الفصل الثاني عشر

الدين: يقظة الذات

إعادة صياغة مشكلتَي الاتصال والتجاوز

وحدَه الأحمق هو مَن يستشير مذهبًا مجردًا للحصول على تعليماتٍ واضحة، وشاملة، وموثوقة عما يفعلُه في حياته. وعلى الرغم من هذا، فإن السؤال — كيف يجب أن أعيش؟ — هو سؤالٌ يتعيَّن على فلسفةٍ تمنح الأولوية لما هو شخصي أن تتحدث عنه. تستلهم حُجة هذا الكتاب مفهومًا عن الذات، هو المفهوم نفسه الذي يحفِّز تلك الأفكار حول الخَلْق الدائم للجديد في المجتمع. وهذا المفهوم عن الذات يقترح موقفًا تجاه بعض المشكِلات المحوَرية للحياة، برغم أنه عاجز وحدَه عن توليد أو دعم رؤيةٍ أخلاقيةٍ متطورة. وهو لا يمنَح وصفًا مفصَّلًا ولا دفاعًا جازمًا عن مساقٍ للحياة. لكنه يشير، على الرغم من هذا، إلى اتجاهٍ معين.

وعند التفكير بشأن الألغاز والأشواق التي هي محورية لحياتنا، نُواجِه مشكلتَين متكررتَين ومتغلغلتَين ومتداخلتَين، وهما مشكلتا الاتصالِ والتجاوُز، وهما متضمَّنتان بالفعل في مفهوم الذات الذي بدأت به هذه المناقشة، وظهرتا إلى السطح عندما بدَّلَت الحُجة عاملها الحاسم، من المفهوم إلى التوجُّه.

تمثِّل مشكلة الاتصال صراعًا بين الشروط الممكِنة للذاتية؛ فنحن نحتاج إلى الناس الآخرين — عمليًّا، وعاطفيًّا، ومعرفيًّا. وحاجتُنا إليهم غير محدودة ولا تشبع؛ فنحن نجرِّب كلَّ ما يفعلونه لنا كدفعةٍ مقدَّمة لصفقة لا يمكِن أن تكتمل. ونحن نبني ذاتًا من خلال الاتصال.

وعلى أي حال، فإن الخطر الذي يضعُنا فيه الناس الآخرون غير محدود أيضًا؛ فوجودهم، فيما يتجاوز كل صراعٍ معيَّن بين المصالح والإرادات wills، يفرضُ علينا ضغطًا مستمرًّا؛ ولذلك فنحن نتحرَّك نحوهم وبعد ذلك نبتعد عنهم، متذبذبين بين القُرب والبُعد. وفي أغلب الأحيان نستقر عند مسافةٍ متوسطةٍ قلقة.

إن الحرية، كتحكُّم في الذات، ستعني حلَّ أو تلطيفَ هذا الاشتباك بين المتطلَّبات الممكنة لتوكيد الذات. إن تجربتنا الأكثر إقناعًا مع مثل هذه التسوية هي الحب الشخصي؛ ففي تعابيره الأكمل، يعرض الحبُّ الشخصي تجريةَ الاعترافِ التخيُّلي وقَبول الآخر كفردٍ مطلَق. وبصعوبةٍ فقط، على أي حال، تكتسب هذه التجربة سيطرةً أوسعَ على الحياة الاجتماعية تتجاوز متناول لقاءاتنا الأكثر عمقًا واشتمالًا.

أما مشكلة التجاوز فهي تناقُضٌ بين مجموعَين من المتطلَّبات التي نفرضها على العوالم الاجتماعية والثقافية المنظمة التي فيها نتحرك. لا يمكِننا إيجاد سياقٍ حاسم لإنسانيتنا؛ فضاء طبيعي للمجتمع والثقافة يتسع لكل ما يستحق أن يُعمل، ويُستشعر، وأن يُفَكَّر فيه. ليس هناك مثل هذا الفضاء الطبيعي؛ فهناك فقط تلك العوالم المحدَّدة التي نبنيها ونسكُنها.

وهذه العوالم تجعلنا مَن نحن؛ فهي تشكِّلنا. وعلى أي حال، فهي لا تُشكِّلنا بالكامل مطلقًا؛ فدائمًا ما تُترك بقيةٌ من المقدرة غير المستخدَمة للعمل، والارتباط، والعاطفة، والبصيرة التي تستحق الامتلاك. هناك دائمًا فينا أكثر مما يُوجَد في أيٍّ من هذه السياقات أو في أيِّ قائمةٍ رجعية أو مستقبلية من السياقات. وبالمقارنة معها، فنحن لانهائيون؛ وبالضغط على حدودها القصوى، نكتشف أن هناك أكثر بداخلِنا.

ولذلك، فإن تحقيق مصالحنا المُقَرَّة ومُثُلنا العليا المُعترَف بها يُجبِرنا في النهاية على تجاوز ما يسمح به الإطار الراسخ. ومع شروعنا في القيام بذلك، يبدأ الوضوح الخادع لمصالحنا ومُثُلنا العليا في التلاشي. ونكتشف أن وضوحها الظاهر كان معتمدًا على ارتباطها في أذهاننا بالممارَسات التقليدية والترتيبات المألوفة؛ وبالتالي، تكون خضخضة churning السياقات مصحوبةً بالصراع داخل كُلٍّ منا وبيننا جميعًا، وعندما يكون بيننا، يتم ذلك بكل الوسائل من المحادثة إلى الحرب.

إن إنسانيتنا، بالإضافة إلى مصالحنا ومُثُلنا العليا المحدَّدة، تتطلب منا أن نقاوم وأن نحارب. وخلال كل هذه التجربة، نحن نواجه صراعًا بين اثنَين من شروط إنسانيتنا يتمتعان بالقَدْر نفسه من الأهمية الذي تتمتع به المتطلَّبات المُتعارِضة التي نفرضُها على الاتصال. نحنُ في حاجةٍ إلى المشاركة في عالمٍ اجتماعيٍّ وثقافيٍّ بعَينه. تأتي الحرية من المشاركة وكذلك من الاتصال. وعلى أي حال، فكلٌّ من هذه المشاركات يهدِّد بأن يصبح استسلامًا وبأن يختزلنا من مبدعين إلى دمًى؛ وبالتالي، نبدو مُجبَرين على الاختيار، في كل مناسبة، بين مشاركة تُحرِّرنا وتستعبدنا في الوقت نفسه وبين إحجام، عن طريق التحفُّظ الذهني إن لم يكن بالتمرُّد الخارجي. ولا يُبقي هذا التراجُع على استقلاليتنا إلا بإضعافِ مادتها؛ فالمشاركة، الصادقة إن لم تكن مخلصة، من دون استسلام، هي ما نحتاج إليه.

ولذلك فهذا هو توصُّلنا لإدراك طموح تغيير السمة الأساسية، بالإضافة إلى المحتوى المُحدد، لسياقات المؤسَّسات والمعتقدات التي يجب دائمًا أن نثور ضدها في نهاية المطاف. نحن نسعى إلى بناء عالمٍ منظم إلى درجة أن هناك فجوةً أقَل بين أن نكون داخلَه وأن نكون خارجَه، بين اتباع القواعد وتغييرها. وإلى حد نجاحنا، نكون قادرين ليس فقط على أن نحقِّق مصالحنا ومُثُلنا العليا المحددة بصورةٍ أكثر فعالية، ولكن أيضًا على تطوير إنسانيتنا بصورةٍ أكثر اكتمالًا. وهنا يُصبِح عالمنا أقلَّ شبهًا بكونه مكانًا للنفي والسجن؛ ومن ثَم فهو يحمل علامة اللانهاية بصورةٍ أوضح.

بَيْدَ أن مشكلة التجاوز مكتنفة في مشكلة الاتصال؛ فقدرتنا على التوفيق بين احتياجنا واشتياقنا اللانهائيَّين إلى الناس الآخرين وبين احتواء الخطر الذي يضعوننا فيه تبقى محدودةً في نطاقها خارجَ المجال المميز للحب الشخصي. وأفضل ما يمكِننا تحقيقه في العادة هو أن ننظِّم المسافة المتوسطة. فحتى في الديمقراطيات المعاصرة الأكثر حرية والأشد ازدهارًا، نظل مسجونين كخدمٍ مرتبطين بعَقدٍ للعمل ضمن مخطَّطٍ قَسْري للتقسيم والهرمية الاجتماعية لنمطيةٍ مبتذلة للأدوار الاجتماعية.

لا يمكِننا أن نهَبَ أنفسنا بعضنا إلى بعض كأفرادٍ كاملين فيما يتجاوز حدود الحب الشخصي؛ لأننا حتى الآن لم نجعل أنفسنا مثل هؤلاء الأفراد. يمثِّل السماح لنا بالقيام بذلك جزءًا من مهمة التعاون التجريبي والديمقراطية المفعَمة بالطاقة؛ فهما يزوِّدان الفرد بقدراتٍ أعظم وأكثر تنوعًا، مع تقوية تحرُّره من النزعات الموروثة للثقافة وتلقائيات automatisms المجتمع. وهما يُتيحان لعددٍ أكبر من الناس، عَبْر منطقةٍ أوسع، شهامةَ الأقوياء.

