بشار بن برد
١
الشعراء أَبْيَنُ الناس نفوسًا وأجلاهم باطنًا، ولهذا ترى أنهم أكثر أبناء آدم تعرضًا لنقد الناقدين، على أنهم بعدُ من طينة آدم وحواء، وليسوا بأكثر من كل الناس إسفافًا، ولا أعلى منهم في الآداب مكانة، فهم طبقة خاصة تمتاز بموهبة ما، موهبة فنية لا تخرج في حكمها عن بقية المواهب التي تمتاز بها بقية الطبقات من مجموع الحيوان الناطق، والحقيقة أنَّ نفسية الشعراء نفسية مفضوحة في شعرهم بينة في خطرات نفوسهم، جلية واضحة، بل تكاد تكون ملموسة دون غيرها من نفسيات الناس، ولولا عجز الشاعر عن ضبط هواجس نفسه، وفقد الإرادة عن كتمانها والترسل بها شعرًا، لكان أبعد الناس عن صفة الشاعرية، فعجزه هذا سر من أسرار قدرته الشعرية، وضعف إرادته سبب أول من الأسباب التي تسوقه إلى تصوير ما في نفسه، ظانًّا أنه إنما يعبر عن حقائق العالم وعن نفسيات غيره من الناس بما يصور من خطرات لا تقوم إلا في نفسه وحده.
كنت أسير يومًا مع صديق أديب على شاطئ النيل ذات أصيل، وقد فاض النهر في آخر شهر آب، وانعكست على صحفته النحاسية أشعة الشمس الذهبية، فوقف صديقي أمام النهر المتدفق المنساب في جوف الطبيعة انسياب الأمل العريض في نفسٍ أَمَضَّهَا الفراق، وقد بُهِتَ من عِظَمِ ما يرى، فما لبث أن أخذ كتابًا كان معي وكتب على أول صفحة منه:
ولم يكُ صاحبي من المشتغلين بصناعة النَّظْم، ولم أعرف عنه أنه شاعر، بل هو ناثر من كبار الناثرين، وإن كانت في نفسه نزعة إلى الشعر، فإنما هي نزعة تلوح ضئيلة بجانب حب البحث والاختبار، ولعله يقرأ اليوم هذا، ولعله يذكر هذه المناسبة فيستجمع في مخيلته مرأى النيل ومشهد أمواجه المتلاطمة الآخذ بعضُها برقاب بعض، ولعله يكمل ما بدأ منذ عشر من السنين، فيخرج قصيدة بليغة في وصف النهر الفائض، بل في وصف ما فاضت به نفسه من الصور المتخالطة.
وبعدُ، فهل رأيت في خطاب ذلك الصديق إلى النيل، كيف كشف عن نفسه كيف جعل النيل في منزلة واحدة مع الله، وكيف بدا جمال الطبيعة ملء نفسه ممثلًا في النيل، وفي ذلك الظرف الذي انعكست فيه أشعة الشمس عند الأصيل على صفحة النهر النحاسية الجميلة، فأخذ ذلك الجمال على نفس الصديق أطرافها، وملأ جوانبها فلم يترك في نفسه من مكان خال ليسع أية فكرة أو معتقد أو مذهب أو صورة أخرى، وإنَّ وحدة الوجود التصوفية لم تترك في العالم من شيء عند شاعرنا الأديب إلا الله والنيل، ولا شيء غيرهما، وما من ريبة في أنَّ هذه الخطرة التي فاضت بها نفس الصديق في تلك الآونة قد فضحت سرائر نفسه وأظهرتها على حقيقتها الكامنة دون مظهرها الخارجي، فَنَمَّتْ عن أنَّ تلك النفس لو حوطتها عقائد الوثنية لكانت أثبت فيها من كل ما خلق الفكر من صور الدين فوق هذه الأرض.
ولو أنك نظرت معي في ملامح صديقي مما ارتسم على وجهه من مظاهر الحب الشديد والعطف مَشُوبَيْنِ بشيء من الانقباض والحيرة، لاعتقدت بأن تلك الحيرة وذلك الانقباض لا يدلان على شيء دلالتهما على تنازع بين التقاليد الوراثية في النفس إذ تتناحر جادة في سبيل أن تملك كل منها أطراف النفس تحت تأثير ظرف من الظروف، وكأن الطبيعة ما خطت على وجه ذلك الصديق مسحة من الحزن تراها نامَّة من حقيقة نفسه بلا شعر حتى وبلا حديث — على الرغم مما يلوح في كلامه وحركاته من مظاهر المرح والجذل — إلا لتفضح سر نفسه وإن جهد نفسه في إخفائه، وما لاح على وجهه في تلك اللحظة التي أخذ يخاطب فيها النيل من شيء، وما زاد على صفاته من صفةٍ إلا انفعالٌ ممسوسٌ بكآبة شديدة ازدادت معها مسحة ذلك الحزن العميق الذي خطته يد القدرة على محياه.
على هذا النسق يدل الشعر دلالة صحيحة على حقيقة نفسية الشاعر، فإن الشعر هو الصوت الصارخ الخارج من أعماق النفس، بل ومن أعمق أغوارها، لِيَسْبُكَ في اللغة عنوانًا حيًّا على النفسية التي بعثته من قرارة الوجدان إلى عالم الخطاب.
ومهما يكن من تأثير روح العصر على الشعر والشعراء، ومهما يكن من أمر حاجات الحياة وتأثيرها في الشاعرية إذ تقلبها في بعض الأحيان إلى صناعة للنظم تبدو جلية واضحة في المديح وغيره من صور الشعر قضاء لحاجات ما تحركت لها الشاعرية ولا فتنت بها النفس، فإن الشاعر لن يفلت من القدر مطلقًا، ولابد من أن تعثر في شعره على خطرة أو مقطوعة قصيرة أو مناجاة يرسل بها إلى الله أو إلى الطبيعة أو إلى شيء أو معنى مبهم قد يشعر به ولا يستطيع التعبير عنه، ما تَنُمُّ في الدنيا عن شيء إلا عن دخيلة فطرته وعن نواتها التي الْتَأَمَتْ من حولها كل عناصر نفسه.
