الفصل العاشر

السياسة الديمقراطية كضدٍّ للقَدَر

التجريبية الديمقراطية

يتطلب الاختراع الدائم للجديد أن نقصِّر المسافة بين الحركات المألوفة التي نقوم بها ضمن عوالمنا الاجتماعية، وبين الحركات العَرَضية التي فيها نُعيد صنع قِطَع هذه العوالم، كما يتطلب أن نقلِّل اعتماد التحول على الأزمة، بجعل التغيير أمرًا متضمنًا في الحياة الاجتماعية وإضعاف تأثير ما جاء من قبل على ما يأتي لاحقًا. وهو يفترض أنه حتى من دون التحريض الناتج عن الصدمة، يمكِننا جعل تجربتنا اليومية أكثر شدةً حتى ونحن نُحسِّن سلطاتنا.

من السهل أن تنظِّم مجموعةً من الناس عن أن تبعَثَ فيهم الحياة. وليس الطموح الأكبر للسياسة هو المساعدة على تنظيمهم، بل المساعدة على بعث الحياة فيهم.

وفي أثناء مواصلة هذا البرنامج، ثمَّة مجموعة من الممارسات تمتلك الأولوية على كل المجموعات الأخرى؛ ممارساتنا السياسية؛ فهي تضع شروط المُراجعة، وتلك الخاصة بمُراجعة شروط المُراجعة، لكل ممارساتنا الأخرى. إن شكل الحياة السياسية لشعبٍ ما، والتي تتناسب مع البرنامج، ومع هدفه الملهِم المتمثِّل في جعلنا أكثر ربانية، يجب أن يكون شكلًا يحرِّر نفسه من معارضتَين فكريتَين مألوفتَين.

إن المُغايِر الأول الذي نحتاج إلى التغلُّب عليه يُعارِض السياسة الروتينية والثورية. من شأن السياسة الثورية أن تُغيِّر الترتيبات المؤسَّساتية والفرضيات الأيديولوجية للمجتمع، بناءً على رغبة الزعماء الرؤيويين والأغلبيات الكادحة، في ظروف الأزمات الوطنية. أما السياسة الروتينية فتُعيد توزيع الموارد المادية والرمزية ضمن إطارٍ مؤسَّساتي وأيديولوجي تتركه دون تَحدٍّ، من خلال التسويات المتعلقة بالمصالح وبالرؤية، التي يتوسط فيها السياسيون المحترفون، في ظل ظروفٍ لا يعكِّر صَفْوها خطرٌ اقتصادي أو عسكري جسيم.

إن فكرة السياسة الثورية، على أي حال، هي مجرد خرافة أو على الأقل حالة مقيدة، وهي ملطَّخة بإجحاف النظرية الاجتماعية الأوروبية الكلاسيكية التي وفقًا لها، فإن الترتيبات المؤسَّساتية والأيديولوجية للحياة الاجتماعية تكون أنظمةً غير قابلة للتجزئة، والتي تبقى أجزاؤها المنفردة أو تسقط معًا. ولو كان هذا الإجحاف مُبررًا، لكانت الحياة السياسية لشعبٍ ما مقتصرةً على التلاعُب الإصلاحي عندما يجحد غياب الأزمة فرصة التغيير الثوري.

وبفكرتها الخيالية لتغيير الكل، تُصبِح فكرة السياسة الثورية في الممارسة العملية عذرًا لنقيضها؛ أنسنة نظامٍ لم نعُد نعرف كيف نُعيد تخيُّله أو كيف نُعيد صُنعه. في المجتمعات المعاصرة، يتمثَّل الشكلان الرئيسيان لهذه الأنسنة في إعادة التوزيع التعويضي — من خلال نظام الضريبة والنقل وإضفاء المثالية على القانون — كمُستودَعٍ للمبادئ اللاشخصية للحق وللسياسات الموجهة للمصلحة العامة. إن التغيير الحقيقي في بِنْية الترتيبات والفرضيات التي تشكِّل صراعاتنا حول مصادر السلطة السياسية، ورأس المال الاقتصادي، والسلطة الثقافية التي نصنع بواسطتها الحاضر ضمن المستقبل هي دائمًا تغيير للجزء؛ وبالتالي فإن السياسة الثورية الحقيقية هي الإصلاح الثوري.

صحيح أننا نلاحظ في كل الحكومات الحديثة تعاقُب لحظات إعادة التأسيس refoundation وفترات التطبيع. وفي تاريخ الولايات المتحدة، على سبيل المثال، كانت لحظات إعادة التأسيس هي إقامة الجمهورية المستقلة، والحرب الأهلية وآثارها، وحقبة الكساد الاقتصادي والحرب العالمية في منتصف القرن العشرين. وعلى الرغم من هذا، فإن إيقاع التسخين والتبريد ليس من الحقائق الطبيعية حول المجتمع، بل هو أحد نواتج الطريقة التي تقوم بها المؤسَّسات، والممارَسات، والأفكار بتنظيم العلاقة بين التكرار والابتكار في الحياة السياسية لشعبٍ ما.

فشلَت تمامًا جميع الحكومات القديمة والحديثة، بما فيها الحكومات الديمقراطية، في سلب النظام الاجتماعي والثقافي من مظهره الكاذب للضرورة الطبيعية، وفتحَته عَنوةً لقدراتنا على إعادة التجميع والترميم.

وقد أسَّسَت، على سبيل المثال، رابطةً مبالَغًا فيها وغير ضرورية بين حماية الأفراد ضدَّ القمع الحكومي أو الخاص وبين عزل الحياة الاجتماعية الراسخة ضد التحدي التجريبي والمُراجعة. وإلى هذا المدى، فقد ساعدَت على خلق تناوُبٍ بين التسخين والتبريد سنتعرف لاحقًا عليه بالخطأ على أنه خاصيةٌ يتعذَّر استئصالها للتاريخ.

