مهيار الديلمي
لئن كان في الأمثال القائمة اليوم من حولنا في ميدان الأدب ونهضة الثقافة، كما يقولون من مثل يصح أن يدل على شيء من الإفراط في احتذاء الأساليب التي رسمها لنا أدباء القرن الماضي، أو من التفريط في دراسة نبغاء لا تعرف لأي سبب من الأسباب ظلوا مهملين طوال العصور، فإن إغفال اسم مهيار الديلمي لمن أخص تلك الأمثال، وكذلك لا تعرف لأي سبب من الأسباب عكف الأدباء على دراسة بعض شخصيات بائرة، غير أنها على جدبها وبورها خصت في كل عصور الأدب العربي بأقصى ما بذل الأدباء والباحثون من عناية بالبحث والاستقصاء، وهل تجد أنَّ اسم مهيار بين الأدباء والشعراء بأسعد حظًّا من ابن الرومي؟ وكلاهما شاعر فحل، وكلاهما عبَّر عن نزعات قامت من حوله ورسم في الشعر الجزل صورًا استحالت إليها نفسيته، وما هي إلا صورة الحياة الصحيحة تجلت في أوضاع لغة، كلاهما كان عنها غريبًا، وكلاهما استوعبها استيعابًا يدل على نبوغ أصيل وعبقرية موروثة؟
لا نعرف من هذا إلا أنَّ في الحياة سرًّا كامنًا يحرك ظواهرها على مقتضى ظروف نعرفها، ولكنا لا نستطيع أن ندرك من مؤثراتها شيئًا، لماذا يكون أبو نواس سمر الأدباء في كل عصر، ولماذا يظل المتنبي قبلة المتأدبين في كل آن ولا يذكر اسم مهيار أو اسم ابن الرومي مرة، إلا بعد أن يذكر شعراء أقل منهما في الأدب منزلة، وأدنى منهما في الشعر مكانة كديك الجن وصردر وأبو الشمقمق، ألوفًا من المرات؟ السبب في هذا تكاد تلمسه إذا أنت نظرت في الفرق بين شعر تجود به سليقة مستمدة من خيال آرِيٍّ، وآخر تخرجه سليقة تستمد من خيال ساميِّ الأصل، والفرق بين العقل الآرِيِّ بكل توابعه، مباين جهد المباينة للعقل السامي، فالفرق بينهما جَلِيٌّ في المدنية التي أخرجها كلاهما، كما هو بَيِّنٌ في صور الدين والشعر والموسيقى وبقية الفنون، فإن أخص ما يمتاز به العقل الآرِيُّ حب التنويع والقدرة على الجمع بين المتناقضات، ففي دين فارس الآرية، وفي عصرها الوثني تجد أنَّ الأصل في العالم عنصران عنصر النور، وعنصر الظلام، يمضيان متعاقبين، وأحدهما يمثل الخير والآخر يمثل الشر، في حين أنك لا تجد في الأديان السامية من شيء سوى التوحيد المطلق من كل قيد اللهم إلا فكرة الوحدة الآخذة بأطراف العقل من كل جهاته، وهكذا الحال في الفنون على اختلاف صورها وعلى تشعب مناحيها، تجد أنَّ فكرة الجمال قد اتحدت في العقل الآرِيِّ بفكرة الألفة اتحادًا تامًّا، في حين أنَّ العقل السَّامِيَّ لم يدرك إلا فكرة الجمال، وعجز عن أن يكون من بين الأجزاء المفردة الجميلة بحق وحدة فيها ألفة تلتئم وما في أجزائها من جمال.
أتخيل أنَّ هذا سبب من أخطر الأسباب التي من أجلها لم يستسغ العقل السَّامِيُّ شعر مهيار ولا شعر ابن الرومي، على أنك لا تقع في ظاهر شعرهما على شيء ينفر منه الأدب أو تأباه الديباجة العربية، ولكن لسببٍ خفيٍّ لا تستطيع أن تقول ما هو؟ غير أنه في غالب الأمر ما ذكرنا من الفرق بين منتجات العقل الآري، ومنتجات العقل السامي، إذ تعكس كلتاهما على النفسيات المختلفة صورًا لا نستطيع لدقتها أن نحدد أثرها في الأنفس والعقول تحديدًا تامًّا.
