الاستطراد الأول: الطبيعة في مكانها

في بادئ الأمر، كنا نحتاج إلى الطبيعة بشدة لدرجة أننا عبدناها. أما الآن، فنحن نحتاج إليها بصورةٍ أقلَّ فأقل. ليس بوسعنا إلغاء نتائج هذا التحرُّر؛ فلا يُمكِننا أن نتحرك إلى الأمام، أبعد وأبعد عن الحاجة التي استحوذَت علينا ذات مرَّة، نحو الحرية التي تُربِكنا الآن.

تمثِّل الحضارة الترياق لاعتمادنا على الطبيعة، وعلى أي حال، فطَوالَ معظم فترات التاريخ الإنساني بقينا عُرضةً للقوى الطبيعية خارجَنا وداخلَنا، لدرجة أننا واصَلْنا تصويرَ ما هو إلهيٌّ على صورة القُوى الطبيعية التي تُمسِك بنا في قبضَتها. كان هذا الإحساس بالضعف، والخوف، والمهابة مرعبًا، لكنَّه لم يكن مأساويًّا. لقد وجدنا مهلةً في قُدراتنا على الاختراع. ومن خلال اختراع المؤسَّسات والماكينات، بدأنا نتغلَّب على قلَّة حيلتنا. وبالاعتراف بأن عقولَنا يُمكِنها تجاوُز أجسادنا الضعيفة وظروفنا المُذلَّة، وصلنا إلى تصوُّر إلَهٍ هو، مثلنا، يسمو فوق الطبيعة.

ونتيجةً لهذا التنامي في القُدرات، تفكَّكَت تجربتُنا مع الطبيعة إلى أربعِ قِطَع، تتسِم كلٌّ منها بموقفٍ متميزٍ تجاه العالم الطبيعي وبصراعٍ مميزٍ بين التطلُّعات. ومن بين هذه الأجزاء الأربعة لتعاملاتنا المعاصرة مع الطبيعة، واحد فقط يحمل العلامات المبكِّرة لاحتياجنا ورُعبنا؛ ويتسم واحدٌ آخر فقط من الأربعة بكونه تراجيديًّا.