إن مشكلة الاتصال متورِّطة في مشكلة التجاوز، وهي متورطة كشرطٍ وكهدفٍ في الوقت نفسه. وكما أن الطفل يكون قادرًا بصورةٍ أفضل على تدبُّر مخاطر بناء الذات إذا علم أنه آمنٌ في حب والدَيه، كذلك يكون الرجال والنساء قادرين بصورةٍ أفضل على تحدي وتغيير قِطع سياقهم إذا كانوا آمنين ومدعومين في ارتباطاتهم بالآخرين، وكذلك في حقوقهم وقدراتهم الأساسية، كما أن الحرية التي نكتسبها من خلال إعادة الاختراع الدائمة للمستقبل والتحويل النوعي لسياقاتنا ستكون أكثر قسوةً ووحشية من أن تُعتبر هدفًا، وبطولية بصورةٍ أضيق وأخطر من أن تُعتبر مثالًا يُحتذى، إذا لم تَعِدْ بأساسٍ يمكِننا التواصُل من خلاله مع الناس الآخرين بصورةٍ أكثر اكتمالًا وإثمارًا.

كيف نُصادِف هذه المُشكلاتِ في أثناء الحياة؟

تعرض كلٌّ من مشكلتَي الاتصال والتجاوز نفسَها متنكرةً في صورة متواليةٍ مميزة في سياق حياةٍ ما، الحياة الأكثر طموحًا، التي يعيشُها أولئك الذين تناوَلوا بحساسيةٍ رسالةَ بناءِ الذات من خلال مقاومة العالَم والنسخة المصلبة من ذات المرء.

أولًا، علينا أن نتخلى عن تخيُّلاتِنا حول الذوات selves المتعدِّدة والحيَوات المتعدِّدة. علينا أن نعتنق مسارًا معيَّنًا ونقبل نتائجه المتعلِّقة بالشخص الذي سنصير إليه.
وبعد ذلك، علينا أن نتبعَ هذا الفعلَ العنيفَ من تشويه الذات مع الكفاح لتعلُّم كيف نستشعر الحركات الشبَحية للأطراف المفقودة، من خلال فعلٍ للحب التخيلي، علينا أن نتخيَّل تجربة الناس الذين لم نُصبحهم. وهذا التوسيع للإحساس بالذات يلتقي بتجربتنا المبكِّرة للاستعراف identification والتعاطُف من أجل ترسيخ أساسٍ لقَبول وتخيل الناس الآخرين.

وفي مرحلةٍ لاحقة، ونحن نُواصِل كفاحَنا، من موقعٍ معيَّن في العالم، ضمن حدود ظروفنا وبصيرتنا، ونُواجِه إغراء أن نُخطئ التعرُّف على التحرُّر من الوَهْم باعتباره حكمة، قشرة، مصنوعة من الطبع والمساومة، تبدأ بالتشكُّل حولنا. يأتي جزءٌ من هذه القشرة من الداخل؛ فالترتيبات المألوفة للذات تُشكِّل الطبع. بَيْدَ أن هذه الروتينات لا غنى عنها؛ فهي تمنح مكانًا متماسكًا وآمنًا يمكِننا أن نبدأ منه المغامرة والتجربة.

وعلى أي حال، تتطلَّب حريتُنا وحيويتُنا المقاومة أيضًا ضد طبعنا الخاص كنوعٍ آخر من اختزال اللانهائي إلى المتناهي والمفاجئ إلى الصِّيَغي. يجيء جزءٌ من القشرة من الخارج أيضًا؛ الاستكانة لقيود ظرفٍ منفرد. وهنا نبدأ في الاعتقاد بأن الحياة التي نعيشُها هي الوحيدة التي سنحياها أبدًا، وننحدرُ إلى قَبولِ ما نعتبر أنه قَدَرُنا.

تؤدي هذه التوليفة من الطبع المصلب والمساومة من دون تحدٍّ إلى تحنيط الذات؛ فنبدأ بالموت في كثيرٍ من الوفَيات الصغيرة. ولا يمكِننا حينئذٍ أن نعيش إلا بتمزيق هذه المومياء التي تبدأ بتغليفنا. ونحن لا نمزِّقُها إرْبًا إرْبًا لنُصبِح مستقيمين أو صالحين، بل نمزِّقُها إرْبًا إرْبًا لكي نتمكَّن من العيش بطريقةٍ تسمح لنا بأن نموت مرةً واحدةً فقط.

ولا يمكِنُنا تمزيقُها بوساطة فعلٍ مباشرٍ من الإرادة. وعلى أي حال، فمن الممكن للإرادة أن تعمل بشكلٍ غير مباشر وبقوة، إذا وُجِّهَت من قِبل منظورٍ للفرصة الأخلاقية. نحن نتقدَّم بواسطة فعلٍ ديناميكي من الاشتباك والتحويل الذاتي. وإذا تنحَّينا في وضعيةٍ من الانفصال الساخر، فسنتحوَّل من لحمٍ إلى حجَر. ومن خلال الارتباط بمعتقدات وأنماطِ حياةٍ معيَّنة، وبإخضاعِ أنفسِنا، من خلال مثل هذا الارتباط، للهزيمة والإحباط، وبالمخاطرة بتدمير الإيمان على يدَي الفكر والتجربة، فنحن نُواصِل العيش، ونتعلم، من خلال العمل، أن نتمنَّى.

ما الفكرة المتعلِّقة بحالتنا والتي، مع إقرارها برُعْبها من المعاناة والغموض، هي مبنية على فكرة الذات التي بدأت منها مناقشتي، يمكِنها أن تبرِّر مثل هذا الطموح في عيشِ حياةٍ ما؟

لنتدبَّر أولًا الظرف الأكبر الذي نُواجِه ضمنه معضلتَي الاتصال والتجاوز ونمُر بتعبيراتهما المميزة طَوالَ مسيرة الحياة الإنسانية. من ناحية، نجد أنفسَنا مدفوعين جيئةً وذهابًا بين الهياجِ والضجَر. وعندما نتمكَّن بشكلٍ مؤقَّت من إسكات طموحاتنا، وإحباطاتنا، والتهاءاتنا — التجوُّل المتواصل بين التفاصيل، والجهد المستميت لجعلها تتحمل وزنًا لا تستطيع حملَه — نسقُط إلى حالةٍ من التحديق والضجَر. أما لحظاتُنا السعيدة في الانهماك مع المهمة التي بين أيدينا ومع الشخص الآخر، فسرعان ما يلتهمُها هذا التناوُب بين الضياع والخوَاء. وفي هذه التعرُّضية، نحن نُعايِش كمعاناة النتيجة الجوهرية لإنسانيتنا، والتي تتطلَّب اللاتناهي من المتناهي وإمكان الوصول من اللانهائي.

ومن الناحية الأخرى، يكتنف الظلام وجودنا الخيالي والمعذب، منقطًا بالمباهج التي نحن عاجزون عن جعلِها مستديمة، واقعًا في حبائل دوافع، وشِراك، وآلام الجسد. ليس هناك تقدُّم في العلوم الطبيعية يُمكِنه أن يجعل هذا الظلام ينقشع؛ ففي النهاية، لا يُمكِن للعلم أن يزوِّدنا إلا بتاريخ الكون والنظاميات العابرة والمتناهية التي قد تظهَر في لحظاتٍ معيَّنة في هذا التاريخ. ولا يمكِنه فعلُ شيءٍ لشَق الاختلاف بين الوجود والعدم، أو توضيح كيف ولماذا يُمكِن للوجود أن ينشأ من العدم، أو لماذا نحن لسنا آلهةً بدلًا من الكائنات المحكوم عليها بالفَناء التي هي نحن في الحقيقة. كما لا يُمكِنه الإجابة عن أيٍّ من هذه الأسئلة — الآن أو إلى الأبد — لأنه يُفكِّر بعقولنا المتجسِّدة وليس بعقل الله.

تركِّز فَنائيتُنا على تجربتا المتعلِّقة بتعاقُبٍ وجيز، متعذِّر العكس، ودراماتيكي من أحجيةٍ إلى أخرى. ونحن نتعاطى بعضُنا مع بعض ونتعاطى مع أعمالنا والتزاماتنا الرتيبة، نُلقي على هذه اللقاءات الهشَّة، والروتينات البسيطة، والولاءاتِ غيرِ المعصومة عبءَ الاشتياق اللانهائي إلى اللانهائي؛ في حين أنها ليست كفُؤةً للأمر.

لنتدبَّر ثلاثة حلول لمشكلتَي الاتصال والتجاوز، عند النظر إليها مقابل هذه الخلفية من الاضطراب والجهل؛ قصة الخلاص، وانقراض الذات، ويقظة الذات.

