الفصل الثاني

الفلسفة الدائمة وعدُوُّها

فكِّر مليًّا في الكتابات المتعلقة ببراجماتيةٍ مردكلةٍ من وجهةِ نظرٍ تتَّسِم في الوقتِ نفسِه بكَونِها أكثَر بساطةً وأكثَر عموميةً مما نجده من منظور الصفحات السابقة. إن معيارَ تصنيفِ المواقفِ الفلسفية هنا لم يَعُد الموقفَ الذي نتخذه تجاه الترتيباتِ الأساسية للمجتمع والثقافة، بل إنه الموقف تجاه حقيقة وسلطة الاختلاف؛ أي الاختلافات بين الأشياء والناس.

في التاريخ العالمي للفلسفة، كانت هناك وجهةُ نظرٍ سائدة، بل إنها كانت، في الحقيقة، سائدةً إلى درجة أنها وحدَها تستحقُّ الواسمةَ label التي صاغَها لايبنيتز،١ ألا وهي الفلسفة الدائمة perennial philosophy. وبرغم ذلك، فقد رُفضَت وجهةُ النظر هذه بحماسةٍ متزايدةٍ من قِبل الأصوات الرئيسية للفلسفة في الغرب. وبصفةٍ عامة، كانت فلسفةُ الغربِ معارِضةً للمفهوم الذي ساد، خارج الغرب، في كثيرٍ من تقاليد الفكر. بَيْدَ أنه تَعيَّن على هذه المعارضة الغربية أن تجد أساسًا مُحكمًا لأنها لم يسبق أن وسَّعَت نطاقَ تمرُّدها ضدَّ وجهةِ النظَرِ السائدةِ بعيدًا بما فيه الكفاية. ثمَّة طريقةٌ لتحديد مهمة البراجماتية المردكلة، وهي القول بأنها تمثِّل ردكلةَ radicalization هذا الانشِقاق.
تتحدَّد وجهَتا النظرِ السائدة والمعارضة وفقًا لمفاهيمهما الميتافيزيقية — وخصوصًا فهمَهما لحقيقة التغيُّر والاختلاف مثلما نُصادِفهما في العالَم الظاهراتي phenomenal. ويتضمَّن كلٌّ منهما أيضًا مقاربةً متميزة تجاه مشكلات السياسة والأخلاق. وبهذا المعنى، نجد أن مجموعةَ الخياراتِ الثقافيةِ التي سنستكشفُها على الصفحات التالية تحتوي ضمنَ نفسها، كجزءٍ من كُلٍّ whole أكبر، مواقفَ بديلةً حول النظام الاجتماعي والثقافي الذي تمَّت مناقشتُه في الصفحات السابقة.
لقد ساد مذهبٌ وحيدٌ حول الاختلاف والوجود في التاريخ العالمي للفكر. ووفقًا لوجهة النظر السائدة هذه، فما العالم الظاهر للاختلاف والتغيُّر سوى وَهْم، أو إن لم يكن مجرد وَهْم، فهو إذن تعبيرٌ ضحلٌ وسريعُ الزوال عن وحدةٍ unity أكثَر واقعيةً للوجود. إن الكل المتعدِّد الأجزاء manifold، الذي يبدو كلُّ شيء داخلَه على ما هو عليه، ويكون مختلفًا عن كل شيءٍ آخر، ليس هو الحقيقة المطلَقة. إن السِّمة الخادعة أو الطبيعة السطحية للاختلاف في الكل المتعدِّد الأجزاء تنطبق أيضًا على أعظمِ الاختلافات وأكثرِها أهميةً بالنسبة إلينا؛ أي الاختلافات بين الأشخاص. بَيْد أن الفلسفة الدائمة ترفُض هذه الاختلافات باعتبارِها مضلِّلة.
إن الحقيقة المطلَقة هي قوةٌ وحيدة — طاقة وروح ووجود — تظهَر لنا متنكرةً في صورة انقسام، واختلاف، وتميُّز. وعلى أي حال، فمثل هذه الانشقاقات، التي تبلُغ ذروتها في تفرُّد الأشخاص هي ثانوية epiphenomenal، إن لم تكن خدَّاعة، ونحن نجدُها تذكُر كيف نلتقي ونُدرِك العالم في العادة، وليس كيف يكون العالم في الواقع. وفي أحسن الأحوال، تكون عابرةً وسطحية، كما تفشَل في النفاذ إلى جوهَر الوجود.

ما دمنا ظَلِلْنا نمثِّل العالم في صورة هذا الكل المتعدِّد الأجزاء والمتمايز، فنحن لا نُدرِكه على ما هو عليه في النهاية؛ أي انسجام قبل كل الاختلاف. وما دامت رغباتُنا ظلَّت منشغلةً في هذا العالم من التميُّز والاختلاف، فنحن محكومٌ علينا بالإحباط والمعاناة؛ فمن ناحية، نجد أنفسنا مسجونين داخل الجسد، بكل ألَمِه وتلَفِه البطيء. ومن الناحية الأخرى، نحن مجبَرون على الاختيار في كل مناسبةٍ بين الإحباط والضجَر. وعندما نهربُ بصورةٍ مؤقتة من ضغط رغبةٍ لم تُلبِّها، نجد أنفسنا واقعين في شَرَك مواقفَ تفشَل في إنصاف قدراتنا.

ووفقًا للفلسفة الدائمة، يمكِننا التبصُّر بالحقيقة من تحرير عقولنا وإراداتنا من استبداد التميُّز والتغيُّر الخدَّاع أو السطحي، ومن الخزعبلات، والضلالات، والإحباطات التي يُخضِعنا لها هذا الاستبداد. نحن نشترك في خواص الألوهية divinity — الحقيقة المجرَّدة والمطلَقة؛ الوحدة، والاحتواء الذاتي، واللاعمل inaction. تقع هذه الحقيقة فيما وراء زماننا وكذلك اختلافنا؛ فهي حاضرٌ سرمديٌّ لا يُمكِن أن تنطبقَ عليه أحكامُنا السببية، والتي تُسند كما هي إلى التسلسُل الزمني.

هناك واحدةٌ من صِيغ هذه الفلسفة الدائمة، والتي تختلف عن الأخرى في وصفِها للعلاقة بين الوجود الأساسي والاختلاف الظاهر، في حين تُمثِّل بعضُ الصيغ ذلك الأخير باعتباره وهمًا خياليًّا.

كما تعزوه صِيغٌ أخرى إلى حقيقةٍ أصغر، برغم كونها ضحلةً وقصيرة الأجل. وتتباين هذه بدَورها في صورتها لتكون الاختلافَ العابر انطلاقًا من وجودٍ منفردٍ ودائم.

