الفلسفة: ما بعد العلم الفائق والاعتماد على النفس
وبالاعتماد على النفس أعني بالتحديد ما تصفُه الكلمة عادةً في سوق الكُتب؛ تعليمات تتعلق بكيف يمكن أن تكون سعيدًا وناجحًا في عالمٍ يسمَح لنا بقَدْرٍ قليلٍ من السيطرة على الظروف المحدِّدة لحياتنا.
إن تخفِّي الاعتماد على النفس كعلمٍ فائق هو عرضُ صيغةٍ مع القَدَر والحظ، وكذلك مع القيد الاجتماعي والانقسام الداخلي للذات، في صورة خطابٍ متعلق بالحقيقة المطلَقة أو المعرفة السامية. وهذه الرابطة بين ضرورة الحياة ورؤية العالم هي العلامة المميزة للتجربة الدينية. إن طَمْر الاعتماد على النفس في العلم الفائق هو ادِّعاء الفلسفة القيام بمهمة الدين، وهو ادِّعاء لا يُمكِن للفلسفة الإيفاءُ به إلا بشكلٍ ناقصٍ للغاية، وحتى حينئذٍ فليس إلا بواسطة المخاطرة بأعظم الإسهامات التي كانت قادرةً دائمًا على تقديمها للإنسانية، والتي يُمكِنها الآن تقديمُها للديمقراطية.
إن تنفيذ خطة إسناد الاعتماد على النفس على العلم الفائق يعاني، على أي حال، من عيبٍ قاتل. ليس هناك علمٌ فائق، أو على الأقل ليس واحدًا يُمكِن للفلسفة أن تأمل ترسيخه. عندما ننظر إلى ما وراء التجربة العادية للتوجيه فيما يتعلق بالاعتماد على النفس، علينا أن نبحث عن الإلهام حيثما أمكَنَنا أن نجده؛ ومن ثَم، في الفن والأدب، في الدين والسياسة، في المباهج البسيطة والصراعات الكبرى، في الإحباط والتحرُّر من الأوهام.
إن تضاؤل أملنا في تضمين الاعتماد على النفس في العلم الفائق يهدِّد بترك الفلسفة من دون وجهةِ نظر داعمةٍ لمهمَّتها. وإذا فَشِل هذا الأمل بما فيه الكفاية، لا يتبقَّى شيءٌ للفلسفة سوى صورةٍ زائفة عن الفكرة القديمة للعِلم الفائق. وهنا تُصبِح الفلسفة شُرطة للفِكر، تُحاوِل أن توضِّح المفاهيم التي أصبحَت الآن فارغةً من المرجعية وتنظيم الطرق التي سُلب الآن منها المقصد. تقدِّم هذه العملية الشرطية خدمةً لا يهتم أحدٌ باستخدامها، وسرعان ما يجد ممارسُوها أنفسَهم لا يتحدثون إلا بعضهم إلى بعض.
هناك شيءٌ يمكن، ويجب أن، يُستنقَذ من حُطام الادِّعاء بوجود علمٍ فائق ومن فشَل زواجِ العلم الفائق بالاعتماد على النفس. يجب ألا نَبدُوَ مجبَرين على الاختيار بين فكرةِ العلمِ الفائقِ والاعتقاد بأن كل المعرفة هي مجردُ معرفةٍ متخصِّصة في مجالٍ معيَّن. وبمجرَّد أن نفهمَ ماهيةَ الخيار الثالث — كونه طريقةً للتفكير ليست هي العلم الفائق ولا الاعتماد على النفس — سنكون قادرين على استخدامِه للمساعدَة في تنويرِ وحتى إلهام ممارساتِنا المتعلِّقة بإعادة اختراع الذات الفردية والجماعية. وسنجدُ فيها أداةً قويةً لتجنُّب التحنيط الشخصي والوثنية المؤسَّساتية. وستخدمُنا باسم الديمقراطية في جُهودِنا للعيشِ من أجل المستقبل كطريقةٍ معيَّنة للعَيش في الحاضر، باعتبارنا الكائنات المُتجاوِزة للسياق التي نحن هي.
