الفصل العاشر
المؤرخ
:
واتفق الحكماء على اختيار السندباد الحكيم لتعليم الأمير،
وعهِد أبوه إليه بتربية ابنه وتعليمه مكارم الأخلاق، وقوانين
السياسية، وآداب السَّلْطنة، ودقائق الشريعة، وحقائق الطريقة.
وشُغل سندباد بتعليم الأمير جهدَ استطاعته، وقدَّم له كل ما في
وسْعِه من الجهد والطاقة، وبذَل كل ما في صدره من مدَّخر
المعارف والطرائف. لكن الصبي لم يوطَّنْ قلبه على العلم، ولم
يتحمَّل مشقة الحفظ والتحصيل. وظل سندباد يقول لنفسه: لعل
وعسى! والولد لا يتقدم ولا يتأخر، وبلغ الملك عما كان من ابنه
فتفكَّر وتحير، وظهرت على صفحات وجهه آثار التغيُّر، ثم ملَكَه
الغضب فصاح فيمن حوله:
الملك
:
هل وُلد ابني بلا قلبٍ ولا رأس؟ أكان سندباد يضرب بالمِطْرقة
على حديد بارد، أم كان ينقش على سطح الماء؟ أحضروا سندباد!
أحضروه في الحال!
المؤرخ
:
وحضر السندباد، فبادره الملك قائلًا:
الملك
:
لماذا لم تألَف قريحةُ
الأمير الأدب والحكمة مع مشقَّة التعليم؟ هل قصَّرت في تربيته
ورعايته، أم كنت كمُطرب الأصم، وحامل المرآة إلى الأعمى؟
تكلَّمْ! لا تُخفِ عني شيئًا.
سندباد
:
لا يخفَى على جلال مولاي، ولا على هؤلاء الأكابر — وهم نجوم
سماء الفضل، ورياحين بستان العدل — أن هذا الذي يشرُف بالكلام
إليكم قد تبحَّر في الحكمة والعلم، وقضَى عمرَه في التعليم
والتعلُّم. لقد قدمت كل ما يمكن ويُتصَوَّر من الاجتهاد، ولكن
ما كل من طلَبَ وجَدَّ وَجَد، ولا كلُّ من ذهَب وَرَد.
الملك
:
إن الجواد الجامح أو الفيل الوحشي يُعطونه لمن يروِّضه
ويُهذِّبه، فيودع جموحَه ويغير طباعَه في مدَّة يسيرة. فما
بالك لم تروِّضِ الأمير؟!
سندباد
:
لقد عجزت عن تغيير قلبِه وطبعه؛ لأنَّ ذلك أمر خفي عني، لا
يتيسَّر بغير التأييد السماوي.
الملك
:
أتُحمِّل السماءَ ذنبَ تقصيرك؟
سندباد
:
بل يَحْمِله طالعُ الأمير.
الملك
:
ماذا تقصد؟
سندباد
:
لقد زال النحس الذي تربَّص به طوال تلك المدة، وبدأت
السُّعود تطلع في فلكه، وأتعهد بأن أعلمه في ستة شهور.
الملك
:
ما لم يتعلَّمْه في اثنتَي عشرةَ سنة؟
سندباد
:
نعم يا مولاي. أعلِّمه معالي الأخلاق، ودقائقَ العُلوم
وأسرار التنجيم، وطُرق علم الطب وخواص الأدوية.
الملك
:
في ستة شهور؟
سندباد
:
بلا زيادة ولا نُقصان.
الملك
:
وإذا حدث التَّقصير والتأخير؟
سندباد
:
أكون مستوجبًا عقوبةَ ملك الملوك.
الملك
:
أهو وعدٌ آخَر؟
سندباد
:
بل وعدٌ أخير أشفَعُه بطلبٍ صغير.
الملك
:
تكلَّمْ … قُل ما بَدَا لك.
سندباد
:
أن تأمر ببناء بيتٍ مكعَّب تُصقل سطوحه بالجصِّ والمحارة،
وتُهيَّأ للنقشِ عليها والكتابة.
الملك
:
وماذا ستكتب عليها؟
سندباد
:
هذ ا ما سوف يعرفه الملكُ والحضور، عندما تسألون الأمير،
فيتكلم بعد ستة شهور.
