الاستطراد الثاني: الشبكة العالمية للفلسفة

في التاريخ العالمي للفلسفة، هناك عددٌ صغير من الخيارات الفكرية التي لا تفتأ تتكرَّر. وعلى أي حال، فإن الطريقة التي تتكرَّر بها في ذلك الجزء من الفلسفة الذي يَعرِض التعامُل مع كل الحقيقة — أي الميتافيزيقا — كانت مختلفةً تمامًا عن الطريقة التي تتكرَّر بها في الفلسفة العملية التي تتعامل مع الحياةِ الاجتماعية والفعلِ الإنساني؛ السياسة والأخلاق.

في الميتافيزيقا لا يحدُث إلا أقلُّ القليل، بل إن ما سيحدُث كان سيكون أقلَّ لولا تأثيرُ قوَّتَين اثنتَين. تتمثَّل القوَّة في أن الفلاسفة مختلفون، في المزاج والظروف، حتى قبل أن يَشرَعوا في التفكير، وأنَّهم موجَّهون بفعلِ الطُّموح وكذلك بواسطةِ الحماسِ لتعميقِ الاختلافاتِ بينهم. أما القوة الثانية، فقد تمتَّعَت بأهميةٍ متزايدة خلال القرون القليلة الماضية، وهي أن العلوم الطبيعية تتغيَّر. يجب أن تتكيَّف الميتافيزيقا لمثلِ هذا التغييرِ ما لم يكُن بوُسعها إجبارُ العِلم على المراوغة؛ الأمرُ الذي يُمكِنه القيامُ به تقريبًا. ولأن قليلًا جدًّا هو ما يحدُث في الميتافيزيقا، يُمكِن للميتافيزيقيين أن يُقنِعوا أنفسَهم أحيانًا بأنهم اكتشَفوا، بشكلٍ نهائي، أكبَر قَدْرٍ من العالَم يُمكِن للعقل الإنساني أن يُدرِكَه، وهو ما يَعْنون به عمومًا ذلك الجزء الأكثر أهميةً من العالَم.

في الفلسفة العملية للسياسة والأخلاق، هناك قليلٌ من المواقف الفكرية، التي تم تطويرها في مفرداتٍ مختلفة، مثَّلَت بدَورها الجزء الأكبر من أشد الأفكار تأثيرًا. وعلى أي حال، هناك كثيرٌ مما يحدُث، أو يُمكِن أن يحدُث، وأحيانًا بسرعةٍ جدًّا. إن صراعًا بين المواقف الفلسفية الذي قد يبدو في بادئ الأمر غيرَ قابلٍ للحل، يتم في الحقيقة حلُّه في اتجاهٍ معيَّن، بتوجيه الفِكر إلى سياقٍ من التغيير التراكُمي بدلًا من التَّكرار أو التذبذُب السرمدي.

لقد انتظم تاريخ الميتافيزيقا حول محورٍ جوهريٍّ وحيد يتعلق بالبدائل الفكرية. وتتعلق هذه البدائل بعلاقة الوجود بالمظهر، وبالتالي أيضًا بعلاقة الوجود بالمعرفة. نحن أكثر معرفةً بالتعبير عن المواقف البديلة الرئيسية في فئات تقليدنا الفلسفي الغربي، ولقد تعلَّمنا أولًا من الإغريق القدماء تلك الكلماتِ التي نُسمِّيها بها. وعلى أي حال، فلَدَيها مقابلاتٌ قريبة في الفلسفةِ الهندية والصينية، وكذلك في كتاباتِ الفلاسفة المسلمين الذين طوَّروا فكر الإغريق القدماء بطرقٍ مختلفة عن تلك التي ترسَّخَت في أوروبا القرون الوسطى والحديثة.

في إحدى نهايتَي هذا المحور، تقع فكرة أن العالم الظاهر للاختلاف والتدفُّق ليس حقيقيًّا، على الأقل ليس في النهاية؛ فهو ظاهرةٌ إضافية epiphenomenon؛ ناتجٌ صنعيٌّ لإدراكنا للعالم. والوجود واحد. ما دمنا حقيقيين، فنحن نُشكِّل جزءًا منه. أما نظرية العالَم الظاهر، في تنوُّعه وتحوُّله، فهي — في هذا الوصف — مجرد وهم. ويُمكِننا أن نُنقِذ أنفسَنا من هذا الوهم بالتعلُّق بما أسميتُه في مقطعٍ سابق واسمه ليبنيتز؛ أي الفلسفة الدائمة. وتَعرِض المبادئ الأخلاقية التي وضعَها اسبينوزا نسخةً من وجهة النظر هذه تُحاوِل فهمَ نتائجِ العلم المبكِّر — الحديث.
وعند نقطةٍ أبعدَ بطول هذا المِحوَر، في اتجاه التقبُّل الأكبر لحقيقة العالم الظاهر، يقعُ مذهبُ النماذجِ البَدْئية الخفيَّة. إن نظرية أفلاطون للأشكال (كما استكشفها بارمنيدس)١ تبقى هي المثال الكلاسيكي. وهناك تراتُبيةٌ لأشكالِ الوجود. وتُظهِر اختلافات وتحوُّلات العالَم الظاهر مجموعةً متنوِّعة من الأصناف الطبيعية أو الأنماط الأساسية؛ ويكمُن أصل كلٍّ منها في النماذج البَدْئية. وكلَّما كان الوجودُ حقيقيًّا أكثر، كان أقلَّ ظهورًا، وكلما كان أكثر ظهورًا، كان حقيقيًّا بدرجةٍ أقَل. أما المعرفةُ الحقيقية، التي لا يُمكِن اكتسابُها إلا بتكلفةٍ باهظة، فهي معرفةُ النماذجِ البَدْئية الخفيَّة لكن الجمعيَّة، وليست تعبيراتها الغامضة والعابرة في العالم الظاهراتي.