إن الفلسفةَ التي توقَّفَت عن التعلُّل بأملِ إسنادِ الاعتماد على النفس إلى العلم الفائق تُوجَد في الحالات العملية لمجالٍ مهني في سلامٍ مع موسوعة المجالات المتخصِّصة في النظام الجامعي. وعلى أي حال، فلإيجاد شيءٍ مفيد لعمَله، والهرب من عمل الشرطة الفكرية التي تستحقُّ السخرية منها، وإنقاذ اللؤلؤة العقلانية في المحارة الباطنية لزواج العلم الفائق بالاعتماد على النفس، وتطوير برامجَ فكرية مثل تلك الملخَّصة على هذه الصفحات، لا تستطيع الفلسفة أن تتعايشَ بسلامٍ مع هذه المنظومة من المعرفة المتخصِّصة، فيتعين عليها أن تُخِلَّ بالسلام.
في النظام الجامعي، يتماسك كلٌّ من المجالات المتخصِّصة بواسطة صمغٍ مزدوج؛ مادة بحثية معرَّفة كمجالٍ معيَّن من الظواهر، وممارَسة تحليلية وجدلية، ويتمثَّل غرور الأساتذة في أن المادة والطريقة تسيران معًا بصورةٍ طبيعية، فهم يعتقدون أن طريقتَهم في التفكير والمجادلة تتلاءم بأفضلِ صورةٍ مع المجال الذي يُساعِد على تعريف فرعهم العلمي، برغم أنها قد تنطبقُ أيضًا على الظواهر المتعلِّقة بالمجالات الأخرى. وعلى سبيل المثال، قد يفكِّر عالم الاقتصاد في أن تخصُّصَه يتمثَّل في كلٍّ من دراسة الاقتصاد والتفكير كاقتصادي، مما يعني أن يفكِّر وفقًا للممارَسة التحليلية التقليدية التي تم تدريبُه عليها. وبمجرَّد أن يُصبِح واثقًا من امتيازات هذه الممارَسة، فمن المرجَّح أن يبدأ تطبيقها على المجالات المجاوِرة، مثل السياسة أو علم النفس. وعندئذٍ فقط يبدأ الزواج القَسْري بين الطريقة والمادة في الانحلال.
إن الرغبة في التعامل مع الطرق السائدة في كلِّ فَرعٍ علمي كأنها جوهريةٌ لمادة البحث ومعبِّرة عن مظهرٍ فريدٍ وباقٍ من الفهم الإنساني ليست أكثر ضررًا في أي مجالٍ منها في دراسة المجتمع والثقافة؛ لأنها تكونُ هناك أقرب احتمالًا لحرماننا من المعرفة العميقة والتحوُّلية التي يُمكِننا تَمنِّي تأمينِها حول الإنسانية وإبداعاتها. فقط بواسطة النصرِ المؤلِم للرؤية على الطريقة؛ أي التدمير الدَّوري للطريقة من أجل تعميق الرؤية، يُمكِننا أن نتمنَّى تحسينَ البصيرة. وفي غياب هذا الضغط، يبقى الفكر معرَّضًا لخطرٍ مستمرٍّ لأن يتعرَّض للإغواء بواسطة الدافع للبس بين أعرافه وبين الحقيقة، وبين الواقع وبين الضرورة. وحينئذٍ فقط بعضُ الثورة غير المتوقعة تُوقِفُنا فجأةً وتُوقِظُنا على أقصى حدود فَهمِنا. تؤدِّي مثل هذه المقاربة لتطوير المعرفة إلى إفساد فَهمنا، وتفشَل في إنصاف قُدراتِنا المحدِّدة لإنسانيتنا من المقاوَمة، والتجاوُز، والسُّمو.
أما كونُ هذه العيوب تُربِك تفكيرنا حتى في العلوم الطبيعية فمن الممكِن إظهارُه بالمسار النمطي لأحد الاختصاصيين الأكاديميين؛ فهو يُتقن في المراحل المبكِّرة من تدريبه جهازًا تحليليًّا وجدليًّا، وبعد ذلك يصرفُ معظَم حياته المهنية اللاحقة في تطبيق الماكينة التي يتم تحسينُها ببطء ولكن من دون تحدٍّ على مادةٍ متغيِّرة، وهو نوعٌ من استسلام الروح للبِنية، أو الموت البطيء والمتكرِّر، الذي نخضَع كلُّنا له. والفلسفة حينئذٍ هي الشريعة المتحرِّرة، القوية، لأنها لا تتحدَّث من النجوم لكن من الداخل، والمدافعة عن الرؤية ضدَّ الطريقة الحصرية وعن الروح ضدَّ البِنية الراسخة. وهي البقية المتخلِّفة عن العمل الجماعي المنظم للعقل، والبقية المنقِذَة لأنها غير مُستوعَبة جيدًا ومقاوِمة للاستيعاب. وتعمل أفكارها العامة في خدمة تحريضها لثوراتٍ معيَّنة. وهذه القوَّة المتبقية والتي لا يُمكِن احتواؤها من الإخضاع هي ما يبقَى من المشروع المخزي لوجود علمٍ فائقٍ فلسفي.
