الفصل الرابع
المؤرخ
:
لم يستجب الطاغية الشرقي لحكمتِكم، بل ثار عليكم واتَّهمكم
بالحمق، وربما يكون قد طرَدكم من قصره ومملكته. وتفرقتم يا
حكمائي السبعة، ورجع كل منكم إلى بلده. لكن هل سكت عنكم
الطغيان؟ وهل خلَتْ بلادكم من الطُّغاة والمستبدين؟ تكلم يا
صولون!
صولون
:
لا تنكَأْ جرحي يا ولدي.
المؤرخ
:
كيف واجهت العاصفة والبركان؟ ماذا فعلتْ حكمتك أمام الطغيان؟
هل لجأتَ إلى جدار يحميك، أم نفيت نفسك بنفسك، أم نفاك الطاغية
من أثينا؟
صولون
:
بيزيستراتوس؟ نعم نعم. لقد انتزع السلطة لنفسه، وأقام حكمه
المطلق، لم يقف في وجهه أحد ممن كنت أتوقَّع أن يقاوم
استبداده. أما التشريع الذي وضعته لإصلاح أمور أثينا فلم يمسه،
ولكنه تركه يبدو وكأنه قد أضرَّ بها، بدلًا من أن ينفعها، ويقر
السلام بين أبنائها المتصارعين. وتركت أثينا ورحت أتنقل بين
البلاد.
المؤرخ
:
تتنقل وحدك؟
صولون
:
لم أكن وحدي أبدًا؛ فالحكماء دائمًا معي. ومن لم أستطع
زيارته كتبت إليه وتشاورت معه.١
المؤرخ
:
وهل رد عليك أحد؟
صولون
:
لم يكتفوا بالرد، بل دعوني للإقامة معهم، أو عرضوا الحضور
إليَّ والإقامة معي. لا لم أكن وحدي أبدًا … كان معي طاليس
وبياس وكليوبويس و…
المؤرخ
:
نريد أن نسمع ما قلته لهم في رسائلك. فبمن تبدأ؟
صولون
:
أبدأ بالكاهن الذي خلص أثينا من لعنة الطاعون.
المؤرخ
:
أبيمينيدس؟ الكاهن الكريتي؟
صولون
:
نعم. فقد كان أول من كتبت إليه.
المؤرخ
:
وبدأت بقولك إن القوانين التي شرعتها للأثينيين لم تستطِعْ
أن تساعدهم كثيرًا، كما لم يستطع هو نفسه أن يساعدهم برَفْع
اللعنة عنهم. فالشرائع والطقوس لا قيمة لها في ذاتها؛ لأنها
تستمد قيمتها من الحاكم الذي يطبِّقها، فإن صادفت الحاكم السيئ
انعدمت فائدتها. ولم تكن القوانين والنُّظم التي وضعتها لتشذ
عن ذلك. بيد أن المسئولين قد أضرُّوا بالصلح العام للمدينة حين
تقاعَسُوا عن الوقوف في وجه بيزيستراتوس الذي استبد
بالسلطة.
صولون
:
وا أسفاه! لم يصدق أحد نبوءتي. وثق الأثينيون بنفاقه لهم،
ولم يثقوا بحقيقتي.
المؤرخ
:
وذهبت إلى القاعة التي تجمع فيها القواد، وألقيت بأسلحتك
أمام الباب، وقلت:
صولون
:
إنني أحكَمُ من أولئك الذين لم يلاحظوا أن بيزيستراتوس قد
صمَّم على أن يكون طاغية، وأشجع من أولئك الذين تردَّدوا عن
مقاومته. خرج القواد وهم يلوحون في وجهي قائلين: إنك أحمق يا
صولون. قلت محتجًّا: يا وطني، أنا صولون، على استعداد لحمايتك
بالكلمة والفعل، ومع ذلك فهم يعتبرونني مجنونًا. ولهذا سأغادر
بلدي، وأنا الخصم الوحيد لبيزيستراتوس. عليهم إن شاءوا أن
يجعلوا أنفسهم حرسه الخاص، أما أنا فلن أبقى.
المؤرخ
:
وهل فعلوا هذا يا صولون؟
صولون
:
لقد استغل دهاءَه في التغرير بهم والاستبداد بالسلطة. ابتدأ
بتمثيل دور القائد والزعيم، ثم جرَح نفسه، وذهب إلى قاعة
المحكمة، وهو يصرخ مؤكدًا أن خصومه قد اعتدوا عليه، وأن على
المجلس أن يعين له أربعمائة حارس شاب. ورفعت صوتي معترضًا،
ولكنهم لم يستمعوا إلي، بل وافقوا بالإجماع على تعيين
الحُرَّاس. وكان أن ألغى الديمقراطية، واستعبد الفقراء الذين
حررتهم أنا من الديون والسُّخرة، وضاعت جهودي هباء، فهم الآن
عبيد فرد واحد اسمه بيزيستراتوس.
