لحظة إصلاحية؛ إعادة اختراع الديمقراطية الاجتماعية
إن رؤية ما يعنيه التغيُّر الاجتماعي والسياسي في مثل هذا الاتجاه وما يتطلبه، تساعد على استكشاف تجربةٍ معاصرة بعينها، أما تفاصيل تلك التجربة فليس لها سوى فائدةٍ عابرة، وحتى في وقتنا هذا فهي تتغيِّر إلى مشاكلَ أخرى، لا يمكِن أن يتصوَّرها العقل حتى الآن. وعلى الرغم من هذا، فإن التجريبية الديمقراطية التي تستند إلى براجماتيةٍ مردكلة تقترح مقاربةً للتعامل مع هذا المأزق العابر. وهذه المقاربة تزوِّدنا بمثالٍ على اتجاهٍ للتحرك من أجل إعادة بناء المجتمع وطريقةٍ للتفكير بشأن مستقبله.
إن نموذج التنظيم الاجتماعي الذي يُمارِس الجاذبية الأقوى في جميع أرجاء الكرة الأرضية اليوم هو الديمقراطية الاجتماعية الاسكندنافية. يبدو أنه إذا كان بوسع العالم أن يُصوِّت فسيُصوِّت لكي يصبح السويد وليس الولايات المتحدة. إن أوجُه عدم المساواة المفرِطة، وأوجُه الاستبعاد التاريخية، والقسوة المطلَقة للمجتمع الأمريكي يُنظر إليها على نطاقٍ واسع باعتبارها سعرًا أغلى بكثير من أن يُدفع، إذا تعيَّن أن يُدفع مثل هذا الثمن أصلًا، للوفرة المادية والحيوية الثقافية للأمريكيين. في أغلب أجزاء العالم، أصبح الخطاب المعسول ليسار الوسط — الذي يَعِد البلدانَ الأشدَّ فقرًا والأكثر تخلفًا بالديمقراطية الاجتماعية — هو اللغة المشتركة للتقدُّميين المدَّعين.
وللمُفارَقة، على أي حال، فقد تزامنَت هيبة الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية مع إفراغ صميمها البرامجي التقليدي من محتواه. إن وجهة النظر غير العاطفية للديمقراطية الاجتماعية الأوروبية، كما ترسَّخَت خلال السنوات الثلاثين التي تلت الحرب العالمية الثانية، ستُقِر بأنها تحدَّدَت وفقًا لستة التزاماتٍ مرتَّبة في ثلاثة أزواج. وقد طوَّرَت الديمقراطياتُ الاجتماعية المختلفة هذه الالتزاماتِ بطرقٍ مختلفة وتحت ظروفٍ مختلفة. لكنها اعتنقَتْها على الرغم من ذلك.
يشير الزوج الثاني من الالتزامات إلى القيود المفروضة على قدرة الأسواق على تقويضِ أشكالِ تنظيم العمل التي تُقيم بناءً على نتائجها الاجتماعية بالإضافة إلى تلك الاقتصادية، ومثل المجموعة الأولى للالتزامات، يُشير هذا الزوج الثاني ضمنًا إلى اختلاقٍ لاقتصاد السوق بدلًا من إعادة تنظيمه التراكُمية.
إن المبدأ الرابع هو حماية الشركات العائلية، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، ضد الضغوط التنافُسية، هو حلٌّ وسطٌ مضروب بين المريتوقراطية ومحاباة الأقارب. إن الدَّور المخصَّص للانتقال الوراثي للمنافع الاقتصادية أو التعليمية خلال العائلة يُعيد، ولو بصورةٍ موهنة، إنتاجَ حقائق المجتمع الطبقي. وهو يسمح أيضًا لدولة التنظيم وإعادة التوزيع بالوصول إلى تسوية مع الولاءات والطاقات، المتجذِّرة في الحياة العائلية، التي لا يمكِن أن تنافسها في السلطة سوى الاقتناعات السياسية والدينية.
