البراجماتية مُستردَّة: البراجماتية كنقطة بداية
سيعترض البعضُ قائلين بأن الحُجةَ المطروحةَ في هذا الكتاب ليست لها علاقةٌ فريدة بالتقليد الفلسفي للبراجماتية. يُمكِنها أن تبدأ من جداول أعمال، ومفاهيم، ومفرداتِ عديدٍ من التقاليد الفكرية الأخرى، سواء الحديثة أو تلك المُوغِلة في القِدَم. أما المهم، كما سيُصرُّون، فهو محتوى الأفكار.
إن الفكرة الوحيدة التي يتردَّد صداها في كل صفحةٍ من صفحات هذا الكتاب هي الفكرة القائلة بلانهائية الروح الإنسانية، في الفرد وكذلك في الإنسانية. وهي رؤيةٌ لذلك اللاتناسب الرائع والرهيب بين تلك الروح وبين كلِّ شيء قد يحتويها ويحطُّ من قَدْرها، وبين استيقاظِها على طبيعتِها الخاصة من خلال مجابهتِها لحقيقة الإجبار وتوقُّع الموت، ورُعبِها في مواجهة لامبالاة وضخامة الطبيعة من حولها، واكتشافِها أن أكثر ما تتَشاركه مع كلِّ الكون هو تقويضُها بمرور الزمن، واعترافُها اللاحق بأن الزمنَ هو صميمُ الحقيقة إذا كان أي شيء كذلك، وعبوديَّتُها لترتيبات المجتمع والثقافة التي تُقلِّل من شأنها، وحاجتُها إلى خلقِ عالَمٍ — عالمٍ إنساني — يُمكِنها فيه أن تُصبِح وأن تكونَ نفسَها بالفعل حتى إذا توجَّب لعملِ ذلك أن تثُور، على أي حال، ضد كل مسلَّمة، وكل عادة، وكل إمبراطورية؛ وقُدرتُها على تحقيق هذا البرنامَج المستحيل والمُتناقِض على ما يبدو عن طريق التعرُّف، في كل موقفٍ ثقافي وسياسي، على الخطوات القادمة.
ليس هناك فيلسوفٌ أو تقليدٌ فلسفي ظهَر خلال القرنَين الأخيرَين وكانت لديه سيطرةٌ احتكارية على هذه النبوءة؛ فهي موجودةٌ في كل مكان.
عند استرجاع وتطوير هذه الرؤية، ليس هناك مكانٌ واحد للبدء منه؛ فهناك العديد من الأماكن. ولكَوني مخلصًا لمبدأ هذا الكتاب، فسأهتَم بنقطة المغادرة بدرجةٍ أقلَّ من اهتمامي بوجود مثل هذه النقطة؛ بأن نكتسبَ الوضوحَ فيما يتعلَّق بالاتجاه؛ وبمعرفتنا لكلٍّ من نقطة البداية والاتِّجاه، سنكونُ قادرينَ على تحديد الخطوات المقبلة.
وكون البراجماتية هي الفلسفة الوطنية لما أصبح الآن القوةَ المُهيمِنة في العالم يجعل هذه الواسمة مشتبهًا بها؛ إذ ما عساه أن يكون مشبوهًا أكثر كمصدرٍ للتبصُّر الفلسفي من المداهَنة الظاهرة للقَوِي؟ وعلى الرغم من هذا، هناك أسبابٌ واقعية لاستخدام واسمة «البراجماتية» واستلاب التقليد البراجماتي لبعض الأفكار التي نحن في أمسِّ الحاجة إليها الآن.
يتمثَّل السببُ الأوَّل في أن التقليد البراجماتي يحتوي، بصورةٍ مشوَّهة أو مقطوعة، على العديد من المفاهيم التي نحتاجُ إليها أكثر إذا أردنا أن نتقدَّم وأن نوفِّق بين المشروعَين اللذَين يتمتَّعان — ويستحقَّان أن يتمتَّعَا بأعظمِ سلطةٍ في عالمنا؛ تمكين الفرد – وبمعنًى آخر، رفعه إلى القوة والحرية الربانيتَين — وتعميق الديمقراطية — وبمعنًى آخر، خلق أشكال الحياة الاجتماعية التي تُقِر وتُغذِّي السلطات الربانية للإنسانية العادية، مهما كانت مرتبطةً بالأجساد والأغلال الاجتماعية الذاوية.