وإذا تحركنا أكثر في اتجاه محاوَلةٍ للمحافَظة على المظاهر، نحو ما قد يبدو النقيضَ المتطرِّف لمذهبِ أحديةِ الوجود، فسنجدُ أنه ليس متطرفًا كما توقَّعنا. أما الشخصُ الميتافيزيقي ككائنٍ واقعي، والمُصمم على التمسُّك بشدة بعالَم الأشياء الظاهرة، فيحتاج بطريقةٍ ما إلى المظهَر في البِنْية إذا أراد كسبَ صَفقةٍ على الحقيقة التي يَسْعى إلى دعمها. وعن طريقِ عملِ ذلك، يُصبِح أقربَ ما يكونُ إلى مبادئ الواقعية البديهية التي كانت دائمًا بمنزلة الشريك التجاري لهذا الموقف الميتافيزيقي، فهي تُمِدُّه بالمعتقَدات وتستقبلُها منه.

وفي غيابِ مثلِ هذه البِنْية تحت سطحِ المظهر مباشرة، سيحلُّ العقل عالَم المظاهر إلى لااختلاف in-distinction وسيفتقر إلى الوسائل التي تُمكِّنه من عرض الظواهر والأحداث الفردية تحت ضَوءِ بِنْيةٍ مطلَقةٍ بعَينها. ونتيجةً لذلك، سيبدأ بفَقد الوضوحِ فيما يتعلق بالحدود الفاصلة بينها، وأثناءَ غَوصِه في الجليد الهَشِّ، سيُخاطِر جهد المحافظة على المظاهر بالتحوُّل إلى نقيضه المُفتَرَض؛ أي مذهب أحديَّة الوجود. وقد ظهرَت مثلُ هذه الظاهرة المتطرِّفة من وقتٍ لآخر في تاريخ الميتافيزيقا، لكنها لم يسبق أن نجحَت في منع جهد المحافَظة على المظاهر من الانقلاب على نفسه.
تمثَّل حلُّ هذه المشكلة في تاريخ الفلسفة في العديد من التقاليد والحضارات المختلفة في التوقُّف قبل خطوةٍ واحدةٍ من الخطوة الأخيرة. يتخيَّل الميتافيزيقي أنه تحتَ سطحِ المظاهرِ مباشرةً تُوجَد بِنْية لأنواع الوجود؛ وأنه من المشتمل في تلك البِنْية مجموعة من النظاميات التي تحكُم تحقُّق الأصناف في الظواهر والأحداث الفردية. أما الشكلية المادية hylomorphism التي نادى بها أرسطو — أي مذهبه حول الشكل والمادة — كما عَرضَها في كتابه المُعَنوَن «الميتافيزيقا»، فهي المثالُ الأكثر شهرةً لمثل هذه البِنْية، كما أن مذهبَ كَونِ كل صنفٍ يهتمُّ بتطوير البراعة المتأصِّلة فيه هو الحالة النموذجية لمثل هذه النظاميات.

وعلى أي حال، فهذا الحلُّ يخلُق مشكلةً أخرى؛ فإذا كانت بِنْية الأصناف ونظام تحقيقها ليس ظاهرة، فكيف يُمكِننا منعُها من إبقاء الحقيقة المطلَقة للوجود الفردي بعيدةً عن متناوَلَنا فحسب؟ إن الفرد هو الجائزة — ليس فقط الشخص الفردي ولكن أيضًا الظاهرة الفردية أو الحدَث الفَردي — وعلى أي حال، فإن الفرد، كما يذكِّرنا أرسطو، يفوق الوصف. لنَفترِض أننا نُدرِك خواصَّ الظاهرة الفردية أو الحدَث الفردي بتضمينها في قائمةٍ طويلة من الأنواع؛ سيُخرِج كل نوعٍ أكثَر قليلًا من خصوصية الحدث أو الظاهرة. وفي النهاية، على أيِّ حال، سيبقى المخصوص حدًّا بعيدَ المنال.

نحن نُخاطِر بالموت عطشًا لأجل الشيء الحقيقي، مع تمديد مفاهيمنا المفعَمة بالأفكار إلى الحقائق التي تبقى بعيدةً عن متناولها. ومن هذه المشكلة الثانوية ومن المخزون المألوف من الحلول المجرَّبة وغير الحاسمة لها، تظهر مجموعةٌ مألوفةٌ من النزاعاتِ في التاريخِ العالمي لهذا الخيار الميتافيزيقي.

إن العالِم الطبيعي، أو عابد العلوم الطبيعية، قد يُحاوِل الهربَ من هذا القَدَر — أي الفشل في الوصول إلى بقية الخصوصية في المخصوص — عن طريق القيام بخطوتَين اثنتَين. أولًا، قد يُصِر على أن ينسب لمفاهيمِ وأصنافِ علمِه حقيقةً غير خلافية؛ وقد يُفكِّر بها كتخميناتٍ ومجازات، تبرِّرها التدخُّلات والتطبيقات التي تنوِّرها، أقلَّ من التفكير بها كجزءٍ من أثاثِ الكون. ثانيًا، يُمكِنه أن يطرح البقية المخصصة لما هو ظاهر — أي الجزء الذي يفشَل في أن يلتقط من قبل الأصناف التي يُقسم فيها العالم، وبواسطة العلاقات الشبيهة بالقانون للفعلِ وردِّ الفعل التي يدَّعي الكشف عنها — باعتبارها بقيةً غيرَ مهمة، أو ناتجًا ثانويًّا عن زواج الضرورة بالمصادَفة.