نحن في حاجة إلى «لخبطة» فئتَي الإصلاح والثورة، وما يجب أن نحتاج إليه هو شكلٌ من الحياة السياسية التي تمكِّننا من تغيير كل شيء في الحياة الاجتماعية، واحد في كل مرة. قد يكون ذلك تدرُّجيًّا gradualist في طريقته، ومع ذلك فهو ثوري في نتيجته. وهو يُنتِج تمديدًا وانحناءً لانهائيَّين يستغنيان عن الخراب كمُحرِّض للتغيير، ويسمح لنا بردم الفجوة بين التفكير العملي في المشكلات والتفكير النبوئي حول البدائل وحول تغيير سياقاتنا، قطعةً فقطعة، ونحن نقوم بوظائفنا، يومًا بعد يوم.

أما المعارضة الثانية التي يجب أن نحرِّر منها أنفسنا، فهي المقارنة بين جمهوريةٍ خرافية يمتصُّ القلق السياسي فيها المصلحة الخاصة، وبين منظورٍ مُتحرِّر من الوَهْم للسياسة الديمقراطية الحديثة تُعبِّر فيه السياسة عن — وتخدم — المصالح المادية والأخلاقية المتشكِّلة خارج العالم السياسي. لا يمكِن أن يكون هناك توليفٌ حقيقي بين جانبَي هذه المعارضة؛ فالجانب الثاني حقيقي، أما الأول فهو مجرد فكرة نُعبِّر من خلالها عن خجَلنا من نتائج الاعتقاد السائد الآن بأنه يتعيَّن تصغير السياسة إذا أُريد لنا أن نصير أعظم.

تتمثَّل المهمة في اتخاذ الجانب الحقيقي — جانب الفرد المجسد والمتوضع، مع انكماشه من التأييد الصاخب للتاريخ، وتحيُّزه فيما يتعلق بالمصالح وبوجهات النظر — وكذلك، ومن هذه الناحية، توسيع نطاق مسئولياته، وأوجُه تعاطفه، وسلطاته. إن علامة النجاح في هذا المسعى ستكون تصعيدًا متزامنًا ومرتبطًا، في غياب الأزمات، لمستوى الطاقة وللمحتوى البِنيوي للسياسة — أي خصوبيَّتها في إنتاج التجارب والبدائل. ستتمثَّل علامة ثانية على النجاح في تخفيف النوعية الاستثنائية أو الوَجْدية ecstatic للحياة السياسية؛ اختلافها عن أشكال القرار والتنسيق في وجودنا اليومي العادي، أما العلامة الثالثة فهي تعميم تجربة الوكالة السياسية الفعَّالة في المجتمع.

في حل المشكلات الجماعية عَبْر الحلول الجماعية، المتشكِّلة في وسط الخلاف والصراع المنظمَين، ثمَّة علامةٌ رابعة ستكون تقوية، في عقول أعدادٍ كبيرة من الأفراد في العديد من مناحي الحياة، فكرة الحياة السياسية كترياقٍ للقَدَر وكضمانٍ لقدرتنا على التعاطي مع أي عالمٍ اجتماعي من دون الاستسلام له.

إن سياسةً قادرةً على التغلُّب على هذَين المتغايرَين في الاتجاه الذي وصفتُه يجب أن تكون اليوم سياسة ديمقراطية وتجريبية، ويجب أن ترى في الديمقراطية التعبير العملي المؤسَّسي للإيمان بالإمكانية التحوُّلية للرجال والنساء العاديين، وبقدرتهم على حكم شئونهم الخاصة وانتزاع القوة بعيدًا عن أي فئةٍ أو مجموعةٍ تدَّعي امتلاك وصولٍ مميز إلى وسائلِ صُنعِ المستقبل الجماعي ضمن الحاضر الاجتماعي، لكن إلى أي نوعٍ من الديمقراطية يشير هذا المبدأ؟

ردكلة الديمقراطية

تظل مُثُلنا العليا ومصالحنا دائمًا رهينةً للمؤسَّسات والممارَسات التي تمثِّلها في الحقيقة، وبعد المغامرات والصراعات المُفجِعة للقرن العشرين وسقوط العديد من آمالها اليوطوبية، تجد الإنسانيةُ نفسَها مربوطةً إلى ذخيرةٍ محدودةٍ للغاية من الخيارات المؤسَّساتية لتنظيم كُلٍّ من أجزاء الحياة الاجتماعية، وهذه الخيارات هي قَدَر المجتمعات المعاصرة، ولا يمكِننا الهرب من ذلك القَدَر إلا بواسطة تجديد وتكبير هذه الذخيرة.

ولعمل ذلك، علينا أن نُحرِّر أنفسنا من أوهام الضرورة الخاطئة التي أفسدَت التوجيه المزود من قِبل الفكر الاجتماعي للسياسة التحوُّلية؛ الأفكار المتعلقة بقائمةٍ مغلَقة من أنظمة التنظيم الاجتماعي، وعدم تجزُّؤ كُلٍّ من هذه الأنظمة، وتعاقُبها التاريخي تحت ضغط القوى شبه القانونية. علينا أن نسترد، من الأسفل للأعلى ومن الداخل للخارج، تخيُّل البدائل. ولتحقيق هذه الغاية، علينا أن ندرك أن الاختلافات المؤسَّساتية الصغيرة يمكِنها أن تُحدث تأثيراتٍ عمليةً هائلة، وأن الاتجاه المتَّخَذ هو أكثر أهميةً من طول كل خطوة.

