الفصل السادس
المؤرخ
:
وتجتمعون يا حكمائي السبعة في مأدبة الحكماء.١ وتلتقون في دلف أو في ليديا بعد لقاء الملك
كرويزوس (لا نعلم شيئًا بالتحديد عن المكان ولا الزمان) لكن
مآدبكم كثرت في العصور المتأخرة، والكتب التي سجَّلت أحاديثكم
وأوردت أغانيكم على الشراب قد ضاع معظمُها، ولم يبقَ منها إلا
القليل. ولا بد أن كاتبًا مجهولًا من القرن الخامس قد ألَّف
الكتاب الشعبي الذي دُونت فيه هذه الأغاني والأحاديث. ولا بدَّ
أن الحياة السياسية والاجتماعية في هذا الزمن البعيد قد غصَّت
بشيء من الكذب الذي يسمِّم اليوم حياتنا، حتى أصبح من الصعب
تمييز الحق من الباطل والأصالة من الزيف. وها أنتم أولاء
تقِفون مع الحقيقة كما تقضي الحكمة الخالدة على من ينتسب إليها
أو ينطق باسمها.
صولون
:
أين الكئوس یا أولاد؟ أين الشراب؟
بیتاكوس
:
انتظر يا صولون، لم تأتِ اللحظة المناسبة.
صولون
:
بل جاءت يا طاغية لسبوس العفيف، أنت وحدك الذي لا يعرف
قيمتها.
بياس
:
على الرغم من حكمتك المعروفة. حقًّا! من الصعب أن يعرف
الإنسان نفسه.
صولون
:
هذا قول طاليس. ولكن ليس من الصعب أن نعرفه. طالیس! لماذا
تجلس وحدك؟
طالیس
:
هكذا عشت دائمًا، وحيدًا مع نفسي.٢
كليوبوليس
:
وبعيدًا عن السياسة والعمل.
طالیس
:
لقد ابتعدت عن السياسية، لكنني لم أبتعِد عن العمل.
خيلون
:
أنت وحدك انصرفت للنظَر في أمور الطبيعة وتأمُّل
الأفلاك.
كليوبوليس
:
وغرقنا نحن جميعًا في متاعب الحكم والمحكومين.
طالیس
:
اتهموني في ملطية بالفشل في حياتي، وعابوا عليَّ فقري. كنت
كلما مررت في الشارع أشار الناس إليَّ قائلين: انظروا إلى
فَقْره! إنه دلیلٌ كافٍ على عُقم الفلسفة! وقررت أن أثبت لهم
أن الفلاسفة يمكنهم إذا شاءوا أن يجمعوا الثروة بسهولة، ولكن
هذا ليس هو هدفهم.
خيلون
:
وماذا يا طاليس؟
طالیس
:
دلَّتني ملاحظاتي الفلكية أن محصول زيت الزيتون سيكون
وفيرًا. كنا في فصل الشتاء، وكان معي بعض المال، وأجَّرت معاصر
الزيت كلها في ملطية وخيوس بثمنٍ قليل؛ لأن أحدًا لم يتقدَّم
بثمن أعلى منه، ولما آن الأوان، اشتدَّ الطلب على المَعاصر،
فأجَّرتها بالثمن الذي حددته، وكسبت أموالًا طائلة.٣
صولون
:
وأثبتَّ أنك حكيم عملي.
طالیس
:
بل أني حكيم بعيدٌ عن الحُكم؛ إذ سرعان ما رجعت للنظر
والتأمل.٤
صولون
:
فلنشرب نَخبة المال والزيتون، قبل أن ترجع لتأملاتك في
السماء!
صولون
:
وقبل أن تجلس وحيدًا مع نفسك.
صولون
:
لن يسمح له هذا الصبي بذلك؟
كليوبوليس
:
أي صبي يا صولون؟
صولون
:
ألا تعرفونه؟ … تعالَ يا بني … أنت تعالَ!
الصبي
:
نعم يا عمي.
صولون
:
غنِّنا يا بني شيئًا … غنِّنا كما كنت تفعل في أثينا.
الصبي
:
الأغاني التي تحبها؟
صولون
:
نعم يا ولدي … ولا داعي لاستئذان بيتاكوس.
بیتاكوس
:
يستأذنني؟
صولون
:
ستعرف بعد قليل … استمع الآن.
الصبي
(يرتفع صوته ببعض أغاني سافو)
:
الآن قد غاب بالقمر،
وكذلك الكواكب السبعة.
انتصف الليل،
وزمن الانتظار فات،
وأنا أنام وحدي.