إن محاولةَ تحرير كلٍّ من التخيُّل والإرادة من القوة الخانقة للاختلاف الظاهر تشير إلى حلٍّ معيَّن لمشكلات الوجود. ويتمثل الحل في تقليد الألوهية اللاشخصية وإتقان خواصِّها المميزة من اللافعل واللامبالاة، متخلصةً من جميع مظاهر التمَلمُل. وإذا كان الهدف هو الاستغراق في الحقيقة المطلَقة فيما وراء الاختلاف السطحي والعابر؛ وبالتالي فيما يتجاوز حدود الجسد وحالته في الفضاء الاجتماعي والزمن التاريخي، فإن علامة النجاح ستتمثَّل في السكينة serenity. في وسعنا أن نُصبِح سُعداءَ بجعل أنفسِنا لا مبالين بالإحباطات والآلام التي تنتُج من تورُّطنا في عالَم الاختلاف المبهَم والتغيُّر الواهي.
نحن نحقِّق مثل هذه السعادة من خلال التنوير حول الطبيعة الحقيقية للعلاقة بين الروح المطلَقة والكونية، وبين الكل المتعدِّد الأجزاء الظاهر والمتمايز. واعتمادًا على مثل هذا التنوير، نحن نتشارك في الألوهية ونهرب من سُجونِ تجسُّدنا embodiment المادي والاجتماعي. أمَّا الفن، ولأنه يقدِّم إلينا العالمَ خاليًا من أغلال الرغبة والصد، فقد يزوِّدنا بدلالةٍ على مثل هذا التنوير ومثل هذه السعادة.
هذه الفلسفة الدائمة، وكذا المثال الأعلى للسعادة من خلال الحصانة التي تُساعِد على دعمها، تتمتَّع بجاذبيتها؛ لأنها تستجيب لبعضِ التناقُضات الأساسية للوجود الإنساني. نمتلكُ جميعًا تجربةَ الوعي، وهي أيضًا تجربةٌ في اللاتناهي. ونحن نفهَم الأحداث المعيَّنة وطريقة سير الأمور عن طريق إدراكِها بوصفِها أمثلةً على الأنماط المتكرِّرة أو الأفكار العامة؛ وبالتالي فحتى تبصُّرنا بالمخصوص particular يشير ضمنيًّا إلى أفقٍ يمتد وراءه إلى ما لانهاية.
وحتى في أكثر تماريننا التحليلية براعة، كما في الرياضيات والمنطق، لا يُمكِننا أبدًا اختزال تبصُّراتنا إلى أفكارٍ يُمكِن تبريرُها وتوليدُها من قِبل مجموعةٍ مغلَقة من المسلَّمات؛ إذ تتجاوز طاقتنا للتبصُّر قدراتنا على البرهان. تتسِم قدرتُنا على إتقان اللغة بقابليةٍ تكرارية recursive — وهي قدرةٌ على نَظْم الكلمات والعبارات معًا في توليفاتٍ لانهائية لكنها ذاتُ مغزًى — وهي قدرةٌ أطلَق عليها اللغويون اسم «اللانهاية المتفاصلة» discrete infinity. في حياة الرغبة، نجد في كل مناسبة أن الأشد إلحاحًا من بين أشواقنا، وارتباطاتنا، وأوجُه إدماننا يتجاوز باستمرارٍ أهدافَه المباشرة.

نحن نطلب بعضُنا من بعض أكثر مما يُمكِن لأي شخصٍ أن يعطي لغيره؛ ليس فقط الاحترام، والإعجاب، أو الحب، بل ثمَّة إشارةٌ موثوقة إلى أن لنا مكانًا في العالم. ونحن نسعى وراء أشياء وإرضاءاتٍ مادية بحماسٍ ليس في مقدورها تحمُّله، ولا دعمُه، في نهاية المطاف. وبعد السعي وراء هذه الأشياء من دون هوادة، نحن نبتعدُ عنها، مع شعورٍ بالإحباط والسخط، حالَ وجودها في قبضَتنا. وحدَه المجهول هو ما يهمُّنا في النهاية.

وبالتالي فإن الإحساس بقوةٍ دائمة من التفوُّق على كل الحدود — من الانفتاح على اللانهائي — يكون ملازمًا لتجربة الوعي. وعلى أي حال، يُضادُّ هذا الإحساسُ بظرفَين آخرَين يعملان معًا على تشكيل تجربتنا؛ توقُّع الموت واستغلاق impenetrability الوجود. وإذا كنا — من ناحية — خالدين، برغم كوننا غيرَ قادرين على فكِّ مغالقِ معنى وجودنا، أو على الأقل موقعه في تاريخ الكون، فإن غرابةَ حياتنا تفقد بعضًا من ترويعها. سيكونُ هناك دائمًا غدٌ لكلٍّ منا، أو فرصةٌ أخرى إما لاكتشافِ جزءٍ من حقيقة حالتنا أو لمواساة أنفسنا، من خلال بعض التلهِّي، على صعوبة الوصول إلى تلك الحقيقة. وإذا — من الناحية الأخرى، برغم أننا محكومٌ علينا بالفناء — فَهِمنا سببَ وجود العالم وسببَ امتلاكنا له في المكان الذي نجده فيه، فسنتمتَّع بالوصول إلى مصدرٍ للإرشاد. ومهما كان محدودًا في نطاقه وغير محدَّد في تضميناته، فسيكون هذا الإرشاد، على الرغم من هذا، موثوقًا فيما يتعلق بسُلطته.

بَيْد أننا لا نستطيع، على أي حال، أن نعتمد على أيٍّ من هذَين الضربَين من الإراحة. وعلى العكس من ذلك، فإن حتميةَ الموت وغرابةَ الوجود تزيدان من رعب أحدهما الآخر بصورةٍ هائلة، مما يُغلِق كل مَخرجٍ للهروب أو السلوان؛ فهما يخلعان، معًا، على حياتنا صفةَ الاندفاع الطائش، من أحجيةٍ إلى أخرى، فيما يبدو لانهائيًّا ومفتوحًا في البداية، ثم مُوجَزًا بشكلٍ مُذهِل عند مراجعته في الذاكرة قُرب النهاية. إن كل شيءٍ في هذه التوليفة من الفَناء واللااختراقية يؤكِّد سجنَنا ضمن الخصائص المحدودة تمامًا للجسَد الذاوي ومكاننا العارض في المجتمع وفي التاريخ.

تُكذِّب تجربةُ السجن هذه دافعَ التفوُّق المتأصِّل في الوعي والمميِّز لجميع أنشطتنا المتعلِّقة بالتحقيق، والكلام، والرغبة. وتستمد الفلسفة الدائمة وحيَها من الحافز لمواجهة هذه المقارنة غير المحتمَلة بين الدافعِ المتجاوِز للوعي ووقوعنا في فَخ الفَناء والغُموض. تتمثَّل طبيعة استجابتها في إعادةِ تعريفِ حالتِنا بحيث تُعيد تأكيدَ المواهب الطبيعية للروح المتجاوِزة للسياق في وجود الظروف التي يبدو أنها تُنكِرها.

وعلى أي حال، لا تقوم الفلسفة الدائمة بعمل ذلك أيضًا إلا بوساطة إنكار الحقيقة المطلَقة لمفاهيم التميُّز والتغيُّر التي تحدِّد الصورة التي نمتلكها للعالم وللحياة في المجتمع. ويبدو أن هذا الإنكارَ يفرض تكلفةً أكثر فظاعةً من الآلام التي يفترض أن يُخلِّصَنا منها.