وليس هناك جزءٌ من هذا العمل أكثر أهميةً من إعادة بناء الديمقراطية، بالنظر إلى دَوْر السياسة في رسم الحدود الخارجية لمراجعة كل جوانب المجتمع. لنتدبَّر خمسَ مجموعاتٍ مشتركة من الابتكارات، المصنوعة كليًّا من مواد الأفكار والترتيبات المتوافرة على نطاقٍ واسع في حياة وفكر المجتمعات المعاصرة. وكُلٌّ منها يكشف سمةً متميزة لإحدى الطرق العامة للتفكير حول كيفية صنع المستقبل ضمن الحاضر. وتمتلك تفاصيلُ أيٍّ من هذه البرامج أهميةً ظرفية وعابرة، أما إجراءات التفكير وعادات العقل الذي ينوِّره فقد تعيش لمدةٍ أطول. والاتجاه الذي تتخذه يكشف الطريقة التي يمكِن من خلالها لمفهوم للإنسانية — مثل ذلك الذي طوَّرناه في هذا الكتاب — أن يُدرَك في نمطٍ عملي من الحياة.

تَدعَم المجموعةُ الأولى من الابتكارات رفعًا مستمرًّا لمستوى التعبئة السياسية، والارتباط الشعبي في الحياة المدنية، وهذه ستكونُ المبادرات التي تُصلِح تمويل السياسة، والتي تمنَح وصولًا أكثر حرية لوسائل الاتصال الجماهيري للحركات الاجتماعية وكذلك للأحزاب السياسية. والتي تُشجِّع المفاضلة بين البدائل الواضحة في الحياة الوطنية.

يتمثل المبدأ في تسخين السياسة، ولكن عمل ذلك بطريقةٍ منظَّمة وليس بالوسائل ضد أو خارج المؤسَّساتية، ولإنكار ذلك، علينا أن نختار بين ماديسون١ وموسوليني.٢ وهو مبدأ يتناقَض بصورةٍ مباشرة مع فرضيات أي علمٍ سياسيٍّ محافِظ يفترض وجود علاقةٍ عكسيةٍ ثابتة بين حماسة التعبئة والتنظيم المؤسَّساتي للسياسة. وعلى العكس من ذلك، تختلف المؤسَّسات السياسية بصورةٍ حاسمةٍ في مدى تشجيعها ودعمها للارتباط السياسي الشعبي.

إن الفكرة المستبطنة تتعلق بارتباط بين مستوى الطاقة في شكلٍ ما للحياة السياسية وخصوبتها في إنتاج البدائل. أما درجة الحرارة العليا فتجعل بِنَى الحياة الاجتماعية أكثر سلاسة؛ وبالتالي تكون هذه المجموعة الأولى من الابتكارات مرتبطة بصورةٍ مباشرة بمصلحتنا في صياغة الترتيبات التي تُحسِّن الأوضاع التي تسمح لنا بصورةٍ أفضل بصَدع الاختلاف بين أن نكون داخل عالمٍ اجتماعي وأن نكون خارجه.

هناك مجموعةٌ ثانية من الابتكارات، تُعمِّق وتوسِّع إنجازات الأولى بدمجِ ملامحِ الديمقراطية التمثيلية وتلك المباشرة. إن الديمقراطية التشاركية المباشرة، التي لا تساعدها المؤسَّسات التمثيلية، تفشل في الواقع في أن تعمل في الدول الكبيرة. وبرغم هذا، فإن فرضية كون الديمقراطية المباشرة وتلك التمثيلية لا يمكن أو لا يجب أبدًا أن تختلطا تمثِّل إجحافًا دوغماتيًّا، يكشف تخيُّلًا فقيرًا لإمكانية التأثير المتبادل بين مُثُلنا الديمقراطية وتجاربنا المؤسَّساتية.

إن الاندماج التراكُمي لملامح الديمقراطية المباشرة في تنظيم الديمقراطية التمثيلية هو الترياق الأقوى للأوليغاركية٣ في جميع أشكالها المتغيِّرة باستمرار، وهو أيضًا الأداة الأكثر فاعليةً التي يمكن من خلالها — في الحياة السياسية للناس — تقوية الإحساس بالعمل الفردي الفعال، والتغلُّب على الإحساس بعدم جَدْوى العمل السياسي، وتقصير المسافة بين السياسة وبقيَّة أجزاء التجربة الاجتماعية.

هذا التضمين للديمقراطية المباشرة في الديمقراطية التمثيلية يمكن أن يتخذ أشكالًا من مثل تنوُّع اكتناف المجتمعات المحلية في صياغة وتطبيق السياسات الاجتماعية والقرارات المتعلقة بالميزانية، واستخدام الاستفتاءات العامة البرامجية الشاملة لتحطيم الطرق المسدودة بين الفروع السياسية للحكومة في ظل نظام للحكومة المنقسمة، أو لتغيير مسار السياسات والقانون في ظل أي نظامٍ للحكم.

إن الفكرة المُلهمة هنا هي أن العمل والمسئولية يُنتِجان السعة والأمل. وهما لا يفعلان ذلك بإخضاع أو بالتضحية بالمخاوف الخاصَّة لمصلحة الولاءات العامَّة، ولكن بالأحرى بالتوسيع، التدريجي، لمدى مصالحنا وأوجُه تعاطُفنا العادية، بحيث تُصبِح أكثر نفاذًا وشمولية. وبهذه الطريقة، فنحن نسلب البِنى التي صنعناها من غِلافها من الطبيعية والضرورة. ونحن نتقدَّم في جهودنا للاستغناء عن الكارثة كقابلةٍ للتغيير؛ وبالتالي فنحن ننجَح في جعل التغيير يجيء من الداخل أكثر من داخل المجتمع ومن داخل أنفسنا.

