الفصل الحادي عشر
المؤرخ
:
أخذ الوزراء والحكماء السبعة يتشاورون ويتدبرون، واتفقت
كلمتهم على الطريقة التي يخلِّصون بها الأمير من هول المصير؛
فيذهب كل واحد منهم إلى حضرة السلطان، ویروي له حكاية في مكر
النساء وكَيْدهن، وبذلك يُبطل الحكاية التي تكون الجارية قد
رَوَتها له في اليوم السابق لتستحثه على قتل الأمير. وأعجبتهم
الفكرة الحكيمة، ومضوا في تنفيذها لعلها تدفع الداهية العظيمة
وتؤجل العقوبة الجسيمة، حتى تمر أيام النحوس، وتتبدل بأوقات
السعود التي تحيي موات النفوس. وأسرع الوزير والحكيم الأول إلى
السياف وقال له:
الوزير
:
أوقِفْ عقوبة الأمير، حتى تتكشف الأمور.
السياف
:
لقد أبلغني رسوله الآن، بمشيئة حضرة السلطان.
الوزير
:
قلت أوقِفْها يا غبي، وحذارِ أن تلمس شعرةً من رأس
الصبي.
السياف
:
وإذا وصلني المرسوم والفرمان، وعليه ختم السلطان؟
الوزير
:
تلقيه في النار بلا إبطاء، ما لم تجد عليه أختام الحكماء
السبعة والوزراء.
المؤرخ
:
وذهب الوزير إلى حضرة السلطان، وقدم شروط الطاعة ولوازم
الثناء، ثم قال: ليس يوافق رأي السلطان الكافي، وعقله الوافي،
الإقدام على مثل هذه العقوبة الهائلة، والتي يتعذَّر تداركُها
حين تنكشف شمس اليقين، من حجاب الشُّبَه والظنون، ويصبح حالكم
كحال ذلك الرجل الذي قتل ببغاءه بافتراء امرأته. ولما ميَّز
الحق من الباطل، والزور من الصدق، لم تُجْدِه الحسرة، ولم
تنفعه الندامة … وهنالك مسألة الملك.
الملك
:
وكيف كانت تلك الحكاية؟ قل يا وزير.
المؤرخ
:
وروى الوزير حكاية عن كيد النساء، أتبعها بحكاية أخرى عن
دهائهن ومكرهن، لكي يصرف الملك عن تسليم الأمير لريح الفَناء،
بتزوير واحدة من بنات حواء. وسمعت الجارية في اليوم التالي أن
الملك أجَّل عقوبة ابنه؛ لأن أحد الوزراء الحكماء ثَنَاه عن
إمضاء عزمه، فذهبت أمامَ تخت الشاه، واستغاثَتْ بعدله وإنصافه،
وحثته على الإسراع في تنفيذ العقوبة، حتى لا يحدث له عينُ ما
حدث للقصَّار من ولده العاق.
الملك
:
وكيف كانت تلك الحكاية؟ احكي أيتها الجارية!
المؤرخ
:
وروت عليه حكايةَ القصَّار الذي كان مشغولًا بغسل الثياب في
النهر، فرأی ابنه الأحمق الجاهل يغرق مع حِماره في الدوامة،
واندفع في الماء لينقذه، فتشبث به الولد وأغرقه معه. فلما سمع
الملك الحكاية قال:
الملك
:
هيا يا سيَّاف! عجِّل برقبةِ ابني الفاسق العاق!
المؤرخ
:
وعندما وصل الخبر إلى الوزير الثاني أسرع للسياف،
وقال:
الوزير
:
أحذِّرك كما حذرك الوزير الأول! أجِّل القتل حتى أرى
السلطان، وأحدثه عن فوائد ترك التهوُّر والبعد عن مكائد
النساء.
المؤرخ
:
وجاء الوزير الثاني، فروى رواية وحكى حكاية عن الرجل الذي
ترك طفله الوحيد مع قط يحرسه، ثم رجع إلى بيته فوجَد على فمه
آثار دماء. وجنَّ جنونه حين تصور أنها دماء ابنه، فقتل القط
شرَّ قِتلة، ثم اكتشف سوء فعله، عندما دخل بيته، ووجد الطفل
نائمًا في مهده وعلى الأرض مِزَق من لحم ثعبان أسود أنشَب فيه
القطُّ الوفي مخلبَه ونابه … وعادت الجارية في اليوم التالي،
فروت رواية وحكتْ حكاية لإحباط تدبير الحكماء لنجاة الأمير،
وتأجيل القرار المهلك الخطير. وهكذا استمرَّ الحال إلى أن
انقضت الأيام السبعة التي حُكم على الأمير بأن يلزم فيها الصبر
والسكون، حتى يرتفع من درجات النحوس إلى كواكب الخير والسعود.
