الفصل الثالث
المؤرخ
:
كانت أعينكم تلتَفِت إلى الشرق الساحر باستمرارٍ، الشرق
الغامض ذي القوة والترَف الباذخ والجبَرُوت.
الحكماء
:
لكننا ذهبنا إليه لنتعلم أيضًا.
المؤرخ
:
وتعلمتم الكثير. وإن كنا نفتقد الأدلةَ والأسانيد.
طاليس
:
أنا مثلًا سافرتُ إلى مصر.
المؤرخ
:
وتعلمت الرياضة، وجلبت الهندسة إلى الإغريق … أما أنت
…
صولون
:
أنا طوَّفت بآسيا لأشاهد هذا العالم. وحديثي مع كاهن مصر
الشيخ حديثٌ مشهور … كم يعجبني حين أفكر فيه الآن!
الحكماء
:
أنا ما زلنا أطفالًا؟ … رغم مرور قرون وقرون؟!
صولون
:
ولماذا الغضب، وقد صدَق الشيخ؟
الحكماء
:
أم سخِرَ كعادة أبناء النيل؟
صولون
:
بل صدَق وحق «زیوس». وامتدح الإغريق مديحًا أتمنَّى لو كانوا
أهلًا له. أطفالٌ نحن وفي كل منَّا طفل.
الحكماء
:
وتريد من الحكماء السَّبعة أن يصدِّقوه؟ أنت يا
صولون؟
صولون
:
من قال بأن الحكمة تعني العَجْز أو الشيخوخة؟ من يُنكر حِكمة
الطفولة وطفولة الحكمة؟ أليست حكمتنا في بساطتنا، وبساطتنا هي
التي جعلَتْنا نصمُد لتحدي الملك الجبار، ونُواجِه قوته وغِناه
الفاحش بالبَراعة والقناعة والحكمة؟
المؤرخ
:
معذرة يا صولون (ولقد أدهشته بالبراءة الحكيمة أو بالحكمة
البريئة وتعجَّبَ مما قلت وغضب وثار) نريد الآن أن نعرف ماذا
قلت لهذا الملك وماذا قال؟ كيف التقيت به؟ وأین كان
اللقاء؟
صولون
:
لم أرَه وحدي! طلب لقاءَ الحكماء السبعة.
المؤرخ
:
وذهبتم لزيارته، وذهَلتم لما رأت العينُ كنوزَه.
الحكماء
:
ورثَينا له.
المؤرخ
:
لأغنى ملك في الأرض؟
الحكماء
:
ورَفَضْنا أن يُوصف هذا الملك بأسعد إنسان. فليتكلم عنا
صولون.
المؤرخ
:
أرجوك … تكلم.
صولون
:
لما فرَغ «كرويزوس» من إخضاع آسيا الصغرى بأكملها، وضمَّها
إلى مملكة الليديين، زحَفت حشود الإغريق الحُكماء إلى عاصمة
ملكه المزدهرة «سارديس»، وزحفتُ كذلك معهم. كنت قد ذهبت إلى
مصر التي يحكمها «أمازيس»، وشاهدت العالم وتجوَّلت فيه عشر
سنوات، واستقبلني الملك في قصره مع بقية إخواني فأحسَنَ
الاستقبال. وفي اليوم الثالث لزيارتنا أمر الملك خدَمَه وعبيده
أن يأخذونا إلى دهاليزه ومخازنه؛ لنتفرَّج على التُّحَف
والكنوز التي أودعها فيها، ثم رجع بنا الخدم والعبيد إلى قاعة
العرش، حيث كان الملك يجلس في أُبَّهته محاطًا بأعوانه
وقُوَّاده وأعيان مملكته. لم يكُنْ يرَاني حتى هتَف صائحًا:
«أيها الضيف من أثينا، وأنتم أيها الضيوف، وصلتنا عنكم وعن
حِكمتكم الأخبار. وسمعنا عنك يا صولون، وعن أسفارك التي قمت
بها؛ حبًّا في الحكمة. والآن تحركني الرغبة في أن أسالك: هل
رأيت في أسفارك أحدًا يمكن أن يوصَف بأنه أسعد إنسان؟»