ثمَّة مجموعةٌ ثالثة من الابتكارات تتخذ لها هدفًا يتمثَّل في تعجيل سرعة السياسة التحوُّلية وتسهيل إعادة الصياغة السياسية للحياة الاجتماعية بحل الطريق المسدود بين مراكز ومصادر السلطة السياسية بصورةٍ سريعة وحاسمة. يتمثَّل أحد مقوِّمات النظام الدستوري الليبرالي تحت مظلة فصل السلطات (كما هي الحال في النظام الرئاسي الأمريكي) في ربط الهدف الليبرالي لتجزيء السلطة بالهدف المحافِظ لإبطاء وتيرة السياسة. ونتيجة ذلك هي وضعُ جدولٍ بأوجُه التشابه بين الوصول التحوُّلي لأي مشروعٍ سياسي وبين قسوة العقبات الدستورية التي يجب أن يتغلَّب عليها تبنِّيه. وهذا الربط خاطئ وضارٌّ في الوقت نفسه بطموحات التجريبية الديمقراطية. يمكِننا أن نؤيد المبدأ الليبرالي مع التخلي في الوقت نفسه عن ذلك المحافِظ.

وعلى سبيل المثال، ففي ظل نظامٍ رئاسي على الطراز الأمريكي، قد نسمَح للكونغرس والرئيس بالدعوة إلى الانتخابات المتوقَّعة، والتي ستكون دائمًا متزامنة بالنسبة إلى كلا الفَرعَين، بحيث تُضطَر القوة التي مارسَت هذا الخيار إلى أن تدفع ثمنَ خوضِ الخطر الانتخابي. أو رُبما فرضنا عليهم إحالة طريقهم المسدود إلى مناظرةٍ وطنية واتخاذ القرار من خلال استفتاءٍ عام. وبمثل هذه الأدوات البسيطة والمألوفة، يمكِننا عكسُ المنطق السياسي للنظام، وتحويله إلى ماكينة لتسريع وتيرة السياسة التحوُّلية بدلًا من إبطائها.

أما حيث لا يُوجَد فصلٌ للسلطات (على سبيل المثال في ظل النظام البرلماني الكلاسيكي) فقد تبدو مثلُ هذه الابتكارات غيرَ ضرورية. وبرغم هذا، فنفس تأثير تطبيع النظام الاجتماعي بإضعاف فُرص تحوُّله السياسي قد ينتج عن ممارسة عقد الصفقات بين المصالح المنظمة القوية، والتي يمكِن لكُلٍّ منها عمليًّا ممارسة حق النقض (الفيتو)؛ وبالتالي فإن الحل هو الإصرار في المجموعتَين الأوليَين من الابتكارات في هذا البرنامج على ردكلة الديمقراطية. وهي تقوِّض المسكة الخانقة للأوليغاركية على السلطة. وفي الوقت نفسه، ففي غياب الصدمة، فهي تُذيب انصهار المفاهيم المتبلوِرة للمصالح الجماعية التي تعتمد، في مظهرها الخارجي من الطبيعية، أو الضرورة، أو السلطة، على التسريح demobilization السياسي للشعب.

والفكرة الهادية هنا هي أنها وحدَها أوجُه قصور ترتيباتنا وبصائرنا تمنعنا من تعلُّم كيف نُجزِّئ السلطة من دون تعقيم إمكاناتها التحوُّلية. ولتأييد الحرية السياسية، لسنا في حاجة إلى أن ننظِّم الحياة السياسية بحيث تُصبِح تمرينًا على ممارسة الحلول البديلة لكلا الحزبَين. إن سرعة الحياة السياسية لشعبٍ ما هي مزيةٌ ضرورية؛ فهي تجعل لكل لحظةٍ قيمتَها، كما هي الحال في وسط الأزمة التي لم نعُد نرغب في الاعتماد عليها.

ثمَّة مجموعةٌ رابعة من الابتكارات، تزيد بطريقةٍ أخرى من قدرتنا على التجريب بشكلٍ حاسم في اتجاهٍ معيَّن مع تحويط رهاناتنا. وتسمح هذه الابتكارات لأماكنَ أو قطاعاتٍ معيَّنة بالانسحاب من بعض أجزاء القواعد الراسخة للقانون، ومن ثَم اختبار قواعدَ أخرى. وهكذا، ففي أثناء انتهاج بلدٍ ما لطريقٍ بعينه، والذي يتحدَّد بالقرارات المتَّخَذة في سياسته الوطنية، فإن مثل هذه الترتيبات تسمَح بالتجريب، داخل جزء من أراضيه أو حياته، على نموذجٍ آخر لمستقبله. وهو مبدأ لا يتحقق إلا بشكلٍ ناقص في النظام الفدرالي التقليدي، أولًا، لأنه يتخذ تحت ذلك النظام شكلًا إقليميًّا فقط، ثانيًا، وهو الأكثر أساسية، لأن الوحدات الفدرالية المختلفة لا تتمتَّع نموذجيًّا إلا بالقَدْر نفسه من حرية الاختلاف. والمغزى هنا هو زيادة المدى الذي يمكِن معه للعمل الحاسم في المركز أن يتعايش مع الانحراف الواضح في المكان أو القطاع الذي ينسحب من القواعد. إن التقييد الحاسم لهذه القدرة على الانسحاب هو أنها لا تُستخدم لتحصين شكلٍ جديد من الاستبعاد والضرر الذي يكون ضحاياه الجُدُد حينئذٍ عاجزين عن الهروب منه بسهولة.