إن أدل صور الشعر على نفسية الشاعر إنما هو شعر الانفعال، الشعر الذي يبعثه انفعال خالص في النفس غير مشوب بشيء من حزم الإرادة ولا وازع العقل، ولا تكلف من ناحية الصناعة، فإذا أردت أن تبحث في مجموعة ما أخرج شاعر من قصيدٍ لتستدل بشيء منه على نفسيته، فإنما يجب عليك ألا تتعمد التغلغل وراء معانيه الخفية، ولا أن تغوص وراء تشبيهاته، بل يتعين عليك أن تبحث في أي المواضع من شعره بعث انفعاله وتجرد عن إرادته في ضبط معانيه وعرى عن عقال عقله ليسير وراء ما يريد أن يخرج من معنى معقود على غرض يريد الوصول إليه، وإني لأتخيل أنَّ هذه القاعدة لا تخطئ إذا أمكن تطبيقها بما يُقتضى لذلك من الحيطة والحذر وطول الأناة والصبر على البحث وقوة الملاحظة.
ولو أنك ثابرت على إتباع هذه القاعدة وَرُضْتَ نفسك على التزامها لَبَانَ لك أنَّ تطبيقها على الشعر الجاهلي أيسر منه في الشعر المخضرم، وأنها أبعد ما تكون يسرًا في التطبيق على الشعر من بعد ذلك، فإن الخلق الجاهلي ما كان يعرف إلا الانفعال لشيء يملك جوانب النفس حتى في أخطر ناحية من نواحي الشعر العربي، ناحية المديح والهجاء، أما هذه الناحية فقد فسدت في عصور المدنية كل فساد حتى شوهت جمال الشعر، اللهم إلا من ناحية الصناعة والانسجام، فإن المديح والهجاء من قبلُ ما كان ليفيض بأحدهما خيال شاعر من الشعراء إلا تحت تأثير انفعالٍ يدل دلالة واضحة، وقد تكون غير ذلك، لا على نفسية الشاعر وحده، بل على بضع صفات حقيقية يتصف بها الممدوح أو المهجوُّ.
فلما ضغطت حاجات المدنية والترف على النفسية الشعرية، وحوطتها عوامل الجشع الاجتماعي بمؤثراتها خرجت بمواضع المدح والهجاء عن أن تكون شعرًا يدل على الواقع، إلى صناعة يَستدِرُّ بها الشاعر أَكُفَّ الأغنياء والأمراء بالحق والباطل، ففسدت صورة من صور الشعر كانت من الممكن أن تظل نبعًا فياضًا بالدرس لمن يريدون أن يكتبوا في أشخاص الذين اشتهروا من العرب في عصور مدنيتهم، وأنت بعدُ تُقَلِّبُ ما كتب الشعراء في أمير أو وزير، ثم ترجع إلى المدونات التاريخية، فلا تقع إلا على صورة تختلف تمام الاختلاف عن الصورة التي يطبعها في مخيلتك الشعر المقول فيه، ثم إنك لا تجد المدونات إلا على صورة من النقص لا تزودك بسنادة قويمة يمكن الاعتماد عليها في بحث تاريخي أو تحليل نفسي، فإن سطوة أهل الجاه قد حالت دون حرية الأقلام في تقرير الحقائق، حتى إنك لتجد مدونات التاريخ قلما تتكلم في أشخاص الزمان الذي كتبت فيه إلا محشوة بالمديح شأن الشعر، ثم تجدها تتكلم في أشخاص زمان سابق بشيء من الاستقلال في الرأي، ولكن الشك يساورك فيها كل مساورة؛ لأنها على الأقل صورة منقولة للكاتب أو للمدون على ألسنة من تلقفها من الرواة، وقد تكون صحيحة، ولكن من المحتمل أن تكون خطأ وافتراء.
كل هذه الأسباب يجب أن تجتمع في ذهن الكاتب إذا أراد أن يكتب في بشار بن برد، مستعينًا بدرس شعره على معرفة نفسيته وتحليلها، وأنت تعرف بشارًا وتعرف عصره، عصر قريب من بدء انقلاب تاريخي عظيم، لا في تاريخ الإسلام والمدنية الإسلامية وحدهما، بل في تاريخ الدنيا، استتبَّ الأمر للعباسيين في بغداد وبدأت موارد الإمبراطورية الإسلامية العظمى تزود العاصمة الجديدة بكل ما تستطيع من صنوف الترف والانغماس في شهوات إن لم تبلغ في عصر بشار مبلغها في عصر الرشيد أو المأمون مثلًا، فإنها صورة تكفي إذا قستها بأخبث صور الفساد الروماني؛ لأن تُولِّد في ذهنك فكرة أن المدنية الإسلامية أينما حلَّتْ وكانت قد حملت معها بزور إنحالها، وقد نبتت تلك البذور في كثير من أطوار تلك المدنية، ولكنها ظلت دائمًا كامنةً دفينةً في أعماقها، منقولة عن البادية إلى الحاضرة مرتكزة على أساس من الصفات النفسية، ما كانت البيداء إلا سدًّا منيعًا حال دون ظهورها بذلك المظهر الذي تجلت به في بغداد في أوائل العصر العباسي وأوسطه، وانتهى بتغلب شعب جديد كانت السهول مباءته والجبال والأحراش مَثَابَتَهُ.