لم يخفَ عليَّ أن الملك وجَّه إليَّ هذا السؤال، وفي نيته أن أقول أنت أيها الملك الغني العظيم أسعد إنسان. لكني لم أتملَّقْه، بل صارحته بحقيقة رأيي: «أيها الملك، إنه تيلوس الأثيني.» تعجَّب الملك من قولي، وأسرع بالسؤال: «وكيف حكمت بأن تيلوس هذا هو أسعد إنسان؟» قلت: «عدة أسباب يا مولاي. أوَّلُها أن كان لتيلوس هذا عدة أبناء تحلَّوا بالذكاء والصَّلاح والجَمَال، ولقد سعدتْ عيناه برؤية أبنائهم في حياته. والثاني أن الرجل بعدَ أن تقدم به العمر وعاش أطيب حياةٍ ممكنة مات كذلك في النهاية أروع ميتة ممكنة؛ فقد شارك مواطنيه الأثينيين في الحرب التي اشتبكوا فيها مع جيرانهم في إيلويزيس، وطارد الأعداء الذين فرُّوا مهزومين، ومات أثناء هذه المطاردة أجمل ميتة. ودفنه الأثينيون، حيث سقط صريعًا، على نفقة الدولة، وكرَّموه وأقاموا له طقوس التوديع والإجلال.»
استمع الملك إلى قصة تيلوس، وهو يعض على شفتَيْه وأسنانه. سكتَ قليلًا، ثم غالبَ غيظَه وسأل: «ومن هو أسعد إنسان رأيته بعد تیلوس؟» قلت: «هما اثنان أيها الملك العظيم.» قال في لهفة: «احكِ عليَّ قصتهما يا صولون.» قلت: هما كليوبيس وبيتون. كانا من حيث المولد من أرجوس، ولهذا وَجدا ما يكفيهما للحياة. وكان كلاهما حسن الصورة قوي الجسد، وحصَلَا على جوائز كثيرة في المسابقات الرياضية. تسألني يا مولاي أن أحكي قصتهما؟ إنهما سيغنيانني عن هذا، ويرويان القصة بنفسهما.
لم يخفَ عليَّ أن الملك وجَّه إليَّ هذا السؤال، وفي نيته أن أقول أنت أيها الملك الغني العظيم أسعد إنسان. لكني لم أتملَّقْه، بل صارحته بحقيقة رأيي: «أيها الملك، إنه تيلوس الأثيني.» تعجَّب الملك من قولي، وأسرع بالسؤال: «وكيف حكمت بأن تيلوس هذا هو أسعد إنسان؟» قلت: «عدة أسباب يا مولاي. أوَّلُها أن كان لتيلوس هذا عدة أبناء تحلَّوا بالذكاء والصَّلاح والجَمَال، ولقد سعدتْ عيناه برؤية أبنائهم في حياته. والثاني أن الرجل بعدَ أن تقدم به العمر وعاش أطيب حياةٍ ممكنة مات كذلك في النهاية أروع ميتة ممكنة؛ فقد شارك مواطنيه الأثينيين في الحرب التي اشتبكوا فيها مع جيرانهم في إيلويزيس، وطارد الأعداء الذين فرُّوا مهزومين، ومات أثناء هذه المطاردة أجمل ميتة. ودفنه الأثينيون، حيث سقط صريعًا، على نفقة الدولة، وكرَّموه وأقاموا له طقوس التوديع والإجلال.»
استمع الملك إلى قصة تيلوس، وهو يعض على شفتَيْه وأسنانه. سكتَ قليلًا، ثم غالبَ غيظَه وسأل: «ومن هو أسعد إنسان رأيته بعد تیلوس؟» قلت: «هما اثنان أيها الملك العظيم.» قال في لهفة: «احكِ عليَّ قصتهما يا صولون.» قلت: هما كليوبيس وبيتون. كانا من حيث المولد من أرجوس، ولهذا وَجدا ما يكفيهما للحياة. وكان كلاهما حسن الصورة قوي الجسد، وحصَلَا على جوائز كثيرة في المسابقات الرياضية. تسألني يا مولاي أن أحكي قصتهما؟ إنهما سيغنيانني عن هذا، ويرويان القصة بنفسهما.