تضع قصَّة الخَلَاص صراعَنا مع مشكلتَي الاتصال والتجاوز في سياقٍ أوسعَ من المغزى والأمل. تُؤذِن العلاقاتُ بين الناس بعلاقتنا مع الله، الذي يتدخَّل، بشكلٍ دراماتيكي، وحاسم، ومُبرم، في الزمن التاريخي. وهذا التدخُّل، الذي يبدأ في التاريخ ويستمرُّ في الخلود، يُعِد كُلًّا منَّا والعالم للتغلُّب على الصراعات بين الظروف المتناهية والشوق اللانهائي، بين الحاجة والخوف من الاتصال. وحتى مشاريعنا العلمانية الكبرى — مثل قضية الديمقراطية وتخفيف الفقر والظلم — تكتسب مغزاها من الدَّور الذي تُمارِسه في هذا العمل التخليصي.

هل يُمكِننا أن نجعلَ أنفسَنا نؤمن بمثل هذه القصة بوساطة الرغبة في الإيمان بها؟ وإذا حاولنا إنقاذ إيماننا باختزاله إلى استعارة، فنحن نجرِّده بالتحديد من تلك الملامح التي تسمح له بمخاطبة تخوُّفاتنا وآمالنا بأكثرِ الصورِ مباشرة وقوة. فنحن لا نستردُّه إلا بإلغائه.

لا يمكِننا تجنُّب الحكم على حقيقته، حقيقة الأحداث التاريخية والمُتجاوِزة لحدود التاريخ transhistorical التي يسردُها. وإذا كان يمثِّل طريقةً لإثارة الإرادة ومواساة العقل، فهي تُعاني عَيب القصص التاريخية للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، مثل الماركسية، التي ألهمَت وضلَّلَت السياسة التحوُّلية مدةً طويلة. أما السحر الذي نُلقِيه على أنفسِنا فسيقودنا إلى إساءةِ تمثيلِ كلٍّ من قيود وفُرص حالتنا. ونتيجةً لذلك، فسنرى بشكلٍ أقلَّ وضوحًا وسنكون أقلَّ تحررًا.
قد يبدو من الغريب استحضار مثل هذه الشكوى حول الصدق في مناقشةٍ تتعلق بموضوعات والتزامات براجماتية، ولأنه ليس هناك من بين ملامح الفهم الدارج للتقليد البراجماتي ما هو أكثر انتشارًا من فكرة أن هذا التقليد لا يقترح سوى وجهةِ نظرٍ ذرائعية instrumental للحقيقة. وقد جادلتُ هنا، على أي حال، بأن أسبقية الشخصي على اللاشخصي، وليس تبعية الاعتقاد للنفعية، هي عنصر هذا التقليد الذي لدينا أكثر المبرِّرات لإنقاذه وتطويره.
وفي مجال الشخصي والتاريخي على وجه التحديد، نحن نمتلك الأساس الأقوى لمعارضة اختزال الاكتشاف إلى وضع الاستراتيجيات strategizing. ومعرفتُنا بالطبيعة هي الأقلُّ موثوقية كتمثيلٍ للعالم بدلًا من كونها دليلًا للتدخُّل العملي، وذلك لأنها معرفةٌ محدَّدة بلا تناسُب بين العقل وموضوعه، ومحاصَرة بتناقُضات اللاشخصي. ومن دون ريب، فإن كل وجهةِ نظرٍ قوية للمجتمع والشخصية، بين أشياءَ أخرى، تمثِّل نبوءةً حقيقية؛ فهي تدعونا إلى التصرُّف بطريقةٍ تجعلها حقيقية. وعلى أي حال، فهذا الدافع المتعلق بتوكيد الذات، برغم أنه يتعذَّر استئصاله، فهو أيضًا محدودٌ ذاتيًّا؛ فسرعان ما نصطدم بالمقاومة المفروضة من قِبل الناس كما هم الآن، ومن قِبل المجتمع كما هو الآن. وبالتالي، فإن عنصر النبوءة المحققة لذاتها في أفكارنا الاجتماعية والشخصية يُجبرنا على مجابهة الحقيقة بدلًا من السماح لنا بأن نُخطئ في التعرُّف على الراحة باعتبارِها الحقيقة.
ثمَّة حلٌّ ثانٍ لمشكلات الوجود، وهو إفناء الذات. يمكِننا أن نجد صِيَغًا مختلفة منها كما عُبِّر عنها في فلسفات شوبنهاور وأفلوطين١ وكذلك في بعض جوانب تعاليم بوذا ولاو تسو.٢ وهي تقترح تعليق الكفاح الفردي من خلال مطابقة الوعي بالحقيقة الكونية والمطلَقة فيما وراء الذات. نحن نحقِّق المصالحة مع كلٍّ من الناس الآخرين ومجتمعاتنا وثقافاتنا من خلال تخفيضٍ جذري لقيمة حقيقة كلٍّ من الاختلافات الظاهراتية والذاتية الفردية.

هناك علاقةٌ متبادَلة في هذه الاستجابة بين الصورة الميتافيزيقية والتوجُّه الوجودي؛ فإنكار الحقيقة الجوهرية للاختلافات ضمن الكل المتعدِّد الأجزاء يبرِّر التخلي عن الصراع، بتناوُبه الفظيع بين القلَق والضجَر. ويتباعَد توقُّف الصراع عن المجابَهات التي يمكِنها وحدَها أن تُبقيَ اختلافاتِ العالم الظاهر حيةً في أذهاننا.

إن التكلفة الأخلاقية لإفناء الذات هي التأثيرُ ذاتُه الذي يستحضره مؤيدوه على أنه منفعتُه؛ فما نخسَره بتبنِّي هذا المبدأ الميتافيزيقي وممارسة هذا العلاج هو العالَم، ومع العالَم، هو الحياة. تنكمش تجربتُنا تحت ذريعة التوسُّع. وعندما نكون، بسبب حقيقة تجسُّدنا وموقعنا الاجتماعي، غير قادرين على مواصلة زعم العودة من الذات إلى المطلَق، نجد أنفسنا مسجونين في مكانِ عملِنا لتقليص حجمه.

تتعقَّد هذه التكلفة الأخلاقية بواحدةٍ إبستيمولوجية.٣ نحن نُعد في الوعي حالةً لا يُمكِن أن يأتي اختبارُ الإبطالِ فيها إلا من الخارج — الطَّرق على الباب بوساطةِ حقيقةٍ شخصية واجتماعية ترفُض أن يُخضِعها الإبعاد والإنكار.
وهناك حلٌّ ثالث، هو إيقاظ الذات على الناس الآخرين وعلى العالَم الظاهر. وتمثِّل هذه اليقظة تشديدًا لانهماكنا في التجربة، وخصوصًا تجربتنا في التفريق بين كلٍّ من الناس والظواهر؛ وهي انتقال من الدوخة المخدِّرة، التي تعترضُها لحظاتٌ من الألم والبهجة، إلى الحضور، والانتباه، والتورط. وهذا الارتباط بين تشديد التجربة والاعتراف بالاختلاف لا يظهر بصورةٍ أكثر اكتمالًا من إحساسنا بحقيقة الذات الفردية. ونحن نرى الآن هذه الحقيقة كواحدةٍ تمُر بجميع المراحل، بدلًا من رفضِها باعتبارها ظاهرةً إضافية epiphenomenon.

ولذلك فهذه اليقظة تمثِّل في كل جوانبها انقلابًا لكلٍّ من الموقف الوجودي والرؤية الميتافيزيقية المستبطنة لمحاولة إفناء الذات. وهي تتخذ مفهومًا معيَّنًا للذات وكفاحها مع العالم — هو المفهوم الذي اقترحتُ وضعه في المركز من براجماتية مردكلة – وتطوُّره إلى جوابٍ لمشكلات الوجود. وهي تُعطي كثيرًا من العلامات على نواياها وتُخضِع نفسَها لعددٍ من الاختبارات لادعاءاتها.

وفي السياسة وفي الثقافة، هي تقودُنا نحو الاختراع الدائم للمستقبل وتحسين قدرات الإنسانية العادية وكرامة التجربة العادية، وهنا تُصبِح بِنْية المجتمع أقربَ شبهًا بطرقِ عمل الخيال.

وعند تشكيل الرؤية والعمل الأخلاقي، فهي تُلهم المقاومة لتحنيط الذات، وبصورةٍ أكثر عمومية، الجهد المبذول لتضمين حلولنا لمشكلة الاتصال كاستجابةٍ لمشكلة التجاوز. وفي أثناء تطويرنا لقُدراتنا العملية، يُصبِح غرضُنا الأخلاقي الجوهري هو التوفيق بين العظمة والحب في تجربتنا للذاتية واللقاء. ونحن نسعى إلى ممثِّل هذه التسوية في شكلٍ غيرِ ملوَّث بأوهام خُلُقٍ بطولي، مُنفَتِح على تلقينات التجربة العادية، والذي يحترم قُدرات الناس العاديين.