وعلى أي حال، لا يُمكِننا إلا عن طريق الهلوسة أن نُخطئَ في أفكارِ العلمِ باعتبارِها بِنْية العالم. إن ما يُبدِّد هذه الهلوسة ويُعيدُنا إلى حَيْرتنا ليس اعتراضًا ميتافيزيقيًّا؛ بل هو تاريخ العلم. إن الأفكار العلمية تتغيَّر، وذلك بصورةٍ جذرية أحيانًا. ويستنزفُ تدميرُها بصورةٍ دورية قدرتَنا على إقناعِ أنفسِنا بأنها الطبيعةُ ذاتها وليست من بنات أفكارنا. ولكونِنا محرومين من الهَلْوَسة المواسية، نجد أننا بِعنا بسعرٍ بخس، مقابلَ سِلعٍ مزوَّرة، الاشتياقِ لأن نُدرِك في العقل تفاصيل العالم الظاهراتي.

إن تكرُّر هذه البدائل الفكرية في تاريخ الميتافيزيقا هو من الشمول والاستدامة بحيث لا يُمكِن اختزالُه إلى قوة التقليد والتأثير. إن ما قاله كانط Kant عن تناقُضات المنطق ينطبقُ أيضًا على هذه الأحجيات؛ أنها ناتجةٌ عن تجاوُزٍ للعقل. بَيْدَ أن هذا التجاوُز، على أي حال، ليس ضروريًّا. ويُمكِننا أن نُوقِفه؛ ولذلك علينا أن نقوم بذلك.
من الأفضل أن تُسمَّى الميتافيزيقا بالميتا إنسانية metahumanity؛ فطموحُها السري يتمثَّل في أن نرى أنفسَنا من الخارج، من بعيد ومن أعلى، كأنَّنا لسنا أنفسَنا بل الله. لكنَّنا، على أي حال، لسنا الله.

لا يُمكِننا البدء بتأليه أنفسنا، قليلًا قليلًا، حتى نعترف بهذه الحقيقة. إن إجحافَ المذهب الطبيعي — أي الرؤية من منظور النجوم — هو بداية المشاكل التعجيزية والبدائل غير المرضية التي اكتنفَت أفكارَنا الميتافيزيقية حول علاقة الوجود بالمظهر.

أما التاريخ العالمي للفلسفة العملية فيَعرِض موقفًا مختلفًا تمامًا؛ فهنا أيضًا نجد ذخيرةً صغيرة من المشاكل والحلول المتكرِّرة. لكنَّ شيئًا ما، على أي حال، يُمكِن أن يحدُث، وقد حدث بالفعل، والذي يغيِّر كل شيء. ليس للفكر السياسي والأخلاقي حاجةٌ إلى الميتا إنسانية، وقد ثبَت أن هذه الحقيقة هي خلاصُهما.

إن السؤال المِحوَري في النظرية السياسية هو: ما الذي يُسبِّب، ويجب أن يُسبِّب تماسُك المجتمع، مما يُمكِّن الرجال والنساء من التمتُّع بمنافع الحياة الاجتماعية؟ هناك حلَّان مقيدان؛ وبسبب تطرُّفهما وتحيُّزهما، يتضح أن كلًّا منهما غيرُ كافٍ. وعلى الرغم من هذا، يحتوي كلٌّ منهما على العناصر التي يجب أن تُستخدَم من قِبل أي تسويةٍ تتم في الفضاء الأوسط الكبير الذي تحدِّده مثل هذه الحلول المتطرِّفة.

عند أحد الحدَّين، تتمثَّل إجابة السؤال في الإجبار، المفروض من أعلى. وعند الحدِّ الآخر، تتمثَّل الإجابة في الحُب، الممنوح من الناس بعضهم إلى بعض.

أما الحاكم، فبعد أن اكتسَب القوة، فسيضَع حدًّا للصراع الذي لا يلين من قِبل الكُل ضدَّ الكُل. وسيُحاوِل، إلى أقصى حدٍّ مُمكِن، تحقيق احتكارٍ للعنف، ويُمكِنه حينئذٍ أن يَعرِض على المجتمع خيره الأكثر أساسية — أي الآمن — الذي لا يُمكِن للناس من دونه السعيُ لتحقيق جميع أنواع الخير الأخرى.

وعلى أي حال، فسرعان ما سيكتشف من يجلب السيفَ أنه يحتاجُ إلى أدواتٍ إضافية لكي يحكُم. بادئ ذي بَدْء، فلِكَي يعزِّز حكمه، عليه أن يحطِّم كل التنظيمات المتوسِّطة لمجرد أنها مُنافسةٌ لسلطته، ومن ناحيةٍ أخرى، فما لم تُصبِح القوَّة سلطة، باكتساب الشرعية في نظر المحكومين، فسيبقى التمرُّد دائمًا وفي كل مكان. وعاجلًا أم آجلًا، سيستسلم الخوفُ للطموح.

وإذا لم يكن الإجبار كافيًا، فلن يكون الحُب كذلك. ويُمكِن أن يرتبط الناسَ بعضهم ببعض بكلٍّ من المشاركة الشعورية والارتباط الشهواني، وتكمُن الصعوبة هنا في ضمان كلٍّ من ثبات وانتشار هذه القوة؛ فهي تتذبذب، ومع تحرُّكِها عَبْر فضاءٍ اجتماعيٍّ أكبر، فهي تضعُف. وهنا تتحوَّل المشاركة الشعورية الموهنة إلى ثقة، فيما يصبح الارتباط الجنسي إخلاصًا أو ولاء.

الإجبار والحُب كلاهما غيرُ كافيَين. وكلاهما، على أي حال، من الدعائم الضرورية للارتباط الاجتماعي. وكلاهما دافئ؛ ومن ثَم يجبُ تبريدُهما. في الفضاء المتوسِّط الأبرد للحياة الاجتماعية، نجد قانونًا وعقدًا. يتحوَّل العُنف القَسْري إلى الضمان المتأخر والمطلَق للممارَسة المؤسَّساتية والنظام القانوني. أما الحُب، عندما يَنتشِر ويتغَلغَل، فيُلقي بظلاله على إيماننا بعضِنا ببعض، وخصوصًا على القدرة على الثقة بالغرباء بدلًا من اقتصارِها على الأعضاء الآخرين لجماعةٍ تربط بينهم قَرابة الدم.