المؤرخ
:
ومرت الأيام واستقر حكمه الفردي المطلق، وجاءك رد صديقك الذي
حاول أن يعزيك ويُحْيي الأمل في نفسك.
أبيمنیديس
:
صبرًا يا صديق! لو كان بيزيستراتوس قد وجَّه ضربته
للأثينيين، وهم لا يزالون عبيدًا، وقبل أن يعرفوا القوانين
الصالحة؛ لأمكنه أن يقبض على السلطة، ويحتفظ بها عن طريق
استعباد المواطنين. لكنه الآن يحكم في عبيد، فالرجال الذين
يحكمهم يتفكرون في تحذيرك يا صولون، وهم خجلون متألمون. إنهم
لا يتحمَّلون الطغيان، لأن من المستحيل على من عرَف الحرية في
ظل أفضل القوانين أن يرضى بالعبودية، أو يحيا حياة
العبيد.
المؤرخ
:
ويُشفق عليك الصديق من مشقَّة التجوال والترحال
فيقول:
أبيمنیديس
:
لا تتنقل بين البلاد، تعالَ إلينا هنا في كريت. ستحيا معنا
في أمان، ولن تحتاج إلى الخوف من سيِّد مطلق. أما إن أصررت على
أسفارك؛ فأخشى أن يلقاك أنصاره ويصيبك مكروه.
المؤرخ
:
لم تكن هذه هي الدعوة الوحيدة. فلم يكد طاليس يسمع عن عزمك
على ترك أثينا، حتى دعاك إلى الحضور إلى ملطية، حيث تعيش وسط
أهلك الذين سبقوك إلى تعمير هذه المدينة.
طاليس
:
يمكنك أن تعيش هنا مطمئنًّا بلا خوف. وإذا كان يؤلمك أن يكون
الحاكم هنا طاغية — فأنا أعلم مدى كرهك لجميع الطغاة — فسوف
يُسعدك أن تعيش هنا مع أصدقائك. لقد بلغني أيضًا أن بياس قد
دعَاك للذهاب إلى بريينه، فإن آثرت الاقامة في هذه المدينة
فسوف أنتقل إليها.
المؤرخ
:
وتنافس الأصدقاء في الوقوف بجانبك.
صولون
:
نعم! كان لي أصدقاء عديدون. في كل مكان كنت أشعر أنني في
بيتي.
المؤرخ
:
وهذا ما كتبه لك كليوبوليس. ثم أضاف قوله:
كليوبوليس
:
أعتقد أن ليندوس الديمقراطية ستكون أحبَّ مكان إلى قلب
صولون، فالجزيرة تقع على البحر، مَن سكنَها فهو آمن من شر
بيزيستراتوس، وسوف يحجُّ إليك الأصدقاء من كل ناحية.
المؤرخ
:
وعزَّ على الطاغية أن يشهَّر به في كل مكان، وأن يقف مكتوف
اليدين أمام الخصم الذي خدَم مدينته وأجمع الناس على إجلاله،
وتسابقت المدن على الترحيب به، ولهذا أسرع بالكتابة إليك، وراح
يدافع عن حكمه ويبرر استبداده.
صولون
:
ويلح كذلك في عودتي إلى الوطن.
المؤرخ
:
فلنقرأ رسالته العجيبة.
بيريستراتوس
:
لست أنا الإغريقي الوحيد الذي استبدَّ بالحكم الفردي المطلق.
ثم إنه وصل إليَّ، لأنني أنحدر من نسل كودروس.٢ هكذا أكون قد استردَدْت ما تعهد به الأثينيون
لكودروس وذريته، وإن كانوا مع ذلك قد عادوا فسلبوه إياه. أضف
إلى هذا أنني بريء من الذنوب في حق الآلهة والبشر. وكما شرعت
للأثينيين قوانينهم، فسوف أترك حياتهم تسير بمقتضاها، وبهذا
يحكمون حكمًا أفضل من الديمقراطية؛ ذلك أنني لن أسمح بأي تعدٍّ
على الحدود المرعيَّة، كما أنني لا استأثر لنفسي بأي شرف أو
تكريم باستثناء ما كان يتمتع به الملوك السابقون، وقد فرضت على
كل أثيني أن يسدد العشور عن أرضه، لا لكي آخُذَها منه، بل لكي
تحصِّلها الخزانة للإنفاق على القرابين العامة وغيرها من أوجُه
الإنفاق، كما في حالة الحرب.