وفي خيال العالَم ككل، مثلما يُمكِننا أن نراه ونفهمه من موقع الأفضلية الضيِّق والعَرَضي الذي نمتلكُه، نجده يُلهم محاولةً لاسترداد، ومعاقبة وتحويل، الحضور الرؤيوي للعالم بالنسبة إلى الطفل. يعمل الفن والعلم معًا لتعميق وعيِنا بالاختلافات الموجودة ضمن العالم الفعلي بوضع الفعلي مقابل خَلفيةٍ من التبايُن والفرصة التحوليَّين — كما تُرى، وتُكتشف، وتُتصور، ويُتنبأ بها، وتُخلق. وبدلًا من تعتيم إحساسنا بالحقيقة والاختلاف الحقيقي، فهذا التخيُّل للتغيير يجعله أكثر حدة. وبرغم أننا لم نصنع العالَم، فالعالَم الواسع بأكمله يصبح حُلمَنا، ويبدو كل شيء فيه لنا كإغاثةٍ رؤيوية للعقلِ الحالم.

الخيارات الوجودية

تخيل مشكلة الطريق إلى الذات من منظورٍ آخر، هو منظورُ الخيارات الوجودية التي يطرحُها علينا التفكير الأكثر طموحًا والأوسع شموليةً لزماننا الخاص. وسنصل إلى النتيجة نفسها ولكن من نقطةِ بدايةٍ مختلفة..

ونحن نُواجِه قطعية ونهائية الموت، ولعجزِنا عن تبديدِ لُغز وجودنا، أو وجود العالم، نحن ننهَمِك عادةً في شئون الحياة، وفي ارتباطاتنا بالآخرين، وفي صراعاتنا معهم. ويحتلُّ مثلُ هذا الانهماكِ وعيَنا. وإذا كان حادًّا، فهو يملؤنا بالبهجة. حتى إذا كان مترافقًا مع ظلال الخصومة، والتناقُض الوجداني، والندَم، والخوف. وقد تسير الشدة في اتجاه التكريس لمهمةٍ ما أو الاشتياق إلى الناسِ الآخرين.

وتكون هذه الشدة، على أي حال، متذبذبة. وهي تهدِّد بأن تغوص، فتُصبِح مغمورةً بالروتين. ليست المشكلة هنا في التَّكرار والعادة؛ فهما من ملامح تجربتنا التي يستحيل تجنُّبها ولا يمكِن الاستغناء عنها، بل تكمُن في الفشل في المحافظة على صفاتنا الإلهية — وهي خاصية الروح المتجاوزة للسياق — في وسط التكرار؛ أي الفشل في تجسيد الروح في الروتين.

ونتيجةً لذلك، نحن نعيشُ معظم حياتنا فيما يُشبِه الدوخة، كأننا نمثِّل مخطوطةً كتبَها شخصٌ آخر. وهذا الشخص الآخر، على أي حال، ليس فردًا أو حتى مجموعة، بل هو اللاشخصي، الذي يسحق السلطة الجماعية للآخرين الذين يحدِّدون صلاحياتِنا والذين يُمارِسون السلطة، أو يُعانون العبودية، في العالم الذي نسكُنه. نحن نصبح «هم»، لكنهم لن يصبحوا كلًّا منا.

إن وميض طاقة الحياة يشبه الاحتضار قليلًا، أو هو الموت على خطوات. وهو يأتي مصحوبًا بسلوانه الخاص؛ تمنعُنا حالة خَدَر من الوعي المُضمحِل الذي ننحدرُ إليه من التركيز على فداحة الخسارة أو من مواجهة حالتنا، كما أن ضغوط الحاجة المادية والندرة الاقتصادية تُبقينا مقيَّدين إلى مسئولياتنا العملية.

لنتدبَّر ثلاثَ استجاباتٍ مختلفة؛ مارسَت كلٌّ منها دَورًا في فكر، وفن، وتجربة زماننا. لكن وحدَها الثالثة تضعُنا على طريق التأليه المُتَّسِق مع حقائق وجودنا.

تقوم إحدى الاستجابات بعرضٍ مستمر أمام أعيُننا لمنظر الانحدار نحو الموت وحَومنا حول فقدان كل معنًى. يتمثَّل مغزى هذا الاستعراض في أن يُثير فينا رعبًا من الفظاعة والعنف بحيث نحرِّض على الثورة ضدَّ إنكار الشخصية النشِطة والواعية.

لكن لأي سبب؟ لغاية دفعِنا إلى أن نتمالَكَ أنفسنا. نحن نتمالَك أنفسَنا بإعادة توكيد ادعاءات الحياة بدرجةٍ أقلَّ من إنكارِنا أهمية أو حتى حقيقة الاختلافات التي تملأ تجربتَنا اليومية. وبرؤيةِ هذه الاختلافاتِ المتعلِّقة بالعالم الظاهر كامتدادٍ لحقيقةٍ مُستبطنة، فنحن نؤكِّد تألُّق الوجود. نحن نتعهَّد العالم، ونَحتفِل به، ونتعاطَفُ مع اندفاعِه إلى الأمام. ونحن ننتصر على الجهل والموت بأخذ إجازةٍ من أنفسِنا.

وهذه الوثنية المتأخِّرة والمتوتِّرة هي نسخةٌ أخرى من المذهب القديم لانقراض الذات، والذي كان مبررًا بالمفاهيم الميتافيزيقية للفلسفة الدائمة. أما في يومنا هذا، فهو يروقُ في أحيانٍ أكثر لفكرة استنفاد وفشل كل شيءٍ آخر، بما في ذلك التقليد الفلسفي المتعلِّق بكل محاولاتِ فهمِ تفاصيل العالم الظاهر وتوجيه مساقٍ من العمل التحوُّلي في ذلك العالم.

تكشفُ نتائجُ هذه الاستجابة أخطاءها. لا يُمكِننا في الحقيقة دعمُ الانهماكِ الذي يمكِّننا من مقاومة انحدارِنا إلى الدوخة المُخدرة عن طريق الوقوف والانتظار، أو بالاحتفال والاعتناء؛ فلا يمكِننا فعلُ ذلك إلا بوساطة الكفاح ضد كلٍّ من أنفسنا والعالم، حتى إذا كان ذلك كفاح الفيلسوف أو الفنان المنفرِد من أجل التجديد باستخدام أقنعةٍ جديدة، ومن دون الاعتماد على الفلسفة الدائمة، أو المذهب القديم لانقراضِ الذات وبرنامجه من السكون الَوجْدي والمُتنبِّه. وهذه الاستجابة الأُولى هي مذهبٌ لا يُمكِن لأحد، على الأقل مخترعوه أنفسهم، أن يعيشَه بالفعل.

تركِّز الاستجابة الثانية على قمع التفرُّد الذي يُرافِق كلًّا من إعتام الوعي وتلقائيات الإرادة. وهي تقترح مقاومة الترتيبات المؤسَّساتية، والأدوار المقولبة، والأشكال المتصلِّبة من الوعي التي تسحَق الشخصية الأصيلة. لا يُمكِننا أن نُعيدَ توكيدَ الخاصيةِ التي تجعلُنا أكثر إنسانيةً بجعلنا أكثر إلهيةً إلا إذا دُسنا على طرقٍ سلبيةٍ لانهائية، يجب علينا أن نقول لا، لا، لا لكل البِنى، من خلال التمرُّد، سواء كانت جماعيةً أو فردية.

يكشف التمرُّد الدائم ضد البِنى فشل البصيرة وتذبذب القلب. وهو فشلٌ للبصيرة لأنه يرفُض الاعتراف بأن البِنى التي يثُور ضدَّها قد تختلفُ في النوعية وكذلك في المحتوى؛ في طبيعة علاقتها بالقدرات المتجاوِزة للبِنَى لدى العامل agent.

وقد تكون أكثر تحصنًا نسبيًّا ضد التحدِّي والتغيير، بتقديمِ نفسِها للعامل كضرورةٍ طبيعيةٍ أو قَدَر غريب؛ أو قد تكون أكثر توفرًا نسبيًّا للمراجعة في أثناءِ نشاطاتِ الحياة العادية.

وعندما نُصلِح البِنَى في هذا الاتجاه البديل، فنحن نفعلُ أكثر من تحسينِ قُدراتِنا العملية وتقويضِ قاعدةٍ لا غنى عنها من التقسيم والتراتُبية الاجتماعية المتحصِّنَين. نحن نقسم الاختلاف بين أن نكونَ داخل بِنيةٍ ما وأن نكون متجاوزين لأخرى. ونحن نشكِّل سياقًا أكثر ملاءمةً للانهايات الموجودة بداخلنا. ويعني عدم التعرُّف على هذه الإمكانية للاختلاف أن نظل مُستعبَدين لخرافة تمثِّل بدَورها شكلًا من أشكال الإخضاع.