  • أولًا: هناك بهجة البُستاني؛ فنحن نتعامل مع الطبيعة كاستعدادٍ للهروب من النزاع والكفاح من أجل الحرية الجمالية. أما كون موضوع هذه الحرية فيجب أن يكون شيئًا وجدناه وليس شيئًا صنعناه، فلا يؤدي إلا إلى زيادة سِحْرها.
    لِمَ لا نحوِّل أجزاءً كاملة من الأرض إلى متنزهاتٍ عالمية لمواساة الناس الساخطين بسبب إحباطات المجتمع؟ نحن نقلق حول كَم يمكِننا أن نسمح لأنفسنا باقتطاعه من الإنتاج لأجل الاستجمام، ونقوم بقلقٍ بحساب شروط مقايضة سهول التندرة١ بآبار النفط أو الأحراش بالورق. إن الحقيقة، على أي حال، هي أننا كلما ازددنا ثروةً ومهارةً ومع استقرار النمو السكاني، أمكنَنا أن نُحوِّل المزيد من الأماكن إلى حدائق. ويُمكِن أن تُساعِد أدواتُنا الميكانيكية والتنظيمية على عزلِ جُزءٍ من الأرض عن الحِيَل الأخرى.
  • ثانيًا: هناك مسئولية المُشرِف. نحن ننظُر إلى أنفسنا كمديرين، مسئولين عن الأجيال القادمة، لصندوق استهلاك الموارد غير القابلة للتجديد. ونحن نُوازِن بين الدعوة إلى الاستهلاك مقابلَ واجبِ التوفير، وهو قلقٌ مبنيٌّ على وَهْم. في التاريخ الحديث حتى الآن، لم يسبق للحاجة — أُم الاختراع — أن فشلَت في انتزاع استجابةٍ علميةٍ وتقنيَّة لنُدرَة الموارد، مما يتركنا أغنى مما كنَّا من قبلُ. وإذا كان للأرضِ نفسِها أن تُهدِر، كنَّا سنجد طريقةً للهروب منها إلى التخوم الأخرى من الكون، وكنا سنعود لاحقًا لزيارة كوكبنا المهجور والبغيض من أجل إعادة تخصيبه ومعاودة الإقامة فيه قبل نهايته المُلتهِبة. هل ستجفُّ المياه؟ هل سيَنفَد النِّفط؟ من المفيد أن نقلَق وبالتالي أن نتعقَّل. ومن الحماقة إنكار أنه ليس هناك حدثٌ مثل هذا أثبت حتى الآن كونه نظيرًا للإبداع.
  • ثالثًا: هناك عَجْز المخلوقات الفانية. وهناك جزءٌ صغير فقط من سكان العالم يحتمل الآن أن تهدِّده الكوارث الطبيعية التي أرهقَت أسلافنا — وهو عددٌ أصغر إلى حدٍّ بعيد من عدد ضحايا أيٍّ من الأمراض الرئيسية التي ما زلنا مُبتلَين بها. وحتى الفيضانات والجفاف بدأَت تتخلى عن الرعب الذي تُحدِثه بسبب الحذَر التقني، والاستبدال التجاري، والهجرة من الرِّيف الى الحضَر. وهناك، على أيِّ حال، أحد مجالات التجربة الذي نُواصِل فيه المعاناة كما عانت البشرية دائمًا حتى استخدمَت العقلَ لاكتساب الهيمنة على الطبيعة وهو تعاملاتُنا مع المرض والموت. ولكوننا مرعوبين ومشتَّتي الانتباه، مع شكِّنا في كلٍّ من قُدراتِنا الخاصة وفي العناية السماوية، فنحن نُحاوِل معالجة الأمراض التي تبدِّدنا، ونحلُم بالحياة الأبديَّة.
  • رابعًا: هناك التناقُض الوجداني للعمالقة. أما وأنَّنا نحتاج إلى الطبيعة بدرجةٍ أقلَّ، فنحن نُواجِه صراعًا نجا منه أسلافُنا العاجزون. وبوُسعنا أن نشكِّك في تأثيراتِ أفعالِنا على الطبيعة الحية وغير الحية التي تُحيط بنا.
نحن نتساءل عما إذا كان علينا ألا نُضحِّي برغباتنا الأنانية من أجل مشاركةٍ شعوريةٍ أكثر شمولية، ومع ذلك فنحن لسنا آلهة، فقط أنصاف آلهة demigods، أقوى من أن نكونَ لا مبالين، وأضعف من أن نتخلَّى عن ممارَسة امتيازاتِ سطوتنا على أشكال الحياة، أو حتى الكائنات غير الحية، التي نتشارك معها في عالمنا. وهنا، أخيرًا، يظهر نزاعٌ لا يُمكِننا أن نأمل في تسويته، ولكن في تحمُّله، وفَهمه، وتوجيهه فقط.

أصبحَت تجربتُنا مع الطبيعة ممزَّقة الآن إلى هذه القصاصات الأربع. أين وكيف، وسط الارتباك الناتج، يُمكِننا العثور على التوجيه؟ ماذا عسانا أن نفعل بانتصارِنا الناقصِ على الحاجة إلى الطبيعة؟ وفي أي اتجاهٍ يجب أن ندفَع تقدُّمنا؟ وأي قيود يجب أن نحترمَ ونحن نفعَل ذلك؟

ليست التجريدات الرمادية، الصمَّاء لتناقُضات التجربة، بل ثمَّة مفهومٌ بسيط، قريب من أرضية التاريخ الذي أوصلَنا إلى قوَّتنا الحالية، هو ما نحتاجُ إليه. أما القدرة على البقاء منفتحين على المستقبل — على الأنماط المستقبلية البديلة — فتُثبِت أهميتها الحاسمة. لنتدبَّر جانبَين لوجهة النظر ذاتها، يخاطب أحدُهما سيطرتَنا على الطبيعة الواقعة خارجَنا، ويتعلق الآخر بتجارِبنا مع الطبيعة بداخلنا.

نحن مضطَرِبون في الطبيعة لأن العقل يكَثِّف ويركِّز انتشارًا للنوعية في الطبيعة؛ فالعقل لا ينضب وبالتالي يتعذَّر اختزاله ولا يمكن احتواؤه. وليس هناك سياقٌ محدود، من الطبيعة، أو المجتمع، أو الثقافة يُمكِنه استيعابُ كلِّ ما يمكننا — نحن النوع، ونحن كأفراد — أن نفكِّر فيه، ونلمَسَه، ونفعَلَه. إن دافعيَّتَنا، بما في ذلك دوافعنا لتأكيد سيادتنا على الطبيعة، تنبُع من لانفاديتنا. علينا ألا نقوم، ونحن لا نستطيع ذلك غالبًا، بقَمع المبادرات التي نعزِّز فيها سيطرتَنا على الطبيعة، باسم البهجة، أو الإدارة، أو التبجيل.