إنك لا تستطيع أن تتغلغل في حياة بغداد الاجتماعية إلا من طريق كتب الأدب، وما ترويه تلك الكتب مشعب الأطراف كثير الوجوه متعدد القصص، على أنه في مجموعه لا يحوط نفسك بشيء ولا يولد في ذهنك من فكرة إلا فكرة الإكباب على الملذات والمبالغة فيها والافتنان في حيازتها بكل طريق مستطاع سواء أرضيت به شريعة الآداب أم نفرت منه، ولا أريد أن أذهب بالقارئ بعيدًا ولا أطوف به في مجاهل كتب الأدب الكثيرة، فإن كتاب ألف ليلة وليلة ما هو إلا صورة تكاد تكون صحيحة في فلسفة الحسيات التي تملكت فكرة الناس وأذلت أعناقهم في بغداد في أزهر أيامها بالمدنية الإسلامية، بل يكفي أن تطوف بسوق النخاسين في بغداد لتطبع في ذهنك صورة صحيحة من مدنية ذلك العصر، هي أشبه الأشياء بتلك الصورة التي تصورها لنا صفحات التاريخ عن آخر عهد مر بمدينة بومبي قبل نكبتها.
قال كاتب عربي: ولقد شهدت سوق الجواري في مدينة بغداد، وقد أقيمت في الموضع المعروف بسوق النخاسين، فرأيت فيهن الحبشيات والروميات والجرجيات والشركسيات والعربيات من مولدات المدينة والطائف واليمامة ومصر ذوات الألسنة العذبة والجواب الحاضر، وكان بينهن من الغانيات اللاتي يعرض بما عليهن من اللباس الفاخر الذي لا غاية بعده، بما يتخذن من العصائب التي ينظمنها بالدر والجوهر ويكتبن عليها بصفائح الذهب كلامًا يحلو لأهل الطرب، فرأيت على بعض العصائب: «وضع الخد للهوى عز»، ورأيت على بعضها: «من كان لنا كنا له»، ورأيت في صدر جارية هلالًا مكتوبًا عليه:
وقرأت في عصابة أخرى:
«وبعض الغواني المترفات كن يتحلصن سرًّا من حيث لا يردن المقام، ثم يأتين السوق متواريات عن عيون الرقباء إلى أن يقع سوقهن على أحد من الناس ومواليهن غير عالمين، فيتصرف النخاسون في بيعهن مثل تصرف التجار ببضائعهم.»
هذه الصورة على ضئولتها كبيرة الأدلة على روح ذلك العصر، تلك الروح التي ما كانت تقود خطوات المدنية القائمة فيها إلا إلى الانحلال والفساد، وهل هي إلا صورة روما في آخر عصور مدنيتها حيث كان الرجال يعدون السنين بعدد النساء اللائي اتخذوهم عشيقات، وحيث كان الأبناء لا ينسبون إلى آبائهم، بل إلى أمهاتهم، فيقال ابن فلانة لا ابن فلان!
ذلك الجو الذي حوط بشار بن برد، ما كان ليخرج لنا من الشعر إلا ما وصل إلينا عن بشار، وما كان ليزودنا بشيء من مورد البحث إلا بكل ما يمكن أن يستدل به على عناصر الفساد الذي أخذ يدب في جسم الدولة العباسية في بغداد منذ أول نشأتها إلا قليلًا.
ولا تجد في ذلك الجو المعتم إلا مفاسد وشهوات ضالة مضلة، ما كانت لتؤثر في شيء بقدر تأثيرها في الروابط الاجتماعية التي تكون الأسرة، وهي ساندة البناء الاجتماعي، وأول ركيزة في قيام المدنيات؟
ولعمرك لو أردت أن تبحث في نظام الأسرة إذ ذاك وتمشيت من ثم إلى البحث في أخلاق المرأة التي تريد، وما أرادت في كل الأزمان المتمدينة إلا أن تستقل برجل تهبه من عواطفها بقدر ما يهبها من عواطفه، ويخصها من حبه بقدر ما تخصه من حبها، ألا ترى معي بحق أنَّ نظام الأسرة كان بائرًا، وأنَّ رابطة المجتمع القائم عليها كانت مفصومة، وأنَّ الحياة إذا ذاك كانت عبارة عن نسيج مفكك الأوصال، لم يرأب صدوع الاجتماع فيه نظام مدني، ولم يقم فيه للمرأة من وزن، اللهم إلا بمقدار ما ترضى في الرجل من شهوات هي أحط ما أخرجت الطبيعة من فاسد عناصرها في الحياة؟ وهل من المستطاع أن تتكون أسرة متلائمة العواطف متناسقة الآداب، وقد تحكمت فيها الإماء اللواتي كن لا يعشن إلا متطفلات على شهوات الرجال، متضاربة مراميهن، متنافرة مصالحهن، متناثرة حول الشهوة رغباتهن، متضائلة بجانب الرذيلة فضائلهن، مركزة حول البغض والحسد أفكارهن، قريبات من الإثم، بعيدات عن التقوى، هائمات جامحات شاردات، ما من حاجة لهن في الحياة، وما من مطمع في الدنيا سوى إرضاء أفسد ما انطوت عليه نفس الرجل من الصفات؟ وأنت بعدُ، هل تجد للرجل من مجال يُنَمِّي من صفات الرجولة فيه إلا معهده المنزلي؟ فكيف به وهو لا يرى إلا صور الخنوثة قائمة من حوله، تُزْكِي فيه مواضع الفساد، مقصية به عن مواضع العفة والشرف، نازلة به إلى الحضيض، هابطة به إلى الدنى والمفاسد، سالبة منه شرة الرجولة، قاتلة فيه صفات الذكورة الصميمة؟