ويمثِّل هذا التمرُّد أيضًا تذبذُبًا للقلب؛ لأن تعاليم الطرق السلبية اللانهائية تخون اليأس من قدرتنا لجعل الروح تعيش داخل بِنْيةٍ ما وبمعنًى آخر، داخل الروتين والتكرار والقانون والممارسة. وهذا القنوط هو خطيئةٌ نرتكبها ضد أنفسنا وضد قدراتنا على السُّمو، والتجاوز، والتحوُّل. وهو يمتلكُ شكلَين نموذجيَّين؛ أحدهما هو السياسي، أما الآخر فهو الشخصي. يمثِّل الشكل السياسي التخلِّي عن أي محاولةٍ لتنظيمِ المجتمعِ والثقافة، بحيث نقصِّر المسافة بين أنشطتِنا المحافِظة على السياق وتلك المحوِّلة للسياق وجعل التغيير صفةً داخليةً للحياة الاجتماعية؛ أما الشكلُ الشخصي فهو التخلي عن كل الجهود لجعل الحب يعيش بشكلٍ مباشر في المؤسَّسات، وخصوصًا في مؤسَّسات الزواج وفي المحادثات الطويلة والتضحيات المُتبادَلة لحياتنا معًا. إن الحب الرومانسي — أي الروح المتحرِّرة والعاجزة عن التجسُّد في الروتين — يرى التكرار كمَوْته. يُمثِّل الشكلان السياسي والشخصي هذا الفقدان للأمل حالتَين للإغلاقِ نفسِه.

ثمَّة استجابةٌ ثالثة، هي تلك التي أُطلِق عليها اسمُ إيقاظ الذات. ومثلها مثل الاستجابتَين الأخريَين اللتَين وصفتُهما قبل قليل؛ فهي تعتمد فيما يتعلق بقوة جاذبيتها على محاولةٍ لفرضِ المواجهة مع فَنائيَّتنا وجهلنا؛ كيف يتأرجح ما نخلَع عليه أكبر قيمةٍ فوق فراغٍ من فقدان المعنى، المتخفِّي وراء الحاجة، والانشغال، والالتهاء؟

يتمثَّل التهديد الأكبر لهذا المشروع الأخلاقي في فخِّ الذات؛ فقد نُدرِك فجأةً أن الحياة التي نحياها هي الوحيدة التي يمكِننا أن نعيشها أبدًا؛ فنجد أنفسنا واقعين في شَرك حالةٍ تُنكِر لاتناهينا، أي إنسانيتنا؛ ومن ثَم فنحن نُقاوِم.

يتمثَّل أحدُ أشكال هذه المقاوَمة في إعادة توجيه الفكر والسياسة في محاولة لخَلق البِنى التي تُدرك، وترعى، وتطوِّر طبيعتنا المتجاوزة للبِنَى. إن توجُّهنا إلى مثل هذا المستقبل يُمثِّل أيضًا طريقةً للعيش في الحاضر ككائناتٍ غير متحدِّدة بالكامل بالتنظيم الراسخ للمجتمع والثقافة. وعلى أي حال، فهذا سبيل يكون — حتى في ظروف المجتمعات الأكثر تحررًا، ومساواة، وازدهارًا — مفتوحًا بصورةٍ مباشرةٍ لقِلَّة فقط؛ وحتى بالنسبة إلى هذه القِلَّة، فهو يعرضُ حلًّا غير مُكتمِل.

تنتهي حياتُنا عادةً قبل أن نرى الأشياء التي كافَحْنا من أجل التمكُّن من عُبورها ويتضح أنها ليست ما أردنا. الشخص الذي أمامنا، اللحظة التي نعيشُها، المهمة التي نحن مكرَّسون لها، التجربة المتذكَّرة الآن، تحول الوعي إلى العالَم الظاهر، والذي يبلغ ذروته كما هي الحال في حُلمٍ ما، ويتغيَّر بتخيُّل الخطوات المُقبِلة كما هي الحال في الفكر والسياسة، والخاضع على الرغم من ذلك، كما هي الحال في الحياة اليومية الواعية، لتنظيم القيود ولمتطلَّبات التَّكْرار، الذي هو ترياقُ الموتِ في الحياة المتعلِّق بالوجود المُضمحِل.

يرتبط تحويلُ العقلِ إلى العالَمِ الظاهر بصورةٍ متناقضة بالتوجُّه نحو المستقبل. إن طُرق عمل الخيال تسلِّط الضوء على هذا الارتباط؛ فإدراك إحدى طُرق سَير الأمور أو ظاهرةٍ ما هو أن ترى أنها قادرة على التغيُّر إلى شيءٍ آخر كنتيجةٍ لبعض التدخُّلات. وحتى نضعَها ضمنَ مثل هذا المدى من التبايُن المحول، فنحن لا نرى، بل نُحدِّق فقط. إن السياقَ الرئيسيَّ لهذا العمل التخيلي هو تجربتُنا للفِعل في العالَم، ومواجَهة المقاوَمة، والتغلُّب عليها.

لا يمكِننا وَهْبُ أنفسنا بالكامل للعالم الظاهر وللآخرين إذا ظلِلْنا دُمًى لنصٍّ لم نكتُبه وسجناءَ لحالةٍ لا تُدرك فينا تلك الكائنات المتجاوِزة للسياق التي نحن هي حقًّا. ولسنا في حاجةٍ إلى أن ننتظر تحوُّل المجتمع والثقافة لكي نبدأ انعتاقَنا؛ ففي وُسْعنا أن نبدأ الآن. في كل مجالٍ من العمل والفكر، وما دُمنا لا نعاني الحدودَ القُصوى من الحرمان والعجز، فإن السؤال المطروح على شفاهِنا سيكون: ماذا يتعيَّن علينا أن نفعل لاحقًا؟ إن الأشكال الأكثر طموحًا من التفكير البرامجي والعمل البنَّاء تمدِّد ببساطةٍ نطاقَ هذا الاستجوابِ وتوسِّع مدَى أجوِبتِنا.

إن ما يسمَح لنا بأن نطرح في كلِّ مناسبةٍ هذا السؤال — ماذا يتعيَّن علينا أن نفعل لاحقًا؟ — هو زواج الخيال بموقفٍ وجودي؛ التوافُر المتفائل والصبور للجِدة والتجربة. وبالتالي، فإن ما يُمَكِّنُنا من تحمُّل هذا الموقف هو توليفةٌ من الثقة المتنامية بممارسة قُدراتنا — من الأمن والمقدرة – مع الحُب، حُب العالم وحُب الناس.

إن الالتزام بمنطقةٍ من سُبل الحماية والمواهب الأساسية، والتي تترسَّخ بموجب الحقوق المستمَدَّة من جدول أعمال السياسة القصيرة الأمد، هو ببساطةٍ التعبيرُ السياسي الأكثر أهميةً عن حقيقةٍ أكثر عمومية؛ فكما أن حب الوالد لطفله، الذي يُطمئِنه بوجود مكانٍ غير مشروطٍ في العالَم، يشجِّع الطفل على التعرُّض للمخاطر من أجل بناء الذات، فإن هذه الحقوق المحسِّنة للمقدرة تُساعِد الفرد على تخفيضِ دفاعاتِه وعلى البحث عن الجديد. إن إخراج هذه الحقوق جزئيًّا من السياسة بإحاطتها بالقواعد والمذاهب التي تزيد من الصعوبة النسبية لتغييرها على المدى القريب قد تكون له نتيجةٌ مُتناقِضة؛ وبالتالي فإن تحصينَ هذه الحقوقِ ضد التحدِّيات السياسية قد يوسِّع نطاقَ السياسة ويزيدُ حدَّتها.

وعلى أي حال، يجب أن يتمثَّل الهدف في تحديد مثل هذه الحصانات والمواهب بطريقةٍ تفرض أقلَّ صلابةٍ ممكِنة من الفضاء الاجتماعي المحيط. إن نظام الطوائف الذي يُساوي بين أمن الفرد وحُرمة الأنماط المفصلة والمتميِّزة من الحياة الجماعية يمثِّل درجةً قُصْوى من اللبس بين الأمن والهُوية الفرديَّين وبين التصلُّب الاجتماعي. أما ما يتعيَّن أن نرغَب فيه فهو الدرجةُ القصوى المعاكِسة، من التفارُق بين تحصين الحقوق أو المواهب المحسِّنة للمقدرة وتحصين كل الترتيبات الأخرى. ولمثل هذه الدرجة القُصوى المعاكِسة، ليس لدينا مثالٌ مُتوافِر؛ فالأنماطُ الحالية من التنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بما في ذلك القانون التقليدي الحديث للمِلْكية والتعاقُد، تقع عند نقاطٍ متوسطةٍ مختلفةٍ بطول هذا الطيف التخيُّلي؛ وبالتالي فهنا، كما هي الحال في كل مكان، يجب أن يُعوض الأفراد، بالطريقة التي يربطون بها بين التحكُّم في الذات وبين الارتباط، ما لم توفِّره السياسة والقانون حتى الآن كتنظيمٍ للحياة الاجتماعية.

ليس تألُّق ما يُفترَض أن يكون وجودًا موحَّدًا مستبطنًا للعالَم الظاهراتي هو ما يُلهِم هذه الاستجابة لليقظة، كما يُلهِم النسخة المعاصِرة من مذهبِ انقراضِ الذات، بل هو الحُب الحقيقي، حُب الناس الفعليين، المُعطَى والمُتلقَّى.