إن الفكرة المنورة هنا هي أن السياسة ليست مجرد تسجيل للتفضيلات؛ فهي عملية من التعلم الجماعي وتشكيل الذات. إن أفكارنا حول الأنماط المستقبلية البديلة التي يمكِننا صنعها يجب أن تكون ملموسةً إذا أُريد لها أن تصبح منيرة وموثوقة، علينا أن نمسَّ الجرح إذا أردنا أن نصدَّق.

ثمَّة مجموعةٌ خامسة من الابتكارات، تُقوِّي ضمانات وإمكانات الفرد كشرط لقدرتنا على فتح المجتمع على تجريبيةٍ أكثر حدَّة. وكما أنه لا تُوجَد أي علاقةٍ عكسيةٍ ثابتة بين المساحة المتاحة للعمل الحاسم في المركز وفي المحيط، أو بين تجزيء السلطة وتقوية استخداماتها التحوُّلية، إذن فليس هناك مثل هذا التوافق العكسي الثابت بين حقوق وسلطات الفرد وبين تجارب المجتمع. إن مدى بقاء المُثُل العليا والمصالح غيرَ متوافقة يعتمد على الترتيبات المعيَّنة التي يتحقق فيها كلٌّ منها، وتتمثل مهمة التخيُّل البرامجي العملي في تذويب التراجيديا إلى كوميديا، بتفريق المبادلات أو التوتُّرات التجريبية عن الصراعات التعجيزية.

يمكِننا أن نستنتج المبدأ الفاعل في هذه المجموعة الخامسة من الابتكارات من نقدٍ للغة التقليدية للحقوق الأساسية، فعند حرمانها من بِنيَتها الفوقية الميتافيزيقية، تمتلك هذه اللغة عنصرَين اثنَين؛ أداةً عملية ومفهومًا محفِّزًا.

إن الأداة العملية هي سحبُ بعض الترتيبات من جدول أعمال السياسة القصيرة الأمد ومنحُها بعضَ المناعة ضدَّ الهجوم، وإن التحصُّن الدستوري — وهو متطلَّب الأغلبية الساحقة — لإلغاء القواعد المحدِّدة لهذه الترتيبات هو أحد طرق إحداث هذا التأثير، أما منحُ هالةٍ من القدسية الأيديولوجية فهو طريقةٌ أخرى.

يُدرَك المفهوم المحفِّز بأفضلِ صورةٍ باعتباره منحَ الأمن والقدرة من أجل إمكانيةٍ إنسانية أكبر، فكِّر فيه بالتناظر مع العلاقة بين الحُبِّ غير المشروط الذي يمنحه الوالد لطفله، مما يؤمِّن للطفل مكانًا في العالم ورغبة الطفل في تحدِّي أخطار بناء الذات؛ لكي يصبح — إن لم يكن — عديم الخوف فعلى الأقَل أقَل خوفًا.

من أجل ردكلة الديمقراطية، يجب ألا نتخلى عن هذه الأداة العملية أو نُنكِر هذا المفهوم المحفِّز. وبدلًا من ذلك، علينا أن نكبِّر المفهوم المحفِّز بإعادة صياغة الأداة العملية.

إن الترتيبات التي تصون الفرد في ملجأ من المصالح والإمكانات المحمية تمثِّل بطبيعتها قيدًا على مرونة الحياة الاجتماعية، وهو، على أي حال، قيد يسمح بقَدْرٍ أكبر وأسرع من تحطيم القيود. ومن دونه، سيكون الفرد خائفًا للغاية وعاجزًا تمامًا. من الممكن أن نُضحِّي بهدفِ بعثِ الحياة في الناس لمصلحة هدف إخضاعهم للنظام.

ومن الممكِن للممارَسات والمؤسَّسات التي من خلالها نعرِّف ونوفِّر مثل هذا الأمن أن تزيد من تصلُّب الحياة الاجتماعية أو تقلِّله، إن نظامًا للطوائف، الذي يشابك الإحساس بالأمن في حفظ الأشكال الثابتة والمحدَّدة من الحياة الجماعية، يصلِّب من المجتمع أكثر مما يفعل النظام الكلاسيكي للحقوق الخاصة والعامة الذي اعتَبرَت الليبرالية الكلاسيكية، في القرنِ التاسعَ عشرَ، أنه مقابل المجتمع الحر. ومع ذلك، فهذا النظام ما زال يزوِّد بالقليل للغاية ويصلِّب كثيرًا للغاية. إن ما نريده هو مجموعةٌ من الترتيبات البديلة في العلاقة نفسها مع النظام الكلاسيكي للحقوق التي يمتلكها هذا النظام مع أي مثالي للطوائف، ويتطلَّب إنجاز هذه المهمَّة، بالإضافة إلى الإجراءات التقليدية الرئيسية لوقاية الفرد من القمع الخاص والحكومي، كلًّا من هَديَّةٍ وإنقاذ.

تتمثل الهديَّة في التطوير التدريجي لمبدأ شامل من الوراثة الاجتماعية؛ أن يكون كلُّ شخصٍ قادرًا على الاعتماد على مجموعةٍ أساسيةٍ دُنيا من الموارد المادية، حالما يسمح له بذلك التقدُّم الاقتصادي للمجتمع، في صورة إما حساب الهبات الاجتماعية، الذي يمكِنهم الاستفادة منه، وإما المطالبة بحدٍّ أدنى من الدخل.