تتسم علاقة فلسفة الوجود اللاشخصي والسرمدي تلك بالمخاوف العملية للفكر الأخلاقي والسياسي بكَونها غيرَ ثابتة لكن قوية. وإذا كانت الفلسفة الدائمة، في التاريخ العالمي للفكر خارج الغرب، هي الميتافيزيقا السائدة، فإن ثمَّة رؤيةً معيَّنة لتَوازي النظامَين الأخلاقي والسياسي كانت هي أيضًا الصيغة الرئيسية للنظرية السياسية والأخلاقية طَوالَ جميعِ فتراتِ ذلك التاريخ. ووفقًا لوجهة النظر هذه، فإن المجتمع المنظَّم بشكلٍ جيد هو مجتمعٌ تحتل فيه كلُّ مجموعة مكانَها وتؤدي دَورَها ضمن تقسيمٍ للعمل مقدَّرٍ سلفًا. البعض يحكُم ويفكِّر؛ ويحارب آخرون، بينما يبيع غيرهم ويشتري؛ وكذلك هناك آخرون يحرُثون ويحصُدون. يعكس التسَلسُل الهرمي hierarchy الاجتماعي، تسلسُلًا هرميًّا أخلاقيًّا — كما يجب أن ينعكس عليه — وهو ترتيبٌ لمَلَكَات الروح؛ المنطق أو الروح أحدهما فوق الإرادة، والإرادة فوق الشهوة.

تتغذَّى فوضَى المجتمع وفوضَى الروح كلٌّ منهما على الأخرى فهما تمتلكان الطبيعة نفسها؛ انتهاك أو التباس الأدوار الأخلاقية والاجتماعية المتخصِّصة التي يعتمد عليها الصواب. يعمل النظام الخارجي للمجتمع والنظام الداخلي للشخصية على تعزيز أحدهما للآخر؛ فكلٌّ منهما يبدأ في الانهيار إذا لم يكن مدعومًا بالآخر. أما الفوضى، التي تبدأ في أحد النصفَين، فسرعانَ ما تَنتشِر إلى النصف الآخر.

لا تبدو العلاقةُ بين الفلسفة الدائمة وهذا المبدأ من النظام التراتُبي في الروح والمجتمع ظاهرةً للعيان على الفور. وبالإضافة إلى ذلك، فعلى رغم أن هاتَين المجموعتَين من وجهات النظر — الميتافيزيقية والعملية — قد صِيغَتا أحيانًا من قِبل الفلاسفةِ أنفسِهم فإنهما قد عُرضَتا، في أحيانٍ أكثر بكثير من قِبل مفكِّرينَ مختلفينَ ومدارسَ فكريةٍ مختلفة. وعلى أي حال، فحتى وهما يعيشان حياتَين منفصلتَين، فقد تعايشَت منظومَتا الاعتقاد بصورةٍ منتظِمة ضمن مدًى واسعٍ من الحضارات والفترات التاريخية. يحدُث كلُّ شيء كأنه على رغم المسافة الظاهرة بينهما وحتى التناقض بينهما، فهما في الحقيقة متحالفان. ما مغزى هذه الشراكة العاملة بين شركاء بمثل هذه الدوافع، والطموحات، والمعتقَدات البالغة الاختلاف؟

قد يكون العالم نزاعًا ووهمًا، لكن مشكلاته، وآلامه، ومخاطره لا تتبدَّد ببساطة لأنها حُرمَت الصلابة والقيمة. وبمجرد تخفيض قيمته، فإن العالم — وخصوصًا العالم الاجتماعي — يجب تدبُّره على الرغم من ذلك، علينا أن نمنع الأسوأ من الوقوع. أما أولئك الذين يُمكِنهم إدراكُ حقيقة الحالة، والتكهُّن بالوجود المطلَق في ظل الاختلاف الكاذب، وبالديمومة تحت مظهَر التغيُّر، فهم قلةٌ من السعداء. بَيْد أن انسحابهم من المسئولية الاجتماعية باسم خُلق السكينة التأملية، وتكاسُلهم، وانهماكهم في حقيقة الواحد the one يفشَل في حل المشكلات العملية للنظام الاجتماعي. وعلى العكسِ من ذلك، فمثل هذا الانسحاب يهدِّد بترك كارثة في أعقابه؛ وهي فاجعةٌ تتمثَّل في خَواء vacuum من المبادرة والظن. ويخطو إلى هذا الخَواء مبدأ التخصُّص التراتُبي في الروح والمجتمع.

وعند النظر إليه من خلال العدَسة الثاقبة والانتقائية للفلسفة الدائمة، قد لا يزيد هذا المبدأ على كونه عمليةً معوِّقة؛ فهو متصلِّب في ادعاءاته على أولئك الذين يجب أن يحكُموا المجتمع بدرجة افتقاره إلى أُسسٍ لتبريراته الميتافيزيقية نفسها؛ وبالتالي فليست هناك مفاجأةٌ في أن نراه ممثَّلًا في أغلب الأحيان بتقاليدَ فكريةٍ تختلف عن تلك التي التزمَت بالفلسفة الدائمة.

وعلى أي حال، فإن البعض في التاريخ العالَمي للفكر قد ادَّعَوا إدراكَهم وجودَ ارتباطٍ أكثر حميميةً بين مبدأ التراتُب والفلسفة الدائمة. وإذا كانت الحقيقة المطلَقة هي الروح الكامنة في جميع التفاصيل الظاهرة، وخصوصًا في الكائنات الحية، فإن الاندماج في الروح الكونية يخلُق أيضًا أساسًا للتضامُن أو الشفَقة الكونية؛ وبالتالي يُمكِن للشفقَة نفسِها أن تظهَر ثانيةً في مكانٍ مُهيمِن بين أعلى ملَكَات الروح؛ ولذا يُمكِنها أيضًا أن تندمجَ بصورةٍ وثيقةٍ للغاية مع الحكام ورجال الدين. إن روابط التبادلية reciprocity، والإخلاص والولاء المتبادَل، بين الرؤساء والمرءوسين وكذلك بين النُّظراء، يمكن أن تُبنى على التعبير عن، وعبادة، الروح الكونية، والظاهرة بيننا في صورة الشفَقة والتضامُن.
ويمثِّل هذا اعتقادًا نجده واضحًا في تعاليمَ فلسفيةٍ ودينيةٍ مثل تبايُن تلك التعاليم الخاصة ببوذا٢ وكونفوشيوس.٣ ويظهَر ثانيةً في ذلك التعبيرُ الغربي المستمر على نحوٍ فريد عن الأمثلة، غير الغربية عادة، على الفلسفة الدائمة في تعاليم شوبنهاور.٤ يُحوِّل هذا الاعتقاد مبدأ التراتُب الاجتماعي والأخلاقي إلى شيءٍ أكثَر من محاولة احتواء الكوارث والهمجية ضمن هذا الوادي من الدموع والأوهام، إلى جهدٍ مشتركٍ لتهدئة رَوعِ الحياة الاجتماعية، ما يُقصِّر المسافة بين الوجود المُطلَق والتجربة العادية.
تُعاني الفلسفة عيبَين؛ عيبًا إدراكيًّا cognitive ووجوديًّا. يظهَر الأول في رؤيتها للعالم، أما الثاني فيتضح في سعيها وراء السعادة من خلال السكينة، ووراء السكينة من خلال المنعة والمسافة. يتمثَّل عيبُها الإدراكي في فشَلها في إدراك كَم أننا في الحقيقة متجسِّدون وكائنون بصورةٍ كاملة وبشكلٍ يعجز إصلاحه، ليس فقط أفراحنا وأتراحنا، ولكن أيضًا توقُّعاتنا بخصوص العمل والاكتشاف، المتورِّطة في واقع وتحوُّل الاختلاف؛ الاختلافات بين الظواهر والناس. إن فهمَ حالةٍ من الأحداث، سواء في الطبيعة أو في العلم، هو أن تُدرِك ما قد تُصبِح عليه في أثناء خضوعها لاتجاهاتٍ وضروبٍ مختلفة من الضغوط. وتخيُّلنا لهذه الخطوات القادمة — لاستحالات metamorphoses الحقيقة هذه — هو العلامة الأساسية للتحسُّن في نفاذ البصيرة. وعندما نُنكِر الحقيقة — أو الحقيقة المطلَقة على الأقل — المتعلقة بالاختلافات، فنحن نقطع العلاقة الحيوية بين التبصُّر بالتحوُّل الحقيقي والمتخيل أو المُعايَش.