وكذلك الحال إذا نظرت في الفلسفة التي أنتجها العقل الآري، والفلسفة التي أنتجها العقل السامي، فإنك تجد مثلًا أن أحط صور الغيبيات التي أنتجها العقل الآري، لا تطاولها أرقى الصور الغيبية التي أنتجها العقل السَّامِيُّ في الفلسفة، وكذلك الحال في العقل السامي، فإن أحط صور التوحيد التي أنتجها العقل السَّامِيُّ لا تطاولها أرقى الصور التي أنتجها العقل الآرِيُّ في الدين، ولأي من الأسباب لم يعش دين المسيح — عليه السلام — في بيئته السامية الأصلية؟ لأنه بثالوثه المعروف منافٍ لأوضاع العقل السَّامِيِّ ولخصائصه، بقدر ما هو ملائم لنزعات العقل الآري، لهذا نزح إلى أوربا ليعيش هنالك، في ثنايا العقل التيوتوني المستمد من العقل الآرِيِّ وراثة ومنزعًا.
•••
أما شاعرنا الذي نريد أن نتكلم فيه اليوم فهو مهيار بن مرزويه الكاتب الفارسي الديلمي، ومهيار ومرزويه اسمان فارسيان أصيلان في الفارسية عريقان في العجمة، فلا مطعن إذن في نسبته الفارسية لا من ناحية التاريخ، ولا من ناحية النسب.
كان مجوسيًّا وأسلم، ويقال: إنَّ إسلامه كان علي يد الشريف الرضي أبي الحسن محمد الموسوي، وهو شيخه وعليه تخرج في نظم الشعر، كما يقول مؤرخو الأدباء: وإنه وازن كثيرًا من قصائد أستاذه، وتوفي سنة ٤٢٨ من الهجرة، وأسلم على الحقيق سنة ٣٩٤ﻫ، فكأنه عاش ستة وخمسين عامًا قبل أن يدركه الأجل المحتوم، وعندي أنه لم يسلم إلا بعد أن أدرك من العمر مدى عنده استطاع أن يختار بين الأديان، وأن يوازن بينها ليختار له دينًا، كما سترى عندما نتناول قصيدته التي نظمها بعد إسلامه منوها بالكثير من حالاته وخصائص نفسه.
لشعر مهيار ديباجة وحدها، وفيه من متانة التركيب وحسن السبك ما لا تجده في كثير من شعراء عصره الذين انتموا إلى البيئة التي حوته، غير أنَّ طول نفسه في قصائده قد يضيع عليه شيئًا من قوة الانسجام وحسن السبك وجمال النسق، ولذا فأنت لا ترى مهيارًا في قوة شاعريته الصحيحة بقدر ما تراه في مقاطيعه القصيرة، وهي قليلة قد تبلغ حد الندرة في ديوانه الكبير، ولنأتِ هنا بمثالين من مقطوعاته، أحدهما في الوصف، والآخر في الفخر لنستدل بهما على أنَّ مهيارًا في مقطوعاته لا يدانيه إلا شاعرنا صبري في المحدثين: قال مهيار في وصف النيلوفر:
وأنت إذا تأملت هذا الوصف وأطلت فيه التأمل وقعت على نزعة مهيار، فهو في وصفه للنيلوفر لم يتناول أخذه بالنفس وجمال زهره أو أريجه أو غير ذلك مما يتناوله شعراء العرب في وصفهم، بل وصف النيلوفر وصف شاعر تغلب في عقله نزعة الاستقراء والاختبار والمشاهدة، وهي نزعة من أخص ما طوى عليه العقل الآرِيُّ من النزعات، وأما المقطوعة الثانية فيقول فيها مفاخرًا:
وهذا من بالغ الفخر الذي تتجلى فيه نفسية ذلك الشاعر الكبير وعظمته، وهي إن بلغت من الدلالة على عزة نفسه ونزعته القومية وأثر الدين، فإنها لتدل على أنه لم يلجأ إلى المديح إلا مماشاة للروح التي سادت في عصره، تلك الروح التي كان يلجأ إليها الشعراء لجوء الحاجة طورًا ومتابعة لقضاء المآرب السياسية طورًا آخر، على أنَّ قوم مهيار الذين سادوا الدهر فتى ومشوا فوق رءوس الحقب، لقوم لم يسعد قوم غيرهم بفخر كفخر شاعرهم الأعجمي أَرُومَةً، العربي لغة ومنزعًا، فأين من هذا قول المتنبي مثلًا:
بل أين منه قول شاعرنا البارودي:
فإن الخيل التي من فوارسها الدهر، والسيوف التي تتفزع الأفلاك إذا ما اسْتُلَّتْ، ليست بشيء إلا خيال الشاعر العبقري مصوغًا في الكلام، ولكن القوم الذين سادوا الدهر، ومشوا فوق رءوس الحقب هم قوم من المستطاع أن تظهر كيف سادوا الدنيا، وبقية العالم في ظلام، وكيف مشوا فوق رءوس الحقب؛ إذ كانوا حتى في زمان المدنية العربية سادة الفكر الإنساني، وهم بعدُ مغزوة أرضهم، منكسة أعلامهم.
•••
الظاهر من شعر مهيار، ومن كثير من حالات حياته أنَّ إسلامه كان صادقًا، وأنه أخلص لدينه المنتحل إخلاص أهله لدينهم الوثني القديم، فلست ترى في كل شعره موضعًا واحدًا يدل على حنينه إلى دين آبائه الأولين، بل ولا خطرة فكر يفيض بها بيت من أبياته بحيث يمكن أن تستدل منه على أنَّ كوامن نفسه قد تحركت ساعة واحدة بحنين لوثنيته الأولى، ذلك دليل على أنه أسلم للإسلام مقتنعًا راضي النفس مرتاح الضمير لأن يتبدل الوثنية بالإسلام، على الضد من كثير ممن أسلموا إسلامًا ظاهرًا كابن المقفع مثلًا، فإن الروايات عن إسلامه كثيرة والقَصص من حوله متشاكلة وجوهه، فقد رُوِيَ أنه مر يومًا ببيت نار من بيوت الزرادشتيين فتمثل بقول الأحوص:
أما في شعر مهيار فلم أجد شيئًا من هذا بل ولم أقع على رواية تدل على نزعة نفسه إلى الوثنية ناظمًا أو متمثلًا بقول غيره: وإنَّ في قصيدته التي نظمها لمَّا أنْ مَنَّ الله عليه بالإسلام، ولمَّا أنْ صرفه الله عما كان يتردد في صدره من ميل إلى النصرانية كما يقول مؤرخوه لبلاغًا وعظةً واسترسالًا، وإن دل على شيء فإنما يدل على صفاء النفس وراحة الضمير والدعوة الرشيدة لمعتقده الثابت، وهي قصيدته التي يقول فيها:
- أَولًا: أنه تابع الهوى وجرى وراء موحيات الشهوة أشواطًا.
- ثانيًا: أنه كشف له عن الغيب حتى انجلى لعينيه فأبصرتا ما كان خافيًا، وشهدتا ما كان غيبًا، ولعل في هذه الإشارة دليلًا على أنه اشتغل بالتصوف حينا قبل أن يعتنق الإسلام، وليس بغريب أن يشتغل فارسي يتلقى عن الشريف الرضي الأدب والعلم بالتصوف، وأن يجاري أهل الباطن في طرقهم المتشعبة، أما إذا صح هذا، فإننا ننسب أغلب ما في شعره من رنة الحزن وعميق الهم إلى اشتغاله بطرق المتصوفين.
- ثالثًا: أنه نصب للبحث وراء تلك الأمور والزمان في إقباله؛ أي في شرخ شبابه وفتوته، ومن هذا يُستدل على أنه لم يُسلِم إلا بعد أن قضى طور الشباب، فإذا كان قد أسلم وهو في الثلاثين من عمره، وكان إسلامه في العام الذي نظم فيه هذه القصيدة ٣٩٤، ووفاته في عام ٤٢٨ﻫ فكأنه عمر إلى منتصف العقد التاسع، وأنه لم يمت إلا في الخامسة والثمانين.