يبدو الآن حُب العالم كتدفُّقٍ لهذا الحب الإنساني؛ كما لو كانت نافورة أفلوطين تتدفَّق رأسًا على عَقِب، من مخلوقٍ خَفي في الأعلى، إلى العالم الظاهر في الأسفل. أما الآن، على أي حال، فالنافورة تتدفَّق من الجانب الأيمن إلى الأعلى؛ فحُب العالم هو الضَّوءُ الخافتُ لِلَهب أكثر سطوعًا، هو الحُب الإنساني.

إن أولى الاستجابات المعاصرة الثلاث لحالتنا من الجهل والفَنائية لا تعدُو كونَها نسخةً معاصرةً من المذهب القديم لانقراض الذات؛ فهي تُترجِم معتقدات الفلسفة الدائمة، التي دعمَت ذلك المذهب تقليديًّا، إلى مفرداتٍ تَسُر الآذان المعاصرة. أما الاستجابة الثانية، تلك المتعلقة بالتمرُّد الرومانسي الدائم ضد البِنَى، فتظل واقعةً تحت الديمقراطية وعلى هيئة وجهاتِ نظرٍ سياسية وأخلاقية؛ أي الطرق السلبية التي كانت موجودةً دائمًا، كهَرطَقة، ضمن أديان العالم العظيمة المُنادِية بالخلاص الشخصي. وبالطريقة نفسها، فإن الاستجابة الثالثة — يقظة الذات — يُمكِن النظر إليها كتَتِمَّة، من دون الخَلْفية اللاهوتية، لبعض المعتقَدات الأخلاقية والسيكولوجية الأكثر تميزًا لقصة الخلاص.

وفي الصورة التي جرى التعبيرُ بها عنها هنا، قد لا تبدو يقظة الذات أكثر من مَسيحيةٍ من دون السيد المسيح أو الكنيسة. وفي هذا الصدَد، فهي تُشبِه كثيرًا من أفكار القرون الخمسة الأخيرة في الغرب، كتوهُّجٍ لاحقٍ للمسيحية، تستمدُّ من علاقتِها المتناقِضة وجدانيًّا إيمانًا مفقودًا؛ أي قَدْرًا من القوة يُمكِنها أن تتمتَّع به. ولأن كثيرين كانوا وثنيين عندما صرَّحوا بأنهم مسيحيون، أصبح البعضُ مسيحيين عندما تحوَّلوا إلى وثنيين؛ فكانت لحظة ردَّتهِم هي ساعة هدايتِهم.

وعلى أي حال، فمن المؤكَّد أن شيئًا لا ينتج الآن، فيما يتعلق بالبصيرة أو العمل، من الحقيقة المحدودة لهذه الملاحظة النَّسَبية genealogical. هل التعاملات بين الله والإنسانية، التي لم يعُد فيها المرتدُّون المهتدون قادرين على الإيمان، هي المستودع الذي لا غنى عنه للحقيقة الأكثر أهميةً بشأن أنفسِنا؟ أم هل تُمثِّل وجهةُ النظر هذه محاولةً لتزويدِ أسسٍ تقع خارجنا لما لا يمكِن أن تكون له أسسٌ سوى في داخلنا؟

كتوجُّه للحياة، يجب على مذهب يقظة الذات أن يزكِّي نفسَه بقوَّته الخاصة. لا أُجادِل هنا عن استدلالٍ من البراجماتية المردكلة، أكثر من احتمالِ كونِ إعادة توجيه الديمقراطية الاجتماعية نتيجةً لتلك الفلسفة. لا يقوم الموقفُ الفلسفي إلا بربط وتعميم التبصُّرات والدوافع الناشئة من هذه الحقول المختلفة للتجربة، ويُعيد إليها ضوءًا منعكسًا عنها هي في معظَمه.

كيف يمكِننا إنجاز هذا العمل الآن؟ لقد فقدنا الإيمان الذي ألهم وجهة النظر هذه بشأن الذات وتأليهها، وواسَيْنا أنفسنا بأننا في خسرانه كنا في الحقيقة نُعيده إلى الحياة ثانية، لكننا لم نستَطِع التأكد من ذلك. في كل مكان حولنا، رأينا فكرة أن كل شيءٍ يمكِن أن يكون مختلفًا من حيث المبدأ، مقترنًا بالإحساسِ بأننا لا نستطيع أن نغيِّر أي شيءٍ مهم بأي صورة؛ ومن ثَم فإن الانتصار على الجَبْرية necessitarianism بدا خادعًا. لقد شَهِدنا الأفكار الثورية للغرب وهي تطعَن حتى الموت المذاهبَ الرئيسية للحضارات الأخرى، التي بَقيَت فقط كدعائم أو مستحاثات. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الأفكار المُنتصِرة عن التحوُّل الاجتماعي والشخصي، بعد أن أضرمَت النار في العالم من خلال الثورة أو أخضعَته من خلال الملكوت، كانت قد بدَت حينئذٍ، في لحظة انتصارها، كما لو أنها تذبُل وتموت؛ ولذلك فقد أصبَح حوار التقاليد الفلسفية الرئيسية للبشرية ملتقًى للأموات. لقد عَمَدنا إلى إثارة الإرادة المُحولة من خلال القصص الملحمية عن التقدُّم الحتمي استنادًا إلى فرضياتٍ لم نعُد قادرين على الإيمان بها.

وعلى أي حال، فقد تعرَّضنا للرفض باستنتاج أن كل ما تبقَّى لنا هو أن نُغنِّي في أغلالنا، وأن نسحَر أنفسنا، وأن نجرِّب الملذَّات الخاصة، وأن نُعيدَ اختراعَ الخُلُق القديم للصفاء. وهنا سيَعْني الإبعادُ التهكُّمي الاستسلامَ والموت. كانت أمامنا على الدوام الصيغة الأخلاقية الدائمة لحضارتنا، التي جعلَت منها رواياتُ القرنَين التاسعَ عشرَ والعشرين الوميضَ الأخير لضوءٍ ذاوٍ؛ أنت تغيِّر نفسك، على الرغم من أنك لا تستطيع تغيير العالم؛ والسبيل لتغيير نفسك هي أن تُحاوِل تغيير العالم — عالمك أنت — على الرغم من أنك لا تستطيع تغييره. قلنا إن هذه المعتقداتِ حقيقية، وأردنا اكتشافَ طريقةِ الفعل التي تؤكِّد حقيقتها وطريقة التفكير التي تُجنِّبها مظهَر السخافة.

يقظتا الذات

تستيقظ الذات مرتَين؛ الأولى تأكيد الوعي، ومن خلال الوعي، تأكيد الشخصية المتميزة. ونحن نؤكِّد الوعي بالدخول بالكامل في تجربة الحياة الواعية. إن الدخول إليها بالكامل يعني توسيعَها، وتمديدَ حدودها. وعلى أي حال، فهذا التمديدُ يؤدِّي إلى تجربةٍ مُعاكِسة، من فقدان الوعي والهُوية المتميِّزَين. ولشعورنا بالذُّعر، فنحن نتراجع حينئذٍ إلى قلعة الذات الواعية، متمسكين بقوةٍ ووضوحٍ جديدَين بما خاطرنا بفقدانه. ويتمثَّل التناقُض المِحوَري لليقظة الأولى للذات في أننا يجب أن نُخاطِر بفقدِ الإحساس بالذات؛ أي باستحواذِنا على الوعي، وتمسُّكنا بتميُّز الشخصية، لإعادة توكيدها بصورةٍ أفضل.

قليلون هم المفكِّرون في تقليدنا الغربي الذين قاموا، مثل أفلوطين، باستكشاف هذا التناقُض. وعلى أي حال، فطَوالَ قرون، مثَّل ذلك موضوعًا مألوفًا للمناقشة بين فلاسفة الهند القديمة.

هناك اتجاهان يُمكِننا فيهِما أن نُمدِّد ونُخاطِر بتجربتنا للوعي بالذات؛ ففي أحد الاتجاهَين، ندخُل بصورةٍ أكثر اكتمالًا إلى حياة جسَدنا الخاص، والذي يتوقَّف عن أن يبدو غريبًا بالنسبة إلينا؛ إذ يُصبِح الوعي خريطةً مفصَّلة لحالاتنا الجسمانية من الألم، أو البهجة، أو الإدراك، ويتحوَّل العقل إلى ما اعتقد اسبينوزا٤ أنه كان كذلك دائمًا؛ أي فكرة الجسد. وكلما ازداد اكتمالُ تماثُل الوعي مع الجسَد بتعقُّب أخلاطه humors وتغيُّراته عن كثَب ورفع الشبكة المطلَقة التي نفرضُها عادةً على الإدراك، ازداد حجم خَسارة الإحساس بالتميُّز. إن العالَم الظاهر برُمَّته، وذاتنا المتجسِّدة بداخله، يبدأ الآنَ بالانحلال إلى وهَجٍ غامض، أو شفَقٍ من الإحساس بالذاتية المتميِّزة التي دعمناها ما بقينا، متيقِّظة ومسلَّحة، ضمنَ حصنِ الوعي، ونحن نُراقِب الجسدَ والعالمَ بقلقٍ ومن بُعد.