إن العيبَ الوجودي للفلسفة الدائمة هو انتقامُ هذه الحقيقةِ المنكرة والمُحررة من الأمل في أن نُصبِح أكثر تحررًا وأكثر سعادةً لو كان في وسعنا إدراك حقيقة أوهام التغيُّر والتميُّز. أما مغزى إدراك حقيقة هذه الأوهام فيُفترض أن يتمثَّل في حريةٍ أكبر، بناء على فهمٍ أصح.

وعلى أي حال، فإن نتيجة الإنكار المطلوب لحقيقة التفاصيل قد تكونُ نقيضَ التحرُّر الذي تَعِد به. وبعد أن أعلنَّا الاستقلال في العقل، وتوقَّفْنا عن شنِّ الحرب ضد الحقائقِ المحيطة بنا، سنجد أنفسَنا محبوسين داخل فضاءٍ يزداد ضيقًا، وباسْمِ الحرية، نُصبِح أكثر تبعيةً وأكثر استعبادًا.

في وسعنا أن نَسحر أنفسنا بصورةٍ مؤقتة لتهدئة كفاحنا الذي لا يهدأ. وعلى أي حال، فعند القيام بذلك، نحن نَحرِم أنفسنا من الأدوات التي يُمكِننا بها استكشافُ العالم الحقيقي، فنتخلى عن الوسائل التي نرى بها كيف يُمكِن لكل شيءٍ فيه أن يُصبِح شيئًا آخر عند وضعه تحت المقاومة. وبالمثل، فنحن نفقد الأدوات التي يُمكِننا بوساطتها تقويةُ سلطاتنا العملية، فنُصبح مهووسين، وعبيدًا، وغريبي الأطوار تحت ذريعة أن نُصبح رجالًا ونساءً أحرارًا. صحيحٌ أنه ستكون هناك دائمًا لحظاتٌ يكون في وُسْعنا فيها أن ننقل أنفسنا، من خلال مثل هذا التعزيم الذاتي self-incantation إلى دنيا تتوقَّف عن إرهاقِ كاهلِنا فيها تفاصيلُ العالم والجسد، التي أنكَرنا عليها الحقيقةَ المطلَقة. وعلى أي حال، فنحن لا نستطيع العيشَ في مثل هذا العالم؛ فلحظاتُنا من التحرُّر المُفترَض لا يُمكِنها أن تدومَ أطولَ من روتينات ومسئوليات الحياة العملية.
ظل تحالُف الفلسفة الدائمة مع المذهب العملي للتخصُّص التراتُبي في الروح والمجتمع هو الموقف السائد في التاريخ العالَمي للفكر التأملي. أما مُعارِضه الرئيسي فكان اتجاهًا فكريًّا ظل فترةً طويلة، على رغم كونه استثنائيًّا ضمن سياق التاريخ العالمي، وجهةَ النظر الرئيسية في الفلسفة الغربية. وعلى أي حال، فإن التعبير عن وجهة النظر هذه في النصوص الفلسفية ظل أمرًا ثانويًّا مقارنةً بالتعبير الأوسع عنها في الدين، والأدب، والفن. ليس الأمر مجرد أثَرٍ لأحد تقاليد التنظير التأملي speculative theorizing؛ بل هو الركيزة الأساسية للحضارة، على رغم أن كونه ركنًا أساسيًّا يُمثِّل انحرافًا جذريًّا ومتصلبًا عما كان عليه المفهوم السائد في أماكنَ أخرى. وقد أصبح هذا الانحرافُ اليوم ملكيةً مشتركةً للإنسانية بفضل الانتشار العالمي لأفكاره من قِبل كلٍّ من الثقافة الغربية الرفيعة والشعبية. وعلى رغم هذا، تبقى فرضياتُه غامضة، كما أن علاقتَه بتمثيل الطبيعة في العلم مبهَمة. إنَّ جَعْلَ هذا الانحرافِ الغربي عن الفلسفة الدائمة جليًّا ومتصلبًا في الوقت نفسه يمثِّل جزءًا رئيسيًّا من مهمة البراجماتية المردكلة.

تتَمثَّل العلامة المميزة للانحراف في الاعتقاد بحقيقة الزمن، وكذلك بحقيقة الاختلافات التي تنتظِم حولها تجربتُنا؛ في المقام الأول، حقيقة الشخص المُنفرِد وحقيقة الاختلافات بين الأشخاص، وفي الثاني، البِنية غير المترابِطة للعالم الذي نُدرِكه ونسكُنه. وتمثِّل وجهةُ نظر الشخصية الفردية الفكرةَ المحوريةَ لمنظومة الاعتقاد هذه؛ بينما يأتي كلُّ شيءٍ آخر نتيجةً لها. إن الفرد، وطَبْعه، وقدَره لهي أمورٌ حقيقية. وكل فردٍ يختلف عن أي فردٍ آخر عاش في أي وقتٍ أو سيعيش في أي زمانٍ كان. تمثِّل الحياةُ الإنسانية حركةً مثيرة ولا رجوع فيها منذ الولادة وحتى الموت، يكتنفُها الغموضُ وتُلقي المصادفة بظلالها عليها.