يتعلق الالتزامان الأخيران بإدارة سياسة الاقتصاد الكلي من حيث علاقتها بتوزيع الدخل والثروة؛ فوفقًا للمبدأ الخامس، فإن ثمَّة «شراكة اجتماعية» بين الحكومة الوطنية والمحلية، والشركات الكبرى، ونقابات العمال يجب أن تتوصَّل إلى اتفاقاتٍ حول التأثير التوزيعي للسياسة الاقتصادية. وتساعد هذه الصفقات على منع الصراع التوزيعي من التدخل في الإدارة الاقتصادية «السليمة»، للاقتصاد، وبالتالي في صنع الثروات. يبقى معظم المجتمع خارج عالم هذه المصالح المنظمة؛ ففي التفاوض حول العَقْد الاجتماعي، فإن غير المنتمين إلى المنظَّمات يجب أن يتم تمثيلهم مباشرةً من قِبل الحكومة، بالإضافة إلى تمثيلهم فعليًّا من قِبل أولئك المنتمين إلى المنظمات.
تعرَّض هذا البرنامج ذو النقاط الست على نحوٍ متزايد لتفريغ محتواه من عناصره الأساسية؛ فقد تراجعَت الديمقراطية الاجتماعية، في موطنها الأوروبي الأصلي، عن الالتزامات الأربعة الأولى حتى تدعم الاثنَين الأخيرَين بصورةٍ أفضل، أو حتى عن الخمسة الأوائل لتُدافِع بصورةٍ أفضل عن السادس. أثبت المستوى المرتفع من التأهيل الاجتماعي أنه الخط الأخير للدفاع. أما التوليف المتبجِّح بين المرونة الاجتماعية على الطراز الأوروبي وبين المرونة الاقتصادية على الطراز الأمريكي فقد كانت بمنزلة استسلامٍ متنكِّر في صورة توليف — أو «طريق ثالث».
لا التسوية الديمقراطية-الاجتماعية كما أُعيد تعريفُها في الآثار الطويلة للحرب العالمية الثانية، ولا الغربلة اللاحقة لهذه التسوية من قِبل التوليف الكاذب للحماية الاجتماعية الأوروبية الطراز مع المرونة الاقتصادية الأمريكية الطراز، من شأنها أن تحلَّ مشاكل الديمقراطيات الاجتماعية الأوروبية المعاصرة.
لا يمكن التصدي لهذه المشكلات بفعالية إلا من خلال مجموعةٍ جديدةٍ من الممارسات التجريبية والمؤسَّسات البديلة. سيكون تطويرُ مثل هذه الممارَسات والمؤسَّسات بمنزلة المُضِي قُدمًا في اتجاهٍ أوصت به التجريبية الديمقراطية التي تنوِّرها البراجماتية المردكلة التي يُجادل هذا الكتاب لأجلها. وعلى أي حال، فسيكون أيضًا بمنزلة إرباك وإعادة صياغة شروط التسويات العملية والأيديولوجية التي جعلَت الديمقراطية الاجتماعية ما هي عليه.
لنتدبَّر الآن ثلاثًا من هذه المشكلات المرتبطة. وهي تظهر، بشكل أو بآخر، في كل مجتمعٍ أوروبي تمتَّعَت فيه الديمقراطية الاجتماعية بالأهمية.
إن المشكلة الأولى التي تواجه الديمقراطيات الاجتماعية هي ضيق نقاط الدخول الاجتماعية إلى القطاعات المتقدمة من الاقتصاد. يتم التحكُّم في الاقتصاد العالمي على نحوٍ متزايد من قِبل شبكة من الطلائع الإنتاجية، التي أُسِّسَت في الصف الأمامي من الدول النامية وكذلك في المجتمعات الغنية. وهذه القطاعات تتشارك بعضها مع بعض، فتتبادل الأفكار، والممارَسات، والناس بالإضافة إلى رأس المال، والتكنولوجيا، والخدمات. وعلى أي حال، فهي مرتبطة في أغلب الأحيان بصورةٍ واهية ببقية أجزاء الاقتصاد والمجتمع.
