تبدو إرادته، وتظهر حكمته جلية في نواحي الكون، ولذا تراهم يقولون بأن الإرادة ليست إلا عرضًا لاهتزاز دقائق المخ المادية، على الضد مما يقول به المثبتون للقصد من خلق العالم إذ يمضون معتقدين بأن الإرادة ليست إلا الانتقال من حركة عقلية إلى فعل طبيعي، فإذا أردت أن تمشي مثلًا فإنك إنما تنفذ حركة المشي إذ تقوم في عقلك إرادة تحملك رغمًا منك على أن تتبع هواها.
من هذا ندرك أنَّ الماديين والإلهيين يختلفون من حيث الاعتقاد في السببية الصحيحة التي تقوم عليها الإرادة، يقول الأولون: إنَّ السبب الحقيقي في الإرادة ينحصر في اهتزاز دقائق المخ المادية التي تنتج كل الصفات العقلية، ويقول الإلهيون: إنَّ الإرادة عبارة عن خاصية من الخاصيات التي يتصف بها العقل الإنساني، ولذا فهي لا تعود إلى سبب منه تستمد، وإنما لها وجود حقيقي قائم بذاته.
فإذا تابعنا الماديين وأنكرنا أنَّ للإرادة وجودًا حقيقيًّا، وأنها ليست سوى عرض من أعراض السببية الحقيقة التي هي عند الماديين عبارة عن اهتزاز دقائق المخ المادية، لم يحل بيننا وبين إنكار كل الخاصيات العقلية الأخرى حائل، وعلى نفس الدلائل التي ينكر بها الماديون الوجود الحقيقي للإرادة نستطيع أن ننكر كل الخصائص والقوى والمدركات الإنسانية الأخرى، نستطيع أن ننكر وجود الجمال والموسيقى، بل لا نقف عند هذا وحده، فنمضي من ثم إلى إنكار أنَّ هنالك فرقًا حقيقيًّا بين منازع الفكر والعواطف، ونقضي من هذه السبيل على الفضائل ومضاداتها من الرذائل، على اعتبار أنَّ هذه الأشياء ليس لها من وجود حقيقي، بل نقضي على كل قضايا العقل الإنساني ولا نترك من ورائنا بعد هذا في الحياة البشرية برمتها من شيء يستحق أن يكون له قيمة صحيحة اللهم إلا كتلة مواتًا من المادة والحركة.
إلى هذا المزلق الوعر يسوقك الماديون، يسوقونك أمامهم سعيًا إلى حيث تفقد ألفة عقلك، وتقف حائرًا أمام ما تحس به بين جوانحك إحساسًا صحيحًا.
تناجي نفسك، إني خلقت مقسورًا على أن أعتقد أنَّ دقائق المادة تتجاذب وتتدافع لأني إذا أردت أن أكسر حجرًا، وكذلك إذا أردت أن أضغطه، فإن جواهره ودقائقه تقاوم إرادتي في كلتا الحالتين، ذلك في حين أني لا أدرك كيف أنَّ دقيقتين من المادة تتجاذبان في حين أنهما تتدافعان، وكذلك أعتقد أنَّ في الفضاء أثيرًا يحمل إلى شبكية عيني الضوء، وينقل إلى صماخ أذني مختلف الأصوات، في حين أني لم أر الأثير ولم أتناوله بتجربة تثبت وجوده من طريق الحواس. إرضاء لطرائق العلم، يهمس في روعك وحي العقل بأن لا تعتقد بغير هذا وإن امتنع عليك حسيًّا إدراكه؛ يهمس في روعك بأن للعالم المادي المحيط بك وجودًا حقيقيًّا على الرغم من أنَّ الفلاسفة قد ينكرون وجوده كحقيقة ثابتة، وعلى هذا تتدرج من الاعتقاد بالعالم الخارجي، إلى الاعتقاد بعالمك الكائن في تضاعيف فطرتك، تعتقد بأن هناك فرقًا حقيقيًّا بين الفضيلة والرذيلة، وبين سمو المدارك الروحانية وبين إسفاف النزعات السفلى، تدرك أنَّ الأنانية وحب الذات شر، وأنَّ الغيرية وإنكار الذات خير؛ وعلى الجملة تدرك أنَّ هنالك فروقًا كائنة في عالم العقل بين منازل الفكر والعواطف.
بذلك تناجيك نفسك ويهمس في روعك عقلك، فإذا رجعت إلى الماديين وألفيتهم يرجعون بهذه المعاني جماعها بلا تفريق بينها إلى اهتزازات دقائق غير مختلفة بعضها عن بعض أي اختلاف ما، ولا تدرك من تلك الفروق شيئًا مطلقًا، فلا يصبح من شيء هو أثبت في يقينك من الاعتقاد بأنهم إنما يلزمون أنفسهم الحجة بحكم المنطق بأن هذه المعاني لا يختلف بعضها عن بعض اختلافًا حقيقيًّا.