المؤرخ
:
أخذ سندباد يبذل جُهده في تربيةِ الأمير، وواظَبَ الأمير
وتحمَّل الآلام في مطالعة الصور والأشكال بقوة البصر، وسماع
دقائق العلوم ولطائف الحكم بحاسة السمع، حتى حفظ الغُرر
والدُّرر، واستوعَب العجائب والغرائب. وكان سندباد قد أمرَ بأن
تُنقش صور البُروج والكواكب على أحد سطوح البيت المكعَّب،
وتسطَّر على سطحٍ آخر أنواع المعاملات والأخلاق والآداب
والعبادات، وتُثبَّت على سطح ثالث أسباب العلل، وأسماء الأدوية
وصنوف الأمزجة، وتُبيَّن على سطحٍ رابع أنواع الأصوات ومراتب
الأوتار ومَدَارج الأوزان والألحان، وتُرسَم على سطح خامس
الأشكال الهندسية من مثلَّثات ومربَّعات ومستقيمات ومُنحنيات،
ويُسطَّر على سطح سادس قواعد تدبير الرياسة والسياسة، وقوانين
العَدْل والإنصاف. ولما انقضَت المدة وانتهت المُهلة بعث الملك
إلى السندباد رسولًا يقول: ها قد حل الموعد؛ فهل أنجزت الوعد؟
وبعث سندباد إلى الملك على لسان الرسول: إن شئت أيها الملك
أُحضر إليك ولدَك في الغد. ثم التفت للأمير، وقال:
سندباد
:
لقد أبلغت أباك أنك ستكون عنده صباحَ الغد. سنَعرض عليه ما
حصَّلت، وتُظهر ما حفِظت، وتُشهد الجميعَ أنك قد أصبحت
نوَّارةَ شجرة الملك، وكوكبَ سماء الحكم.
الأمير
:
ليكن ما تريد يا مُعلمي.
سندباد
:
غير أنني لم أنظر بعدُ في النجوم لأعرف طالِعك.
الأمير
:
افعَل يا سيدي كما تقول، وانظُر في النجوم؛ لتعرف طالعي
ونصیبي.
المؤرخ
:
ونهض سندباد على قدمَيْه ووضع الاصطرلاب، وظل ينظر درجات
الطالع ويتحقَّق من الصور والأشكال والهيئات، ثم صرَخ ولطَم
وجهه وصاح:
سندباد
:
ویلي! ویلي! ماذا أفعل؟!
الأمير
:
ماذا بك يا معلمي؟ ماذا رأيت حتى تفعل هذا بنفسك؟!
سندباد
:
انظُر بنفسك يا ولَدي، وستعرف لماذا صرختُ ولطمت وجهي. في
طالعك نُحوسة وخطَر إلى سبعة أيام متَّصلة. وإذا تكلمت في هذه
الأيام السبعة مع أي مخلوق يكون في ذلك هلاكُك.
الأمير
:
إن أمرت ألا أفتحَ فمي سبعةَ شهور كاملة؛ فلن أعصيَ أمرك.
اطمئِنَّ يا معلمي.
سندباد
:
كيف أطمئنُّ يا ولدي؟ إذا صحِبتك إلى الحضرة العلية تقع في
الخطر، وإذا لم أصحَبْك أتعرض لعقوبة الملك. مَن لي بعلاج هذا
المشكِل وتدبير هذا المعضل؟! إنهم سيَصْحبونك غدًا.
الأمير
:
وأين المشكل والمُعضِل يا معلمي؟ سأطيعُ أمرك ولن أفتحَ فمي
… وعندما يقتضي الحال تتدخَّل حكمتك.
سندباد
:
وإذا كانت طوالع النجوم تقول: توارَ أنت يا سندباد في هذه
الأيام السبعة؟
الأمير
:
فلتتوارَ أنت إذن … ولتتدخَّل حكمتي.
المؤرخ
:
ولما ظهرت أنوار ملكة الكواكب، ذهب الأمير إلى حضرة أبيه
ووقف صامتًا. وكلما ألحَّ الملك والوزراء، وسألوه أن يتكلم لم
يسمعوا منه أيَّ جواب. فقال الملك:
الملك
:
لعله يخجَل من هذه الجماعة، ولا يُطلق لسان المقال في
حَضرتنا. أرسِلوه إلى سراي الحرَم؛ عساه يتكلم مع أهل
الحجاب.
المؤرخ
:
كان في حرَم الملك جارية هي الجمال بعَينه، وكانت قد عشِقت
الأمير من مدة مديدة، فلما أن غاب عنها قنعَتْ من وصاله
بالخَيال، وعلَّلت قلبها عن فِراقه بالآمال، وما كادت تسمع بما
جرى، حتى ذهبت إلى الملك وقالت:
الجارية
:
يا منبعَ الجلال ومطلع الكمال، أرسل الأمير إلى حجرة
جاريتِه، لقد رعيت الدر اليتيم، وعوَّضته عن حنان أمه.