كليوييس وبيتون
:
«كان أهالي أرجوس يحتفلون بعيد هيرا، ربة السماء وسيدة
الآلهة، وشقيقة زيوس وزوجته. وكان علينا أن نذهب بأمِّنا
المريضة إلى معبد الآلهة؛ للتبرك وزيارة قدس الأقداس. لكن
الثيران التي تجرُّ العربة التي تستقِلُّها لم تكن قد رجَعت
بعدُ من الحفل. وضاق الوقت عن الانتظار، فوضعنا رقابنا في
النِّير، وجرَرْنا العربة التي حملتها إلى الاحتفال مسافة خمسة
وأربعين فرسخًا١ حتى بلغنا المعبد. ورآنا الناس على هذه الحال
فهلَّلوا. لكن الأنفاس تخلَّت عنا، فختمنا حياتنا الفانية
أجملَ ختام. وأثبت الإله بموتنا أن من الأفضل للإنسان أن يموت
على أن يحيَا دون وفاءٍ أو إحسان. فقد التفَّ أهالي أرجوس
حولنا، وأثْنَوا على قوَّتِنا وشبابنا، وراحوا يحيون أمنا
العجوز ويهنِّئونها بابْنَيها. أما الأم التي أفعمَ فؤادَها
الفرح؛ فقد وقفت أمام تمثال الآلهة، وأخذت تبتهل إليها أن
ولَدَيْها أفضل ما يمكن أن يلقاه الإنسان. وبعد أن أدت الصلاة
تقدَّمْنا نحن، وضحينا للربَّة وأكلنا مع الآكلين، ثم أرَحْنا
أجسادنا المنهَكَة على أرض المعبد، ولم نقُمْ من رقدتنا أبدًا.
وأقام لنا الأرجيون تمثالين، نصبوهما بعد ذلك في مَعبد دلفي
ليضمَنا لنا الخلود.»
استمع الملك إليَّ في هدوء ثم قال:
استمع الملك إليَّ في هدوء ثم قال:
كرویزوس
:
أيها الضيف القادم من أثينا، أهكذا تبدو سعادتي في نظرك
هَباء، ولا أستحقُّ أن تسوي بيني وبين عامة الناس؟ عرفت مقصده
فأجبت في خشوع: مولاي الملك كرويزوس، تسألني عن حياةِ الإنسان
ومصيره؟ وأنا لا أعلم إلا أن أحكام الإلهة غامِضة، وأن
مقاديرهم مُظلمة الأسرار. هَبْ أن الإنسان يعيش سبعين سنة، وهي
الحد الذي أضَعُه لعمر البشر على الأرض، فكم عليه أن يرى في
حياته مما لم يكن يريد رؤيته، وكم يتحمل من آلام ويقاسي! وإذا
أكمل السبعين، فقد عاش خمسة وعشرين ألف يوم ومائتين، هذا دون
حساب للشهر الزائد. فإذا أضَفْت شهرًا لكل سنتين، حتى تتواءم
فصول السنة مع بعضها، فلقد قدرت على مدى السبعين سنة خمسة
وثلاثين شهرًا زائدًا، ومن الأيام على قَدْر السنوات السبعين
كانت ستة وعشرين ألف ومائتين وخمسين يومًا، ليس فيها يوم واحد
يشبه سواه. هكذا ترى یا كرویزوس أن حياة الإنسان مصادفة بحتة،
وها أنت ذا ملك غني واسع الثراء، تتحكم في بشر لا يحصيهم عَد.
لكن سؤالك إن كنت سعيدًا لا أملك عنه الآن جوابًا، لا أملك هذا
حتى أسمع أنك أنهيتَ حياتك خير نهاية. فليس الغني الفاحش
الغِنَى بأسعد ممن لا يجد سوى قوت يومه، إلا أن يواتيه الحظ
فينتهي أجلُه وهو متمتِّع بأملاكه وجميع خيراته. ما أكثر
الأغنياء الأشقياء، وما أكثر الراضين بنصيبهم القليل! فالغني
الذي يشعر رغم غِناه أنه تعِس وشقِي يتقدم خُطوتين على المغتبط
بحظه الطيِّب، أما هذا فيتقدم على الغنيِّ خطوات وخطوات.