ثم ارجع بعد هذا ثانية إلى الإرادة؛ فإنك تجد نفسك مقسورًا على الاعتقاد بوجود حقيقي لها على الرغم من معتقد الماديين بأنها ليست سوى عرض يلازم اهتزازات دقائق المخ المادية، فإذا اعتقدت بهذا وشعرت بأن ألفة عقلك تتطلب منك سببًا يعود إليه نظام العالم المادي، وإذا كان كل ما في مستطاع اختبارك أن يصل من علم بالسبب الأول والعلة الأولى ينحصر في الفعل العقلي لإرادتك، التي هي رغم مزاعم الماديين عبارة عن الانتقال من الحركة العقلية إلى الفعل المادي؛ أصبح من المحتوم، مادمت قد قسرت على فطرتك التي فطرت عليها، أن ترجع بمقتضى ألفة عقلك ومقتضيات تكوينه وخصائصه إلى الاعتقاد بأن هذا الكون معلول لإرادة عاقلة؛ أي إلى خالق، وليس لك أن تبحث بعد ذلك في أنَّ لهذه الإرادة العاقلة التي تدبر العالم وجودًا حقيقيًّا يثبته العلم من طريق الحواس؛ كما أنه ليس لك أن تبحث من طريق العلم المعتمد على الحواس الكائنة فيك؛ ولا تخرج عن حيزك، عن دليل يثبت لك وجود العالم المادي، أو يظهر لك كيف تتجاذب دقائق المادة وتتدافع! وإنما كل ما تدرك وتعلم أنك جبلت على ألا تستطيع أن ترد على عقلك ألفته، وأن تحتفظ بنظامه الذي خلقت مقسورًا على الاعتقاد بصحة ما يوحي إليك به، إلا إذا مضيت مؤمنًا بوجود خالق ذي إرادة حرة يدبر العالم على مقتضى الحكمة البالغة من سمو المعاني مبلغًا لن تدركه قواك البشرية المحدودة.
نعود بعد هذا ونكرر ثانية أنَّ الإنسان مقسور على أن يقيس حالات العالم المحيط به على حالات نفسه، وأنه لا يستطيع أن يدرك علة العالم إدراكًا صحيحًا كاملًا، وإنما كل ما في مستطاعه محصور في أن يدرك أنَّ للعالم إرادة تدبره كما تدبر إرادته حركاته وأفعاله في الحياة.
وما دمنا قد سلمنا بأن للعقل ألفة ونظامًا، وما دامت الإرادة خاصية من خصائص العقل، فيترتب على هذا أنَّ حكمة القصد في الأعمال الإرادية لا تصدر إلا عن عقل اكتملت ألفته، ولا ترجع في مصدرها إلا إلى ألفة العقل، أما العقل الذي اكتملت ألفته فتصدر عنه إرادات تسير الأشياء على مقتضى الحكمة.
وبحسب ما يكون في العقل من ألفة ونظام تكون نسبة الأفعال قربًا أو بعدًا عن مقتضى الحكمة المدركة بقدر الطاقة البشرية، وعلى هذا النهج تقاس دائمًا إرادة القوة المدبرة للكون، كما أنَّ تسلسل الفكرة على هذه السبيل يقتضي أن نعتقد بأن القصد والغاية أمران لن ينفك عنهما عقل اكتملت ألفته.
غير أنَّ هذه الفكرات في مجموعها لا تسلم، كما يقول أبو العلاء المعري من خطرات تدس على حسن الضمير وعلى ألفة العقل نفسه، تحيط بك هذه الفكرات وتتساورك منتزعة منك قوة اليقين لتلقيك في غمرات الشك والحيرة إذا ما أزمعت أن تفكر في القصد والغاية التي من أجلها خلق الإنسان؟ وغالبًا ما يفكر الإنسان في هذا مقسورًا عليه بمقتضى طبعه مدفوعًا إليه بحكم غرائزه، وإنا لا ننكر أنَّ وقوف الفكر إزاء هذه الأشياء وأمثالها موقف اللاأدريَّة الصرفة أسلم سبيلًا، وآمَنُ عاقبةً من أن يمضي في التأمل منها فتكتسحه إلى حيث المهواة السحيقة يتردى فيها إلى أعماق الجحود والإلحاد، غير أنك إن أمكنك أن تنصرف عن التفكير في القصد والغاية التي من أجلها خلق كل شيء فكيف تستطيع أن تخلص من التفكير في القصد والغاية التي من أجلها خلقت أنت الكائن المفكر المعتقد في صحة عدد من الحقائق التي تحوطك بنتائجها، وعلى الأخص إذا اعتقدت وكنت في ذلك محقًّا، أنَّ فكرك الخفي وخطرات نفسك القصية هي أعظم دليل يقوم عندك على وجودك في وسط عالم لن تبلغ فيه إلى نهاية تفكيرًا أو عملًا!