هذه الصورة تتحيز في ذهني وتظل شديدة الأثر فيه كلما فكرتُ في عصر بشار بن برد، وكلما فكرت في العصر العباسي من ناحيته الأخلاقية، على أنك إن فكرت في العصر العباسي من حيث الأدب لوجدت فيه مناقص وكمالات شأن كل الأعمال الإنسانية، على أنَّ أنقص ما أراه فيه نزعة الأدباء إلى المنابذة بالألقاب والأنساب، وجنوحهم إلى المفاضلة بين الشعراء أو الكتاب، وهي ظاهرة أقل ما فيها أنها تدل على انصراف عن الأدب الحقيقي على الوجه الأكمل إلى أشياء لا تضر إن تركت، ولا تفيد إذا ذكرت، بل أنها فوق ذلك من مواضع الضعف في فنون الأدب، وفي الصناعات الأدبية، قال الرواة: إنَّ أحسن الناس ابتداء في الجاهلية امرؤ القيس حيث يقول:
وحيث يقول:
وفي الإسلام القطامي حيث يقول:
ومن المسلمين بشار حيث يقول:
وما أعتقد أنَّ بشارًا والقطامي إلا من الناسجين على وتيرة امرئ القيس، فكلاهما في حسن ابتدائه خاطب الطلول البوالي، وإنك لتجد في النواح على الطلول رنة حزن في النفس عميقة، وهي على ما تبعث من الحزن في النفس لا تولد فيها إلا الذكريات، ذكريات المنازل الخاوية والصور الذهنية الحية بما يتخللها من الانفعالات الشديدة الأثر، والدليل على أنَّ بشارًا والقطامي قد نسجا على منوال امرئ القيس أنَّ أمتع بيت قاله بشار قد ظل زمانًا يجهد نفسه لينظمه على نسق بيت امرئ القيس المشهور.
فقال بشار:
على إنَّ هذا البيت لا يخلو من نقد؛ فإنه أقل من سيوفه؛ لأن «أسياف» جمع قلة، ويقولون: إنَّ بشارًا أغزل الشعراء حيث يقول:
ولو قالوا بأنه أجبن المحبين وأحرص العشاق على حياته لكان ذلك به أولى، على أنني لا أجد في مباحث الأدب من مبحث هو أعق لفضيلة الإقساط في القول من المفاضلة بين الشعراء أو الموازنة بينهم أو الوساطة فيما اختلفوا فيه من مذاهب الشعر، فأنت تجد أنَّ لكل شاعر من فحول الشعراء صفة قلما يدركه فيها شاعر غيره، وأنه نسيج من الشاعرية وحده غير قائم على أساس مستمد من تقليد أو تشبه بغيره؛ لأن الشاعرية سليقة موروثة في النفس ولن تتماثل الشاعريات إلا إذا تماثلت الصفات الموروثة، وهذا أمر بعيد مناله متعذر وقوعه.
وإنَّا لا تحوطنا شبهة مطلقًا في أنَّ شاعرنا الذي نتكلم فيه اليوم نسيج من الشاعرية وحده، وأنَّ في شاعريته مزيجًا من الصفات الموروثة لم تتهيأ لشاعر غيره، كما أنَّ بقية فحول الشعراء لكل منهم صفات لا يشاركهم فيها بشار ولا غيره من أهل هذا الفن المطبوعين عليه.
- أولها: أننا لا نستطيع أن ندرس حقيقة العصر الذي عاش فيه من ناحية النظام الاجتماعي دراسة تولد في أذهاننا صورة غير الصورة التي وصفناها من قبل، وإنها لصورة آثارها كثيرة الذيوع فيما وصل إلينا من شعر بشار.
- وثانيها: أنه لم يصل إلينا من شعر بشار إلا نُتَفٌ ومقطوعات قصيرة، ولم يصل إلينا من شعره قصيدة كاملة، على أنني أعتقد أنَّ ما وصل إلينا من شعره كافٍ لدرس قوة شاعريته والاستدلال بها على حقيقة نفسه.
ولن أشك بجانب هذا في أنَّ شعر بشار لو وصل إلينا كاملًا، كما وصل إلينا شعر المتنبي، أو أبي العلاء المعري أو غيرهما من الشعراء، لكان لنا منه مورد كبير في دراسة عصره والاستدلال به على حالات قامت في ذلك العصر، فإن ما وصل إلينا من آثار بشار الأدبية على قلتها، تدلنا دلالة واضحة على أنَّ ذلك الشاعر الكبير كان قد اندمج في جوه اندماجًا تامًّا، وامتزج دمه بعناصر المدنية التي قامت من حوله، فهو صورة من ذلك العصر، صورة أقل ما فيها من الدلالة على الروح التي ذاعت فيه، أنها خارجة من نفس شاعر ملء نفسه الشاعرية، صورة مفضوحة في الشعر غير موشاة بشيء من صناعة الكلام ولا مغشاة بجمال النثر ولا ببيانيَّاته ولا خطابيَّاته، ولا محلاة بالصناعات البديعية التي لجأ إليها كتَّاب ذلك العصر.
وبعدُ فأنت لا تبعد عن روح العصر العباسي بقدر ما تلجأ إلى الصناعات النثرية التي ذاعت فيه، فإنها لا تعطيك من صور ذلك العصر إلا صورة مكذوبة قد تستدل منها على شيء من رقي اللغة أو انحطاطها، وقد تستدل منها على شيء من جمال الأساليب أو فسادها، ولكنك لا تلجأ إليها للاستدلال بها على روح ذلك العصر الحقيقية، إلا وتكون لجأت إلى أوهن ناحية من نواحي التنقيب في عصر هو أبعد العصور عن تزويدك بمراجع يصح أن تتخذ دعامة للبحث العلمي الأدبي بحثًا يرضي الحق والضمير.