والأول يمكنه أن يحقِّق الرغبة التي تعتمل في نفسه، وتحمل
الأذى الذي يصيبه، أما الثاني فلا يسَعُه أن يطمع فيما يطمع
فيه الأول أو يتحمل ما يتحمَّل، فقدره الطيب قد أغناه عن الطمع
ووَقَاه الأذى والضرر. أضف إلى هذا أنه لا يشكو ضعفًا ولا
علَّة ولا ألمًا، وأن الحظ باركَه بالبنين وجمَّله بالجمال.
فإذا حسُنت خاتمته، وأنهى حياته نهاية جميلة، فهو الذي تبحث
عنه أيها الملك، ويستحق أن يوصف بأنه سعيد، وعلينا أن نحترس
فلا نقول عنه أثناء حياته وقبل موته إنه سعيد. بل يجب أن نكتفي
بقولنا إنه طيب الحظ. من المستحيل على الإنسان الواحد أن يملك
كل شيء، ومن المتعذِّر على أي بلد أن يكفي نفسَه من كل شيء؛
فلديه شيء، وعليه أن يحصل من بلد آخر على شيء. وكلما زاد نصيبه
مما لديه كان هذا أفضل. ويصدق الأمر نفسه على الفرد الواحد،
فهو لا يكفي نفسه بنفسه، وهو يملك شيئًا ويفتقر إلى شيء آخر.
أما مَن كان لديه ما يَكفيه حتى آخر عمره، ثم ختَم حياته
ختامًا حسنًا؛ فذلك، يا مولاي، هو الذي يستحق أن يُوصَف بأنه
إنسان سعيد. يجب علينا أن ننظر إلى نهاية كل شيء، فما أكثر
الذين منَحَهم الإله شيئًا من السعادة ثم غيَّر أحوالهم رأسًا
على عقِب … هكذا ختَمْت حديثي للملك.
المؤرخ
:
ولم يعجبْه كلامك، ولا رضِيَ عنك.
صولون
:
قاطعني ولم يكترث بوجودي ولا ببقائي أو رحيلي. اقتنع بأني
أحمق، وأن الأحمقَ من يتخلَّى عما بين يديه، وينظر في نهاية كل
شيء.٢
المؤرخ
:
وليته نظر في نهايته هو!
الحكماء
:
بل ليته حاول أن يفكِّر فيما قاله عزيزنا صولون. لقد تجهَّم
وجهه، واربدَّت ملامحُه بسحابة سوداء كثيفة أطبقَتْ عليها،
وحوَّلتْه إلى وحشٍ كاسر. نظر إلى زميلنا «بیاس» والشرر يتقد
من عينيه الغاضبتين وسأله:
كرویزوس
:
هل هذا رأيك أيضًا؟ أتعتقد أن صاحبَك قد أجاب بالحق؟
بياس
:
بالحق وبالعدل أجاب يا مولاي. لقد أراد أن يرى الكنوزَ التي
في نفسك، فلم يجِدْ إلا الكنوز التي في يدك.
كرویزوس
:
أتردُّ على مثله بالألغاز؟ أريد منك جوابًا قاطعًا، ماذا
يقصد بكلامه؟
بياس
:
أن البشر تُسعدهم كنوز النفس، لا كنوز الذهب والفضة.
كرویزوس
:
إذا كنتم لا تقدرون السعادة ولا الثروة الحقيقية بما أملكه
من كنوز، ألا تَرَون أن عندي من الأصدقاء والأنصار أضعافَ ما
عند أي ملك أو حاكم آخر؟ هذا واحد منهم جاء إليَّ من أثينا.
أيها العبيد! أحضروا ألكميون.