إنَّ حُكمَ القانون وتجربةَ الثقة بين الغرباء، يدعمُهما في النهاية الإجبار المُنظم والحُب المنتشر، وهما من الأدوات الثلاث الضرورية للمحافظة على الترابُط الاجتماعي. أو هذا ما تعلَّمناه في التاريخ العالمي للنظرية السياسية. وهما أداتان تتَّسِمان بالهشاشة. أما الطرق المختلفة لفَهْم هشاشتهما، وتعويضها، فتفسِّر العديد من الخيارات الرئيسية في تاريخ الأفكار السياسية.

يصبح القانون أكثر ضرورةً كلما ازداد اختلافُ الناس بعضِهم عن بعض، وازداد مدى الاختلافات التي يخلُقونها. وعلى أي حال، فإذا أصبحَت مثل هذه الاختلافات المتعلقة بالتجربة، والاهتمام، والقيمة، والرؤية هائلة، فستنهار القاعدةُ المشتركة التي يُمكِن من خلالها للقانون أن يفسَّر ويفصَّل، ويطبَّق. وحيثما تبلغ الحاجة إلى القانون أقصاها — في وجود تباعُدٍ جَذريٍّ بين التجربة والرؤية — تكون فعاليتُه في أدنى مستوياتها.

ومن الناحية الأخرى، لا يُمكِن للثقة أن تستغني بسهولة عن الروابط المُقرَّة — في الحقيقة أو في الخيال — بالدم. وعندما تستغني عنها، فمن المرجَّح أن تكون هذه هي الثقة المنخفضة المطلوبة، على سبيل المثال، من قِبل الشكل التقليدي لاقتصاد السوق — وهو شكلٌ مبسَّط للتعاون بين الغرباء — وليست الثقة العالية، المطلوبة كخلفيةٍ لأكثر الممارَسات تقدُّمًا، والمتمثِّلة في التعاون والتجريبية التعاونية.

ولذلك يجب أن يُضاف شيءٌ ما إلى حكم القانون وإلى الثقة الدنيا. وهذا العنصر الثالث هو التقسيمُ الاجتماعيُّ للعمل، الذي يزوِّده نظامٌ تراتُبي من الطبقات أو الطوائف. ولا يكفي أن تُستحضَر الحقائق العنيفة لمجتمع الطبقات؛ بل يجب أن تغلَّف في أفكارٍ مطهَّرة ومقدَّسة. هناك مفهومٌ واسعُ الانتشار مفادُه أن المجتمع يقسَّم طبيعيًّا وفقًا للطبقات أو المراتب، والتي تتشكَّل بفعل توزيع الأقدار الاجتماعية والأهليات الفردية عند الولادة. وهذا الاعتقاد، الشائع بين الشعوب الهندو-أوروبية القديمة، بوجود تقسيمٍ طبيعي للمجتمع إلى ثلاثِ مجموعاتٍ رئيسية — واحدة منوطة بالاسترضاء والإرشاد، والثانية بالقتال والحكم، والثالثة بالعمل والإنتاج — هو المثال التاريخي الأكثر أهمية على مثل هذا المفهوم.

يجب تزويدُ تفسيرٍ لسبب وجوب تقبُّل الحدث الظاهر للولادة في طبقةٍ اجتماعيةٍ معيَّنة، بامتيازاتها أو أوجُه قصورها الموروثة، ولماذا يجب أن يُنظر إليه على أنه يُشير ضمنًا إلى توزيعٍ طبيعي للمواهب اللازمة لعمل كلٍّ من الطبقات الاجتماعية. وعلى سبيل المثال، فإن موقعَ كُلِّ شخصٍ في مثل تراتُبية الولادة هذه قد يتحدَّد بواسطة ما حقَّقه كلٌّ منهم، أو فَشِل في تحقيقه، خلال حياةٍ سابقة.

إن التراتُبية الخارجية للطوائف والطبقات تدعم، وبالتالي تستمدُّ العونَ من ترتيبٍ داخلي للعواطف؛ التنظيم الصحيح للمَلَكات المختلفة للروح الإنسانية، مع هيمنة المنطق على الصراع؛ حيث يستمد الصراع طاقتَه من الشهوة والقوة الجسمانية، أما التنافُر الاجتماعي والخلَل الأخلاقي فيتغذَّيان أحدهما على الآخر.

إن الطرقَ المختلفةَ التي فيها القانون، والثقة، وتقسيم العمل المرتبط بالطبقات يُمكِن، ويجب، أن تكون مترابطة، مقابل الخلفيتَين السرمديتَين للإكراه والحُب، تُولِّد الذخيرة المألوفة للمُشكِلات والمواقف في تاريخ الأفكار السياسية في جميع أنحاء العالم. وجميعها تبدو مشابهة، في طبيعة، ولكن ليس في محتوى، تاريخ الميتافيزيقا؛ مجموعة صغيرة من المخاوف والأفكار المُعاد توحيدُها إلى ما لانهاية مع اختلافاتٍ بسيطة.

وهي تبدو على هذا النحو فقط حتى يتغيَّر كل شيء. وما يغيِّر كلَّ شيء في التاريخ العالمي للفكر السياسي هما تطوُّران مرتبطان؛ وكلٌّ منهما، في الوقت نفسه، هو تغيُّر في أفكارنا الاجتماعية وتحوُّل في الترتيبات العملية للمجتمع.