يخرج الإنسان إلى هذا العالم جرثومة حية ينبذها القدر نبذًا فلا تلبث أن تكتمل بشرًا سويًّا، ثم لا يلبث أن يذهب به الفناء منحدرًا به من جوف الأزل البعيد إلى جوف الأبد اللامتناهي، تفكر فلا تعرف من أين أتى ولا إلى أين ذهب، وأنت كما تأملت من هذه الحالات لا تجد في العالم كله من سلوى تُسَلِّيكَ عن التفكير في نشأتك ومنقلبك بعد الموت، إلا متاعب في الحياة لن تستطيع أن تقطع من عمرك مرحلة، طالت أم قصرت، من غير أن تعتقد أنه كان من الحكمة أن تظل حيث كنت قبل أن تولد، مكفيًّا هموم الحياة الدنيا بعيدًا عن أحزانها.
علام كل ما في هذه الحياة؟ علام الحب والبغض؟ علام الألم واللذة؟ علام العسر واليسر؟ ولأي شيء وضع لكل شيء نقيضه ونصب لكل أمر ضده؟ ولأي شيء خلق كل شيء؟ ولأية حكمة سبقت مشيئة الغيب أن يكون الأمل في نفسك أعرق أصلًا من اليأس في الحياة؟ تقول الفلسفة الحقة: لا أدري، وكفى بلا أدري للفكر عاقلًا عن الانبعاث مع التأمل في فلوات مجدبة لا تبلغ منها إلى نهاية.
غير أنك إذا تركت الفلسفة ورجعت بعدها إلى مباحث العلوم الحديثة وقعت فيها على شعاع يضيء سناه بعض ما يكتنف هذه الحياة من ظلام تشتد حلكته من حولك، كلما تأملت في حالات حياتك والقصد منها.
وضع الفلاسفة في كل الأجيال أمثالًا من فضائل الأخلاق تحتذيها النفس المهذبة لتكمل بها ناسوتيتها العليا، من هذه الأمثال إنكار الذات والغيرية، وهي فضائل تظهر واضحة في سلوك الأفراد إزاء بعضهم البعض وإزاء المجموع الذي هم تابعون له وللهيئة الراعية التي تقوم عليها صوالحهم في الحياة، غير أنَّ اتباع ما تقتضي به هذه الفضائل في الاجتماع الإنساني أمر اختياري قد تفعله أو لا تفعله مختارًا غير مجبر، هذا على الرغم من أنَّ للعقل والآداب في كلتا الحالتين حكمًا يختلف باختلاف الظروف، ولكن العلم الحديث قد أثبت في أواسط القرن التاسع عشر أنَّ الإنسان وكل الحيوانات العليا مقسورون على ضرب من الغيرية أثر الجبر فيه ثابت لا يتبدل، وأثر الاختيار فيه معدوم البتة.
إذا تصفحت الأساطير التي تضمنتها مجلدات التاريخ الطبيعي في القرون الوسطى حتى أوائل القرن التاسع عشر، لما وقعت على شيء يمكن أن يدل من طريق علمي على أنَّ هنالك من قصد في خلق الحياة فوق هذه الأرض، بل إنك لم تكن لتستطيع أن تفقه لأي الأسباب وضع نظام الأحياء في سلم من الارتقاء كان يظهر لأعين الباحثين جليًّا واضحًا، وإن عجزوا عن تعليل السبب فيه قرونا، حتى قام العلامة شارلز داروين ووضع نظريته في الانتخاب الطبيعي في أواسط القرن الفارط.