ويعتمدُ ما يُمكِن للأفراد أن يفعَلوه في حياتهم على طريقة تنظيم المجتمع، وعلى مكانهم ضمنَ المنظومة الاجتماعية، بالإضافة إلى اعتماده على الإنجاز والحظ. وما يحدُث في الزمن السِّيَري يعتمد في معظمه على ما يحدُث في الزمن التاريخي؛ ولهذا السبب بمفرده، يكون التاريخُ ساحةً للعمل الحاسم، وكلُّ ما يحدث فيه — مثل الفردية ذاتها — أمورٌ حقيقية، وليس ظاهرةً إضافيةً epiphenomenon وهمية أو صارفة للانتباه تحجُب حقيقةً سرمدية. ليس التاريخ دوريًّا، لكنه على العكس من ذلك يُشبِه الحياةَ الفردية في كونها أطواريةً unilinear ومتعذِّرة العكس. من المُمكِن للمؤسَّسات والمعتقَدات التي نطوِّرها في الزمن التاريخي أن توِّسع أو تقلِّل الفُرصَ الحياتية للفرد، بما في ذلك قوَّته النسبية على تحدِّيها وتغييرها من خلال أنشطته.

وبالتالي، فإن حقيقة الاختلاف والتحوُّل، المتجذِّرة في الحقائق الأساسية للتجربة الفردية، تُصبِح النموذج الذي نرى من خلاله ونُواجِه العالم بأَسْره. لا شيءَ أكثر أهميةً بالنسبة إلى تعريف مثل هذه المقاربة تجاه العالم من طريقتها في تمثيل العلاقة بين منظورها للإنسانية ومنظورها للطبيعة. ويخضَع هذا التمثيلُ لثلاثِ مغالطاتٍ يتعلق بعضُها ببعض، والتي تُضيِّق متناوَل، وتُضعِف قوةَ البديل الذي تطرحُه للفلسفة الدائمة. ومن خلال انتقادِنا للبراجماتية ورفضِنا هذه البدائل، تُصبح رؤيتُنا أكثر وضوحًا لما هو بالتحديد مهدَّد بالضَّياع في طرحِ هذا المفهوم البديل. إن كثيرًا من المواقفِ الأشدِّ تأثيرًا في تاريخ الفلسفة الغربية — بما فيها تلك «الخيارات المرفوضة» التي ناقشناها في القسم السابق — تُمثِّل أشكالًا مختلفة من الصيغ الكفُؤة وغير الكافية للبديل.

إنني أقترح أن نُطلِق على هذه المغالَطات التي تمثِّل التمرد الغربي ضد الفلسفة الدائمة أسماء الظاهراتية phenomenalism، والمذهب الطبيعي naturalism، والكمالية الديمقراطية democratic perfectionism. لقد ظهرَت الظاهراتية والمذهب الطبيعي في سياقاتٍ أخرى كأشكالٍ مختلفة من المواقف المتكرِّرة دوريًّا في تاريخ الميتافيزيقا، دون اعتبارٍ للصراع بين الفلسفة الدائمة وعدُوِّها. أما الكمالية الديمقراطية فهي هَرطَقةٌ حديثة، لا تُصبِح مفهومةً إلا على خلفية الردَّة apostasy الغربية.

يتمثَّل التضليل الأبسط — والأسهل في التخلُّص منه — في الظاهراتية. وأعني بالظاهراتية الاعتقاد أن الاختلافاتِ الظاهرة في العالم، كما نُدركها، حقيقية؛ فهي تمثِّل الحقيقة التي نحن مؤهَّلون للاعتماد عليها أكثَر من غيرها. ولا يُمكِننا الدفاعُ عن الظاهراتية إلا إذا امتلَكْنا قُدراتٍ ربانية وكان في وسعنا الربط ذهنيًّا على نحوٍ صحيح بين الاختلافات التي نُدرِكها والاختلافات الموجودة في الحقيقة.

يتَّسِم جهازُنا الإدراكي بكَونه محدودًا للغاية؛ فهو مبنيٌّ على مقياسِ الأعمال التي يُمكِن لكائناتٍ حية مثلنا تنفيذُه، غير مدعومةٍ بالأدوات التي تضخِّم قدراتها وتوسِّع مَسْرَح أنشطتِها. في وسعنا أن نتجاوَزَ نطاقَ هذا الجهاز عن طريق بناء الأجهزة والماكينات — وهي أدواتُ العلم — ووضع تصوُّراتنا المُفَسرة في ضوء النظريات البديلة. ولا يُمكِننا أن نفهَم الاختلافاتِ التي تشكِّل العالم إلا بالمرور عَبْر الاختلافات التي نُدرِكها. لكن هذه الاختلافات المحسوسة، على أي حال، ليست حقيقية؛ فلا تعدو كَونَها مدخلَنا الأول إلى الحقيقة. ويُمكِن للظاهراتية أن تُكافئنا باشتراط البصيرة التي لا يُمكِننا تحقيقُها إلا بوساطة بذل الجهد، بصورةٍ تجريبية، تراكمية، وعُرضة للخطأ. وما هي إلا هلوسةٌ نُسيء من خلالها تفسيرَ مفاهيمنا المَعيبة والمُحتَملَة الخطأ حولَ تقرير الحقيقة.

في وُسعِنا أن نُطلِق على التمرُّدِ الناقصِ والأشدِّ تأثيرًا ضد الفلسفة الدائمة اسمَ المذهبِ الطبيعي. وبصورةٍ أو بأخرى، مثَّل ذلك وجهةَ النظر السائدةَ في تاريخ الميتافيزيقا الأوروبية، وله تأثيرٌ بعيدُ المدى للغاية، وكثيرًا ما يُؤخَذ على أنه من البديهيات، إلى درجة أنه استُشعِر بقوةٍ متساويةٍ في كلٍّ من التقليد العقلاني rationalist والتجريبي empiricist.
لا يزال المذهب الطبيعي يشكِّل أساسًا للمشاريع الميتافيزيقية الأكثر طموحًا للفلسفة التحليلية؛ فهو يؤيِّد حقيقة الاختلاف في الطبيعة، وفي التاريخ، وفي الشخصية. ويرى الميتافيزيقا امتدادًا للنطاق الأشد خطورةً المتعلِّق بالدوافع نفسها المتعلِّقة بالفهم والسيطرة، والتي تبُث الحياة في مساعينا العلمية والسياسية. قد تكون تضميناتُها المتعلِّقة بكيف يُمكِننا أن نعيشَ حياتَنا غير محدَّدة، لكن لو كان لذلك السبب وحدَه — المدَّخر enshrined في الاختلاف المُفترَض بين الحقيقة والقيمة — فهي لن تُقدِّم أي دعم لخُلُق السكينة من خلال اللامبالاة بالتغيُّر والاختلاف. وفي كل هذه الجوانب، ينفصل المذهب الطبيعي بشكلٍ حاسم عن الفلسفة الدائمة. وعلى أيِّ حال، فهو يفعَل ذلك تحت تأثيرِ أفكارٍ خاطئة.
لفَهْم الفكرة الرئيسية للمذهب الطبيعي، تخيَّل اثنَين من مجالات الحقيقة، وبعد ذلك موقع أفضلية للتبصُّر خارجهما. يتمثَّل المجال الأول في الدائرة الواسعة للطبيعة، كما تدرُسها العلوم الطبيعية. أما الميتافيزيقا فتستكشف تضمينات، وافتراضات، وأوجُه قصور الصورة العلمية للطبيعة. إن الطبيعة مأهولةٌ بأنواعٍ مختلفة من الكائنات، كما تحكُمها أيضًا النظاميات regularities أو القوانين. وباعتبارنا كائناتٍ طبيعية، بحياتنا الفانية وجهازنا الإدراكي المحدود، فنحن نُشارِك في هذا العالم الطبيعي. أما كيف نفعل ذلك، وما إن كان أيٌّ من ملامحِ تجربتنا يُقاوِم إدراكَه باعتباره مجرَّد حوادثَ طبيعية، فيُمثِّل مواضيعَ نموذجيةً للنزاعِ في هذا التقليد الفكري.
ضِمنَ الطبيعة تُوجَد دائرةٌ متراكزةٌ ثانية، لكنها أصغَر حجمًا من الوجود الواعي. وهي مغلَّفة بالطبيعة وتخضَع لقوانينها، لكنها، على أي حال، تمتلكُ ملامحَ خاصةً بها. وهي تتطوَّر في الزمن التاريخي المتعذِّر العكس، والذي تتعيَّن حدودُه بالأحداث والشخصيات المُفرَدة، والتي لا يُمكِن أن تُفسَّر بالكامل من خلالِ القوانينِ العامة، سواء تلك المتعلقة بالطبيعة أو بالمجتمع ذاته. وبالإضافة إلى ذلك، فهي تنتظم حول تجارب الوعي، المتعلِّقة بالفعل المتعمَّد، والقوة agency التي لا يُمكِن فهمُها بالكامل بوصفِها مجردَ امتداداتٍ للطبيعة. وهذا هو المجال الذي تستكشفه العلومُ الاجتماعية والعلومُ الإنسانية ويتعلق بصورةٍ مباشرة تمامًا بمخاوفنا الإنسانية. من المُمكِن لتجربةِ الشخصية ومعرفةِ ما هو شخصيٌّ أن تُقاوِم الذوبانَ الكامل في الطبيعة والعلوم الطبيعية. ويُمكِنها حتى، في بعض الجوانب، أن تُعبِّر عن مشاركتنا في نظامٍ مختلفٍ تمامًا من الوجود، ألا وهو عالَم الروح. وعلى أي حال، فعند النظر إليها بمَوضوعيةٍ من الخارج، فهي لا تشكِّل أكثر من جزءٍ صغيرٍ وهَشٍّ من الطبيعة.