إن التطور الأول الذي يغيِّر كل شيء هو الزعزعة البعيدة عن الكمال والناقصة لفكرة مجتمع الطبقات؛ أي وجود تقسيمٍ اجتماعيٍّ تراتُبي للعمل، أقرَّته الضرورة الطبيعية، إن لم يكن من قِبل سلطة مقدَّسة، بَيْدَ أن الاختلافات بيننا، على أي حال، تفشَل في المرور بجميع المراحل؛ فالتنظيم الطبقي للمجتمع — والذي، في شكله المعاصر المُوهن، لا يزال يُكرَّر بواسطة الانتقال الوراثي للأفضليات الاقتصادية أو التعليمية من خلال العائلة — ليس، وفقًا للفكرة الجديدة، حقيقةً طبيعية أو ثابتة. ويعتمد محتواه في أي زمانٍ كان وفي أي مكانٍ بعينه، على طبيعة المؤسَّسات الراسخة والمعتقَدات السائدة.

إن الاختلافات الهائلة في حجم وكذلك في اتجاه المواهب بين الأفراد يجب ألا تتجاوز الاعترافَ بإنسانيتنا المشتركة وبواجب الاحترام المتساوي الذي يؤدِّي إليه هذا الاعتراف. علينا ألا نُنكِر أو نقمَع، عن طريق الفشل في تقديم الدعم المادي أو التشجيع الأخلاقي، المذهبَ الأساسي لأي حضارةٍ ديمقراطية؛ أن الرجال العاديين والنساء العاديات يُمكِنهم الارتقاء بأنفسهم وأن يغيِّروا العالم. وعن طريق تحسينِ ممارساتهم التعاونية وتجهيزِ أنفسهم بأفكارٍ وماكيناتٍ أكثر قوة وكذلك بممارساتٍ ومؤسَّساتٍ أفضل، يُمكِن للناس العاديين أن يجعلوا المشاكل الهائلة تستسلم للتأثيرات التراكُمية للحلول الصغيرة. يمثِّل هذا الإبداع مظهرًا بسيطًا من مظاهر قُدرتنا على فعل أكثر مما يُمكِن للتنظيم الحالي للمجتمع والثقافة أن يتحمَّلَه بسهولة.

أما التطور الثاني الذي يغيِّر كل شيء، فهو توسُّعٌ هائل ومفاجئ في الذخيرة المُفترَضة للإمكانيات المؤسَّساتية في المجالات المختلفة للحياة الاجتماعية. إن مقتضيات فكرة أن المجتمع يفتقر إلى أيِّ شكلٍ طبيعي تتخذ بُعدها الكامل عندما نبدأ بتخليص أنفسنا من أوهام الضرورة الخاطئة؛ أخطاء النظرية الاجتماعية الأوروبية الكلاسيكية — بفكرتها المميزة لوجود سلسلةٍ تطوُّرية مُقدرة للأنظمة المؤسَّساتية غير القابلة للتجزئة — والعلوم الاجتماعية المعاصرة — بتَتْفيهِها المُعقْلن rationalizing trivialization للانقطاع البِنيوي في التاريخ.

إن مصالحنا، ومُثُلنا العليا، وهُوياتنا تبقى رهينةَ الممارسات والمؤسَّسات التي نقبل بها كتحقيقٍ عملي لها. وعن طريق التلاعُب المحفز والموجه بهذه الترتيبات، نحن نُجبِر أنفسنا على مراجعة فَهمنا لتلك المصالح، والمُثُل العليا، والهويات. ونحن نقوم في الوقت نفسه بتنوير وتسريع الديالكتيك بين إصلاح المجتمع ومراجعة معتقداتنا حول أنفسنا.

إن الاقتناع بأن الانقسامَ الطبقيَّ يفشل في المرور بجميع المراحل يتحدُ بصورةٍ جذرية مع تضخُّم التخيُّل المؤسَّساتي لتوسيع إحساسنا بالبدائل. ومن بين نتائج هذا التقدُّم المفاجئ، نجد القدرة على تطوير الشروط الأربعة الرئيسية للأشكال الأكثر تطورًا من التجريبية التعاونية؛ وبالتالي فإن النتيجة تتمثَّل أيضًا في تخفيف التداخُل بين الحتميتَين الكبيرتَين للتقدُّم العملي في الحياة الاجتماعية والاقتصادية — وهما التعاون والإبداع.

إن الشرط الأول هو تطوير الهبات الاقتصادية والتعليمية المحسِّنة للمقدرة. وتتشكَّل هذه الهبات بالترتيبات التي — برغم أنها تسحَب شيئًا من جدول أعمال السياسة القصيرة الأمد — تعرَّف على أنها حقوقٌ أساسية، والتي تصلِّب الفضاء الاجتماعي والاقتصادي المحيط بصورةٍ طفيفة فقط. أما الشرط الثاني فهو تدمير أوجُه عدم المساواة المتحصِّنة والمتطرِّفة فيما يتعلق بالفرص، بالإضافة إلى رفض الالتزام بالمساواة الصارمة في الموارد والظروف. ويتمثَّل الشرط الثالث في انتشار دافعٍ تجريبي عَبْر كلٍّ من المجتمع والثقافة، وهو دافعٌ تغذِّيه المدرسة، أما الشرط الرابع فهو تفضيل الخطابات والممارَسات التي تجعل التغيير داخليًّا في الحياة الاجتماعية، مما يقلِّل اعتماد التحوُّل على الأزمة.