٢
إلى هنا ينتهي تحليلنا لعصر بشار بن برد، وكيف كان بشار صورة صادقة لعصره الذي عاش فيه، وكيف أنَّ ما وصل إلينا من بشار على قلته يعبر أحسن تعبير عن النزعات التي قامت في ذلك العصر وعن الانفعالات التي جاشت بها العواطف الثائرة في صدور الرجال والنساء، ولم أشأ أن أتورط في الكلام في هذه الأشياء باستفاضة وأستطرد متخذًا من كتب الأدب أمثالًا، ومن مجالس العظماء والأمراء أدلة على صدق ما ذهبت إليه حذر الإطالة في شيء يكاد يكون الشعور بصحبته أسبق إلى النفس من الأدلة والبراهين التاريخية والعقلية، على أننا لا نريد بعد هذا أن نتورط في الوصف والشرح لأكثر مما أدلينا به من قبل، لهذا نمضي في تحليل نفسية بشار بن برد لنخلص من هذا التحليل بفكرة في دلالة شعره على نفسيته المتوهجة الثائرة المشبوبة بتلك النيران العاطفية التي صبغت العصر الذي عاش فيه.
أعرف في العربية ثلاثة شعراء لشعرهم في أذني نغم وحده، ولمعانيهم مرمى بذاته، بل يكادون يخرجون من الحيز الذي شغله شعراء العربية إلى حيز لم يَلِجْهُ من قبلهم، ولا بعدهم شاعر نطق بالضاد.
وليس هذا الحيز مقصورًا على متانة في اللغة، ولا سبك في الأسلوب، ولا ترفع في المعاني، ولا ما إلى ذلك مما يتفوق به الشعراء في صناعة الشعر، بل هو حيز العقلية الإيجابية التي تنظر إلى الحقائق كما هي حتى في الهجو والمديح، والنفسية التي تنطبع عليها صور الزمان الذي تحفها نظمه الاجتماعية على اختلاف صورها وألوانها.
هؤلاء الشعراء الثلاثة هم مهيار الديلمي، وبشار بن برد، وابن الرومي، وأولهم كان تلميذًا للشريف الرضي وراوية له؛ فانطبع بطابع التصوف والزهد حتى إنك لتجد ذلك شديد الظهور في شعره بَيِّنَ الأثر في نزعته الشعرية، وبشار بن برد عاش في عصر الخلاعة والفتنة فكان خليعًا مفتونًا بصور المدنية كما اقتبست عن العالم الروماني والفارسي، وكلاهما تطوح في الحسيات حتى لقد بلغ منها أقصى المبالغ، وابن الرومي كان عبدًا اشْتُرِيَ بالمال فكان في أخلاقه عبدًا، وفي خياله عبدًا، وفي تصوراته عبدًا رقيقًا، على الرغم من جودة شعره وقوة بيانه وبالغ وصفه.
ولعل السبب في هذا أنهم بعيدون عن العقلية العربية فكانوا نسيجَ وحدهم في الشعر وفي الشاعرية، فإن مهيارًا وبشارًا كلاهما فارسي وابن الرومي بعيد عن الدم العربي بعد السماء عن الأرض، ولا خفاء في أنَّ العقلية الفارسية عقلية تتمشى فيها أصول الآريين الذين غزوا الهند ودوخوا الممالك في العصور القديمة، والذين لهم في الفلسفة جولات لم يشق غبارهم فيها أحد، ولهم في اللغة آثار لم يستطع إلى الآن أحد من أهل العربية أن ينال منها بما يسقط من قيمتها ويحط من قدرها، وهم فوق ذلك حسيون لا يؤمنون إلا بالحس، إثباتيون يحكمون العقل قبل المشاعر، حتى إنك لو رجعت إلى الأديان التي انتشرت فيهم لما رأيت في دين منها إلا أثر الطبيعة متجليًّا بارزًا كأن الذين وضعوا هذه الأديان لم يعبدوا في الواقع إلا الطبيعة، ولم يريدوا بما وضعوا من صور الدين إلا أن يدمجوا الإنسان في الطبيعة إدماجًا أساسه مثل يتخايل إليهم من طريق الدين، ولكن ليرجع بهم إلى الطبيعة سعيًا.
خذ دين ماني بن فاتك، ويكاد يكون آخر الأديان ظهورًا في بلاد فارس قبل الإسلام، فلقد ظهر ماني في أيام سابور بن أردشير، وقتله بهرام بن هرمز بن سابور سنة ٢٧٧ للميلاد، ويقول العرب: بأنه أخذ دينًا بين الماجوسية والنصرانية، وكان يقول بنبوة عيسى وينكر نبوة موسى، غير أنَّ صاحب الفهرست يذكر ما هو أقرب من هذا إلى حقيقة الدين الذي ظهر به ماني، فيذكر أنَّ ماني «يزعم» بأن العالم مصنوع من أصلين قديمين هما النور والظلمة، وأنهما أزليان سرمديان، وأنه ما من شيء إلا وهو من أصل قديم.
وفي ما قال صاحب الفهرست بعضُ الحقيقة لا الحقيقة كلها، والحقيقة أنَّ دين ماني يقوم على أصلين؛ الأول القدم المطلق، والثاني تفاعل الأضداد أو تواترها، وإني أرى أنَّ استعمال تواتر الأضداد أرجح من استعمال التفاعل في معنى لم يرد به صاحب هذا الدين ما تؤدي إليه هذه الكلمة تمامًا، فكل شيء عندهم قديم أزلي سرمدي، وأنَّ الطبيعة كلها قائمة على أضداد تتواتر ولكن لا تفنى، فهي قديمة أيضًا، فكأن ماني لم يقل بأن الأصل في العالم النور والظلمة، بل قال بأن النور والظلمة من أظهر الأضداد التي تتواتر تواتر غيرهما من الأضداد.