الحكماء
:
وفجأة فُتحت الأبواب، وظهر إنسان عجيب وسطَ عدد من الحراس
والعبيد. كان يبدو تائهَ العينَين زائغ البصر. وبدا عليه
الاضطراب، وكأنه قد عجَز عن السير خطوةً واحدة. فقد انتفخ ثوبه
الواسع بصورة مذهلة، كأنه بطن امرأة أوشكَتْ على الوضع. وعندما
دفعه الحراس وشدوه قريبًا من الملك، وقعتْ أبصارنا على شعره
الذي حشاه بسبائك الذهب، بل لقد تعجَّبْنا من انتفاخ أوداجه،
وأدركنا أنه حشا فمه بقطعٍ ذهبية صغيرة سقطتْ إحداها على
الأرض، عندما حاول أن يسعل. وهلَّل الملك وصاح، وهو يتلوَّى من
الضحك:
كرویزوس
:
قل لهم يا ألكميون! ألست أسعد إنسان؟ ألم تصبح أنت أيضًا
أسعد إنسان بعد أن سمحت لك بزيارة كنوزي، وأَخْذ ما تستطيع
أخذه منها؟ ألا يكفي هذا الذهب الذي حمَلْته في ثيابك، ودفنته
في طيات جسدك، وحشوت به فمك أن يجعلك سعيدًا؟ أم أن المفلسين
والجوعى أسعد منك وأحكم؟ … حاول ألكميون أن يضحك، فسقطت قِطَع
الذهب من فمه، ورنَّت على الأرض، وازداد ضحك الملك فقلنا
له:
الحكماء
:
العقل هو أعظم الكنوز، والسعيد مَن يبقى سعيدًا إلى
النهاية.
المؤرخ
:
نعم نعم! ليت الملك فكر عندئذٍ في نهايته!
الحكماء
:
تكلم. ماذا حدث له؟
المؤرخ
:
تمضي الأيام، فيغزو قورش الثاني ملك الفرس مدينةَ سارديس
عاصمة المملكة الليدية، ويأسر كرويزوس بعد أن حكم أربعة عشر
عامًا، وحُوصرت عاصمة ملكه أربعة عشر يومًا.٣ ويُحضره الجنود مقيَّدًا في الأغلال، فيمثُل بين
يدي الملك الذي أمر بتجهيز المحرقة، ووضع الأسير عليها مع سبعة
من شباب الليديين. ربما قصد قورش من وراء ذلك أن يقدمهم
قربانًا لإلهه، أو يفي بوعدٍ قطَعَه على نفسه. وربما بلغه أن
كرويزوس كان ورعًا تقيًّا، فأراد بإحراقه حيًّا أن يختبر قدرة
إلهه على إنقاذه. مهما يكن الأمر فقد أصدر قورش أمره، فلما أن
وقف الملك المسكين على المحرقة خطَر على باله وهو في مِحنته ما
قاله له صولون: ما من حي يمكن أن يوصَف بأنه سعيد. وانكشفت له
الحجب فتأوَّه بعد صمتٍ طويل، وهتف ثلاث مرات: صولون! صولون!
صولون! سمع قورش صيحته، فطلب من المترجمين أن يسألوه عن الاسم
الذي استغاث به. وتقدم منه المترجمون وسألوه، فلاذَ بالصمت
طويلًا قبل أن يقول: «هو إنسان كان حديثه أقيم من كل ما ملك
جميع الطغاة من ثروات عظيمة.» بدا لهم القول لغزًا، فألحوا
عليه بالسؤال عما يقصد. وبدأ الملك المنكوب يروي عليهم كيف حضر
إليه صولون الأثيني.
كرویزوس
:
ها أنت قد رأيت كنوزي. ما رأيك يا صولون؟
صولون
:
رأيي؟ في أي شيء يا مولاي؟
كروزوس
:
هل آمنت بأني أسعد إنسان؟
صولون
:
ربما تكون سعيدًا، والحظ الطيب يرعاك. لكنك لست بأسعد
إنسان.
كرویزوس
:
ومن في رأيك هو أسعد إنسان؟
صولون
:
هو مَن بقي سعيدًا حتى آخر عُمره. قبل حلول الأجل بلحظات،
يمكن أن ينقلب الحال ويصبح أشقى الناس.