الملك
:
نعم الرأيُ ما رأيت يا درةَ قلبي وقرةَ عيني … ليذهب إلى
حُجرتك؛ عساه أن يتكلم معك.
المؤرخ
:
وأخذت الجارية بيد الأمير، ودخلت معه في حجرة الخَلوة.
واقتربت منه وهي تبثُّه لواعج الشوق، وتفتح قفَص الصدر؛ ليغرد
طائر العشق. لم يفتح الأمير فمه، فمدَّت يدها إلى يده،
وقرَّبتْ صدرَها من صدره، وتلوَّت وهمسَت في أذنه:
الجارية
:
افتح فمك كالوردة بوعدٍ صادق، حتى لا أمزِّق القميص كزهرة
الشقائق. إنها دعوى القلب، أنا معك، لا تصرُخ! ها هو باب حكم
العشق، وها أنت وأنا.
المؤرخ
:
وبقي فمُ الأمير مختومًا بشمع الصَّمت. فمالت عليه، حتى كادت
أن تلمس شفتيه وقالت:
الجارية
:
ضع يدك في يدي. عاهدني أن أسلِّمك هذا الملك، وإذا وفيت
الوعود ولم تنقض العهود.
المؤرخ
:
ولم يستطع الأمير أن يكتُم إعصار غيظه، فأطلق من فمِه بركان
غضبه:
الأمير
:
كيف تُدخلين هذا المستحيل في حدِّ الإمكان؟
الجارية
:
أسُمُّ الملك بالحيلة، وأضع تاج المملكة على رأسك.
الأمير
:
هل يليق بالابن أن يتعرَّض لحرَم الأب؟ هل أبطل حق الشريعة
والفتوى، من أجل قضاء شهوة؟ إنَّني إذا قلت كلمة في هذه الأيام
السَّبعة تكون سببَ هلاكي وضياعي. ولولا كوكب النحس والخطر،
لأبلغت أمرك للملك المنتقم. لكنني سأسكت وأنتظر، حتى تنقضي
أيام النحوس وساعات البؤس، فتَنالين جزاء العُقوق، وتُعاقَبين
على خيانة الحقوق.
المؤرخ
:
وخرج الأمير من حجرة الجارية، وهو في أشد الغضب. وفكرت فيما
بينها وبين نفسها، وقالت وهي تعض بنان الندَم على سوء تدبيرها،
وتغص بالدمع المنهمر على هول مصيرها:
الجارية
:
ويلي ويلي! لقد لوثت عِرضي بالخيانة والفَضيحة، وصيرته هدف
سهام العقاب والعذاب، ولو سمِع الشاه الأعلى بما جرى لبطلت
ثقته في عهدي وكمال محبَّتي، وأنكر قديمَ إخلاصي وودي. ویلي!
ویلي! لقد عرضت نفسي لسخطه: ولا أمان للبحر والنار والسلطان.
وإذا أمكنني تجنُّب البحر والنار؛ فكيف أتجنَّب غضب الملك؟ ليس
أمامي إلا أن ألجأ إلى لُطف الحيلة، وبديع التمويه والتزوير.
ليس أمامي إلا أن أطأَ الروح بالقدَم في هذا الطريق! وقبل أن
تنقضي مهلة الأيام السبعة ويقرر الأمير خيانتي، فلا بدَّ أن
أسبقه وأتهمه بالخيانة.
المؤرخ
:
ومزقت الجارية ثيابَها على الفور، وانتزعتْ شعرها وخمشَتْ
وجهها، وصاحت وهي تجري إلى تخت الشاه متنكِّرة متحيرة.
الجارية
:
الغياث يا مسلمين! يا أيها السلطان! يا ملك العالم! يا ظلَّ
الله في الأرض ومأوى كل مظلوم! أيجوز أن يصير في عهد عَدْلك
ظلم، وتُرتكب في حق ذاتك خيانة؟
الملك
:
ومن الذي ارتكب هذه الخيانة؟ من تجرَّأ على هذا
الظلم؟
الجارية
:
لما صحبتُ الأميرَ إلى حجرتي، أشفقت عليه شفَقة الأمومة،
وقلت له: يا ثمرة الشجرة الملكية! لمَ هذا الصمت؟ ولماذا لا
يغنِّي بلبل لسانِك على شجَرة الكلام؟ فما كان منه إلا كما
قالوا: سكت دهرًا ونطق كفرًا.