من هنا يظهر أنَّ ماني بن فاتك لم يقصد بالدين الذي وضعه أنه تفسير لحقائق ما بعد الطبيعة والغيب من طريق الدعوى، بل قصد إلى الطبيعة الحافة به، يدمجها في الدين ليخلص من هذا بنتيجة، هي أن يندمج الناس في الطبيعة اندماجًا أساسه المعتقد واليقين، وهذا بالذات ما تتخيله العقلية الآرية، بل لا نبالغ إذا قلنا بأن العقلية الآرية لا تنتج إلا هذا، فهي عقلية تؤمن أولًا بالحواس ومن طريق الحواس تحاول الاندماج في الطبيعة.
ولما استقر العقل الآرِيُّ في أوروبا وغزاها الدين المسيحي، وهو دين سامي بحت، لم تلبث العقلية الأوروبية المتأصلة من الطبيعة الهندوجرمانية أن قلبت الدين السَّامِيَّ النازع إلى الغيب وما بعد الطبيعة إلى دين تتجلى فيه المحسوسات وتبرز مظهرة آثارها في كل شيء، فلم يبقَ من دين المسيح عيسى ابن مريم في أوروبا إلا الاسم، ولم تسمح العقلية الأوروبية لشيء من هذا الدين بأن يبقى ويعيش في جوها إلا ما وافق طبيعتها، فبرز الدين النصراني بعد قليل في ثوب اندمجت فيه الطبيعة، لا على نفس النمط الذي أدمجها به ماني بن فاتك، بل على صورة أخرى استمدت من وحي الفكرة لا من وحي التواتر والامتداد، ولكن كل ذلك يتفق في النهاية، يتفق في أنَّ العقل الآرِيَّ نَزَّاع إلى الاندماج في الوسط الطبيعي اندماجًا تامًّا، أما العقل السَّامِيُّ فعلى الضد من ذلك، فهو وهاج براق وثاب إلى الغيبيات متهافت على العلم بما لا يستطيع العقل الصرف أن يعلم منه شيئًا.
هذه العقلية بذاتها تتجلى في الفرق بين من ذكرنا من الشعراء وبين شعراء العرب الذين يجري في عروقهم الدم السَّامِيُّ الصحيح ومنه يستمدون عقليتهم، حتى لقد تجد أنَّ أهل الأدب من الإعراب لم يستسيغوا الكثير من شعر مهيار وابن الرومي؛ بل إنَّ بشارًا لم يتواتر شعره بينهم إلا لما كان فيه من توافق بين منازعه وبين تصورات أهل العصر الذي عاش فيه، ولولا هذا لانطوى بشار كما انطوى من قبله مهيار وابن الرومي، ولم تعرفهما إلا بطون الدواوين وإلا الأقلون من الأدباء الذين امَّحَتْ من عقولهم آثار العرب خلال بعض الأزمان.
على هذا نعتقد أنَّ بشارًا من تلك الفئة التي جددت في أساليب الشعر العربي تجديدًا لم يكن أساسه الخيال، ولم يعمد إلى المعقولات الصرفة يصفها بأوصاف الذوات الحية الكائنة؛ بل عمد إلى الحقائق حتى في مديحه وهجائه، ولم ينزع إلى تلك الأشياء الخيالية التي عكف عليها غيره من الشعراء الذين جرت في عروقهم الدماء السامية.
أما إذا وقعت في شعر بشار على شيء قد يقال: إنَّ فيه نزعة إلى العرب فقد تستطيع أن ترجع فيه إلى سبب طبيعي؛ فإن أمه عربية، ومن المحقق أن يكون لذلك أثر في شعره وفي عقليته، غير أنَّ الصفة الغالبة فيه هي الصفة الآرِيَّة، صفة الاحتكام إلى الحقائق الملموسة وإلى المحسوسات يستوحيها المعنى في قالب عربي مبين.
هو بشار بن برد بن يرجوخ العقيلي بالولاء، وكان أبوه من فرس طخارستان وجيء به في سبي المهلب بن أبي صفرة، ووهبه المهلب إلى امرأة من بني عقيل فتزوجت به ونسب إليها وولدت منه بشارًا، وكان مولد شاعرنا بالبصرة حوالي سنة ٥٥ للهجرة الواقعة في سنتي ٦٧٤-٦٧٥م، ونشأ بشار في بني عقيل مولعًا بالاختلاف إلى الأعراب الذين يخيمون بالبادية، فشبَّ على غرارهم فصاحة لسان، وقوة بيان، حتى عده البعض آخر من يستشهد بشعره من الشعراء في ضروب اللغة، ولقد ولد بشار مكفوف البصر، فعاش ما عاش لا وسيلة له إلى المعرفة إلا الأذنين، وكفى بهما مع صفاء الطبيعة وقوة الشاعرية أن يخلقا من بشار شاعرًا مجيدًا ومجددًا، هو أول المجددين من موالي الفرس الذين تفخر العربية بهم وبآثارهم التي خلفوها وخالد معانيهم الباقية على جِدَّتِها وإن أخلق الزمان.
والروايات من حول بشار كثيرة والقصص متعددة وجوهه، على أنَّ الروايات قد اتفقت على أنه قال الشعر وهو ابن سبع سنين، وأنه كان أميل إلى الهجاء منه إلى أيِّ فنٍّ من فنون الشعر، ولا جرم أن تنزع نفسه إلى الشعر فتيًّا ويكون من المواهب ما يستطيع أن يذلل من طريقها معاور اللغة؛ يكون في مقدوره أن يبلغ من الشعر ما بلغ بشار بن برد في سني شبابه؛ وظل عليه إلى أن مات.