صولون
:
حقًّا يا ولدي، زمن الانتظار فات.
بیتاكوس
:
سمعت هذا من قبل … سمعتُه من قبل.
الصبي
:
كل النجوم حول القمر الجميل
تخفي وجهها المضيء من جديد،
عندما يغمر البدر الناصع الأرض بنوره.
صولون
:
قل هذا لطاليس، أو انتظر. قُلْه لهذا الفتى.
الفتى
(يدخل على استحياء، يتطلع للجميع في
ذهول)
:
صولون
:
أليس كذلك يا ولدي؟ تعالَ … اقترب منا.
بیتاكوس
:
أين سمعت هذه الأغنية؟ متى؟ … آه … تذكرت.
صولون
:
تعالَ يا بني … صبَّ له كأسًا يا غلام.
بیتاكوس
:
إنها لسافو … الشاعرة التي هاجمتني هي وصديقها ألكايوس، ولكن
شعرها …
صولون
:
استمِر يا ولدي … اسمع هذا الفتى الجميل.
الصبي
:
عندما تموت
ينتهي كل شيء.
ما من ذكری،
ولا من شوق
سيسأل عنك.
تذهب غير مرئي،
إلى بيت هاديس،
تهبط إلى الظلال،
تتلاشى مثلها،
تصبح عدمًا.
هولون
:
نعم يا ولدي. نعم، تصبح عدمًا.
الصبي
:
كما تحمرُّ التفاحة،
التفاحة الحلوة
على الشجرة العالية،
على أعلى غصن.
نسي القاطفون أن يجنوها،
آه! لم ينسوها!
هم لم يستطيعوا فحسب أن يبلغوها!٥
صولون
:
آه! ما أجملها! أليست جميلةً يا ولدي؟
الفتى
:
نعم يا سيدي.
صولون
:
ليتك تعلمها لي يا ولدي!
الصبي
:
ولماذا يا عمي؟
صولون
:
أريد أن أحفظها عن ظهر قلب، ثم أموت.٦
الفتى
:
مثلك لا يموت يا سيدي … وكذلك هؤلاء الحكماء.
صولون
:
ولكننا سنهبط إلى بيت هاديس.
الفتى
:
ستبقى حكمتكم، يا مولاي.
صولون
:
سمعتم يا أصدقاء؟ … هذا الفتى يزعُم أنكم خالدون.
خيلون
:
أعطوه كأسًا … وإذا شرِب يغير رأيه!
الفتى
:
لن أغير رأيي … لقد عشتُ لهذه اللحظة … إنني أسعد
إنسان.
كليوبوليس
:
سألني الملك كرويزوس: من هو أسعد إنسان فوق الأرض؟ قلت: أيها
الملك … إنها الوحوش؛ لأنها تموت في سبيل الحرية. لو رآك يا
بُني لما سأل سؤاله.
الفتى
:
كنت سأقول له: أنا أسعد إنسان يا كرویزوس … فقد رأيت الحكماء
السبعة وسمعتهم.
صولون
:
لو سمعت نصيحتي، ما حكمت هذا الحكم إلا في آخر أيامك.
الفتى
:
ليكن هذا آخر أيامي … فأنا أسعد إنسان يا صولون.
انظروا!
الحكماء
:
ما هذا؟ ماذا تخرج من جِرابك؟
الفتى
:
هدية أبي إليكم، أرسلني بها قبل أن يلفظ آخر أنفاسه.
الحكماء
:
كأس ذهبي! لنا نحن؟
الفتى
:
بل للأحكم فيكم … انظروا.
صولون
:
حقًّا كُتب عليه نقش ذهبي.
خيلون
:
لأحكم الحكماء.
بیتاكوس
:
كيف ستعرفه يا ولدي؟ لمن سيكون الحكم؟
الفتى
:
لكم أنتم.
كليوبوليس
:
من أحكَمُنا؟ من؟
صولون
:
هذا الكأس يجيبُك.
خيلون
:
ولماذا هذا الكأس؟! أجِبْني أنت.
صولون
:
ستعرف حين تفرغه في جَوفك … هيَّا يا غلمان … كأس فارغة …
ألا تخجلون؟ … (تُملأ كأسه. يرفع
صوته بالغناء بعد أن يفرغها في جوفه).
اتق شرَّ الناس،
وانظر للواحد منهم!
هل يخفي الحربة في قلبه؟
وإذا حدثك بوجه طلق وبیان جذل؛
فهو حديث لسانين
انشقَّا من قلب أسود كالليل.