تزوِّد كل هذه الشروط بدورها فرصًا للتجريب مع المؤسَّسات والممارَسات، والطرق. وليس منها ما يمتلك تعبيرًا مؤسَّساتيًّا غيرَ خلافي وواضحًا، وهي تقوم بتقوية ممارَسات التجريبية، سواء بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة. وهي تفعل ذلك بصورةٍ مباشرة بتخفيف قبضة أي مخطوطةٍ مغلَقة حول أشكال الارتباط، كما تفعل ذلك بشكلٍ غيرِ مباشرٍ بجعل الأمرَ أقربَ احتمالًا، فيما يتعلق بتعامُلنا بعضِنا مع بعض، لأن يتمكَّن الغرباء من تجاوُز الثقة المنخفضة التي يتطلَّبها الشكلُ التقليدي من اقتصاد السوق إلى الثقة العالية التي تتطلَّبها الممارَسات التعاونية الأكثر خصبًا.

إن التزاوج بين فكرة أن التقسيم الطبقي يفشل في مسِّ أُسسِ إنسانيتنا باكتشاف الارتياب المؤسَّساتي في مصالحنا ومُثُلنا العليا، وفي الحقيقة للمثل الأعلى للمجتمع ذاته، يُنهي اللازمات refrains اللانهائية للفكر السياسي. إن القانون والعَقْد، باعتبارهما النقطة المتوسِّطة الممكِنة التحقيق والأبرد بين النهايتَين الدافئتَين المستحيلتَين للتنظيم القَسْري والارتباط الشهواني يصبحان الآن، ببساطة، ذلك الفضاء المفتوح وغير المحدَّد المعالم، والذي يُمكِن فيه تعجيل إعادة اختراع الحياة الاجتماعية.

وقد وقع تغيُّرٌ مماثل، ولأسبابٍ مشابهة، في التاريخ العالمي للنظرية الأخلاقية. ولا يُمكِن لأحد أن يخمِّن من تواريخ الفلسفة التي كتبها الأساتذة ما كان عليه في الحقيقة الخطُّ الرئيسيُّ للتقسيم في تطوُّر الفكر الأخلاقي. بوسعك أن تفترض من قراءة رواياتهم أنه كان هناك بعضُ التبايُن الرفيع المستوى في المقارَبات؛ على سبيل المثال، ما إن كان يتعيَّن أن تكون المخاوف الجوهرية للحكم الأخلاقي السعي وراء الملذَّات، والبحث عن السعادة، والوصول إلى الفضيلة، أو الامتثال للقواعد الكونية. وعلى أي حال، فبمجرد أن نبدأ بفَحصِ هذه التبايُنات المُفترَضة من كثَب، سنكتشف أنها تبدأ بالانهيار بعضها على بعض.

وبعد ذلك، سنكتشف ضعفًا أكثر أساسيةً لوجهة النظر هذه، والذي يتعلق بما هو مُهدد بالضياع في تاريخ الفلسفة الأخلاقية. يمُكِننا أن نفسِّر أي رؤيةٍ بعينها لما يتعيَّن علينا أن نفعلَه بالحياة الإنسانية إلى أيٍّ من، أو كل، هذه المفردات الأخلاقية المتنافرة ظاهريًّا. لن تكون الرسالة هي نفسها تمامًا في كل هذه التفسيرات؛ كما أنها لن تكون، على أي حال، واضحةَ الاختلاف.

إن السؤالَين المتداخلَين اللذَين يبزَّان كل الأسئلة الأخرى في التاريخ العالمي للفكر الأخلاقي هما: ماذا يجبُ علَيَّ أن أفعَل بحياتي؟ وكيف يجبُ أن أعيش؟ إلى الحد الذي قامت به مراسيمُ المجتمع والثقافة بجعل اختيار الحياة قَدَرًا محتومًا، فقد تم حجب السؤال الثاني داخل الأول.

لقد اتخذَت الإجابة عن هذَين السؤالَين اتجاهَين رئيسيَّين؛ ابتعِد عن المشاكل وابحَث عن المشاكل، الصفاء أو التعرُّضية. في تاريخ الفلسفة الأخلاقية، كانت أسباب اتخاذ الاتجاه الأول تبدو مربكة حتى فترةٍ قريبة. وبرغم أن بعض المعلِّمين الدينيين بدءوا يُشجِّعون على أخذ الاتجاه الثاني قبل أكثر من ألفَي سنة، فلم تحقِّق نبوءتُهم سُلطتَها المدهشة الحالية إلا في القرون القليلة الماضية. وقد فعلَت ذلك بواسطة ما يجب أن يُعَد الثورة الأخلاقية الأعظم في التاريخ العالمي.

عند مواجهة الشروط الثابتة للوجود الإنساني، مع زحفه السريع نحو الانحلال في وسط فقدان المغزى، تتمثل الإجابة الأولى في: دعُونا نتمالكْ أنفسنا، دعُونا نُلقِ بتعويذةٍ سِحريةٍ على أنفسنا، والتي يُمكِنها أن تجلب لنا الصفاء، دعُونا نفصل أنفسنا عن الكفاح العقيم في عالمٍ من المظاهر المبهمة والإنجازات الواهية.

قد يبدو أن مبدأ الطبيعة الثانوية للتغيير والاختلاف، والفكرة ذات الصلة والمتعلقة بوحدة الوجود الحقيقي — أي الفلسفة الدائمة — تعرض الخلفية الميتافيزيقية الأكثر إقناعًا لخلق الصفاء. وعلى الرغم من هذا، فكل المواقف المتواترة الرئيسية حول علاقة الوجود بالمظهر — ليس فقط ذلك الذي يُنكِر حقيقة التغيير والاختلاف — قد سُخِّرَت لخدمة هذا الخُلُق من رباطة الجأش.

يُمكِننا أن نرى القَدْر نفسَه بالأخذ بعين الاعتبار العصر الذي كانت فيه العلاقة بين هذه الخيارات الميتافيزيقية والبدائل الأخلاقية شفَّافة للغاية؛ أي الفترة الهيلينيستية. وقبل ذلك الزمن، دمَج أرسطو بين دفاعه عن الاستسلام التأملي في أثناء قيام التجربة بجعل الإنسان أقربَ ما يكون من الله وبين حملته لتبرئة عالم المظاهر.