وعلى أيِّ حال، يعتمد الاستيلاء على واسمة «البراجماتية» على سببَين إضافيَّين. ثمَّة سببٌ إضافي هو أن البراجماتية، على الرغم من أنها منتقَصة ومدجَّنة، تُمثِّل الفلسفة الأكثر حياةً اليوم؛ فهي لا تعيش بين الأساتذة، بل في العالم. وبالإضافة إلى ذلك، فهي تبقى الفلسفةَ الأكثر تميزًا لما يمثِّل القوَّة المُهيمِنة اليوم في جميع الأبعاد؛ ولذلك فإنَّ استخدامَ واسمةِ «البراجماتية» يترافَق مع خطر عبادة القوة؛ وهو خطر التحوُّل إلى سجودٍ للفلسفة الوطنية لديمقراطيةٍ إمبريالية. والأمرُ الوحيدُ الذي يُمكِنه إنقاذُها من مثل هذه المهانة هو ما تقترحه من طبيعةٍ راديكالية.
لا يقتصرُ وجودُ تغيير الاتِّجاه على المذاهب والطرق المتعلِّقة بالبراجماتيين الأمريكيين، لكنه يُوجَد أيضًا في الأشكال الأوسع للوعي التي تنتشر في كافة أنحاء العالم تحت رعاية القوة المُهيمِنة.
يحتاج العالم إلى التطوير المتصلِّب والكامل لما وصفتُه في القسم السابق على أنه البديل الرئيسي للفلسفة الدائمة. وهو بحاجة إلى تطوير هذا البديل لدعم التزاماته بردكلة الديمقراطية وتأليه الإنسان. تُمثِّل تعاليم البراجماتيين الأمريكيين نسخةً من هذا البديل. لكنها، على أي حال، نسخةٌ غيرُ كافية ومبتورة، تُضحِّي بالموضوعات المركزية مقابل مَدًى من التنازُلات الباهظة وغير الضرورية، وخصوصًا التنازُلات أمام وجهة النظر التي أُطلِق عليها في زمنٍ سابقٍ اسمُ المذهب الطبيعي. ومن الناحية الأخرى، فلأشكال الوعي المتعلقة بصورةٍ وثيقةٍ بالثقافة الوطنية الأمريكية، والتي انتَشرَت الآن في كل أنحاء العالم، أهميةٌ عالمية؛ فهي تَرقَى لكونها نُسخًا منحرفةً ومُضلِّلة من المعتقَدات التي يجب أن تكون عزيزةً على الديمقراطيات التجريبية المؤيِّدة لتمكين وسمُو الفرد.
ومن المهم أن تصف واسمةُ «البراجماتية» الفلسفةَ الوطنية المميِّزة للقوة المُهيمِنة، والمشكِّلة للعولمة. وهي مُهمَّة؛ لأن الكفاح في اتجاه هذه الفلسفة، وأشكال الاعتقاد والمعقولية التي تمثِّلها، يتحول حينئذٍ إلى صراعٍ على مستقبل كلِّ شخص وكذلك على مُحتوَى أحدِ بدائل الفلسفة الدائمة.
ثمَّة سببٌ إضافيٌّ آخر لاستخدام اسم «البراجماتية»، وهو أن المعركة الدائرة حول معنى وقيمة البراجماتية اليوم سُرعانَ ما تُصبِح كفاحًا حول كيفَ يُمكِننا أن نربط بين مستقبل الفلسفة ومستقبل المجتمع. إن الفلسفة مُهمَّة على صعيدَين اثنَين؛ على أحد الصعيدَين، هي مُهمةٌ لأنها مثل السياسة؛ ليست متعلقةً بأي شيءٍ على وجه الخصوص؛ فهي تتعلَّق بكل شيء. وعلى الصعيد الآخر، فهي مُهمَّة لأنها مثلنا؛ ليست متوافقة؛ فهي بقيَّة الفِكر التي لا يُمكِن احتواؤها ضمن فروعٍ معرفية بعينها أو أن تخضع لسيطرة طرقٍ معيَّنة.
تمثِّل الفلسفة انتشارًا مركَّزًا للمَلَكات التجاوُزية للعقل. وتقع هذه الحقيقة في لُب العلاقة الخاصة بين الادِّعاءات أو الحُجَج المذهبية لأي منظومةٍ فلسفية وبين توجُّهِها الموضوعي أو مقصدِها. وهي تكشف أيضًا مستوًى خفيًّا وحيويًّا من تفكيرنا؛ أي المفاهيم التي تضَع جُذورَها في تجربة للعالَم، والتي يُمكِن — بمجرَّد ترجمتِها إلى أفكارٍ متميِّزة — تقييمُها، وتحدِّيها، وتنقيحُها.
وبهذه الروح بالتحديد، أودُّ تناوُل البراجماتية هنا وأن أبرِّر استخدامي لاسمها. دعونا نتعامل مع الادِّعاءات المذهبية الرئيسية للبراجماتية الأمريكية باعتبارها تمثيلًا غَير مُرضٍ لموضوعاتٍ تستحقُّ اهتمامًا أكبر من المفاهيم والحُجَج التقنية التي نعرفها من خلالها. دعونا نتناوَل هذه الموضوعات كتعبيرٍ في عالم الفِكر الخاص بعنصرٍ رئيسي في الوعي والثقافة الوطنيَّين للشعب الأمريكي. دعونا ننظُر إلى هذا العنصر كنسخةٍ ناقصة ومشوَّهة لبرنامجٍ سياسي وثقافي يحملُ منفعةً هائلةً للإنسانية قاطبة. دعونا نعتَرف بهذا البرنامج كاستجابةٍ لذلك المدى من المصالح البشرية المُهدَّد بالضَّياع في محاوَلةٍ لتطويرِ بديلٍ للفلسفة الدائمة.