طاليس
(يتسلم الكأس من صولون)
:
كثرة كلماتك لا تكشف عن عقلٍ راجح،
فتخير منها الطيب،
والتمس الأحكم والأوفق؛
كي لا يُغرقك السيل الجامح
من ألسنة الثرثارين فتغرق.
خیلون
(يتسلَّم الكأس من طاليس)
:
يُختبر الذهبُ الخالص
فوق محك المعدن والحجر.
أما أفكار الناس؛
فتوضع فوق محك الزمان؛
ليفصل فيها الخير المحض عن الشر.
بیتاكوس
(يتسلم الكأس من خيلون)
:
كن حذرًا وأَعد القوس مع السهم،
حين تقابل شريرًا،
فلسان الحاقد لا يتحرَّك في الفم؛
إلا أن أطلق من لهب القلب سعيرًا.
بياس
(يتسلم الكأس من بيتاكوس)
:
كن طيبًا مع الجميع، وانبذ الخشونة،
إذا أردت أن تقيم في المدينة.
أما الشذوذ فهو يشعل المصائب اللعينة.
كليوبوليس
(يتسلم الكأس من بياس)
:
الجهل عميم بين الناس،
وسقط الكلمات ركام،
لكن الحد مع المقياس
يعين المرء على الأيام.
فكِّر في الخير،
وعوِّدْ نفسك
أن تختار الأصحاب.٧
الحكماء
(للفتى)
:
اشرب يا فتى … اشرب … هل عرفت الآن أحكم الحكماء؟ (يناولونه الكأس
الذهبي).
الفتى
(يشرب)
:
كلكم حكيم … كل أغانيكم تقطُر حكمة … لكن من هو أحكمكم؟
من؟
الحكماء
:
اشرب … اشرب.
الفتى
(يمد يده بالكأس)
:
لا … لا … أنا لا أستحق الشُّرب منه … لن أستحقه أبدًا. خذه
يا خيلون.
خيلون
:
أنا؟ إني أعرف نفسي.
الفتي
:
أنت يا طالیس.
طالیس
:
من الصعب أن أعرف نفسي … ولكن من السهل أن أعرِف أنني لا
أستحقُّه.
الفتى
:
وأنت يا صولون.
صولون
:
أعرف وأسكت؛ ولهذا لا أتكلم ولا أحرِّك يدي.
الفتى
:
وأنت يا بياس … ألا تريد أن تأخذه؟!
بياس
:
يأخذه من ينسُب الخير لنفسه، أما أنا فأنسبه للآلهة.
الفتى
:
وأنت يا حاكم ميتيلينه العادل؟
بیتاكوس
:
رد الأمانة لأهلها … هل نسيتَ ما قلته؟
الفتى
:
لم يبقَ إلا برياندر … أرجوك … لا بدَّ أن يأخذه
أحدكم.
برياندر
:
التهوُّر خطر.
الفتى
:
والحد هو الأفضل … لكن ماذا أفعل؟
الحكماء
:
تسأل.
الفتى
:
أهناك أحد أحكم منكم؟
الحكماء
:
بل تسألنا نحن، وتحكم.
الفتى
:
أسألكم … أي سؤال أسألكم؟
الحكماء
:
اسألنا مثلًا عن أفضل دولة.
الفتى
:
حقًّا … ما هي أفضل دولة؟
صولون
:
هي التي يُتهم فيها المجرم، ويُعاقب من جميع أولئك الذين لم
يضرهم بشيء، كما يُتهم ويعاقب ممن وقع عليهم الضرَر
منه.
بیاس
:
هي التي يخاف فيها الجميع القانون كما يخافون طاغية.
طاليس
:
هي التي تخلو من المُسرفين في الثراء والمسرفين في
الفقر.
أناخارزیس
:
هي التي يحترم فيها الناس كل شيء على حد سواء، ولكنهم يقيسون
المزايا بمقياس الفضيلة، والعيوب بمقياس الرذيلة.
بیتاكوس
:
هي التي يستحيل فيها أن يصل الأشرار إلى الحكم، كما يستحيل
ألا يحكم الأخيار.
خيلون
:
هي التي يغلب فيها سماع القوانين ويقل سماع
الخطباء.٨
الفتى
:
أجبتم عن أفضل دولة، هل أسألكم الآن عن أفضل بيت؟
صولون
:
أفضل بيت هو الذي لا يقترن فيه كسب المال بظلم، ولا يجلب
الحرص عليه سوء الظن، ولا يعقب إنفاقَه ندم.