كرویزوس
:
غضبت عليه وصِحت: يا لكَ من إغريقي فظ! أتضن عليَّ بالسعادة
بعد كل ما رأيت من كنوزي وأملاكي؟!
صولون
:
ستكون سعيدًا لو حضرك الموت، وهي ملك يمينك.
كرویزوس
:
وها أنا ذا أذكره الآن وأذكر ما قال. أتذكر حكايته عن الأب
الذي سعِد برؤية أبنائه والموت في سبيل وطنه، وعن الولدين
اللذين جرَّا العربة التي حملت أمهما إلى المعبد بدلًا من
الثيران، ثم ماتا راضيَين بعد أن أدَّت الصلاة. إن كلمات هذا
الأثيني لم تصدق عليَّ وحدي. أعرف الآن أنها تصدُق على كل
إنسان، خصوصًا من زيَّنت له الأوهام أنه أسعد السعداء.
المؤرخ
:
استمع قورش إلى حديث كرويزوس. كان الملك الأسير يقف صلبًا
متجلِّدًا فوق المحرقة، والنيران تئز حوالَيه وتطلق شررها
عليه. وتفكَّر قورش فيما قاله المترجمون، وحدثته نفسه قائلة:
حقًّا، إن كلمات الملك المنكوب لا تنطبق عليه وحده، ها أنا ذا
إنسان مثله، أحسب نفسي منتصرًا أو سعيدًا، أسلم للنار إنسانًا
لم يكن أقل مني سعادة. من يدري؟ هل تقتصُّ الأقدار مني؟ من
يضمن ألا يحدث لي ما يحدث له؟ آه! من يضمن شيئًا في هذا
العالم؟ لا شيءَ أكيد فيه، لا أمان للحياة! ونظر إلى الملك
الذي التفَّت حوله النيران، فأمر بأن تُطفَأ على الفور، وينزل
هو ومَن معه من فوق المحرقة.وحاول الجنود أن ينفِّذوا أمر الملك، لكنهم عجزوا عن السيطرة
على النار. ولاحظ كرويزوس أن الملك غيَّر رأيه، وأن الخدَم
والحشم يكافحون النار ولا يستطيعون إطفاءها، فاستغاث بأبوللو
وهو يصرخ: إن كنت تذكر تضحياتي وهدایاي إليك، إن كنت قد استطعت
أن أرضيك، فاذكرني في محنتي وخفِّف عني الويل، الطُف بي يا رب
النور الساطع واكشف عني ضَنْك الليل. وبكى كرويزوس كما لم يبكِ
في حياته، وابتهل وتمتم بالدعوات وسالت أنهارُ دموعه، ورفع
بصره إلى السماء الصافية فوجدها تتلبَّد فجأة بالسحب
المظلمة.وخطف البصر بريق البرق، وانهمر المطر سيولًا أطفأت النار.
كان قورش ورجاله يتابعون المشهد وهم يحبسون الأنفاس، وعرف
الملك الجبار أن إهاب الملك المنكوب يشفُّ عن إنسان طيب. وصاح
بالرجال أن يعجلوا بإنزاله من فوق المحرقة. وقرَّبه منه، وسأله
وهو يشد على يده: كرويزوس، من حرَّضك على محاربة بلادي
ومعاداتي، بدلًا من أن تكون صاحبي وصديقي؟ قال كرويزوس: أيها
الملك … فعلت هذا لما حالفك الحظ وخاصمني، والذنب في هذا هو
ذنب إله الإغريق الذي دفعني إلى الحرب، وليس يفضِّل الحرب على
السلام إلا الأخرق والأحمق؛ ففي ظل السلام يدفن الأبناء
آباءهم، أما في الحرب، فيواري الآباء أبناءَهم التراب. لكن
الإلهة اختارت، شاءت هذا ومشيئتها كانت. هكذا قال ومد قورش
يدَه ففك قيوده، وأجلسه بجانبه، وأظهر له المودة والهيبة
والكرامة. وتطلَّع إليه الملك والحاضرون بإجلال وإعجاب.
الحكماء
:
لا تقل إنك ما دمت حيًّا … والإنسان لا يأمن ما تأتي به
الحياة قبل لحظات من مفارقة الحياة.