إن الحد الأدنى، سواء كصندوق fund أو كمصدَر للدخل، يجب أن يتفاوت للأعلى وفقًا للمبادئ الموازية للتعويضِ الخاصِّ للحاجة الاستثنائية والتشجيعِ الخاص، في طبيعة المُعدَّات والفُرص الإضافية، لاستخدام المواهب الاستثنائية.

أما الإنقاذ فهو ترسيخ سلطة متميزة في الدولة، مصمَّمة، ومموَّلة ومجهَّزة للتدخل في تلك الحصون المتمركزة للاستبعاد والضرر الاجتماعي التي لا يستطيع الناس الهروب منها بواسطة الإجراءات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية المتوافرة لديهم، وللتدخل في منظَّمة أو ممارَسة معيَّنة، وغزو الخلفية السببية التي ينشأ منها الضرر أو الاستبعاد المتحصِّن. وإعادة بناء هذه المنظَّمة أو هذه الممارَسة حتى يمكِن للمشاركين فيها أن يقفوا على أقدامهم، هي مهمة ليس هناك فرعٌ أو جزءٌ من الحكومات المعاصرة مستعدٌّ لها بشكلٍ جيد بسبب المقدرة العملية أو الشرعية السياسية. وعلى الرغم من هذا، يجب أن تصبح هذه المهمة إحدى المسئوليات الرئيسية للحكومة في ظل أي نظامٍ ديمقراطيٍّ متعمِّق.

إن الرؤية المنوِّرة لهذه المجموعة الخامسة من الابتكارات هي تلك الخاصة بتحوُّل الحياة السياسية لشعبٍ ما باعتبارها حدثًا ضمن المشروع الأكبر لجعل أنفسنا أكثر ربانية، كما لو أننا نستمر في التقدُّم ومراجعة مصالحنا المُعترَف بها ومُثُلنا المعلَنة. وهي جزء من العملية التي نرفع بواسطتها عبء التقسيم والتراتُبية الاجتماعية المتحصِّنَين، وذلك الخاص بالأدوار الاجتماعية الإلزامية التي تُثقِل كاهل علاقاتِنا بعضِنا ببعض. إنها عملية للرفع، من خلال السلطات التي تمنحُها وعَبْر التجارب التي تساعد في جعلها ممكِنة.

وفي كُل هذه الطرق، هي ضِدٌّ للقَدَر anti-fate. وعلى أي حال، فمن خلال تقليل المكان الذي يمتلكه الحظ وسوء الحظ الاجتماعيَّان في تشكيل فُرصنا الحياتية، فهي لا تُحرِّرنا من سوء الحظ الذي ليس المجتمع مسئولًا عنه؛ سوء الحظ الذي ينتج من قَدَر إرثنا الجيني، من قَدَر الحوادث والعِلَل التي تُهاجِمنا، من القَدَر المفروض ذاتيًّا والذي يصعُب الهروب منه في الوقت نفسه، الخاص بذواتنا المتصلِّبة وطبائعنا، ومن قَدَر أفعال الرفض التي نتعرَّض لها بسبب حاجتنا الكونية إلى أن نُنقِذ بالشفقة والحب المجَّانيَّين من قِبل الأشخاص الآخرين. لا تُصبِح هذه الأشكال الأخرى من القَدَر أكثر ضعفًا ونحن نُردكِل الديمقراطية؛ فعلى العكس من ذلك، فهي تُصبِح أقوى. ونحن نراها بوضوحٍ أكبر، كما نعاني تأثيراتها بمرارةٍ أشد، عندما لا تكون مشغولين بأوجُه الظلم الاصطناعية للنظام الاجتماعي.

ما يمكِننا أن نطلبه من المجتمع هو ألا يُفاقِم نتائج هذه الأشكال الأخرى للقَدَر، وأن يُشجِّع تنويعَ معاييرِنا للإنجاز، وأنه بعد تقويض الطبقات الاجتماعية من أجل الفرصة فهو يقيِّد إذن المريتوقراطية باسْمِ رؤية تتعلق باشتراكنا في ذلك الجزء من القَدَر الذي لا يمكِننا هزيمتُه، وأن يزوِّد الوسائل اللازمة لتطوير الموهبة، ولكن أن يحدَّ من جوائزها، ليس فقط على أمل أن تجد الموهبة ما يكفي من الجوائز في تعبيرها الخاصِّ النشِط، ولكن أيضًا كاعترافٍ بأن مثل هذه الحدود قد تفرضُ خَسَارةَ بعض الإنجازات السابقة، وأن يغذِّي قدرتَنا على تخيُّل تجربة الأشخاص الآخرين، وأن يُضاعِف فُرص التعاطي والاتصال، وأن يستجيب للدرجات المتطرفة من سوء الحظ بالدرجات القصوى من الرحمة، والتي تؤكِّدها ليس فقط عمليات النقل التعويضية للموارد، ولكن أيضًا عَبْر الالتزاماتِ بتخصيصِ الوقت للاهتمام مباشرةً بالآخرين المحتاجين، من خارج العائلة، كجزء من المسئولية الطبيعية لكل بالغٍ سليمِ الجسد.

أما ما يجب أن نطلبه من أنفسنا فهو، مع فهم حدود السياسة وكذلك استعمالاتها، أننا لا نسعى، من خلال تحويل المجتمع، إلى الحصول على بديلٍ لتحويل الذات.

