الفصل الأول
خياراتٌ مرفوضة
نحن نستيقظ في عالَمٍ متميز؛ ليس مجرد العالَم
الطبيعي الذي نسكُنه، بل عالَم المؤسَّسات والممارَسات،
بما فيها الممارَسات الاستطرادية، التي لا تزالُ سائدةً
حولنا. وفي جميع الأحوال، تقف هذه الممارساتُ بيننا
وبين الإطار المرجعي المُطلَق؛ أي المنظر كما يُرى من
أعلى، من موضع الأفضلية الذي تتمتَّع به النجوم.
وعلى أي حال، نحن نتعرَّف على أنفسنا دائمًا، سواء
كأفراد وفي توافُق مع الآخرين، أو كمصادر للمبادرات
التي قد تُقاوِم البِنى الراسخة للتنظيم والمعتقدات.
ماذا عساه أن يكون موقفُنا تجاه مثل هذه البِنى من
التنظيم الراسخ والمعتقدات المشتركة؟ هل يجب أن نستسلمَ
لها ونحاولَ استخلاص أفضلِ ما فيها، واستغلال أقصى ما
يمكِننا — مهتدين بالضوء الذي تزوِّدنا به هي نفسها —
من احتمالاتها الخفية للتحوُّل، أم هل يجب أن نسعى إلى
ترسيخِ موقفٍ يمكِننا من خلاله الحكم بإدانتها؟
ليس هناك سؤالٌ يجيء أكثر طبيعية، عندما نفكِّر ونحن
متحرِّرون (ولو قليلًا)، من السعي وراء الأهداف
المباشرة في السياق الآني. ليس ثمَّة سؤالٌ يجيء أكثر
طبيعية؛ لأن التفكير وأنت على بُعد مسافةٍ ما من ضغوط
الأعمال المُلِحة هو نفسه التصرُّف وكأن علاقتنا
بالبِنى التي نجدُها حولنا منفتحةٌ على ضربٍ من
المقاومة، كأن بوسعنا التفريق بينها وبيننا، وأن نسأل
عما يمكِننا فعلُه حيالها. تكمُن الأجوبة التي قُدمَت
عن هذا السؤال في تاريخ الفلسفة ضمن عددٍ صغير من
البدائل؛ فقد كانت هناك أربعةُ خياراتٍ رئيسية.
تمثَّل الخيارُ الأول في الاعتقاد بالوصول إلى نظامٍ
أكثر واقعيةً وعمقًا، والمُستتِر خلفَ ما يتجاوز بكثيرٍ
حدودَ البِنى الراسخة للمجتمع والثقافة، وما يتخطى حتى
المعتقداتِ والمدرَكات الشائعة. وينطوي هذا النظام
الأعلى على كلٍّ من الحقيقة والقيمة؛ فمن الممكن أن
ينتج في الوقت نفسه الصميم الأعمق للحقيقة، والمصدر
الذي ينتج عنه وحدَه قاعدةٌ ينتهجها المرء لكي يعيشَ
حياته على نحوٍ معيَّن. أما كل ما عدا ذلك فلا يعدو
كونه عُرفًا convention
أو وَهْمًا مُبهَمًا.
بَيْدَ أن الوصول إلى هذه الحقيقة العليا يتطلَّب
وقفة، ويجب أن تُسرِع هذه الوقفة عادةً ببعض الأسى
الساحق للقلب، مما يقوِّض ارتباطَنا بعالَم الظلال
ويفتحُ الطريق أمام ارتقائنا إلى رؤية الحالة
الحقيقية.
وإذا تمكنَّا من الولوج إلى هذه الحقيقة السامية من
خلال مخطَّط الرحلة الملائم للتدمير الذاتي وإعادة
التوجيه، فسنمتلك معيارًا يمكِننا من خلاله الحُكم على
البِنى الراسخة، وإجبارها على الالتزام بالنموذج
المستبطن. يتمثَّل المنتج المميز لهذا الإصلاح في
تنظيمٍ متوازٍ ومتبادَل لكلٍّ من المجتمع والذات، حيث
تتخذ كلُّ قوةٍ داخل المجتمع وداخل الذات مكانَها
الصحيح.