وعلى الرغم من هذا، لدينا مبرِّر لكفِّ أيدينا من وقتٍ لآخر، وأن نُمدِّد تدريجيًّا تلك المناطقَ من الكوكب والأجزاء من كل حياةٍ إنسانية تلك التي خصَّصْناها للأنشطة المتحرِّرة من طغيان الإرادة وأوامر المجتمع. وعن طريقِ تقسيمِ وقتِنا بين الإخضاع المتواصل للطبيعة وبين إعادة الالتقاء البسيطة بها، بدلًا من محاولة إخضاع البروميثيانية٢ للتقوى، يُمكِننا أن نحذَر من تحويلِ أنفسِنا إلى وحوشٍ همجية.

لنتدبَّر الآن جانبًا آخر من وجهة النظر نفسها. إن مجتمعاتِنا وثقافاتِنا تجعلُنا مَن نحن. وعلى أي حال، هناك دائمًا ما هو أكثر فينا — فينا، نحن الإنسانية، وفينا، نحن الأفراد — مما يُوجَد أو مما يُمكِن أن يكون فيها.

وهي تُشكِّلنا، بينما نحن نحوِّلها — بسهولةٍ أكثَر وباستمرارٍ إذا ضاعفَت المناسَبات، وقوَّت الأدوات، المتعلِّقة بتجريبيَّتنا. ليس لدينا مصلحةٌ أكبر من مصلحتِنا في ترتيب المجتمع والثقافة بحيث يتركان المستقبل مفتوحًا ويدعوان لمراجعَتِهما الخاصة.

في ظل الديمقراطية، تكتسب هذه المصلحةُ أهميةً قصوى؛ لأن الديمقراطية تمنَح الرجال العاديين والنساء العاديَّات، القدرةَ على إعادة تخيُّل وإعادة صُنع النظام الاجتماعي. ولهذا ففي ظل الديمقراطية، تتحدث النبوءة بصوتٍ أعلى من الذاكرة؛ ولهذا يكتَشِف الديمقراطيون أن جذورَ أي إنسانٍ تكمُن في المستقبل وليس في الماضي. في أي نظامٍ ديمقراطي، يجبُ أن تتحدَّث المدرَسة لأجل المستقبل، وليس نيابةً عن الدولة أو الأسرة، بتزويد الطفل بالأدوات التي تُمكِّنه من إنقاذ نفسه من تحيُّزات أسرته، ومصالحِ الطبقة التي ينتَمي إليها، وأوهامِ عصره.

يُمكِن لهذه الأفكار أن تنوِّر جهودَنا لتثبيتِ الطبيعةِ بداخلنا، من خلال الهندسة الوراثية. لا شيء يجب أن يمنعَنا من التلاعُب ببِنْيتنا الطبيعية، المكتوبة في الشفرة الجينية، لتفادي الأمراض والتشوُّهات. أما المكان الذي علينا أن نتوقَّف فيه فهو النقطة التي يَسْعى فيها الحاضر لتشكيل بشرٍ سيُنتِجون مستقبلًا مرسومًا على صورته هو. «دعِ الموتى يَدفِنوا الموتى» هو ما يجب أن يردَّ به المستقبل، عَبْر أصواتِنا، على الحاضر. إن ترك المستقبل يذهب طليقًا يُظهِر أكثر من القوَّة؛ فهو يُظهِر الحكمة.

١  Tundra: التَّنْدَرة: سهلٌ أجرد في المنطقة القطبية الشمالية. (المترجم)
٢  Prometheanism: البروميثيانية: نسبة إلى بروميثيوس، في الميثولوجيا الإغريقية، وهو سارقُ النار من الآلهة ومعلِّم البشرية استِخدامَها. وتَمضي الأسطورة إلى أن زيوس — كبير الآلهة — عاقَبه بأن قيَّده بالسلاسل وأرسل إليه نسرًا ينهش كبده، لكن هذه الكبد كانت تتجدَّد على نحوٍ مستمر، قبل أن يُنقِذه هرقل في النهاية من هذا البلاء. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