وفي اتجاهٍ آخر، نحن نترك هذا الحصن لأجل ضَربَين من الاستغراق؛ الاستغراق في نشاطٍ ما، تجري معايشتُه على أنه مستحوذٌ تمامًا إضافةً إلى كونه مبررًا لذاته، والآخر استغراق في رؤية للعالَم الظاهر حولنا، تتم معايشتُها باعتبارها كافيةً للَفتِ انتباهنا.

بوساطة أول هذَين الضربَين من الاستغراق، نستسلم إلى عملٍ يُسكن لفترةٍ كل تملمُلِنا وقلقِنا. وفي الاستسلام له، على أي حال، نحن لا نشعُر بأي ضجَر لأنه يبدو كبيرًا بما فيه الكفاية لشغل كل حياتنا الواعية ما دمنا نقوم به. وتتغيَّر تجربتُنا مع الزمن، فنخضَع للحركة والتحوُّل، ما يجعل الإحساسَ بالزمنِ حقيقيًّا. ومع ذلك فإن الزمن كانحدار — لا يُمكِن السيطرة عليه — نحو الموت، والذي يُعلق ظاهريًّا.

وبوساطة الثاني من نوعَي الاستغراق هذَين، نجد عيونَنا مفتوحةً على العالَم الظاهراتي، الذي يظهَر لنا وكلُّ اختلافاتِه وتألُّقه مبرزة كما لو أننا في حُلْم. وهو يستحوذُ على انتباهِنا بالكامل إلى درجة أنه لا يبقَى شيءٌ من هذا الانتباه، كبقيةٍ من الشك، والسخط، والارتياب.

يُفضِي كلٌّ من نوعَي الاستغراق هذَين إلى الخارج، وكلاهما يمثِّل تحسيناتٍ على تجربتِنا الرئيسية للوعي بالذات وبالاختلاف، ومع ذلك فكلاهما يهدِّد أيضًا ما يحسنه، مما يقوِّض وضوح الحد الفاصل بين الذات وما يقع خارجها، ويُضعِف التيقُّظ للمسافة التي تعتمد عليها تجربتُنا للوعي.

ومن الهبوط إلى الجسَد والصعود إلى نوعَي الاستغراق هذَين، نحن نتراجع، مذعورين ومعززين، إلى جدران الذات المحمية. وهذا الخروج والرجوع، وهذا التوسيع والتضييق، وهذه الحركة اللانهائية بين المستويات المختلفة للوعي هي اليقظة الأولى للذات، يقظة على تجربة الشخصية المتميِّزة والروح المتجسِّدة. وهي تحدث تحت ظِلٍّ مزدوج، ظِل الحاجة إلى التعامل مع الناس الآخرين، وظِل الحاجة إلى القَبول بالبِنية المنظمة للمجتمع الذي نجد فيه أنفسَنا.

ونظرًا إلى احتياجنا إلى الآخرين في كل شيء، من الرزق المادي للحياة إلى تأكيد إحساسنا بالذات، مع خَوفِنا منهم باعتبارهم تهديداتٍ لوجودنا المستقل، نحن نتحرَّك بصعوبةٍ بين القُرب والاتِّقاء. وفي العادة، نحن نستقر على مسافةٍ متوسِّطة غير محدَّدة المعالم.

وبالاعتراف بأن تنظيمَ المجتمعِ يعني ببساطة الإيقافَ المؤقَّت لمعركةٍ ما أو احتواءَها، التي قد تبدأ ثانيةً في أي لحظة — وهو تنازُع حول شروط ادعاءات الناس بعضهم على بعض — نحن نسعى إلى دعم القواعد، والأولويات، وفنون الأدب التي تمحو من الحياة الاجتماعية بعضَ تياراتها المستبطنة من الهمَجيَّة والخطر.

إن اليقظة الثانية للذات هي أن نكتشفَ داخل أنفسنا الطلبَ على اللانهائي، على المطلَق. وبمجرد اكتشافه، فهو لا يُقاوم؛ ويجب أن يُعاش بالفعل. وتعمل المعايشة على تغيير معنى كلِّ شيءٍ جرَّبناه قبل ذلك؛ وبالتالي فإن اليقظة الثانية تمثِّل ثورةً في تجربة الوعي والاختلاف.

وهي تحدُث في بادئ الأمر على شكلِ بعض التوقُّفات وتغيير الاتجاه فيما يتعلَّق بالتجارب المميزة لليقظة الأولى. وبمجرد أن نفهم طبيعةَ هذه التوقُّفات وتغيُّرات الاتجاه، يُمكِننا أن نرى كيف أن حدوثَها قد يدعمه انتشارُ بعض المعتقدات عن الشخصية والمجتمع، وكيف أن التعبير عنها قد يتطلَّب إحداثَ تطوُّرات في الفكر وفي السياسة. إن اليقظة الثانية مُلازِمة لتاريخ الديمقراطية وكذلك لتقدُّم تبصُّرنا بالتغييرَين الاجتماعي والشخصي.

ثمَّة حدثان مرتبطان يقعان في الأصل من اليقظة الثانية للذات. أحد الحدثَين هو اكتشاف اغترابنا عن العالمَين الاجتماعي والطبيعي، ولامبالاتهما أو مناهضتهما لخاصيَّتنا من اللانهائية، وبمعنًى آخر، اكتشاف الزيد excess على الظروف والبِنْية.

نحن كائناتٌ طبيعية، وقدراتُنا على التجاوز تُؤذِن بها خصائصُنا الطبيعية، بدايةً من لدونة الدماغ. وعلى أي حال، فالطبيعة، التي لا يُمكِننا معرفتُها إلا بوساطة تخطٍّ هشٍّ ومؤقَّت لقُدراتنا على استبصارِ عالَم أعمالنا الخاصة، لا تُبالي بجهدنا لجعل أنفسنا أكثر ربانية، وتحكُم علينا بالإحباط والانحلال.

ونحن كائناتٌ اجتماعية، يتعيَّن علينا التعبيرُ عن قُدرتِنا على التجاوُز في ممارسة قوة لتحدي وتغيير السياقات الراسخة للحياة والفِكر إذا أردنا أن نعبِّر عنها مطلقًا. وفي وسعنا أن نعبِّر عنها بقَدْرٍ يزيدُ أو ينقص. وعلى أي حال، فليست هناك ثقافةٌ أو مجتمعٌ وُجِد حتى الآن قد اعترف أبدًا أو رعى هذه القُدرة بما يكفي لتبرير قيامنا بإلقاء أسلحتنا؛ وبالتالي فإن التباعُد عن الطبيعة وتحويل المجتمع يمثِّلان الأجوبة التي لا غنى عنها فيما يتعلَّق باكتشاف اغترابنا.

أما الحدث الآخر الذي يقع في أصل اليقظة الثانية للذات فهو إقرارُنا، بجانب اغترابنا عن العالمَين الطبيعي والاجتماعي، بالطبيعة اللانهائية لاشتياقِنا إلى الناسِ الآخرين. فنحن نطلب منهم، من بعضهم، أكثر مما يُمكِن لأي إنسانٍ أن يُعطيَ لآخر؛ ليس فقط الدعمان المادي والأخلاقي فقط، بل القبول والتطمين المطلق بأن هناك مكانًا لنا في العالم باعتبارنا الأرواح المتجسِّدة والكائنات المتجاوِزة للسياق التي نحن هي حقًّا؛ وبالتالي، فكُل شيءٍ يُمكِننا أن نمنحَه بعضنا لبعضٍ يدُل ضمنيًّا على وعدٍ لا يُمكِن لأحدٍ أن يحافظ عليه.

إن الحل الوحيد، كما نعلم، هو ممكِنٌ بالكاد فقط؛ الحب، كما يُفهم باعتباره تخیُّلَ وقَبولَ الشخص الآخر، كما هو ذلك الشخص عليه الآن وما قد يصير إليه، ليس كإسقاطٍ لحاجتنا، الحب الذي يُمنح بحرية وبالتالي يُرفض أيضًا بحرية، والذي لا يكتمل إلا عندما لا يكون مُلوَّثًا بإحسان الحامي على المحميِّين، والذي يخترق بصورةٍ غيرِ مستقرة روتيناتِ الحياة المشتركة ويَذْوي مع ابتعاده من الحقل الجوهري للقاء الشخصي إلى الحياة الأكبر للمجتمع.

إن الحدثَين الواقعَين في أصل اليقظة الثانية للذات يُشكِّل أحدُهما الآخر. نحن متباعدون عن العالم الطبيعي والاجتماعي الذي يُرهِق جهودَنا لتطوير أنفسنا، والاعتراف بعضنا ببعض، ككائناتٍ قادرة على تخيُّل وقَبول بعضِها البعض. نحن يطالب بعضُنا البعضَ بما يبدو أن الطبيعة والمجتمع يُنكِرانه علينا.