كان قلب الطلائع الإنتاجية هو مراكمة رأس المال، أو التكنولوجيا، أو حتى المعرفة بصورةٍ أقلَّ من كونِه نشرَ مجموعةٍ من الممارسات الثورية. وهذه هي الممارَسات التي تحدِّد التعاون التجريبي، مع إضعافها للمقارَنات الصارخة بين الأدوار الإشرافية والتنفيذية، وكذلك بين الوظائف التنفيذية ومزيجها المائع بين التعاون والمنافسة، والتزامها بإعادة التعريف المستمر لمصالح وهُويات المجموعة، بالإضافة إلى إعادة تعريف المهام والإجراءات الإنتاجية. لكن الطلائع الإنتاجية الحالية، على أي حال، لا تنشُر هذه الممارسات في العادة إلا بواسطة إخضاعها تحت نِيرِ النظام الموروث للمِلكية والعَقْد، وجَعلِها تخدم مصالح أولئك الذين يسيطرون على الشركات بفعالية، كمُلَّاك أو كمديرين. بَيْدَ أن تطوير هذه الممارَسات ونشرها في جميع أجزاء قطاعاتٍ أوسع من المجتمع والاقتصاد يعتمد في معظمه على إعادة تصميم سياقها المؤسَّساتي.
كانت هناك أداتان متوافرتان تقليديًّا لتعويض النتائج المسبِّبة لعدم المساواة الذي تنطوي عليه التقسيمات بين القطاعات المتقدِّمة والخلفية. ومن بين هاتَين الأداتَين، نجد إعادة التوزيع التعويضي من خلال نظام الضريبة والنقل، والذي ظل دائمًا مصدَر فخر، والآن البقية الهشَّة للديمقراطية الاجتماعية التاريخية. أما الأداة الأخرى فكانت الانتشار والحماية المدعومَين حكوميًّا للممتلكات والشركات العائلية الضيقة النطاق. ولا تتغلب أيٌّ من المقارَبتَين على أوجُه عدم المساواة الهائلة المتجذِّرة في التقسيم الهَرَمي للاقتصاد، وكلٌّ منهما تعرض نفسها كقيود على الفعالية الاقتصادية من أجل العدالة، وعلى النمو الاقتصادي — في المدى القريب على الأقل — من أجل الوحدة والعدالة الاجتماعية. وهما تفشلان في إرساء التزاماتها بالتضمين والتماسُك في المنطق المؤسَّساتي للابتكار والنمو.
وبموجب هذا التشريع، ينقسم المجتمع إلى أربعِ طبقاتٍ كبيرة. ويتعايش هذا الترتيب الطبقي في سلامٍ نسبي مع المبدأ المريتوقراطي بدلًا من أن يقوَّض بواسطته؛ فانتقال الأفضلية التعليمية بالإضافة إلى تلك الاقتصادية عَبْر العائلة، عندما يقترن مع العنصر الوراثي في توزيع قدراتٍ فكرية بعينها، يسمح بذلك التوليف بين المريتوقراطية والطبقية الذي يميِّز كل المجتمعات المتقدِّمة الآن، وهو توليفٌ يساعد على تقييد متناول الديمقراطية وإبقاء جماهير الرجال والنساء العاديين ضمن حدودٍ بعينها.
تكون غالبية الشعب، المكوَّنة من طبقة الشركات الصغيرة والطبقة العاملة، غير متأثرة بالدرجات المُفرِطة من الحرمان وعدم الأمان، خصوصًا عندما يعيشون في ظل الديمقراطية الاجتماعية. وعلى أيِّ حال، فهم محرومون من الوصول إلى القطاعات المتقدمة، بكل ما تحمله من سَعَة للكسب، والتقدير، والابتكار. وهم يجدون العزاء في أسرهم وتلهياتهم.
إن النتيجة الاجتماعية الأكثر أهميةً لهذا الموقف هي إعادة رسم التقسيمات الطبقية للمجتمع بدلًا من تحطيمها، أما نتيجتُه الأخلاقية الأهم فهي حرمان أغلبية العمال من الرجال والنساء فرصة امتلاك أي شيءٍ أكثر من موقفٍ مساعد تجاه عملهم الخاص. بَيْدَ أن أشد تأثيراته الاقتصادية تكلفةً هو إهدار الطاقات والمواهب على نطاقٍ واسع، مما يحرم العمالة العادية من الأجنحة، إن لم يكن من الذراعَين. ثمَّة نتيجةٌ ثانوية لهذا الإنكار للفرص على من يُحتمَل أن يصنعوا الثروات هي أنه يفرض على المالية العامة عبئًا لا تستطيع تحمُّله لمدةٍ طويلة، هو عبء التعويض عن طريق نقل نتائج أوجُه عدم المساواة المتجذِّرة في تنظيم اقتصاد السوق وفي نقائص التعليم العام.