ومن ثَم إذا تمكَّنَّا، بوصفنا علماء وفلاسفة، من تمثيل العلاقة بين الطبيعة والمجتمع، فسيكون ذلك لأننا نَحتل، في مشاريعنا المتعلِّقة بالاستقصاء، مركزًا ثالثًا. إن المركَز الثالث هو موقعُ العقل الرباني. ومن هذا الموقع، يُمكِننا أن ننظُر بازدراءٍ إلى ميادينِ الطبيعة والمجتمع، وأن نُدرِكَ المجتمعَ كجزءٍ صغير واستثنائي من الطبيعة. ومن وجهة النظَر التخيُّلية هذه، قد يبدو العالم الإنساني أقلَّ مفهوميةً من ذلك الطبيعي؛ لأنه خاضعٌ بصورةٍ أقلَّ وضوحًا للنظاميات شبه القانونية التي ندَّعي إدراكَها من الموقع الرباني.

وعلى أي حال، فهذه الصورة مجرَّد وهمٍ نشجِّع من خلاله أنفسَنا على تخيُّل أننا نمتلكُ معيارًا للاستقلال لا نتمتَّع به في الحقيقة، على الأقل ليس من دون كفاحٍ طويلٍ ومتقطِّع. نحن لا نُوجَد في موقعٍ رباني، على مسافةٍ متساويةٍ من الطبيعة والمجتمع. لكننا نُوجَد في المنتصَف تقريبًا من تجربة ما هو شخصي وما هو اجتماعي. ومن هذا العالم وحدَه — العالم الذي نصنَعه ونُعيد صُنعه — يُمكِننا أن نأمل امتلاكَ معرفةٍ أكثر حميميةً وموثوقية.

عندما ننظُر من هذا العالَم إلى الطبيعة — أو حتى إلى أنفسنا — بوصفنا كائناتٍ طبيعيةً مطلوبًا منا تجاوُز تجربتِنا الآنيَّة أو المُتذكَّرة، بمساعدة الأدوات الميكانيكية والنظريات التأملية. نحن ننظُر من المكانِ الوحيدِ الذي يُمكِننا أن نقفَ فيه في الواقع — وهو مكانٌ إنسانيٌّ مخصوص — إلى الظلامِ الأكبر لحقيقةٍ أوسع. أما التبصُّر، الذي هو الآن منفصلٌ نسبيًّا عن الفعل والقياس بالمماثلة analogy، فيُصبِح بعيدًا وغيرَ متيقَّن.
لا يتمثَّل خطأ المذهب الطبيعي في افتراضِ أننا موجودون بالكامل داخل الطبيعة. نحن كذلك؛ فحتى أكثر خصائصِنا تميزًا — بما فيها تلك التي سأُطلِق عليها لاحقًا اسمَ الخصائصِ المُجمَلة totalizing، والمُدهِشة، والمُتجاوِزة للعقل — هي في حدِّ ذاتها طبيعية وتُمثِّل نتائجَ لتاريخٍ طبيعي.
يكمُن خطأ المذهب الطبيعي في قَطعِ وعدٍ لا يُمكِنه الوفاء به، بأن ثمَّة عقلًا مُتجسِّدًا في كائنٍ حيٍّ معرَّض للموت سيرى العالم كما لو أن هذا العقل هو روحٌ كونية، وأنه سيُدرِك العالَم كما هو عليه بالفعل، من خلال التقارُب المتدرِّج من الحقيقة، وبأن مكافأةَ لامبالاتِه ستكون نفَّاذةً إلى الطبيعة الداخلية للحقيقة، ليس بصورةٍ مفاجئة، من دونِ شَك، لكن ببطءٍ وبشكلٍ تراكُمي. وبهذا المعنى، يمثِّل المذهب الطبيعي الحديث محاولةً لعكسِ نتيجةِ ثورةِ كانط الفلسفية؛ أي فكرته بأن تبصُّرنا بالطبيعة يظل دائمًا متواسطًا mediated بالافتراضات التي تفرضُها علينا بِنْيتُنا الطبيعية. ووفقًا لرسالة تلك الثورة، لن نتمكَّن مطلقًا من الهرب من تلك الافتراضاتِ بصورةٍ نهائية وكاملة. ومن وجهة نظر خطأ المذهب الطبيعي، تبدو أفكارنا الخلافية حتمًا حول المجتمع والثقافة أقلَّ موثوقيةً وأقلَّ نفاذًا من أفكارنا غير المنحازة في العلم حول الطبيعة والكون، كونها موجَّهة بنظرياتنا، ومطوَّرة بآلاتنا، ومبرَّرة بتجاربنا.
وعند التعلُّق بوَهْم المنظَر كما يبدو من الجوزاء ألفا alpha-orion؛ أي من موضع الأفضلية الذي يبدو منه المجتمع كزاويةٍ استثنائية إلى حدٍّ ما من الطبيعة — الأكثر إرباكًا لأنه أكثر فوضوية، وليس لأنه مفهومٌ أكثر لكونه أكثر قُربًا — فنحن نُضعِف قوة التمرُّد ضد الفلسفة الدائمة. ومن المكان الرباني فوق كُلٍّ من المجتمع والطبيعة، نحن نصُوغُ رؤيةً موحَّدةً للعالَمَين الطبيعي والاجتماعي. أما المذهب الطبيعي فينسب إلى تلك الصورة موطئًا وطيدًا لحقيقةٍ أكبر من تلك التي يُمكِننا أن نأملَ تحقيقَها، من دونِ امتيازٍ سماوي، من داخلِ حالتِنا.