إنني لا ألومك لأنك كشفت عن خطَّتي؛ إذ فعلت هذا عن حب للدولة أكثر مما فعلته عن كراهيةٍ لي، ثم لأنك لم تكن تعلم أي نوع من الحكم سوف أقيمه. ولو علمته فلربما رضيت به ولم تهاجِر. ارجع إذن إلى وطنك وثِقْ بي، حتى بغير أن أقسم لك قسمًا واضحًا بأنه لن يصيب صولون أيُّ مكروه من بيزيستراتوس. واعلم أنني لم أنَلْ أي واحد من أعدائی بأذًى. فإن شئت أن تكون أحد أصدقائي، فسوف تكون أولهم في المكانة عندي. فأنا لا أجد فيك خيانة ولا خداعًا، وإني لأضمن لك أن تحيا في أثينا أي حياة ترضاها، ولست أحب أن تفقد وطنك بسببي.
إنني لا ألومك لأنك كشفت عن خطَّتي؛ إذ فعلت هذا عن حب للدولة أكثر مما فعلته عن كراهيةٍ لي، ثم لأنك لم تكن تعلم أي نوع من الحكم سوف أقيمه. ولو علمته فلربما رضيت به ولم تهاجِر. ارجع إذن إلى وطنك وثِقْ بي، حتى بغير أن أقسم لك قسمًا واضحًا بأنه لن يصيب صولون أيُّ مكروه من بيزيستراتوس. واعلم أنني لم أنَلْ أي واحد من أعدائی بأذًى. فإن شئت أن تكون أحد أصدقائي، فسوف تكون أولهم في المكانة عندي. فأنا لا أجد فيك خيانة ولا خداعًا، وإني لأضمن لك أن تحيا في أثينا أي حياة ترضاها، ولست أحب أن تفقد وطنك بسببي.
المؤرخ
:
ثقة بالنفس لم نعهدها في طاغية.
صولون
:
ولهذا قابلتُها بثقة لا تقل عنها … ثقة الحكمة في نفسها،
مهما كانت عزلاء ومنفيَّة.
المؤرخ
:
وكتبت إليه، ولم تخشَ غضبه.
صولون
:
بل وعملت على إشعال وقوده … أعتقد أنه لن يصيبني منك شَر.
لقد كنت صديقك قبل أن تنفرد بالسلطة وتصبح طاغية، ولست الآن
بأكثر عداء لك من أي أثيني آخر لا يعجبه حكم الطغيان. وسواء
أكان الأفضل لهم أن يحكمهم فرد واحد، أم أن يعيشوا في ظل الحكم
الديمقراطي، فسوف نترك تقدير ذلك لكلٍّ منا حسب علمه. إني
لأعترف بأنك أفضل الطغاة جميعًا. أما أن أعود إلى أثينا؛ فلن
أستحسن ذلك أبدًا. لقد منحت المساواة للأثينيين دون تفرقة،
وكان في إمكاني أن أصبح طاغية، لكنني أبَيْت ذلك على نفسي،
وسوف يُوجَّه إليَّ اللوم لو رجعت إلى وطني وقبلت ما
تفعله.
المؤرخ
:
مبلغُ علمي أنك لم ترجِع إليه، ولم تقبل ما فعله.
صولون
:
وفضَّلت أن أبقى غريبًا أغير بلدًا ببلد، وألقى صديقًا بعد
صديق.
المؤرخ
:
ومع ذلك الْتَقَيتم في مأدبة الحكماء السبعة.
صولون
:
مأدبة واحدة؟ هل أنت بخيل كالتاريخ؟
المؤرخ
:
كانت في دلف، أو في قصر كرویزوس.
صولون
:
أو أي مكان آخر … المهم أننا الْتَقينا … وشربنا …
وغنينا.
المؤرخ
:
وتباريتم وتناقشتم.
صولون
:
حقًّا؟ من أكثرنا شربًا أو أكثرنا جلدًا أو صبرًا.
المؤرخ
:
بل من أحكمكم يا حكماء.
صولون
:
عجبًا … ولمن سيكون الحكم؟
المؤرخ
:
لفتًی مجهول يبحث عنكم … ويفتِّش في كل مكان عن كلمات صدرت
منكم … حتى تهديه الريح إليكم … ويقدِّم أعجَب شيء عثر عليه
الصيَّادون.