إن الخيال، كما تتذكَّر، ليس مَلَكةً منفصلةً للعقل، بل هو العقل نفسُه كما يُرى في جوانبه الأقل حوسبةً والأقل صِيَغية. وليست الفلسفة فرعًا علميًّا بين فروعٍ أخرى ولا فرعًا رئيسيًّا، بل هي الخيال في حالة حرب، تستكشف ما لا تسمَح الطرق والخطابات الراسخة بالتفكير فيه ولا بقوله. أما إذا كانت هذه الخطابات والطرق لا تفكِّر في، ولا تقول، مثل هذه الأفكار، لأنه لا يُمكِن في الحقيقة أن يتم التفكير فيها وقولها، أم فقط لأنه لا يُمكِن التفكير فيها وقولها حتى الآن، فإن ذلك ما يجب أن يكون دائمًا أحد الاهتمامات الرئيسية للتفكير الفلسفي.
تبقى الفلسفة أكثر إخلاصًا لهذه المهمة وأكثر فائدةً بالنسبة إلينا عندما يشنُّ العقلُ المسلَّح هذا الكفاح في روحِ الحروبِ الشاملة للقرن العشرين، وليست الحروب المحدودة للقرنِ الثامنَ عشر. إن الهدف المميز لمثل هذه الحرب الشاملة في الفكر هو تطويرُ طريقةٍ للتفكير والفعل باستخدام الحقيقة الأهم حول أنفسنا؛ امتلاكنا لفائضٍ من التجربة غير المفسَّرة والقدرات المُهدَرة على البنى، ومن التنظيم والفكر، التي من شأنها أن تحتوينا، تمنَح البراجماتية المردكلة وسيلةً متميزة لهذه الغاية، فهي تريد تطوير طريقة التفكير التي، ولأنها تمنح تعبيرًا مباشرًا لقدراتنا المتبقية؛ أي مخازننا السرية للانهاية، ثبتَت فائدتُها في كلِّ شيء يُؤنْسن العالم ويُؤلِّه الإنسانية. إنَّ الطريقة الأساسية للحرب الشاملة هي التعبئة الإجبارية والانتقائية للطرق والخطابات المتوافرة، والمُضطرِبة كما يُلائِمنا نحن وليس هي، من أجل غاية قول قطعةٍ صغيرةٍ مما تعتبره متعذِّر الوصف، وفعل قليلٍ مما تفترضُ أنه مستحيل.
لأي غرضٍ إذن يُمكِننا أن نستخدم الفلسفة؟ في المقام الأول، يُمكِننا أن نستخدمَها لإجراء تغييرٍ جذري في الفروع العلمية، كما يتم تنظيمُها والتمييزُ بينها بواسطة التنظيم المِهْني للمعرفة المتخصِّصة. ومن هذه الناحية، فهي تعمل كترياقٍ ناقص للمعتقَدات الخُرافيَّة.
وفي المقام الثاني، يُمكِننا أن نستخدمها لتنوير ممارَساتِنا من اختراع الذات الفردية والجماعية. أما كيف يُمكِنها أن تنوِّر كلًّا من جهودنا الجماعية لتمكين الإنسانية من خلال التقدُّم المادي والديمقراطية وتجاربنا الفردية في المغامرة الأخلاقية، فقد كان موضوعَ الفصول الأربعة السابقة من هذا الكتاب. وعند استخدامِها بهذه الطريقة، لا تطرَح الفلسفةُ برامجَ شاملة من أجل إصلاح المجتمع أو إعادة توجيه الوجود. كما أنها، على أي حال، ليست مقتصرةً على تقويض سبل الإجحاف الفكرية التي تثبِّط وتضلِّل كفاحنا لبناء الذات الفردية والجماعية، بل إن لها رسالة. وتتمثَّل الرسالة في أننا يجب أن نعيشَ من أجل المستقبل كطريقةٍ محددة للعيش بصورةٍ أكثر اكتمالًا وأكثر كليةً في الحاضر، من دون أن نستسلم، بعيونٍ متيقظةٍ تمامًا. وهذه الرسالة، المنقولة في لغةٍ تخصُّ زمنًا معيَّنًا، هي ما يبقَى بحق من فكرة الفلسفة كتمرينٍ في الاعتماد على النفس.