يُدرِك كلٌّ من المذهب الطبيعي والظاهراتية حقيقةَ عالَم التغيُّر والاختلاف، الذي تُنكِره الفلسفة الدائمة. وعلى أي حال، فهما يفشَلان في أن يضَعَا في الاعتبار مدَى غموضِ وجودنا ومدَى بقاءِ العالَم مستغلقًا أمام العقل. وبهذه الطريقة، فهما يحوطان رفضَ الفلسفة الدائمة بتزويدنا بشكلٍ أدنى من السلوان الخادع الذي تتشبَّث به الفلسفة الدائمة، وهما يفترضان، على نحوٍ خاطئ، أن العالم الذي نحن عالقون حتمًا في اختلافاته وتحوُّلاته هو عالمٌ يُمكِننا أن نفهَمَه من حيث المبدأ. تُنكِر الظاهراتية بسذاجةٍ حقيقةَ وتضميناتِ استغلاق العالم، عن طريق ربط الحقيقة بتصوُّراتنا. في حين يُنكِر المذهب الطبيعي حقيقةَ وتضميناتِ استغلاقِ العالَم بشكل بمهارةٍ أكبر، عن طريق مُعاينة العالم الإنساني من بُعد؛ أي المسافة بين المكان الربَّاني الذي تبدو إلينا منه الشئونُ الإنسانية جزءًا صغيرًا من الخريطة الكبرى للطبيعة أكثَر ألفة، ومع ذلك أقَلَّ ارتباطًا بالقواعد، وبالتالي أقلَّ مفهومية.

هناك طريقةٌ ثالثة، بجانب الظاهراتية والمذهب الطبيعي، والتي شدَّد فيها الفكرُ الغربيُّ على حقيقة التميُّز والتغيُّر — وفي الوقت نفسِه التعتيم على مخاوفهِما بواسطة الوصفِ المغلوط لقوَّتهِما. دَعْني أطلِق على هذا التمرُّد الثالث غير المكتمل ضد الفلسفة الدائمة اسمَ الكمالية الديمقراطية. ولا أعني بالكمالية الديمقراطية الادعاءَ الميتافيزيقي والأخلاقي بوجود مَثلٍ أعلى واضحِ المَعالِم يتجهُ إليه الشخص، وفي الحقيقة كل أنواع الوجود، وفقًا لطبيعته — وهو المذهب الذي أُلصقَت به تقليديًّا واسمة «الكمالية» perfectionism. أما ما أعنيه فهو الاعتقادُ أن المجتمع الديمقراطي يمتلك شكلًا مؤسَّساتيًّا فريدًا ولا يُمكِن الاستغناءُ عنه. وعند إحكام ذلك الشكل، فهو يخلُق مكانًا يُمكِن داخله لكل فردٍ غيرِ قليلِ الحظ أن يرفَع نفسَه وصولًا إلى الحرية، والفضيلة، والسعادة. ليس أنه يستطيع أن يُحرِز بجهوده الخاصة قَدْرًا متواضعًا من النجاح والاستقلال؛ فمن خلال المساعدة الذاتية نفسها، يُمكِنه أن يُحسِّن قدراته البدنية، والفكرية، والأخلاقية. ويُمكِنه أن يُتوِّج نفسَه ملِكًا صغيرًا، فيزدهر في هذا العالَم المُظلِم من التغيُّر والاختلاف، والذي وعدَت الفلسفةُ الدائمة بالتحرُّر منه دون مبرِّر وبلا ضرورة.
اتخذَت الكمالية الديمقراطية لها وطنًا في البلد الذي أنكَر بحماسٍ شديدٍ كلَّ شيء يتعلق بالفلسفة الدائمة وبخُلُق السكينة الخاص بها، وهو نفسُه البلد الذي اتخذ البراجماتية كفلسفته الوطنية — أي الولايات المتحدة. إن أول علامةٍ مميزة للكمالية الديمقراطية هي الاعتقاد أن المجتمع الحر يمتلكُ صيغةً مؤسَّساتية لا تحتاج إلى التعديل، بمجرد اكتشافها (كما يُفْترض أنه حدَث على يدي مؤسِّسي الجمهورية الأمريكية وواضعي الدستور الأمريكي)، إلا في اللحظات النادرة من الأزمات الوطنية والعالمية. وحتى حينئذٍ، يتم ذلك فقط لملاءمة حقائقِها الثابتة مع الظروف المتغيِّرة. هذه الدوغمائية المؤسَّساتية، بإنكارها لحقيقة أنه لا يُمكِن المحافظة على وعود الديمقراطية إلا بواسطة التجديد التجريبي المستمر لأدواتها المؤسَّساتية، ترقى إلى اعتبارها صنفًا من الوثنية idolatry. وهي تُسمِّر مَصالحَنا، ومُثُلَنا العليا، ومفاهيمَنا الذاتيةَ المتراكمةَ إلى صليب المؤسَّسات العَرَضية contingent المقيَّدة بالزمن.

وهناك فكرةٌ أساسيةٌ ثانية للكمالية الديمقراطية، والتي تتمثَّل في الاعتقاد أن الفرد، باستثناء نهايتَي سوء الحظ والظلم، يُمكِنه أن يرفع نفسه جسديًّا، وثقافيًّا، وروحيًّا. وبمجرَّد تطبيق المخطَّط المؤسَّساتي المحدَّد مسبقًا للمجتمع الديمقراطي الحر، فإن حالات سوء الحظ والظلم التي تسُد الطريق أمام المساعدة الذاتية الفعَّالة ستكون — وفقًا لوجهة النظر هذه — نادرة؛ وبالتالي فإن مثل هذه الظروف الاستثنائية ستُبرِّر العلاجات الاستثنائية.