لم يعرف العرب من ضروب النقد الأدبي إلا ضربان، أولهما المفاضلة، ومن التجاوز أن ندعو هذا نقدًا أدبيًّا، وثانيهما نقد المعاني والألفاظ من طريق الاتساق واللغة، وهذا أول مدارج النقد، على هذا لا نستنكف أن نقول: إنَّ العرب لم يعرفوا من النقد إلا بدايات قد نأثم أن نقول في بعضها: إنه نقد، وقد نقبل مكرهين أن نقول فيما بقي منها: إنها نقد أدبي على ما عرف في العصر الحديث.
على أننا نكاد نتخطى هذا الدور، وإن كانت آثاره لا تزال شديدة الفعل في الكثير مما تبرزه أقلام الكتاب والنقاد في عصرنا هذا، غير أننا وقد أزمعنا أن نتكلم في بشار، وأن نعرض له برأي نحلل فيه نفسيته، فإني أرى من الأوفق أن أورد رأي النقاد الذين تكلموا فيه من قبلُ لَعَلِّي أستعين برأيهم على بلوغ شيء من الحق ينير لنا السبيل، قال الأستاذ الزيات في بشار أنه
(١) أول ما تكلم في الشعر الهجاء؛ لأن سوقه كانت نافقة. (٢) وإنه طرق أبواب الشعر التي فتحت قبله وزاد عليها. (٣) وإن الاتفاق بين رواة الشعر وَنَقَدَتِهِ على أنه رئيس طبقة المولدين. (٤) وإنه كان مجددًا في المجون ورقة الغزل. (٥) وإنه جمع بين جزالة البدو ورقة الحضر. (٦) وإن شعره الحد الأوسط بين القديم والحديث. (٧) وإنه كامرئ القيس في الجاهليين.
ولست تقع في مجمل هذا على جديد يصح أن تركن إليه في نقد تتناول فيه بشارًا على نمط حديث.
وقال الأستاذ العقاد — وهو عندي من أكثر النقاد فهمًا لطبيعة بشار: إنَّ شعر بشار يقسم إلى قسمين: (١) الأول بدوي تغلب فيه الجفوة، وحضري تغلب فيه الرقة والنعومة. (٢) وإنه إذا نظم في أغراض الشعر القديمة كان أقرب إلى لغة الأعراب، وإذا نظم في الغزل والمجون كان أقرب إلى اللغة المألوفة الشائعة التي «رقت حواشيها وسلسلت عباراتها.» (٣) وإنَّ روح شعره تدل على الطبيعة الحيوية والمزاج الدنيوي الذي يتخيل الأشياء كما يحسها في عالم الواقع القريب. (٤) فلا إلهام في شعره ولا حنين ولا أشواق ولا بدوات ولا خيال، ولكنها تجربة الدنيا تملي عليه ما ينظم من الحكمة والوصف والغزل. (٥) وإنه أصلح أدباء العرب؛ لأن تؤخذ عن شعره الشواهد الكثيرة على أساليب الطريقة الطبيعية الواقعية التي اشتهر بها بعض أدباء فرنسا على الخصوص في القرن الأخير.
وهذا الكلام كثيره حق واقع، على أنَّ الأستاذ العقاد لو رجع إلى تحليل عقلية بشار تحليلًا إثنولوجيًّا لاستطاع أن يصيب كبد الحقيقة، على أنه مهما كان في تعليله لطبيعة بشار من تمسح بالدنيويات؛ ليعلل بذلك حقيقة عقليته الحسية، فإنه في ذلك إنما أورد عرض الشيء ليكون علة، ولم يبلغ إلى الجوهر الكامن في وراثة بشار الآرية عن أجداده الفرس، على أنَّ هذا النقد من أبلغ ما وقعتُ عليه من صنوف النقد الحديث إمعانًا في التعمق إلى الأصول، أو كما يقولون للعناصر الأولية التي يقوم عليها النقد التحليلي الصحيح.
وقال الأستاذ طه حسين: إنَّ بشارًا (١) شاعر غزير المادة جدًّا. (٢) وإنَّ الجيد في هذه المادة لم يكن صادقًا في شعره ولا مخلصًا، إنما كان يتكلف المعاني في أكثر الأوقات ويتكلف الألفاظ والأوصاف أيضًا. (٣) وإنه لم يكن محببًا ولا لينًا رقيق الطبع والحاشية، وإنما كان قويًّا جبارًا مبغضًا. (٤) وإنك إن أردت أن تعرف الفن الذي برع فيه بشار فهو فن الهجاء، وفي الحق أنه قتل الهجاء، وإنَّ الهجاء قتله أيضًا.
وفي هذا القول من الدلائل ما يثبت لك أنَّ الأستاذ طه حسين لم يفهم من نفسية بشار شيئًا، ولا حلل من طبيعة بشار شيئًا، فالقول: إن بشارًا شاعر غزير المادة ليس بجديد في نقد بشار، وأما أنه يتكلف المعاني والألفاظ والأوصاف فذلك بالقياس إلى المحبين للأستاذ من الشعراء الساميين الذين لم يقف على الفرق بينهم وبين الشعراء الذين تجري في عروقهم الدماء الآرية، وأما القول بأنه قتل الهجاء فليس بصحيح؛ لأن شعر بشار لم يصلنا على تمامه، وإرسال الأحكام العامة بالاعتماد على الجزئيات لا يؤمَن معه الزلل والخطأ، والدليل المادي قوله بأن بشارًا قتله الهجاء؟ ولست أدري كيف أنَّ الهجاء يقتل مَن قتل الهجاء؟!