وهذا التبايُن المفترَض، بنتيجته المحافظة المنظورة المتنكِّرة كرصانة وواقعية، يستند إلى إنكارِ فِكرة العقل، والذات، والمجتمع التي مثَّلَت الفِكرة المِحوَرية لهذا الكتاب. ولأن سياقاتنا تجعلُنا مَن نحن، ولأننا لا نستطيع أبدًا تمنِّي التحرُّك في فضاءٍ معدومِ السياق فوقها، أو أن نرى بصورةٍ غير متوقَّعة بعينَي الله، علينا في الحقيقة أن نتخلَّى عن تلك الرحلة التي تنتهي بالهذَيان.
إن الاستسلام للعادات والأعراف، على أي حال، لا يُمثِّل إهانةً لادِّعاءاتِ الاتصال والارتباط أقل مما تمثِّله الرغبة في إدانة ممارساتنا الاجتماعية والعقلية من وسط هذَياننا التأملي. يمنعُنا مثل هذا الاستسلامِ من اعترافِ بعضِنا ببعضٍ كالكائنات الأصلية المتجاوِزة للسياق التي نحنُ عليها في الحقيقة أو يُمكِننا أن نُصبِح إيَّاها؛ فمن المستحيل أن تكون محترمًا من دون أن تكونَ محطِّمًا للأصنام. وليست هناك مشاركةٌ في الحياة الاجتماعية تسمَح لنا بالعيش كما نحن عليه حقًّا، والتي تتجاهَل الطريقة التي تُصبِح فيها قُدراتُنا على التجاوُز منطمرةً في تجاربنا المتعلقة بالاتصال، وليست هناك مشاركةٌ في أي عالمٍ اجتماعي تتوافق مع صعودنا الفردي والجماعي، والتي تتوقَّف عن البحث عن طريقةٍ لجعل الجانب الثاني من العقل — أي قُدراته المتعلِّقة بالمبادرة اللاصيغية، واللانهائية التَّكرارية، والمقدرة السلبية — مُبرزًا في تجربتنا الاجتماعية العادية.
إن محصلة إحباطنا من نتائج هذَياننا التأملي يجب، إذن، ألا تكونَ الاستسلام للسياق الراسخ للنظام والمُعتقد كما لو أنَّ أحلامنا المُفرِطة ليست لها نتائجُ تتعلق بإعادة صُنع عالمنا. بوسعنا أن نغيِّر السياق، وفي الحقيقة، يُمكِننا أن نغيِّر بمرور الزمن — الزمن السِّيَري وكذلك الزمن التاريخي — من طبيعة علاقتنا بجميع السياقات.
وهذه الحالة الثالثة — الحالة الواقعة فيما وراء كلٍّ من الهذَيان والاستسلام — هي حالة الفلسفة والإنسانية. ومن هذا المنظور، فأن تكون فلسفيًّا وأن تكون إنسانيًّا هو الشيء ذاته. إن الفرضيَّات الأكثَر أهمية لهذه الحالة هي حقيقة الزمن، عند فهمِها كتحويلٍ للتحوُّل، وقابلية تعديل المحتمل التي لا تُجعل ملموسةً ومحدَّدة إلا بواسطة ترجمتها إلى خطواتٍ قادمة، ولا نفاديَّة قُدراتنا بفعل الاتجاهات المحدودة لوجودنا.
تُحدِّد المواقفُ المصاحبة لهذا المركز الثالث سلسلةً من الطموحات من أجل تحويل الإنسانية. وهي تدفعُنا إلى إعادة النظر في، وإعادة صياغة، فضائل الاتصال والتطهير في ضَوء فضائل التأليه، وهي تتطلَّب إفراغًا هو أيضًا انفتاح، وهي تَصِف اتجاهًا لتطوير التجربة الأخلاقية للبشرية في ظل حُكمِ الديمقراطية والتجريبية؛ وهي تَعِد بسعادةٍ لا تعتمد على أيِّ وهمٍ ولا تتطلَّب أيَّ لا مبالاة.