في تاريخ الفلسفة الغربية، نربط بين هذا التوجيه وأفلاطون
١ بقوة. والواقع أن هذا كان النمَط المُهيمِن
من الطموح الفلسفي طوالَ معظَم فتراتِ تاريخِ العالم.
وكثيرٌ ممن أعلَنوا نهايةَ السعي وراء الحقيقة الكامنة
الواضعة للمعايير لم يفعَلوا أكثَر من استئنافه تحت
أسماءٍ أخرى. ولا عجب أنهم كانوا يعتمدون عادةً على
البِنية نفسها من الإحباط والتحويل التي أدَّت دورًا
بالغ الأهمية في تشكيل الآراء التي يُقرُّون
بإنكارها.
بَيْدَ أن الادِّعاءات المميزة لهذه النزعة الأولى في
التاريخ العالمي للفلسفة كانت قاصرةً في مواجهة اعتراضٍ
مزدوج؛ فهي تتطلب منا خفضَ قيمة
devalue حقيقة
وسلطة الممارسات والمعتقدات الراسخة على أساس أفكار
شخصٍ ما؛ أي الافتراضات التأملية لمعلمٍ فلسفيٍّ بعينه،
وهي تُلزِمنا بأن نغيِّر حياتنا ومجتمعاتنا بناءً على
اقتناعٍ تأملي، من دون أن يكون لدينا أي فهمٍ مفصَّل
للقيود التحوُّلية والفرص التحوُّلية.
أما الخيار الثاني فقد تمثَّل في التخلي عن السعي
وراء الحقيقة البسيطة والعميقة لمصلحة التراجُع إلى
حدود العالم الإنساني؛ أي تجاربنا المحورية لفَهم
العالَم، وإرضاء بعضِنا بعضًا، وتمنِّي السعادة. تستند
مثلُ هذه التجارب إلى بعضِ الافتراضاتِ المسبقة، والتي
لا نستطيع من دونها إدراكَ الفهم، أو الالتزام، أو
الأمل في السعادة. وبعد أن استنتَجْنا هذه الافتراضاتِ
المسبقة حول إنسانيتنا من وحيِ تجربتِنا، يُمكِننا إذن
أن نستخدمَها في الحكم على هذه التجربة وإعادة
صياغتِها. يبقى نظامُ الافتراضاتِ المسبقة ثابتًا
ويزوِّدنا بمنظورٍ يمكِننا من خلاله مواجهة المؤسَّسات،
والممارَسات، والمعتقَدات الراسخة وكذلك
إصلاحها.
نحن نربط بين هذه الطريقة من التفكير الفلسفي وكانط
٢ على الرغم من أنه كان لها مظاهرُ أخرى
عديدة في تاريخ الفلسفة الغربية وغير الغربية؛ فخطوتها
التمهيدية الحاسمة — وهي التي تتشارك فيها مع
البراجماتية — تتمثَّل في التخلي عن منظور النجوم،
فالإنسان هو المقياس؛ إذ ليس لدينا مقياسٌ غيره. وعلى
أي حال، لم تنجح هذه الطريقة في محاولَتها فصلَ
الافتراضاتِ المسبقة الثابتة عن المادة التاريخية
المتغيِّرة التي تتحدث عنها؛ أي مادة المجتمعات
والثقافات الحقيقية التي نعيش فيها؛ فإما أن هذه
الافتراضات المسبقة تمتلك من المحتوى أكثر مما يلزم لكي
تكون ثابتة، أو أن لديها محتوًى أقلَّ بكثير مما
يمكِّنها من توجيه أعمالنا الفردية والجماعية. ولم يعُد
بإمكاننا أن نَفصِل وجهاتِ نظرنا حول مصادر الالتزام
الأخلاقي والاجتماعي عن محتوى مُثلنا العليا الشخصية
والاجتماعية، غير أننا نستطيع إزالة الالتباس بين المقولتَين
٣ الشكليتَين للاحتمال والضرورة وبين مادة
معتقداتنا الكوزمولوجية
cosmological.