ينقسم الحل لكُلٍّ من المشكلة الأساسية ولنتيجتها الطبيعية فيما يتعلق بالمالية العامة إلى شقَّين اثنَين؛ فأحد عُنصُرَي هذا الحل يجب أن يكون توسيع فرص الانخراط في القطاعات المتقدمة للإنتاج؛ ثمَّة توسيعٌ جذري للشروط التي يمكِن للناس من خلالها امتلاك الوصول إلى أنواع التعليم، والخبرة، والتكنولوجيا، والائتمان التي يتطلبها مثل هذا الانخراط. بالإضافة إلى ذلك، فإن مزيدًا من إتاحة الوصول لعددٍ أكبر من الناس في تشكيلةٍ أوسع من الظروف الاجتماعية والاقتصادية يرجح أن يتطلب طرقًا أكثر يمكِن من خلالها الجمع بين الناس والموارد من أجل النشاط الإنتاجي.
وحيثما وجدَت شبكة كثيفة من الحياة الترابطية والمشاركة في الشئون المحلية ضعيفة، مما يمنع الثقة السامية اللازمة للتعاون التجريبي، فلا بد من صُنع مثل هذه الشبكة من قِبل مجموعةٍ من المبادرات العامة والخاصة التي تحدِّد المسئوليات، وتوفِّر الموارد، وتفتح الفرص التي يمكِن أن تبدأ بالتشكُّل حولها أمثلةٌ جديدة من الارتباط. وحيثما كانت الاقتصادات الكبرى من حيث الحجم والنطاق مهمة لنجاح تنويعات الإنتاج المرن الموجَّه بالابتكار والأكثر ملاءمةً للفِرق الصغيرة منها للشركات الكبرى، يجب توطيد الترتيبات المؤسَّساتية وأنظمة القانون الخاص التي تسهِّل تحقيق المنافسة التعاونية بين منتجي القطاع الخاص — أي تجميع الموارد بين الفِرق والشركات التي تتنافس فيما عدا ذلك.
وهذا الحل ذو الجانبَين لمشكلة ضيق الوصول إلى الطلائع والطليعية في الاقتصاد يدعو بدوره إلى ذخيرةٍ مكبرة من أشكال التعاون بين الحكومة والأعمال الحرة. إن مصمِّمي مثل إعادة البناء هذه يجب ألا يتركوا أنفسهم، مجبَرين على الاختيار بين تنظيم الأعمال من قِبل الحكومة، والذي لا يشجِّع على التواصل الشخصي، وبين الصياغة المركزية للتجارة التكاملية والسياسة الصناعية من قِبل البيروقراطية.
إن تجديدًا للوسائل المؤسَّساتية التي تعمل من خلالها المبادرات العامة والخاصة معًا، يمكِن أن يعمل بدوره كنقطة البداية لإعادة صياغة مؤسَّساتية لاقتصاد السوق؛ فقد تنشأ أنظمةٌ مختلفة للعَقد والمِلكية عن الشروط المتباينة التي تعمل بموجبها الحكومة والشركات معًا. قد تبدأ هذه الأنظمة البديلة للقانون الخاص في التعايش تجريبيًّا ضمن نفس اقتصاد السوق المدقرط. وبهذه الطريقة، يمكِننا أن نعمِّم ونعمِّق التزام السوق الحرة بالحرية في إعادة توحيد عوامل الإنتاج ضمن سياقٍ مؤسَّساتي نقبل به كما هو، فنُحوِّله إلى حريةٍ أكبر لإعادة توحيد واستبدال قطع السياق المؤسَّساتي للمقايضة والإنتاج.