علينا أن نرتبط بالناس الآخرين بطريقةٍ تؤكد قلقَنا الجوهري مع وضعِ حدٍّ للرغبة العقيمة والمُتملمِلة. في أغلب الأحيان، تمثَّلَت طريقةُ عمل ذلك في الاتفاقِ على ممارسةٍ للمسئولية المتبادَلة، واعتراف المرء بواجباتِه تجاهَ الآخرين، وفقًا لطبيعة العلاقة، كما هي محدَّدة من قِبل المجتمع. وحينئذٍ سيكونُ وضعُ الإحسان المُنفصِل والبعيد هو الأكثر مرغوبية، ومن المُمكِن تشريب هذا الموقف بالحُب. وعلى أي حال، فذلك لن يكونَ الحب باعتباره القبولَ والتخيُّل المطلَق للشخص الآخر، ولا باعتبارِه مطلوبية مثل هذا القبول والتخيُّل، مع كل الأخطار التي تنتُج عنه من الرفض، وسوء الفهم، والأسى المحطِّم للقلوب. بل سيكون الحب في صورةِ إشفاق، يُمنَح بقَدْر الإمكان من بعيد أو من عَلٍ.

يتغيَّر كل هذا عندما يقع في التاريخ الأخلاقي للبشَرية حدَثٌ غيرُ ملموسٍ وفريد في الوقت نفسه؛ رؤيةٌ أخرى للحياة الإنسانية واحتمالاتها. إن الجهد المبذول للتوفيق بين حاجتنا إلى الآخر وخَوفِنا من الخطَر الذي نضع فيه بعضنا بعضًا قد تغيَّر الآن بفعل تبصُّرٍ جديد بالعلاقة بين الروح والبِنْية. نحن نُدرِك أنفسَنا ككائناتٍ متجاوزة للبِنى ونتطلب أكثر من المسافة المتوسِّطة بعضنا من بعض. فعلاقاتنا موبوءة — أو متسامية — بفعل الطلب غير المحدود على اللامحدود.

لم يعُد الهدف يتمثَّل في رباطة الجأش، بل في أن نعيش حياةً أكبر، لأنفسنا وللآخرين. ولتحقيق هذه الغاية، علينا أن نغيِّر العالم — أو على الأقل، نغيِّر جزءًا من عالمنا المباشر — من أجل أن نغيِّر أنفسنا إلى الأفضل. علينا أن نبحث عن المشاكل. علينا أن نكون متعقلين بما يتعلق بالأشياء الصغيرة، لكي نكون متهوِّرين بصورةٍ أفضل في تلك الكبيرة. إن الخير الذي نَجْنيه من مثل هذه التضحيات والمغامرات، ومن تفضيل الرَّصاص على الذهب، لا يُقدَّر بثمن؛ الحياة ذاتها، والقدرة على مواصلة العيش والهروب من الوفيَات الصغيرة المتعددة حتى نموت مرةً واحدة. إنه العيش بصورةٍ أكثر اكتمالًا باعتبارنا اللانهائي المسجون داخل المتناهي، وهو أن نبدأ مهمة تأليهنا من دون إنكار الظروف التي لا يُمكِن تغييرها لوجودنا.

وفي الطريق، ومع بدء التفكير الأخلاقي للإنسانية بالتحرُّك في هذا الاتجاه، ومن أجل التخلي عن المثال المتعلق بصفاءٍ خالد وغير ذي حياةٍ في الوقت نفسه، تجيء لحظة الالتزام المُعمِّم، المتعلقة بالحتمية المطلَقة لكانط. وهي حركةٌ باتجاه الشخص الآخر، لكن تحت الحجاب المُباعد للقانون الأخلاقي، مع خوف الممروق٢ من الآخرين وخوف الناسك من الجسد ورغباته، كما لو أن روحًا متجسِّدة تقرأ من كتاب للقواعد وتلبس قميصًا تحتيًّا.

إن تقبُّل الضعف الشخصي والكفاح من أجل التحوُّل العالمي (مهما كان صِغَر ذلك الجزء من العالم الذي تغيَّر بهذه الطريقة) بغَرض تحويل الذات، والكفاح من أجل تحويل الذات بغَرض تحويل العالم، يُصْبح المُثُل العليا المنظِّمة للحياة. ولطريقة التفكير هذه جذران اثنان. وبمرور الوقت، يتشابك هذان الجذران أحدهما مع الآخر. يكمُن أحد الجذرَين في تاريخ أفكارنا الأخلاقية، يُقاطِعه ويُعيد توجيهه الإلهام النبوئي والثورة الدينية. ويكمُن الجذر الآخر في تقدُّم الديمقراطية، وفي التخفيف التالي لقبضة أي مخطَّطٍ راسخ للتقسيم والتراتُبية الاجتماعيَّين على ما نتوقَّعه ونطلبه بعضُنا من بعض.

إنَّ اختراقًا يحمل رسالةً تتعلق بالقيمة الكونية للإنسانية، مثل الرسالة التي تنقلُها إعادة توجيه التاريخ العالمي هذه في الفكر السياسي والأخلاقي، لا يُمكِنه أن يمثِّل الامتلاك المميز لأيِّ حضارةٍ أو أيِّ زمن. وإذا لم يكن في الحقيقة من الممكن أن نُسجَن بصورةٍ كاملةٍ من قِبل أي مجتمع أو ثقافة، فلا بد أن مثل هذه الرسالة كانت متوقَّعة في التيارات المُعاكِسة حتى لتلك الأزمان والحالات التي تبدو أكثرها غرابةً أو عدائيةً بالنسبة إليها. وبعد فترةٍ طويلةٍ من النزاعات الناتجة عن انتشار الرسالة، سينظر العلماء إلى الوراء ويقولون، على سبيل المثال: انظروا، لقد كان مفكِّرو الصين في عصر ما قبل الإمبراطورية يشاركوننا في مخاوفَ مشابهة، كما طرحوا مقترحاتٍ مماثلة. وفي الحقيقة، إذا كانت الحقيقة التي تكشَّفَت تباعًا عميقة وقوية، فلا بد أن الناس قد تعرَّفوا عليها — بشكلٍ مُبهَم فقط في كثيرٍ من الأحيان، ولكن أحيانًا بصورةٍ أكثر وضوحًا — دائمًا وفي كل مكان.