تتحوَّل فكرة الإطار الثابت والواضع للمعايير إلى
مجرد نسخةٍ أخرى من محاولة الرؤية بعينَي الله، حتى إذا
كنا نرى أنفسَنا بهاتَين العينَين. وللمفارقة، فهي تنكر
بالتحديد ما هو أكثر ربانية
godlike فيما
يتعلَّق بقدرتنا التدريجية على التفكير مجددًا وإعادة
صياغة كلٍّ من ملامح حالتنا، بما فيها تلك الملامح التي
أُغرينا لإدراجها ضمن الفرضيات الثابتة. نحن کائناتٌ
تاريخية بأكثر مما يرغب هذا المذهب في السماح
به.
من هذا الإدراك ينشأ ثالث الخيارات الثقافية الرئيسية
التي يطرحُها علينا تاريخُ أفكارنا ومواقفنا حول البِنى
المؤسَّساتية والمفاهيمية التي نجدُها راسخةً حولنا.
وفقًا لهذه المقاربة، تمثِّل هذه البِنى أحداثًا ضمن
تاريخٍ ما، تاريخ بنائنا لذواتنا الفردية والجماعية.
وهي أمثلةٌ على ضروبٍ من الوعي أو على التنظيم
الاجتماعي والاقتصادي، تعمل القُوى شبه القانونية
law-like على الدفع
قُدمًا بنجاح هذه الأنظمة من التنظيم أو الوعي.
إن تاريخ التعاقُب، الذي يبلُغ ذروتَه في الحل
النهائي للتناقُضات أو التحقُّق النهائي للإنسانية،
يزوِّد المعيار الوحيد الذي يمكِنُنا من خلاله أن نحكُم
على مؤسَّساتنا وثقافاتنا. وحدَه تخيُّل التعاقُب
الكامل والشعور السَّبقي
presentiment
بغايته النهائية يزوِّدنا بالمعرفة السامية التي
يمكِننا من خلالها إدراكُ حقيقةِ ظروفنا الآنيَّة
بوضعها في هذا السياق الأكبر والشامل.
هذا هو الخيار الذي نجده متحققًا في فلسفة هيغل
٤ وكذلك في العديد من النظريات الاجتماعية
الطموحة للقرنين التاسع عشر والعشرين، وهو مشروع
متناقض. نحن نُثير التخيُّل والإرادة التحوُّليَّين من
خلال وضع التاريخ إلى جانبهما، وبعد ذلك نُعيدهما إلى
النوم باقتراح أنَّ التاريخ المقدَّر سلفًا يقوم
بعملهما نيابةً عنهما. تدَّعي هذه النظرية لنفسها
بصيرةً مميزة بالنظر إلى الوراء من موضع الأفضليَّة
للنهاية المتوقَّعة، وكذا إبعاد نفسها من المنظور
المضطرِب والخطِر للعامل
agent.
أما الخيارُ الرابع — والمتمثل في براجماتيةٍ منكمِشة
— فيتمثَّل ببساطةٍ في التخلي عن محاولة أن نجد فيما
فوق أو ما وراء المجتمعات والثقافات التي نتعامل معها
مكانًا يمكِننا من خلاله أن نحكُم على مؤسَّساتها،
وممارساتها، ومداولاتها. كُل ما لدينا هو العالم كما
نُعايشه، مع كل ما يُمكِن للذاكرة والتخيُّل أن
يقدِّماه لتضخيم تجربتنا. نحن نحدِّد أي أجزاء تجربتنا
يمتلكُ القيمة الكبرى، وأيها يستحقُّ التخلص منه. وفي
استدامة القوى المتعارِضة والنزعات المتضارِبة نجد
فرصًا للتحول وسط التقييد.