ثمَّة مسئوليةٌ رئيسية للدولة الاجتماعية المعاقبة في ظل الشكل الحالي الأجوف من الديمقراطية الاجتماعية، والتي تتمثل في جمع المال من أي مَن كان بحوزته — خصوصًا من المشاركين في القطاع الأول — وتوزيعه على مستفيدي المخصَّصات الاجتماعية — خصوصًا أفراد القطاع الثالث — يصبح التضامن الاجتماعي معتمدًا على حركة الشيكات عَبْر البريد. تمثِّل القطاعات المختلفة عوالم مختلفة؛ والناس الذين يعيشون في أحدها ليست لديهم أي معرفة تقريبًا بأولئك في القطاعات الأخرى. تترقَّق الروابط الاجتماعية إلى حد الانكسار، فلا يبقى أي شيءٍ مشترك ما عدا فكرة وجود ماضٍ مشترك، وهو الذكرى المشوبة بالعاطفة لذاكرةٍ وطنية.
ومن أجل أن يصبح التضامُن الاجتماعي حقيقة، يجب ترسيخ مبدأ مفادُه أنه لا يكفي للفرد أن يتخلى عن بعض ماله؛ بل يجب أن يتخلى عن بعض حياته؛ فمن حيث المبدأ، يجب على كل بالغٍ صحيح الجسد أن يحتل موقعًا في كلٍّ من الاقتصاد المعتني وفي نظام الإنتاج. ولتلبية مسئوليته في الاهتمام بالآخرين، من خارج أفراد أسرته، عليه أن يضحِّي بجزء، إن لم يكن من أسبوع أو سنة عمل، فمن حياةٍ عاملة. وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن تساعد الحكومة المجتمع المدني على إعادة تنظيم نفسه بحيث يصبح المجتمع المدني قادرًا على تنظيم ومراقبة تزويد الخدمات الاجتماعية، وبعد ذلك سيُصبِح الناسُ مسئولين بعضهم عن بعض. وعندئذٍ سيحصلون على المعرفة المجسدة وغير المتواسطة التي تعتمد الروابط الاجتماعية عليها.
ثمَّة مشكلةٌ ثالثة تتعلق بالديمقراطيات الاجتماعية المعاصرة، وهي حرمان الفرد من فُرص الهروب من تخوم حياةٍ صغيرة؛ فبالنسبة إلى أعدادٍ كبيرة من الرجال والنساء العاديين في الوطن الأوروبي للديمقراطية الاجتماعية خلال القرن الماضي، لم يأتِ الهروب، الباعث على الحياة، من الامتهان إلا من خلال المِحْنة المُميتة للحرب. إن الاستشهاد من أجل الأمة، ومجدها وحرياتها، كان بالنسبة إلى الكثيرين طريقةً للعيش من أجل شيءٍ أكبر من الذات. وحتى عندما كان ذلك مخيفًا ومكروهًا، فقد كان هروبًا من الروتينات التي بلَّدَت وأذلَّت.
على أي حال، فإن تجربة العظمة هذه، والمنقوعة في الدم، والمسمَّمة بالوَهْم والخداع، والتي تنتهي بالمعاناة، والإنهاك، والتحرُّر من الأوهام، كانت بمنزلة ارتقاء الإنسانية العادية إلى مستوًى أعلى من الوعي والنُّبل أقَلَّ من كَونِها وكيلًا بغيضًا لذلك المَثَل الأعلى المتعذَّر بلوغه.
تتمثل الإجابة العامة عن كل هذه الأسئلة في تطوير المؤسَّسات والممارَسات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية التي تجهِّز الفرد وتضاعِف فُرصَه في تغيير قطع السياق الراسخ لعمله وحياته، وفي الوقت نفسه يستمر في ممارسة أنشطته العادية. ومن خلال تقليل اعتماد التغيير على الكارثة فهي ترفَعُه إلى الأعلى، فتجعلُه ربانيًّا، أما الإجابة المحدَّدة عن كل هذه الأسئلة فهي أن الدولة يجب أن تساعد الفرد على ألا يكونَ ضئيلًا.