وهنا سيمتلكُ كلُّ فرد القدرةَ على الوصول إلى إحدى خواص الألوهية divinity؛ الاكتفاء الذاتي. ويصبح تراكُم الممتلكات، ووفرة الأشياء التي تُستهلَك أو تُقتنَى، بديلًا للاعتماد على الأشخاص الآخرين. إن رفعَ الفرد لنفسِه بنفسِه، والذي يُحقَّق أخيرًا ضمن تدبيرٍ من الاكتفاء الذاتي، هو ثاني أفضلِ شيءٍ بعد الانتصارِ على الموتِ الذي لا يُمكِنه أن يأملَ في الفوز به.
وبالتالي، فإن المُسلَّمة المؤسَّساتية التي تُلوِّث الكمالية الديمقراطية تُمهِّد الساحة أمام طائفة الاعتماد على الذات. وهي تفعل ذلك بطريقتَين متميزتَين.
  • أولًا: إن الفشل في دفع مُثُلنا الديمقراطية من خلال التجريب بتعبيرها المؤسَّساتي يُشجِّعنا على تطبيع السياق الاجتماعي للوجود الفردي. ونتيجةً لذلك، نفقد الإحساس بكَم أن تجربتَنا الخاصة، حتى في أكثر أعماقها حميمية، تظل رهينةً للطريقة التي يُنظَّم بها المجتمع. لا يعتمد أيُّ جزء من تجربتنا بصورةٍ أكثر مباشرةً على المجتمع وتنظيمه من المُعدَّات والفُرص المتوافرة تحت تصرُّفنا لتطويرِ أنفسِنا نحن.
  • ثانيًا: إن الصيغة المؤسَّساتية للكمالية الديمقراطية، بارتباطها بمفاهيم القرنِ التاسعَ عشرَ حول المِلْكية والعَقْد، تتوافَق مع فكرة الاعتماد على الذات. وبدَورها، تخفض منزلة هذه الفكرة الادعاءات المتعلقة بالاعتمادية الاجتماعية المتبادَلة. إن إنكار الاعتماد والاعتمادية المتبادلة يُستبدَل بإنكار الموت، كأنَّ بوُسعِنا أن نستمتع بالاكتفاء الذاتي الذي يمتلكه الخالدون حتى نموت.
نحن نعيش بين تفاصيلَ معيَّنة، لكننا دائمًا نرغب ونرى شيئًا أكثر مما يُمكِن أن يُعطيَه أو يكشفَه أيُّ تفصيلٍ منفرد — وبالتالي نجد تملمُلَنا، وضجَرَنا، ومعاناتِنا. من المؤكَّد أننا سنموت، برغم أننا نجد في أنفسنا رموز الروح الخالدة — وبالتالي فإن إحساسَنا بالعيشِ تحت ضغطٍ يمثِّل تناقُضًا غيرَ محتملٍ بين تجربتِنا للتفرُّد selfhood واعترافِنا بالقيود الصارمة التي تفرضُها الطبيعة على وجودنا. لا يُمكِننا أن نرى إلا بصورةٍ مبهمةٍ ما وراء حدود العالم الاجتماعي الذي نصنعه بأنفسنا — ولذلك نجد ارتباكَنا، عدمَ قدرتنا على وضع معاناتِنا التي يستحيل إنكارُها وإنجازاتنا الظاهرة ضمنَ واحدٍ من بين كل السياقات التي ستحتفظ بها في مأمنٍ من الشك وتشويه السُّمعة.

ترُد الفلسفة الدائمة على هذه الحقائق بإنكار حقيقة — أو الحقيقة المطلَقة على الأقل — العالَم الذي نُواجِه فيه كلًّا من الاختلاف والتحوُّل. وهي تحثُّنا على الردِّ من خلال إبعاد أنفسنا عن أوهامِ وحِيَل هذا العالم. يُفترَض بنهاية التميُّز والتغيُّر أن تعنيَ نهايةً من المعاناة والتوهُّم.

وعلى أي حال، فإن العالم المتميِّز والمتغيِّر، على الرغم من أنه مُستغلقٌ نسبيًّا على العقل، يبقى العالَمَ الوحيدَ الذي نمتلك سببًا للاعتقاد بوجوده. وبمحاولة الفرار منه من المرجَّح أن نجعل أنفسَنا أصغَر حجمًا، لا أن نجعل أنفسَنا أكثر حرية.

إن رفضَ الفلسفة الدائمة، والظاهراتية، والمذهب الطبيعي، والكمالية الديمقراطية يُقِر بحقيقة هذا العالم. وعلى أي حال، فمن خلال القيام بذلك، هم يقلِّلون من قيمة بعض جوانب الحقائق الأساسية لوجودنا — وهي الحقائق التي تُزوِّدنا الفلسفة الدائمة، بتركيزها على وجودٍ نهائيٍّ موحَّد — يتجاوز الاختلاف والتحوُّل — باستجابةٍ مُضَللةٍ له. تفترض الظاهراتية والمذهب الطبيعي أن العالم أكثر وضوحًا للعقل مما هو عليه في الحقيقة، أو يُمكِنه أن يكون. ترى الكمالية الديمقراطية بشكلٍ خاطئ في المساعدة الذاتية الفردية طريقًا للاكتفاء الذاتي في مواجهة الفَنائية mortality.
تتمثَّل مهمَّتُنا، على أي حال، في تأكيد حقيقة الاختلاف والتحوُّل، وفي الوقت نفسه تقبل القوة المطبقة على الحقائق الأساسية التي تستجيب لها كلٌّ من الفلسفة الدائمة ومنافسيها الرئيسيين في تاريخ الفكر؛ التفاوُت بين رغباتِنا المعمَّمة universalizing وظروفنا المعيَّنة؛ الضعف النسبي لأي تبصُّر يُمكِننا أن نتمنَّى اكتسابه إلى العالم غير الإنساني؛ استحالة العثور على سياقٍ من بين جميع السياقات — أي إطارٍ مرجعيٍّ لا يقبل الجدل — يُضْفي على تجربتنا مغزًى وتوجُّهًا؛ واليقين من أننا سنموت ككائناتٍ طبيعيةٍ سريعة الزوال على الرغم من الطبيعة المتوجِّهة للانهاية لكلٍّ من رغباتنا وأفكارنا.

إن الفلسفة الأفضل والأصدق هي تلك التي تُنصِف هذه الحقائق. ومن خلال الاعتراف بحقيقة التميُّز والتغيُّر والأهمية الحاسمة لما يجري في التاريخ، ستضَع تبصُّراتِها في خدمة تمكيننا.

١  Leibniz: البارون غوتفريد فلهلم فون لايبنيتز (١٦٤٦–١٧١٦م)؛ فيلسوف ورياضيٌّ ألماني قال بأنه لا تعارُض بين العقل والإيمان. (المترجم)
٢  Buddha: غوتاما بوذا (٥٦٣٤–٤٨٣٥ق.م.)؛ فيلسوفٌ هندي ومؤسِّس الديانة البوذية، نبَذ بعضَ مبادئ الديانة الهندوسية، وخصوصًا نظام الطبقات الاجتماعية والتنسُّك الصارم. (المترجم)
٣  Confucius: كونفوشيوس (٥٥١–٤٧٩ق.م.)؛ فيلسوف ومصلحٌ اجتماعيٌّ صيني يُعد أعظم الفلاسفة الصينيين قاطبة. (المترجم)
٤  Schopenhauer: آرثر شوبنهاور (١٧٨٨–١٨٦٠م)؛ فيلسوفٌ ألماني قال بأن إرادة الإنسان اللاعقلانية العمياء، وليس العقل، هي التي تُقرِّر معظم ما نفعله في حياتنا. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