من تضمينات وجهة النظر هذه نجد أنها تحرِمنا من
التوجيه والإرشاد حول الاتِّجاه الذي يمكِننا أن
نسلُكَه لتحقيق مشاريعنا المتعلقة بالتحدي والتغيير؛
فكل ما يمكِننا فعلُه هو اتباع التلقينات التي نعتبرها
ذواتنا الأفضل أو اندفاع ما نعلم أنه أقوى رغباتنا. ما
هذا الذي نعتقد أنَّنا نراه عندما ننظر إلى ما وراء
الترتيبات الراسخة والمعتقدات التي تُسن من حولنا. هل
خُدعنا لكي نعتقد أننا نستطيع من حينٍ إلى آخر إحداثَ
تغييرٍ جذري في العوالِم التي نجد فيها أنفسنا؟
هناك نتيجةٌ أخرى لهذا الموقف، وتتمثَّل في استبعاد
احتمال أننا قد نتمكَّن من تحويل طبيعة علاقتنا
بالعوالم الاجتماعية والثقافية التي نقطنها بدلًا من
مجرد إحداث تغييرٍ تدريجي، في محتوى الترتيبات
والمعتقدات التي تشكِّلها. وهذه وجهةُ نظرٍ مغلوطة؛
فالمؤسَّسات والمعتقَدات ليست مثل الأشياء الطبيعية،
والتي تفرِض نفسها على وعينا بقوَّتها المُلِحة
وتذكِّرنا بأننا وُلِدنا في عالمٍ ليس ملكَنا. وما هي
إلا إرادةٌ مجمَّدة وصراعٌ منقطع؛ أي البقايا المتبلورة
نتيجةً لتعليق أو احتواء مساعينا.
ونتيجةً لذلك، فإن بِنى المجتمع والثقافة لا تُوجَد
مطلقًا بصورةٍ أحادية المعنى
univocally، أو
بطريقةٍ واحدة فقط، مع درجةٍ واحدة فقط من القوة؛ فهي
توجد، بصورةٍ أو بأخرى، في درجات. وقد تكون مرتَّبة
بحيث تحجُب نفسَها بقَدْر المستطاع عن التحدي والتغيير.
وسنُعايش حينئذٍ تطويلًا للمسافة بين الخطوات العادية
التي نقومُ بها ضمن الإطار الراسخ والخطوات الاستثنائية
التي نقوم من خلالها بتغييره، وستكون نتيجةُ ذلك تطبيع
السياق الاجتماعي والثقافي لحياتنا، وإخضاع الإرادة
والتخيُّل التحوُّليَّين لتأثيرِ سِحرٍ ما.
وبدلًا من ذلك، على أي حال، قد تكون مجتمعاتُنا
وثقافاتُنا مرتَّبة بحيث تُسهِّل وتُنظِّم مراجعتَها
التجريبية التدريجية الخاصة، وسنقوم حينئذٍ بتقصير
المسافة بين الخطوات الروتينية ضمن إطارٍ ما، والخطوات
الاستثنائية حول ذلك الإطار، وسنُعايش هذا الأخير
كامتدادٍ مباشر ومتكرِّر للأول. ونتيجةَ ذلك فنحن
نُفسِد طبيعةَ المجتمع والثقافة، فنقوم بإذابتهما
unfreeze. ويبدو
الأمر كأنه، في العالم الطبيعي، سيعمل ارتفاعُ درجة
الحرارة على استهلالِ انصهارِ الاختلافات الصارمة بين
الأشياء، مما يُعيدها إلى التدفُّق الغامض الذي أتت
منه. وإلى الحد الذي نتحرك به في هذا الاتجاه، تتوقَّف
حقائقُ المجتمع والثقافة عن تقديم نفسها إلى وعينا
كقَدَرٍ محتوم.
ليست هذه مجرد مقارنةٍ تأمُّلية؛ فقد انخرطَت أقوى
مصالحنا في هذه العملية من إفساد طبيعة المجتمع
والثقافة، في هذه الردكلة للتجريبية، في هذا التحوُّل
من القدَر إلى الاختراع؛ أي اهتمامنا المادي بالتقدُّم
العملي الاقتصادي والتكنولوجي، واهتمامنا الأخلاقي
والسياسي بتحرير الأفراد من التسلسُلاتِ الهرَمية
والانقساماتِ الاجتماعية المفسدة والأدوار الاجتماعية
المقولَبة stereotyped،
واهتمامنا الروحي بأن نكون قادرين على التعاطي مع
العالم — بإخلاص ومع ذلك من دون توطيد العزم — من دون
الحاجة إلى الاستسلام له.