الأمل والصراع

لا تزوِّدنا هذه الأفكار المؤسَّساتية المتحدة بمخطَّطٍ ما؛ فهي تضرب مثالًا على العمل المناسب للتخيُّل البرامجي باقتراح اتجاهٍ ما وتحديد الخطوات القادمة. وليس الاتجاه وحده مثيرًا للجدل، وكذلك أي تفسيرٍ لأفضلِ طريقةٍ لانتهاجه في الظروف الحالية لبلدٍ بعَينه.

تنتج الطبيعة المتنازَع عليها للاتجاه عن خاصيةٍ متأصِّلة في أفكارنا السياسية؛ استحالة أيِّ فصلٍ كامل بين رؤية الخير ومفهوم الحق، وهو فصلٌ مثَّل إحدى الركائز الرئيسية للفلسفة الليبرالية الكلاسيكية، وليس هناك شكلٌ من الحياة الاجتماعية يتسم بكونه محايدًا بين الخطوات التالية المتجاورة في تطوير التجربة الإنسانية (الخطوات القادمة المتجاورة هي البقية العملية لمعنى المُحتمَل).

يدعم كل ترتيبٍ مؤسَّساتي للحياة الاجتماعية بعض أشكال التجربة ويثبِّط أشكالًا أخرى، ومن خلال اختيار اتخاذ اتجاهٍ ما بدلًا من آخر، فنحن نختار تطوير الطبيعة البشرية في اتجاهٍ بعينه؛ بشكلٍ هامشي، من دون ريب، ولكن مع هذا بصورةٍ تراكمية وبقوة.

من مزايا أحد أشكال الحياة الاجتماعية أن يسمح بوجود تشكيلةٍ واسعة من التجارب، وأن يجعل نفسه مفتوحًا للتحدي والتغيير، وعلى أي حال، فإن سراب الحيادية يعترض طريقَ إنجاز الأهداف الواقعية والمرتبطة لسَعَة الأفق وقابلية المراجعة، وهو يعمل ذلك بتحصين، وحتى بتقديس، مجموعةٍ معيَّنة من التعبيرات المؤسَّساتية عن فكرة المجتمع الحر.

يمثِّل المُضِي في أي اتجاهٍ مقامرة، لكنه أيضًا تعبيرٌ عن الأمل. والأمل الذي يُحرِّك هذا البرنامج السياسي يحتكم إلى مصلحتنا الأساسية في التقدُّم ضمن منطقة التقاطع بين مصالحنا العملية في تطوير قدراتنا الإنتاجية، ومصلحتِنا الأخلاقية في إعتاق الفرد من التقسيم والتراتُبية الاجتماعية المتحصِّنَين، ومصلحتِنا الروحية في بناء العوالم الاجتماعية والثقافية التي يمكِننا أن نسكُنَها ونتجاوزَها في الوقت نفسه. من أجل التقدُّم إلى الأمام في منطقة التداخُل بين المتطلَّبات المؤسَّساتية لهذه الفصائل الثلاث من المصالح، علينا أن نجدِّد ونكبِّر الذخيرة المقيِّدة للأفكار والترتيبات المؤسَّساتية التي تتمسك بها الحياة الاجتماعية الآن بشدة.

هناك سببٌ للاعتقاد بأن السعيَ وراءَ هذه الالتزامات الكبيرة والأساسية يمكن أن يتلاقى، من خلال التجريب المؤسَّساتي، مع دفاع مصالحنا الجماعية المُقرَّة ومُثُلنا الاجتماعية المُعلَنة، ضمن المجتمعات والثقافات المعاصرة. وتكمُن أسس هذا الأمل في خاصيتَين أخريَين للحياة السياسية؛ ازدواجية طرق التعريف والدفاع عن مصالح الجماعة، والعلاقة الداخلية بين التفكير في المصالح والمُثُل العليا والتفكير بشأن المؤسَّسات والممارَسات.

يمكِننا دائمًا أن نعرِّف ونُدافِع عن مصالح جماعتنا أو طائفتنا المُعترَف بها بمجموعتَين مختلفتَين من الطرق. ومن بين مجموعتَي الطرق، ثمَّة واحدةٌ محافِظة مؤسَّساتيًّا وحصرية اجتماعيًّا، وهي تفترض مسبقًا الموضع اللائق niche الحالي الذي تحتَلُّه المجموعة، وفقًا للترتيبات الراسخة، باعتبارها طبيعية، كما تمثل المجموعات المُجاوِرة في الفضاء الاجتماعي كمنافسين.

أما المجموعة الأخرى من الطرق فهي تحوُّلية مؤسَّساتيًّا وتضامُنيَّة اجتماعيًّا. وهي تتعامل مع الموضع اللائق، ومن ثَم الترتيبات المستبطنة له، باعتباره قابلًا للمراجعة. وهي ترى المجموعات المجاورة كحلفاءَ محتمَلين، وهي تنتقل من التحالفات التكتيكية إلى إعادة توحيد مصالح الجماعة وهُويات الجماعة، على أساس المؤسَّسات والممارَسات المتغيِّرة. وهذه المجموعة الثانية من طرق تحديد — والدفاع عن — مصالح الجماعة هي التي يجب أن نفضِّلها في العادة، بالسعي إلى دمج حساب المصالح مع رؤية البدائل.