وقال الأستاذ ضيف: إنَّ بشارًا (١) رأس المحدثين وأشعرهم. (٢) وإنه من الشعراء الذين أحدثوا انقلابًا في الأساليب الشعرية، وقد أدرك الدولتين الأموية والعباسية. (٣) وإنه اشتهر بمخالفة الأسلوب القديم وحمل على العرب. (٤) وإنه استخفَّ بالعادات وبكثير من المسائل الدينية. (٥) وإنَّ له آراء رجعية في الدين. (٦) وإنه من أشعر الشعراء وأكثرهم مجونًا وأقلهم مبالاة بما يقول ويفعل.
وهذا النقد — إن صح أن نسميه نقدًا — ليس إلا مقررات لم يعلل أسبابها الأستاذ تعليلًا صحيحًا على الأسلوب العلمي الحديث، وكان في مستطاع أي ناقد في القرن الأول أو الثاني من الهجرة أن يقول ما قال الأستاذ ضيف في القرن العشرين.
والحقيقة أنَّ كثيرًا من الذين نقدوا بشارًا، وعلى الأخص الذين قالوا بأن الهجاء أظهر مظاهره لم يستطيعوا أن يفهموا الشاعر فهمًا صحيحًا، والذي أفهمه أنَّ الهجو في شعر بشار كان تبعًا لنزعة أخرى، ولم يكن صفة أساسية في نفس بشار، بل إنَّ الصفة الأساسية كانت الإباحة، فهي التي دفعت به إلى الهجاء، وهي التي درجت به في كل ما تقع عليه في شعر بشار من مظاهر الخروج على المألوف، والسبب في هذا أنَّ العقلية الطبيعية الواقعية إذا حف بها من الأسباب المدنية والعمرانية ما حف ببشار في أيام الدولة العباسية انقلبت أبيقورية صرفة، على غرار تلك الفكرات التي احتكمت في العقل الروماني في أواخر أيام الإمبراطورية الغربية، ومن هنا نشأ ما تجد في بشار من ميل للهجاء وإطلاق كل الأشياء إطلاقًا أعمى لا حدَّ له ولا غاية.
على أننا قد نتساءل قبل أن نمضي في نقد بشار نقدًا أدبيًّا تحليليًّا كيف يمكن أن نحكم في بشار حكمًا صحيحًا، ولم يصل إلينا من شعره إلا القليل؟ على أني لا أشك في أنَّ مجموعة ما وصل إلينا من شعر بشار على قلته يزودنا بأقذع ما قيل في الهجاء، وأدق ما قيل في الغزل، وأحلى ما قيل في الوصف، وأمتع ما قيل في التشبيب، وأدق ما قيل في المديح وأعظم ما قيل في الفخر، وأجدد ما قيل فيما يمكن التفريق به بين الأساليب القريبة من عهد النشأة الإسلامية وأول التحضر العربي.
على أنك إذا أردت أن ترى بشارًا في حقيقته، فانظر إليه في أخلاقه، فهي المرآة التي تريك بشارًا رجل حس صرف يتعلق بالدنيويات؛ لأن طبيعة عقله تنزع إلى الاندماج في الطبيعة، وكانت الحضارة التي قامت من حوله من أكثر الأشياء تحبيبًا لأمثاله في الدنيا، أفليس إدمانه الخمر وصبوته إلى النساء وابتذاله وبعده عن العفة إلا أثرًا من آثار الحضارة التي حفت به إذ صادفت فيه نزعة ووقعت فيه على بيئة خصبة؟ أما جبنه وخوفه من المقال والحسام فليس له من سبب إلا اعتقاده بأن قول الحق لا يزول، ولا ينسى، وإنَّ فيه من الدنايا ما لو قيل مرة لجرى مثلًا، ويقينه أنَّ الحياة ثمينة لا تُشترى بمال ولا تُباع بشرف ولا بعزة. ولعل في هذا أثرًا من نشأته وتربيته الأولى.
روي بأن بشارًا هجا روحًا، وهو شاعر أدرك الدولتين الأموية والعباسية، وكان من الفضلاء ومن الرواة الذين أكثروا من حفظ كلام العرب، وكان بين بشار وروح مهاجاة، فوصف بشارٌ سيفَ روحٍ بما يحط من قدره، فأقسم إذا لقيه ليضربنه بالسيف ولو في حضرة أمير المؤمنين، ففزع بشار وخاف وقام من فوره إلى المهدي يستجير به، فلما حضر روح قال: أنا عبد أمير المؤمنين أطيعه في كل شيء إلا بشار، فقد حلفت من أجله يمينًا غموسًا، فقال المهدي: ومن أجل بشار دعوتك، وجيء بالعلماء فأفتوا بضربه بعرض السيف، فلما هوى عليه روح تألم وتأوه تأوه النساء. وإذا صح هذا كان دليلًا على حبه الدنيا وتفانيه في الطبيعة التي ليست الحياة إلا أهم مظاهرها وأبلغ آياتها.
لم أقبل كل ما تورده على قريحتي — فما بالك بما تورده عليه قريحة غيره — ويناجيني به طبعي ويبعثه فكري، ونظرت إلى مغارس الفِطَن ومعادن الحقائق ولطائف التشبيهات فسرت إليها بفهم جيد وغريزة قوية فأحكمت سيرها، وانتفيت خيرها، وكشفت عن حقائقها واحترزت من متكلفها، والله ما ملك قيادي قط الإعجاب بشيء مما آتي به.
هذه المبادئ بذاتها إذا عم تطبيقها على احتكام العقول في حقائق الأشياء كانت بعينها حرية الفكر والنزوع إلى الواقع المحسوس، وتلك صفة يختص بها العقل الآرِيُّ. والواقع أننا لا نستطيع أن نعرف بشارًا إلا من هذه الطريق، فهي مفتاحه الذي لا يمكننا أن نعالج بغيره مستغلق نفسيته.