يُمكِن أن تحدُث اليقظة الأولى للذات في أي مكانٍ وأي زمان، في أي مجتمعٍ وثقافة. أما اليقظة الثانية للذات فهي اكتشافٌ واضطرابٌ أيضًا، اكتشافُ سِر لا نهائيتنا واضطرابُ الترتيبات والمعتقَدات التي تُخفيه أو تقمعُه. وبرغم أنه يُمكِن تصوُّره مسبقًا في أي مكانٍ وأي زمانٍ كنبوءة، فإن حدوثَه المُنتظِم في الحياة الإنسانية يمثِّل إنجازًا جماعيًّا بالإضافة إلى كونه فرديًّا. وهو لا يزدهر إلا في حقلٍ أُعِد بوساطة إعادة بناء الفكر والمجتمع. وهو ليس معجزة، بل هو إنجاز. ويمثِّل تقدُّمه جزءًا كبيرًا مما يبرِّر مشروع التجريبية الديمقراطية ومبادئ البراجماتية المردكلة.

متطلبات اليقظة الثانية

كيف يجب أن يعيش الناس الذين تمثِّل لهم هذه اليقظة الثانية للذات مثالًا هاديًا؟ في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، علينا أن نستخدم التَّكرار، المتجسِّد في الممارَسة الموحَّدة وفي الماكينات، لإفساح مجالٍ زمني لما لا يُمكِن تَكرارُه حتى الآن؛ وبالتالي ففي الحياة الأخلاقية، علينا أن نستخدم الترتيبات المعتادة — أي الفضائل — لكي نكونَ أنفسَنا عن طريق تجاوُز أنفسنا.

هناك ثلاثُ مجموعاتٍ من الفضائل؛ تلك المتعلقة بالارتباط، والتطهير purification، والتأليه. تتعلق فضائل الارتباط والتطهير بجانبَين مختلفَين من تجربتِنا الأخلاقية. وهي واقعةٌ في المستوى نفسه، وهي تُكمل وتُتمم إحداها الأخرى. أما فضائلُ التأليه فتقع في مستوًى آخر، وهي تستلزم اليقظة الثانية للذات، وهي تغيِّر تجربةَ ومغزَى الفضائل الأخرى.

إن فضائل الارتباط — أي الاحترام، والتسامح، والإنصاف — تتعلق بالطريقة التي يتعامل بها بعضُنا مع بعض. وفي شكلها الأوَّلي، غير المُعاد بناؤه، فهي تحقِّق هذا التعامل من دون الاستفادة من اكتشافات اليقظة الثانية. تستند هذه الفضائل إلى مقدرة على كبحِ تمركُزنا الذاتي، الذي يستعبدنا بينما يَضطهِد الآخرين؛ هي تحيُّزنا من حيث وجهات النظر والمصالح. إن الاحترام هو الاعترافُ الفردي بإنسانيتنا المشتركة، أما التسامُح فهو القَيد الذي نفرضُه على التعبير عن وجهات نظرنا وتبرير مصالحنا، بحيث يُمكِن للآخرين امتلاك المساحة اللازمة للتعبير عن آرائهم وتبرير مصالحهم، في حين أن الإنصاف هو معاملة الناس الآخرين بالمعايير التي تخفضُ سعر الإخضاع وتبدد الشخصية، والذي يجب على كلٍّ منا أن يدفعَه للارتباط بالناس الآخرين. إن التعامل بإنصاف يعني أن يُساهِم المرء بأقصى ما يُمكِنه لتحقيق هذه الغاية، بالنظر إلى ما يُمكِننا وما لا يُمكِننا فعلُه وتغييره هنا والآن.

إن فضائل التطهُّر — أي البساطة، والحماس، والانتباه — تتعلق بصعود الذات أثناء يقظتها الأولى. وهي تعد أو تُدرِك الأشكال التوءَمية للاستغراق، المميز لهذا الصعود، في النشاط المُستغرِق تمامًا أو في تلقِّي العالم الظاهر. إن البساطة هي إزالةُ الفوضى، وخصوصًا فيما يتعلق بالارتباط بالأشياء، وتقليص الدفاعات. وهي تُعد صعودنا بنزع سلاحنا وبتركيزنا في الوقت نفسه، أما الحماس فهو استعداد المرء لوَهْب نفسه إلى نشاطٍ ما، والذي بمجرد أن يُرى أنه لا ينتهك فضائل والتزامات الارتباط، فهو يستغرقُنا لفترةٍ من دون بقية أو تحفُّظ، ويبدو أنه سرمديٌّ ما دام موجودًا. والانتباه هو الاتجاه إلى العالم الظاهر، المتلقَّى في الإدراك والمتمثِّل في العقل، ككلٍّ متعدد الأجزاء لكنه مترابط تمامًا، ومُفعَم بالاختلاف والتألُّق. وبرغم أن الانتباه قد يبدو سلبيًّا بقَدْر كَوْن الحماس نشطًا، فإن فينومينولوجية كلٍّ من هاتَين التجربتَين تكذِّب هذا التباين الظاهر. وفي الحماس، نستشعر الإحساس بالاعتقال، وفي الانتباه بتحسين وتوسُّع الوعي، ويتمثَّل منتجهما في تجربة عقلٍ لا يُفقد فيه شيء.

أما فضائل التأليه — أي الانفتاح على التجارب الجديدة والانفتاح على الشخص الآخر — فهي المصادرُ التي ننشُدها والغاياتُ التي نتحركُ نحوها أثناء اليقظة الثانية للذات. ومن خلالها، نحن لا نصبح آلهة لكن أكثر ربانية، ونحقق اللانهائية بداخلنا. وهي متعلقة بعضها ببعض؛ فكلٌّ منها يُعدنا للآخر بصورةٍ أفضل. ومن بين الأهداف الرئيسية للثقافة التجريبية والسياسة الديمقراطية هو أن تمنحَنا فرصةً أفضل لمعايشتها والربط بينها.

يُظهِر الانفتاح على الجديد العلاقةَ الحقيقية بين الإنسانية الفردية أو الجماعية وبين السياقات المنظمة للمجتمع والثقافة؛ أنها متناهية بالنسبة إلينا وأننا لانهائيون بالنسبة إليها. وباعتبارها أكثر من تلك البِنَى المعيبة، والقابلة للإصلاح، والمشروطة، والعابرة التي هي عليه حقًّا، فهي تُصبِح أصنامًا. وعندما تُصبِح أصنامًا، علينا أن نحطِّمها لمنعها من امتصاصِ الحياة التي تعودُ إلينا باستحقاق.

يتحقَّق الانفتاح على الشخص الآخر بأكمل صورة في الحب الشخصي، أما في صورته الأكثر انتشارًا والأضعف، فهو يُصبِح الثقة العليا التي تعتمد عليها ممارسات التعاون التجريبي. وعلى أي حال، فإن تعميمَ مثل هذه الثقة بين الغرباء لا يُمكِن إنتاجُه بواسطة تغيير الموقف بمفرده؛ فهو يتطلَّب أيضًا تغيير الترتيبات والمواهب بصورةٍ متوافِقة مع الخطوط التي استكشفناها في موضعٍ سابق؛ وبالتالي، ومرةً أخرى، الارتباط بين تقدُّم الديمقراطية ونجاح اليقظة الثانية للذات.

تعدل ممارسة فضائل التأليه مغزى ومحتوى فضائل الارتباط؛ وهي تحوِّل الاحترام إلى الحنان أو المشاركة الشعورية (غير الملوَّثة بالموارَبات المدافعة عن ذاتها للإحسان المستبد)، والتسامُح إلى التضحية بالذات، والإنصاف إلى الرحمة. وهي تحوِّل أيضًا التجربة — المحورية لفضائل التطهير — المتعلقة بفقدان الذات لاستعادتها بصورةٍ أفضل. أما صعودُ الذات، من خلال البساطة، والحماس، والانتباه، فيمُر الآن بعملية إعادةِ توجيهٍ حاسمة؛ فبدلًا من الابتعاد عن المشاكل للعثور على رباطة الجأش، تبحث الذات عن المشاكل لاكتشاف، وتوكيد، والتعبير عن لاتناهيها هي.

١  Plotinus: أفلوطين (٢٠٥–٢٧٠م)؛ فيلسوف روماني مصري النشأة، يُعتبر أهم ممثلي الفلسفة الأفلاطونية المحدثة. (المترجم)
٢  Lao Tzu: لاو تسو (القرن السادس ق.م.)؛ أول فلاسفة مذهب الطاوية الصيني. (المترجم)
٣  Epistemological: إبستيمولوجي؛ متعلِّق بنظرية المعرفة. (المترجم)
٤  Spinoza: باروخ اسبينوزا (١٦٣٢–١٦٧٧م)؛ فيلسوف ولاهوتي هولندي. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