ليست ممارَساتُنا ومؤسَّساتُنا مجرد قِطَعٍ من الهندسة الاجتماعية التي يمكِننا من خلالها أن نطبِّق النماذج المحدَّدة سلفًا؛ فهي تتعلق داخليًّا بفهمنا لكلٍّ من نماذجنا ومصالحنا. وكل نموذج — اجتماعي او اقتصادي أو سياسي — يشير إلى اتجاهَين مختلفَين؛ إلى التطلُّعات المبدئية، وغير المحدَّدة المعالم، والمُتجاوِزة، وإلى خلفيةٍ مشروطة بعينها من الترتيبات التي عادةً ما ننظر إليها بديهيًّا على أنها التعبير عن ذلك النموذج. وعندما نقوم بالتجريب على هذا التعبير المؤسَّساتي، سواء في الحقيقة أو في الخيال، فنحن نكشف التباساته الخفية للمعنى ومأمولاته المتعدِّدة للتطوير عَبْر سلسلةٍ مختلفة من الخطوات التالية الممكِنة التحقيق. إن إتقانَ هذه العملية، وتحويلَها من أن تكون حادثًا يقع لنا إلى طريقةٍ يمكِننا تطبيقها، يمثِّل جزءًا من طموح التجريبية الديمقراطية.

يمكِننا أن نأمل أن فوائد الاتجاه الذي وصفتُه كردكلة الديمقراطية سيُثبِت أنها جذَّابة ولا تُقاوَم، وأن عيوبها سيظهر أنها مصحِّحة لذاتها في ضوء التجرية. لكن الأمل، على أي حال، هو أمل، وليس ضمانًا. ليس التصريح بهذا الأمل إعلانًا لنهاية التاريخ، بل استمراره فقط، في ظل ملكوت الزمن الوحشي والمُولَع بالحرب.

ولجدالية الاتجاه نتيجةٌ عملية؛ الاحتمال الدائم للنزاع، وبالتالي أيضًا لأي كفاح من أجل الموت على شكل حرب. يمكِننا أن نتمنَّى احتواءَ هذا النزاع، وتنظيمَه، وروحنتَه، ولجعله سلميًّا لفترة من الزمن. ويمكِننا أن نُسكِت عاطفة الخوف التي تُرافِقه كظلِّه إذا ضَمِنَّا الفرد في ملجأ من الحيوية والإمكانات المحمية. مع تقليل المدى الذي يعمل فيه هذا التأمين على تصليب الفضاء الاجتماعي المحيط. ويمكِنُنا أن نتمنى أن قدرتنا على تخيُّل تجربة الأشخاص الآخرين ستزيد مع نجاحنا في إلهام وتجهيز الرجال والنساء العاديين لتعميق وتطوير حياتهم التخيُّلية؛ امتيازات التجربة الشخصانية.

وعلى أي حال، فنحن لا نستطيع قمع النزاع الذي هو جوهري للحياة السياسية، أو أن نضمنَ عدم تصعيده إلى عنف. إن السبب الأول لكَوننا لا نستطيع عمل ذلك هو أنه ليس بوسعنا فصلُ دستور الحق عن اختيار الخير؛ فعند اختيار الاتجاه نحن نختار ما سنصير إليه بشكلٍ جماعي، ونُعلن ما نقيِّمه أكثر وما نخافه أكثر من أي شيءٍ آخر. أما السبب الثاني، فهو أنه ليست هناك بصيرةٌ يمكِنها أن تجعل اختيارَ الخير غيرَ مثيرٍ للجدل. ويتمثَّل السبب الثالث في أن الاختلافات بين الأنفس عميقة، وأن مصلحتَنا تكمُن في تعميقها برغم الأخطار التي ينطوي عليها مثل هذا التعميق. أما السبب الرابع، فهو أن الرغبة الإنسانية علائقية؛ تسعى أقوى رؤانا ودوافعنا للتعبير عن نفسها في الأشكال المشتركة من الحياة، والتي تتصارع حينئذٍ بعضها مع بعض. وهناك سببٌ خامس يكمُن في أنه لا يمكِن للإنسانية تطويرُ قدراتها إلا بواسطة تطويرها في اتجاهاتٍ مختلفة، سواء من خلال الأمم والحضارات التي ظلَّت حتى الآن تمثِّل الأبطال الرئيسيين في التاريخ العالمي، أو في أنماطٍ أخرى لم تُخترع بعدُ. تتحد هذه الأسباب الخمسة ليس فقط لجعل العداء خاصيةً جوهرية للتجربة السياسية، ولكن أيضًا لجعل جهودنا المحظوظة لاحتوائها غيرَ آمنة ومؤقَّتة.

إن ديمقراطيةً معادًا تنظيمُها في ضُوء الطموحات المؤسَّساتية الخمسة التي استكشفتُها يشق الاختلاف بين المواطنين والأنبياء، وكذلك بين العابثين العمليين والمواطنين. ومفهوم الحياة السياسية الذي تقترحُه ليس سَحقًا للمخاوف الخاصة بواسطة التفاني العام، بل هو بالأحرى دفعٌ للخارج إلى مجال مصالحنا العادية. وعند النظر إليها في ضَوء هذا البرنامج، لن تكون السياسة الديمقراطية مجرد ممارَسةٍ واحدة بين الكثير منها؛ بل هي المقابل، في الحياة السياسية، للتعاون المشجِّع على الابتكار. وهي تصبح النشاط الذي يَكشِف بأكمل صورة ويحسِّن في الوقت نفسه بأكثر فاعلية قدراتِنا على التعاطي والتجاوز، والذي يُنكِر الكلمة الفصل على النظام الراسخ ويحتفظ بها لأنفسنا.

١  Madison: جيمس ماديسون (١٧٥١–١٨٣٦م) الرئيس الرابع للولايات المتحدة (١٨٠٩–١٨١٧م). (المترجم)
٢  Mussolini: بنيتو موسوليني (١٨٨٣–١٩٤٥م) زعيم فاشي وديكتاتور حكم إيطاليا بين عامَي ١٩٢٢م و١٩٤٣م. (المترجم)
٣  oligarchy: الأوليغاركية حكم القِلَّة. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