- رابعًا: أنه أرشد قبل إسلامه حتى لم يبق لدواعي الهوى في نفسية من نصيب.
- خامسًا: أنه بقي عهدًا يتراوح بين عقيدتي الإسلام والنصرانية، وأنه ما من سبب رجح عنده كفة الإسلام إلا اشتغاله بآداب العرب ومعاشرته للمسلمين، وتمكنه من أسباب اللغة العربية التي هي لغة القرآن، نواة الإسلام الحية الباقية على الدهور.
لا تجد في شعر مهيار من صفة ظاهرة جلية تعبر عما استحالت إليه نفسه من الصور إلا صفة النواح على الدهر وعلى صروفه، ونظره في الحياة نظر الزاهد فيها الكاره لها، غير أنَّ زهده في الحياة غير مشوب بشيء من التشاؤم، فلا هو من طابع أبي العلاء، ولا هو من صفاء الخيام، بل هو في زهده عن الحياة وبعده عن الصورة المألوفة لشعراء عصره نَسِيجُ وَحْدِهِ.
والظاهر أنَّ الدهر قد نال من مهيار بما ينال به من النبغاء ذوي العبقرية، إذا هو ناء عليهم بخصاصة أو عضهم بناب من الفقر أو خصهم بسوء الحظ، وسد في وجوههم كل باب فتح لغيرهم من أمثالهم، ولكثير ممن هم أقل منهم في الأدب قدرًا وأحط منهم في العلم مكانة، ولهذا تراه في شكواه من الزمان ومن أهله مثال الصبر والشجاعة، ومثال الأمل الحي الذي تفيض به الأنفس الكبيرة التي لا تعرف من اليأس إلا اسمه، وكثيرًا ما يبقى أملهم حيًّا بين جنوبهم حتى يُطوى مع أبدانهم في أكفان الأبدية، لهذا نجتزئ ببضعة قطع من شعره تدلك على حقيقة نفسه، وعلى أمله العريض في الحياة، قال:
وقال في قصيدة أخرى:
وله شكوى بالغة في قصيدة مطلعها:
ولعله كتبها في بدء عام جديد، وفيها يقول:
ومن هذه القصيدة هذه الأبيات المشهورة:
أما مراثيه فأقربها إلى مراثي أبي العلاء ديباجةً وأمتنها عبارةً، وأكثرها انسجامًا، فمرثيته في أستاذه وصديقه ورفيق حياته الشريف الرضي، وهي من أمتن مراثي العرب ومطلعها:
وفيها يقول:
ومنها:
وإني أجتزئ من هذه القصيدة بهذه الأبيات، ولو طاوعت قلمي لجرى بها كلها، فليس فيها موضع تفضله على سواه، وليس فيها من معنًى أو تركيب، أو سياق يقف في سبيل ذوقك الأدبي، وهي من ألفها إلى يائها على هذا النحو من قوة السبك وحسن البيان.
•••
ومهيار نسيبه قليل، وتشبيبه أقل، ولعل صروف زمانه قد صرفته عن التغني بالحسان والتشبيب بهن، على أنَّ له في هذا المجال جولات يبز بها كثيرًا من الشعراء نذكر له شيئًا على سبيل الاستدلال، قال:
وبعد، فهذا مهيار بن مرزويه الديلمي ما إن نصفه لك بوصف أو ننعته لك بنعت، وما إن نصور لك صورة من نفسيته، فإن شعره وديباجته لأوثق في الأدب من أن يحيط بهما قلم كاتب مثلي، وإنهما لأعرق في الأدب من كثير مما يجري على ألسنة المتأدبين في هذا العصر، فهل هذا الجيل يكون من مهيار ومن شعره وأدبه الْجَمِّ أوفى حظًّا وأوفر نصيبًا من أسلافه الأقربين؟