قد يدَّعي البعضُ بأنه حتى إذا كان مبدأ هذا الكتاب يَعرِض علينا ما نحتاج إليه، فهو لا يَعرِض علينا ما نُريد. نحنُ نُرِيد مواساةً لآلامِ الوجود ولفراغِ المعنى والغَرض الذي يكتَنِف حياتَنا الذاوية من كلِّ الجهات. ماذا سنستفيد من أن نُصبحَ أكثر ربانيةً في المقدِرة وفي التحكُّم في النفس إذا كنا في الحقيقة لسنا الله، بل كائناتٌ محدودة وفانية محكوم عليها بالانحطاط والموت، ومحرومة من استبصار لغز الوجود؟ وإذا كنا ننحدر نحو نهايةٍ تُربِكُنا قبل أن تُحطِّمنا، فما الخير في تسريع السرعة المحسوسة لاستعراضنا السخيف هذا؟
إن هذا الاعتراض، على أي حال، يُخطِئ في فهم الرسالة؛ فنحن لا نعيش لكي نُصبِح أكثر ربانية، بل نُصبِح أكثر ربانية لكي يُمكِن أن نعيش، ونحن نتوجَّه إلى المستقبل لكي نعيش في الحاضر. أما الممارَسات التي نخترعُ فيها أنماطَ المستقبلِ المُختلِفة فتُسقط فوقنا عاصفة من النيازك غير المحسوسة، كما أن الأخطار التي تُخضِعنا لها هذه الممارَسات؛ أي الصدمات، وصنوف الأذى، والمباهج، تضرب وتُحطِّم الدروع التي نحتضرُ جميعًا داخلها ببطء. وهي تمكِّن كلًّا منا من العيش في الفعل وفي العقل حتى يموتَ على حين غِرَّة.
وهي تفتحُنا على الظواهر وعلى الناس من حولنا، وتعيدنا إلى الآنيَّة النبوئية التي فقدناها منذ مدةٍ طويلة، وتُمكِّنُنا من رؤية الآخرين ليس كرمز في مخطوطةٍ جماعية مُقيدة لم نكتُبها والتي يُمكِننا أن نفهمَها بالكاد، ولكن كالكائنات الأصلية المطلَقة التي يعرف كلٌّ منَّا أنَّه منها. وهي تسمح لنا بسيطرةٍ أكبر على أنفسنا ككائناتٍ لا يُمكِن لظروفنا أن تَستَنفِدها مطلقًا، وفي جميع هذه الطرق، فهي تدفعُنا إلى المواجَهة مع الحقيقة كما هي ظاهرة، هنا والآن.
والتناقُض الحيوي لوجودنا وتفكيرنا هو ما ننمِّيه بقوة ونراه في السياق، إلا أنه يتوقَّف ببطء عن الحياة وعن الفَهم إذا فَشِلنا في الصراع ضدَّ أوجُه القصور التي يفرضُها السياق. وعندما نموت هذه الوفَيات الصغيرة، فإن الظواهرَ والناسَ الآخرين يبتعدون عنا؛ ومن ثَم فإن تراجُعَهم يتنبأ بإفنائنا.
وبالتالي علينا أن نعجِّل ونوجِّه الاختراع الدائم للجديد، بحيث يُمكِننا إسقاطُ استبداد الموتى على الأحياء وتوجيه عقولنا بصورةٍ أكثر حريةً واكتمالًا نحو الناس والظواهر المحيطة بنا. إن مستقبل التخيُّل، مثل مستقبل الديمقراطية، يكمُن في أن نخلق لنا في المجتمع وفي الفكر فرصةً أفضل لاستعادة هؤلاء الناس وتلك الظواهر.
التخيُّل فوق المسلَّمة (الدوغما)، والتعرضية فوق الصفاء، والطموح فوق الالتزام، والكوميديا فوق التراجيديا، والأمل فوق التجربة، والنبوءة فوق الذاكرة، والمفاجأة فوق التكرار، والشخصي فوق اللاشخصي، والزمن فوق السرمدية، والحياة فوق كلِّ شيء.