ومع ذلك فإذا كان الزمن، والتغيير، والاختلاف هي أمور حقيقية، وإذا كان التاريخ بنفس درجة الخطورة والأهمية التي يبدو عليها، فإن اكتشاف ونشر هذه الرسالة العالمية لا بُد أنه واقعٌ في شَرك الخصوصية المخزية للتجربة التاريخية؛ يحملها وكلاءُ معيَّنون، في مواقفَ محدَّدة، خلال تجارب الصراع والتحوُّل التي حوَّلَت تيارًا مُعاكِسًا متقلِّبًا إلى مذهبٍ منتصر. أما الخصوصية المفقودة من الرسالة فتعود في معظمها إلى الحبكة الروائية.

علينا أن نحذَر فقط من أن تفاصيل هذه الحبكة — أي مرورها عَبْر أمم، وثقافات، وطبقاتٍ معيَّنة، وأفرادٍ بعينهم — لا تلوِّث كونية الرسالة. وهذه الحبكة، المفعَمة بالمفاجأة، والحوادث، والانقلابات المتناقِضَة، تُذكِّرنا بأن الروح المتجسِّدة يجب أن تتحمل كلَّ ثقل عالم من التفاصيل — بما في ذلك وزن القوة المهيبة وتلك الخاصة بمقاومتها. من ذا الذي سيسمع من الفاتح أو يتقبل الحكمة من أولئك الذين يرفضون مَنْح الاعتراف؟

هناك، على أي حال، حقيقة تتعلَّق بحميميةٍ بالتبصُّرات المنقولة بهذا التغيير في اتجاه الفكر السياسي والأخلاقي مفادُها أن تقاليدنا وحضاراتنا لن تدوما إلى الأبد. وبرغم أنها تُساعِد في جعلنا مَن نحن عليه، فنحن، في النهاية، لسنا إياهم، ولو لمجرد أنها تقيِّدنا في النهاية، وأننا نتجاوزها في نهاية المطاف. في المنافسة العالمية والمحاكاة المتعلقَين بالزمن الحاضر، تخضع الثقافات الوطنية المتميِّزة للخلط والتفريغ من محتواها. وفي صراع الثقافات، فإن تضاؤل الاختلاف الفعلي يُثير بدرجةٍ أكبر تلك الإرادة الغاضبة للاختلاف. وعند تفريغها من محتواها، لا يُمكِن أن تكون الثقافاتُ الوطنية موضوعاتٍ للمساومة شبه المتعمدة، كما كانت عندما عاشت كطرقٍ مُفصلة ومألوفة للحياة. هناك القليل فالقليل للمساومة عليه، بل مجرد توكيدٍ للاختلاف النابع من الإرادة، الذي أصبح أكثر سُمِّيةً بسبب حرمانه من المحتوى الملموس.

لكن الحل، على أي حال، ليس المحافظة على هذه التقاليد والحضارات كمستحثاتٍ محفوظة تحت زجاج، بل هو استبدال خيالات الإرادة الجماعية للاختلاف بالمؤسَّسات والممارَسات التي تُقوِّي المقدرة الجماعية على خلقِ اختلافاتٍ حقيقية؛ الأشكال المتميِّزة للحياة، المُدركة عَبْر النُّظم المؤسَّساتية المختلفة. إنه إعادة تفسير دَوْر الأمم في عالم من الديمقراطيات كضربٍ من التخصُّص الأخلاقي ضمنَ الإنسانية؛ تطوير قُدراتِنا في اتجاهاتٍ مختلفة وتحقيق مجتمعٍ ديمقراطي بواسطة مجموعاتٍ بديلة من الترتيبات، وهو الامتثال لقانون الروح، والذي لا يمكِنُنا بموجبه أن نمتلك سوى ما نُعيد اختراعه، ولا نُعيد اختراع سوى ما نتخلى عنه.

إن توليفة التغيُّرَين الأخلاقي والسياسي تكسر القالب المتعلق بالتاريخ العالمي للفلسفة، وهذان التغيُّران، عند اجتماعهما معًا، يهجران الميتافيزيقيا إلى روتيناتهما، المعدَّلة بالكاد بفعل الاكتشافات العلمية. لكنهما يغيِّران أفكارنا حول أنفسنا إلى الأبد.

ما الاستنتاج الذي يُمكِننا استخلاصُه من هذا البحث في الشبكة العالمية للفلسفة؟ إنه يتمثَّل في أننا لا نستطيع أن نُصبِح اللَّه، لكن بوسعنا أن نصيرَ أكثَر ربانية.

١  Parmenides: بارمنيدس (٥١٥–٤٥٠ق.م.)؛ فيلسوفٌ إغريقي ينتمي إلى المدرسة الإيلية Eleaticism، قال إن تعدُّد الأشياء الكائنة ليس إلا مظهرًا لحقيقةٍ أزليةٍ مفردة، واضعًا بذلك المبدأ الشهير «الكلُّ واحد». (المترجم)
٢  hypochondriac: الممروق: المصاب بالمراق، وهو وسواس المرض، أو توسوس المرء على صحته. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