فتح فمه وقال: موجب صمتي داء حبِّك الذي لا علاج له، وهَجْرك الذي لا ينتهي. آه! لقد وضعتْ يد العشق قُفل السكوت على فمي، فاعلمي أن حبك امتزج بمائي وطِيني، واستقرَّ في قلبي من المهد إلى هذا العهد. لقد أسعف الحظ، وأرسلني الشاه الي حُجْرتك، فأطلقي روحي من قيد هواك، واروي عطَش فمي من ماء بحرك، واقبلي خدمتي في كعبة جمالك، حتى أقضي على أبي بالسيف أو بالسم. ولما رأيت أن الجنون قد استولى على قلبِه، وخِفت أن يتبع الأقوال الذميمة بارتكاب الفاحشة والجريمة، خلصت شرَفي من خناجر يديه، وجريت إلى ظل رحمتك، وعدت لك وأنا أقول ما قالت زليخا: ما جزاء مَن أراد بأهلك سوءًا؟
فتح فمه وقال: موجب صمتي داء حبِّك الذي لا علاج له، وهَجْرك الذي لا ينتهي. آه! لقد وضعتْ يد العشق قُفل السكوت على فمي، فاعلمي أن حبك امتزج بمائي وطِيني، واستقرَّ في قلبي من المهد إلى هذا العهد. لقد أسعف الحظ، وأرسلني الشاه الي حُجْرتك، فأطلقي روحي من قيد هواك، واروي عطَش فمي من ماء بحرك، واقبلي خدمتي في كعبة جمالك، حتى أقضي على أبي بالسيف أو بالسم. ولما رأيت أن الجنون قد استولى على قلبِه، وخِفت أن يتبع الأقوال الذميمة بارتكاب الفاحشة والجريمة، خلصت شرَفي من خناجر يديه، وجريت إلى ظل رحمتك، وعدت لك وأنا أقول ما قالت زليخا: ما جزاء مَن أراد بأهلك سوءًا؟
المؤرخ
:
وتأثَّر الملك وتعكَّر، ثم قال في غضب الأسد الغضنفر:
الملك
:
إلا أن يُسجن أو عذاب
أليم … لا لا … ليس هذا ولدي … إنه ليس من أهلي … لا بد من
قَلْع الشوكة وقَتْل الأفعى! ولا علاجَ للعضو المريض إلا القطع
أو الحرق!
المؤرخ
:
وأشار للسياف أن
أخرِجْه وأهلكه، ولولا أنكم كنتم هناك …
الحكماء
:
نحن؟ … هناك في بلاط السلطان!
المؤرخ
:
نعم نعم. الحكماء والوزراء السبعة، كلكم كامل وعاقل، وناصح
وعادل، تزينون سماء المملكة كالسيارات السبعة، وتثبتون قواعدها
برأيكم الصائب، وذهنكم الثاقب. فقد اتَّفق أن كان الوزراء في
طريقهم إلى الحضرة، فلما سمعوا ما قالته الجارية، اجتمعوا
للتشاور والتأمل، وقال الوزير الأكبر:
الوزير الأكبر
:
لا يليق أن يلتفت السلطان إلى مقال امرأة ناقصة
العقل.
وزير
:
ويهلك ابنه في سَورة غضبه.
وزير
:
ثم يتحسر ويندم، حين لا تنفع الحَسْرة والندامة.
وزير
:
وعندئذٍ لن يُتَّهم رأيُ السلطان، ولن يُشَكَّ في
عقله.
وزير
:
بل سَنُدَان نحن ونُرمي بسهام السُّخف والحُمق.
وزير
:
ويُلقي علينا ذنبَ تعجله، ويُعاقبنا على جريمته.
الوزير الأكبر
:
ويبقى عرش المملكة بغير وريث، ويطمع العدو في الديار، ويودي
بالطيب والخبيث.
وزير
:
وإذا أمضى السلطان عزيمته، ونفذ أمره …
وزير
:
لم يسبق أن فعل هذا بغير مشورتنا وتدبيرنا.
الوزير الأكبر
:
فلنسرع إليه قبل أن يقرَّ قرارَه.
وزير
:
ويندم على حمقه وطَيْشه.
وزير
:
ونندم نحن على عَقلنا وحكمتنا!