إن التعليم، الذي يبدأ منذ الطفولة ويستمر طوال الحياة العاملة، يجب أن يغذِّي صميمًا من القدرات المفاهيمية والعملية العامة لصنع الجديد من القديم. ويجب أيضًا أن يزود العقل بالوسائل التي تمكِّنه من مقاومة الحاضر. لهذا السبب بالتحديد، يجب ألا تبقى المدرسة تحت سيطرة مجتمع الأُسَر المحلية، التي تقول للطفل: كن مثلَنا. ولا يمكِن أن تكون تلك الأداة السلبية لبيروقراطيةٍ تعليميةٍ مركزية، والتي لا تُنقِذ الطفل من هذه التأثيرات إلا لتُخضِعه لصيغةٍ كُلية. وعند اعتماده على سُبلِ دعمٍ متعددة ولكونه سريعَ الاستجابة لمسئولياتٍ متعددة، عليه أيضًا أن يلاعبهما أحدهما ضد الآخر لفتح الفضاء الذي فيه تخدم الذاكرة الجماعية التخيُّل الفردي بصورةٍ أفضل.
تشترك هذه المشكلاتُ المتميِّزة الثلاث للديمقراطية الاجتماعية المعاصرة في أنها لا تستسلم لسياسات التنظيم وإعادة التوزيع التي شكَّلَت البرنامج الديمقراطي-الاجتماعي. عرفَت الديمقراطية الاجتماعية نفسَها بتخليها عن محاولة إعادة تنظيم الإنتاج والسياسة. وبسبب انسحابها من هذَين الحقلَين، طوَّرَت ما بدا كموقعٍ حصينٍ ضمن مجال التوزيع أو إعادة التوزيع.
إن التفريغ الحالي لمحتوى الديمقراطية الاجتماعية باسْمِ التوفيق بين الحماية الاجتماعية وبين المرونة الاقتصادية لم يُؤدِّ إلا إلى تأكيدِ منطقِ هذا التراجع. وقد اتضح الآن، على أي حال، أن الديمقراطية الاجتماعية لا تستطيع حل مشاكلها والمحافظة على حياتها ما لم تعُد إلى الحقلَين اللذَين انسحبَت منهما في لحظة تكوُّنها.
وهي لا تستطيع حلَّ أيٍّ من هذه المشكلات من دون الابتكار في الشكل المؤسَّساتي لاقتصاد السوق، فلا يمكنها دقرطة السوق من دون تعميق الديمقراطية؛ وبمعنًى آخر، من دون خلق مؤسَّساتٍ ديمقراطيةٍ مفعَمة بالطاقة، والتي تُسهِّل التجريب المؤسَّساتي وتقلِّل من اعتماد التغيير على الأزمة.
إن القوة الاجتماعية الحقيقية التي يمكِنها دفع مثل هذا التحوُّل، حتى في غياب الكوارث الاقتصادية أو السياسية الكبرى، هي رغبة جماهير العمال العاديين، المعزولين عن جُزر الإنتاج والتعليم المتقدم، في الدُّخول. وهم لا يستطيعون، على أي حال، أن يدخلوا، كما لا يمكِن التوفيق بين مزيدٍ من المرونة التقنية والاقتصادية وبين مزيد من التضمين الاجتماعي، ما لم نبدأ بتغيير البِنْية بأكملها. يمكِننا أن نُغيِّر البِنْية بأكملها قطعةً بعد قطعة وخطوةً تلو خطوة. ونحن لسنا بحاجة إلى، ويجب ألا نرغب في أي مخطَّط لذلك. وكل ما نتطلبه هو مفهومٌ واضح بخصوص الاتجاه ومجموعةٌ غنية من التخمينات المبدئية حول ما يجب عملُه لاحقًا.
إن التعاون التجريبي، بشروطه المحدَّدة بصورةٍ غيرِ محكَمة لكنها متطلَّبة، يمثِّل في الوقت نفسه وسيلةً وغاية، وطريقةً ونتيجة. وعلى أي حال، فهو يبقى أعمى حتى يتم تنويره من قِبل صراعٍ بين البرامج، التي يقترح كلٌّ منها اتجاهًا وسلسلةً من الخطوات التالية، وهنا تُصبِح البراجماتية المردكلة سياسةً تحوُّلية.