وانطلق لسان الأمير فأرسل إلى الوزير الكبير، وأثنى على حكمته
هو ومَن معه من الوزراء، وطلب منه أن يذهب إلى أبيه، ويحمل
إليه البُشرى بنجاته من كل مكروه، ويطلب منه الأمر بإقامة محفل
يضم الأعيان والكبراء، ويعرض فيه الأمير محصوله من علم العلماء
وحكمة الحكماء. واجتمع الجمع العظيم، وطفِق الأمير يظهر علمه
المكنون، ويبرهن بالحكايات على مخالفة التقارير للتدابير،
وكيفية تحول حاله من التعسير إلى التيسير، واتجاه همته إلى
تحصيل أنوار العلم والعرفان، وأزهار الحكمة والبيان … والفضل
لله ولسندباد … فالتفتَ الملك إلى السندباد الحكيم،
وقال:
الملك
:
كنت واثقًا من عقلك وحكمتك، وفضلك وشهامتك. ولكن قل لي يا
سندباد: كيف ساعدت ولدي على تحصيل هذه الحكمة الجليلة، في هذه
المدة القليلة؟
سندباد
:
ليأذن مولاي بأن يردَّ الأمير على سؤاله.
الملك
:
قل يا ولدي.
الأمير
:
أصل كل العلوم العقل، وأصل العقل الحكمة، والحكمة فَيْض
رباني، أو من يكون مسعود الحظ، تتهيَّأ له الأسباب فتتنزَّل
عليه.
الملك
:
والأسباب من تقدير الله يا ولَدي.
الأمير
:
جلَّت قدرته، وهو مسبب كل الأسباب!
الملك
:
وبحِكمة هذا الشيخ العاقل.
الأمير
:
حكمته ورعايته وفضله. أما الأسباب فعدة حِكم أو
كلمات.
الملك
:
كلمات؟ ماذا تقصد؟
الأمير
:
كلمات دوَّنها الشيخُ على جدران القَصر.
الملك
:
يدهشني قولك. تقصد ذلك البيت المكعَّب الذي طلَب السندباد
بناءه؟
الأمير
:
وعلى كل جدار سطر حكمه.
الملك
:
أسمعني بعضًا منها … قل.
الأمير
:
من يستمع لأقوال الواشِي والنمَّام، يندم إذ لا يُجدي الندَم
ويحيا في الآلام.
الملك
:
الحمد لله الذي نجَّانا منه.
الأمير
:
من يتربى في حِضن الفطنة والعقل التام لا يغفل عن مكر عدو
كالثعبان السام.
الملك
:
نعم يا بني. أوشكتُ أن أغفل عنه.
الأمير
:
مهما فعل الإخوان؛ فلا تُبغض أحدًا، فالجرح المؤلم من كف
صديق لا يؤلم أبدًا.
الملك
:
صدقت يا ولدي. لولاهم لجُرحت جرحًا لا یُداوى.
الأمير
:
شاور — إن رُمْتَ الرأي الصائب — أربابَ الحكمة والعقل
الثاقب.
الملك
:
ونِعْم ما أشار به الحكماء السبعة من غير استشارة!
الأمير
:
احذر أعداءَك في الداخل، واضمُم حاشية الثوب؛ فالسهم المارق
من قوسك سيصيب القلب.
الملك
:
الحمد لله الذي أطاش السهم الغادر.
الأمير
:
العاقل من لزِم الصمت وصام الدهر، إن نطق بقول يتدبر عاقبة
الأمر.
المؤرخ
:
ورفع الملك يديه إلى السماء، وقال: الحمد لله الذي زيَّن
ولدي بزينة العقل والحكمة، والآن أوان العزلة، والاستعداد
للزاد، والتهيؤ للمعاد. ذهب القادمون واحدًا واحدًا، ولا أحدَ
يدل على العائدين.
الحكماء
:
آه … وذهبنا نحن أيضًا.
المؤرخ
:
ورجعتم يا حكماء اليونان السبعة … في أجيال منها الحكماء،
ومنها أعداء الحكمة.
الحكماء
:
أما الحكماء فقد تابعت خُطاهم، لكن مَن هم أعداء
الحكمة؟
المؤرخ
:
الدجَّالون ومن نطقوا باسم الحكمة، تجار الكلمة، والقوالون
الوراقون الكتبة. يتحرك قلم ولسان، والقلب الغادر خوَّان، وكر
أفاعٍ يفزع منه الشيطان … والكذبة كالجارية بقصر
السلطان.
الحكماء
:
قلب خوان؟ والكذبة كالجارية بقصر السلطان؟ ماذا تقصد؟