لقد كان لهذه النظرية، نظرية النشوء والارتقاء بالانتخاب الطبيعي وحفظ الصفوف الغالبة في التناحر على البقاء، من الأثر في كل فروع العلوم الحديثة ما لا يمكن أن تبلغ منه بفكرة صحيحة حتى تقف على تاريخ تقدم العلوم وتطور الفكرة فيها منذ ظهر العلامة كاسبار فردريك وولف الجرماني ١٧٥٩ حتى ظهور كتاب أصل الأنواع ١٨٥٩، وما ترتب على ذيوع نظرية العلامة داروين من الآثار الجُلَّى على أنه مهما كان لهذه النظرية الفذة من أثر في العلوم الحديثة، فإني أعتقد، وأعتقد بحق، أنَّ آثارها في المباحث الفلسفية لا تقل عن أثرها في العلوم، واعتقد فوق هذا أنه ما من شيء في هذه النظرية أبعد مدى في التأثير على العقل الإنساني من ناحية فلسفية صرفة في إثبات القصد في علاقة بعض الأحياء ببعض، ذلك القصد الذي يبدو واضحًا دالًّا على أنَّ نظام الكون الطبيعي الثابت الراجع في أصل منشئه إلى فعل إرادة مدبرة يكمن قصدها وتختفي غايتها وراء الظواهر إنما هو نظام شامل لا ينفلت عن قطره شيء حتى الأحياء العليا والدنيا بما فيها الإنسان ذاته.
لقد كان لمباحث داروين في علم الحياة أثر قلب الفكرة القديمة في نظام الأحياء المرفولوجي «أي الخاص بالصورة والتركيب»، فإن علماء الحيوان والباحثين في التاريخ الطبيعي كانوا يعتقدون أنَّ اللون وحسن الصورة وجمال التركيب وما إلى هذه الأشياء التي كانوا يقفون عليها لدى بحثهم صور الحيوانات التي يتناولونها بالوصف، ولا يعلقون عليها بشيء مما يمكن استقراؤه فيها من عظات الطبيعة البالغة، ليست سوى أشياء لم تتصف بها الصور الحية إلا إرضاء لحس الجمال، أو إقناع شهوة الالتذاذ والمتعة بها في الإنسان، وكان اعتقادهم أنَّ الخالق لم يحدث في الأحياء كل صور الجمال، إلا ليرضي الحيوان الناطق المدرك لحقيقة شيء لا يدركه الحيوان الصامت، وعلى هذا الاعتقاد ظلوا عاكفين طوال قرون عديدة. على أنَّ فكرة القصد الفلسفية مصبوبة في هذا القالب لم تستمكن من عقول الباحثين في علم وظائف الأعضاء والتشريح استمكانًا ينزل منزلة العقائد العلمية الأخرى.
على أنه كان من المألوف في القرون الوسطى حتى أواخر القرن الثامن عشر أن يعكف بعض الباحثين على التأمل من حالات غامضة مبهمة تتناول مسألة المكافأة بين المخلوقات بعضها نحو بعض، وبينها وبين البيئة التي تعيش مكتنفة بآثارها، وظلت هذه الفكرة السامية تساورها الشكوك والريب حتى وضع داروين نظريته المعروفة في النشوء والارتقاء، فطبقها من بعده الباحثون على فكرة القصد في نظام الطبيعة تطبيقًا مقتطعًا من حالات اتخذت فيها الحيوانات الراقية في سلم المراتب الحيوانية أمثالًا تؤيدها، فإن نظرية داروين تقوم على معتقد بسيط ثابت في أنَّ كل عضو أو جزءًا من عضو، وأنًّ كل الخصائص الظاهرة والباطنة في العضويات، لا بد من أن تعود بالنفع إما على ذلك الكائن بالذات، وإما أنها كانت ذات فائدة لسلف من أسلافه الغابرين، وأنه ما من خاصية من الخصائص العديدة والغرائز المختلفة في طبائع العضويات قد استحدث فيها لمجرد النفع أو إرضاء لشهوة الجمال واللهو في كائنات أخر غيرها، وعلى مقتضى ناموس الانتخاب الطبيعي يكون السبب في وجود التراكيب المختلفة في الكائنات راجع إما لأنها مفيدة لها ولذلك تنتخب للبقاء ثابتة في تضاعيفها؛ وإما لأنها كانت مفيدة لأسلافها ولذلك انتقلت موروثة في الأعقاب.
هذه الفكرة الأولية في تطبيق نظرية القصد الفلسفية على الكائنات الحية وعلى الطبيعة استتباعًا، مضافًا إليها فكرة أنَّ الكون آخذ في النشوء ضارب في الارتقاء بقسط وافر، تزيح عن العقول بعض ما كان يكتنفها من ظلام لدى التفكير في القصد من الخلق وفي الحياة برمتها وفي الموت الذي يتلو الحياة ذاهبًا بالأحياء في طريق واحد، فإذا ثبت أنَّ ذلك الطريق يسلم إلى الخلود، فهنالك تحل مشكلة القصد في الطبيعة حلًا نهائيًّا، وإذا ثبت أنَّ ذلك الطريق يسلم إلى الفناء الصرف، ظلت تلك الغيامة الكثيفة تظلل العقل الإنساني أزمانا لا نقدرها.