بیاس
:
هو الذي يسلك ربُّ البيت في داخله ومن تلقاء نفسه، مثلما
يسلك خارجه بسبب القوانين.
طاليس
:
هو الذي يستطيع فيه ربُّ البيت أن يجد الفراغ أكثر مما يجده
في أي مكان آخر.
كليوبوليس
:
هو الذي يكون فيه عدد مَن يحبون ربَّ البيت أكثر مِن عدد من
يخافونه.
بیتاكوس
:
هو الذي لا يشتهي شيئًا غير ضروري، ولا يحرم من شيء
ضروري.
خيلون
:
هو الذي يشبه إلى أقصى حد مملكة يحكُمها ملِك.٩
الفتى
:
صعب … صعب أن أختار الأحكم … هل تجيبني أنت يا صولون؟
صولون
:
عن أي شيء يا ولدي؟
الفتى
:
عن رأيك في أفضل دولة.
صولون
:
ألم أتكلم الآن؟
الفتى
:
نعم نعم، لكنني أريد المزيد.
صولون
:
هي التي تكثر فيها الجوائز التي تمنح للفضيلة.
الفتى
:
إجابة أخرى.
صولون
:
هي التي يكرَّم فيها الخيرون كما يُتقى الأشرار.
الفتى
:
وثالثة.
صولون
:
هي الدولة التي فيها
يطيع المواطنون الحكام، أما الحُكَّام فيطيعون القوانين …
الفتى
:
أحكم ما سمعت أذناي … زدني يا صولون.
صولون
:
آخر ما عندي: هي التي يثور فيها على الظلم أولئك الذين لم
يُصَابُوا منه بسوء، كما يثور عليه مَن أُضيروا بسببه سواء
بسواء.
الفتى
:
وأنت يا طاليس؟ هل تظل وحدَك كما قالوا عنك؟
طاليس
:
ألم أُجِب على أسئلتك يا بني؟
الفتى
:
من كان في شُهرتك نتوقَّع منه المزيد.
طاليس
:
اسأل يا بني!
الفتى
:
ما أقدم الكائنات؟
طاليس
:
هو الإله؛ لأنه لم يولد.
الفتى
:
وما أجملها؟
طالیس
:
العالم؛ لأنه مِن خلْق الله.
الفتى
:
وأعظمها؟
طالیس
:
المكان؛ لأنه يستوعب كل شيء.
الفتى
:
وأحكمها؟
طالیس
:
الزمن؛ لأنه يكشف كل شيء.
الفتى
:
وأسرعها؟
طاليس
:
العقل؛ لأنه يتخلل كل شيء.١٠
الفتى
:
وأقواها؟
طاليس
:
الضرورة؛ لأنها تحكم كل شيء.١١
الفتى
(يسرع إليه ويحاول أن يناوله الكأس)
:
رائع! خذه أرجوك!
طالیس
:
بل يأخذه صولون.
صولون
:
لن أغيِّر رأيي … أعطِه لخيلون.
خيلون
:
بيتاكوس أولى به.
بیتاكوس
:
بل برياندر، هو أحكم مني.
برياندر
:
آخُذه وكليوبوليس معنا؟
كليوبوليس
:
مد يدك يا بياس!
بياس
:
إن خارزيس له يدان مثلي.
الفتى
:
الكأس لأحكمكم … اختاروا أحدًا منكم.
الحكماء
:
ليتك جئت ومعك باريس.
الفتى
:
هذا اللص؟ سارق هيلينا؟
الحكماء
:
عندما نشِب النزاع بين الإلهات الثلاثة هيرا وأثينا
وأفروديت، أرسله أبوللو ليحكم مَن هي أكثر جمالًا، ويعطيها
التفاحة الذهبية.
الفتى
:
الكأس إذن من حقِّ أبوللو.
الحكماء
:
ما أحكم هذا القول! إنك أحكم منا يا ولدي … هي من حق أبوللو.
فلتوضع في معبده في ثيبه أو دلفي.
طالیس
:
أو في معبده الأقدس في ديديما، وقريبًا من مسقط رأسي
ملطية.
الحكماء
:
هو أجدر بالكأس الذهبية منا؛ فهو حكيم. أما نحن فأحباب
الحكمة.
الفتى
:
وأنا أحببت الحكماء السبعة، أحباب الحكمة.
الحكماء
:
اذهب ونفِّذْ وصيتنا.
الفتى
:
ووصيتك يا أبي … فتقبَّلْها يا رب الحكمة.
الحكماء
:
وداعًا … وتقبَّله يا رب النور أبوللو … يا ربَّ الحسن ورب
الحكمة والعدل.