إن الفلسفة التي نحتاج إليها — وهي ضربٌ من
البراجماتية المردكلة
radicalized — هي
نظريةُ هذا التحوُّل؛ فهي تزوِّدنا بسبيلٍ لتناول
حالتنا، سواء على وجه العموم أو على نحوٍ خاص، التي
تنوِّر هذا الهجوم على القدَر والشؤم
fatefulness، وهي
الأيديولوجية العملياتية لهذه الممارسة المدمِّرة
والبنَّاءة. وعلى الرغم من ذلك فهذا الخيارُ الرابع لا
يزوِّدنا بأيِّ طريقةٍ لفهم الظروف أو القدرات التي
يمكِنها إدراكُ مغزى إعادة التوجيه هذه.
إن المواقف الأربعة التي وصفتُها هي مواقفُ تتصل
بالمجتمع والثقافة؛ فهي تتعلق بساحة العمل الإنسانية
الآنية وليس بالسياق غير الإنساني لحياتنا؛ أي مكاننا
في الطبيعة. ويتمثَّل موضوعُها في تنوُّع الأُسس التي
يُمكِننا من خلالها أن نُقاوِم ونحوِّل هذا العالم
الإنساني، أو أن نتخلى عن المقاومة ونهجُر
التحوُّل.
نحن معتادون على تخيُّل السياق الآني للحياة
الإنسانية في المجتمع والثقافة كمكانٍ صغيرٍ ضمن عالمٍ
كبير — الطبيعة، الكون، الوجود. يبدو أن رأينا في ذلك
العالم، ورأينا في تفكيرنا تجاهه، وفقًا لهذه العادة،
هو العامل الأكثر أهميةً في تعريف موقفٍ فلسفي بعينه.
ويبدو التفكير بشأننا وبشأن علاقتنا بالمُنشآت
٥ الصنعية مجرَّد عَرَضٍ جانبي.
لكنه ليس كذلك؛ فنحن وأعمالنا نمثل البداية، وما
يتبقَّى هو البقية. وتتعلق أكثر رغباتنا ومصالحنا
ثباتًا وقوةً بأنفسنا وبعلاقتنا بعضنا ببعض. إن
أجهزتَنا المفاهيمية والإدراكية مبنيةٌ وفق مقياسٍ
مناسب للعمل ضمن الأفق المحدود للفعل الإنساني
human action، وفقط
بواسطة قوة الإحباط، من هذا العالَم الإنساني القريب
الذي نخترعُه ونتظاهَر برؤيته من مسافةٍ ربانية، وفقط
بواسطة الطموحِ المجنون، الذي ينشأ دومًا عن الملامح
الراسخة لحالتنا، يمكِننا أن نضع أعينَنا على الأجسام
البعيدة.
إذا أردنا أن نصبح أكثر حرية، بما في ذلك كوننا أكثر
حرية بما يكفي لمسح الحقيقة ككل، مع الإفلات من تخوم
عالمنا الأشد قُربًا، فلن نستطيع عمل ذلك إلا بواسطة
اكتساب الحرية الكبرى للتبصُّر والفعل في هذا العالم.
وتبرِّر هذه الحقيقة تصنيفًا للمواقف الفلسفية يميِّزها
بعضها عن بعض وفقًا لتأثيرها في السياسة؛ بمعنًى آخر،
من أجل إعادة صنع المجتمع والثقافة.
إن وجهة النظر التي أتوسَّع في شرحها هنا هي رؤيةٌ
تبدأ بالاستياء من كلٍّ من المواقف الأربعة التي
وصفتُها.
يكمُن مستقبلُ أكثر أفكارنا عموميةً في الردكلة
المتصلبة لهذا الاستياء — إلى مدًى، وفي اتجاه، تعزف عن
تحمُّله المعتقداتُ التقليدية السائدة للفكر المعاصر في
العلوم الاجتماعية، والعلوم الإنسانية، وكذلك في
الفلسفة.