إن استخدام اسم البراجماتية يعني التأكيدَ على أنَّ ثمَّة مناقشةً حول السياق المستقبلي للأفكار والمواقف المتعلقة تاريخيًّا بالتقليد البراجماتي تُفيد الآن في دعم تحقيق هذه الأهداف. سأمضي هنا في ثلاثِ خطوات؛ أولًا، إبعاد المناقشة المتضمَّنة في هذا الكتاب عن بعض المفاهيم التي كانت محوريةً بالنسبة إلى أفكار البراجماتيين الأمريكيين؛ ثُم استكشاف كيف ترتبط مناقشَتي برغم ذلك بحميمية بالموضوعات — المواقف، والإيماءات، والآمال — التي تُعلِّق عليها البراجماتية الأمريكية، مثل العديد من التقاليد الفلسفية الحديثة الأخرى، أهميةً كبرى، والتي ظلَّت أكثَرُ ادِّعاءاتِها الفلسفية تميُّزًا غيرَ قادرة على إنصافها؛ وفي النهاية مناقشة كيفَ تعرَّضَت للتضليل في ثقافةٍ وطنية تتمتَّع الآن بنفوذٍ عالمي.
أفكار البراجماتيين
إن كونَ معنَى مفهومٍ ما يكمُن في الفَرق الذي يُحدِثه هذا المفهوم — أي القول، عند استخدامه ضمن ممارساتنا وفي تأثيره عليها — هو رفضٌ صحيٌّ لكل محاولةٍ لفصل صياغة المعنى عن سياقها العملي. وتكون حركاتُنا ضمنَ كُل هذه السياقات موجَّهة بالتخمينات حول المستقبل — والتي تُمثِّل أيضًا، بشكلٍ يتعذَّر اجتنابُه، مقترحاتٍ للمستقبل. وهو استنتاجٌ وافق عليه عديدٌ من أعظم فلاسفة القرن الماضي.
وعلى أي حال، فما تفشل هذه المقاربة لمعنى المفاهيم في عَنونَته هو التفريق، بالإضافة إلى العلاقة بين الفَرق الذي يُحدِثه مفهومٌ ما بالنسبة إلى فهمِ جزءٍ من الحقيقة، والفَرق الذي يُحدِثه فيما يتعلَّق بجُهودِنا للسيطرة على حالتنا وتغييرها؛ بين ممارساتنا النظرية أو التأمُّلية وتلك السياسية أو الإصلاحية.
من بين الفَرضيات المحورية لهذا الكتاب أن الارتباط بين الفكر والممارسة لا يتحقَّق بصورةٍ حميميةٍ تمامًا ولا يُدرَك بالكامل إلا عندما تقوم عقولُنا بمخاطبة شئوننا الخاصة — أي مخاوف الإنسانية. عندما نُوجِّه أفكارنا نحو الطبيعة، حتى إذا كان ذلك لرؤية أنفُسنا كمظاهرَ ثابتةٍ للطبيعة، فنحن نفُكُّ الارتباطَ بين الفكر والممارَسة. وعندما نفكُّه، فنحن نُغرَى باتخاذ الموقف الذي أطلقتُ عليه في السابق اسمَ المذهب الطبيعي. نفحَص كلًّا من العوالم الإنسانية وغير الإنسانية من مسافةٍ يُفترَض أنها ربانيَّة. ونحن نتعامَل مع الوصول إلى مثلِ هذه المسافة باعتباره تحقيقًا لتشوُّقنا إلى التفوُّق.
عند التفكير بهذه الطريقة، نحن نرى العلوم الطبيعية، عند النظَر إليها من منظور النجوم، باعتبارِها ذروةَ الفهم الإنساني؛ أي النقطة التي يتغلَّب عندها العقلُ بأكمل صورة على استعباده من قِبل الظروف الآنيَّة والعابرة. ونتيجةً لذلك، نحن نتعامَل مع التوريط المتبادَل للتبصُّر والمقاوَمة كإحراجٍ فكري.
وإذا كانت هذه المعتقَدات — وهي السمة المميزة للمذهب الطبيعي — تزوِّد الخلفية اللازمة للفرضية القائلة بأن استخدامَ مفهومٍ ما يقرِّر معناه، تنتمي الفرضية إلى ترسانة القوَّات التي يتعيَّن على البراجماتية المردكلة أن تُعارِضَها. إن ارتباط مثل هذا المنظور بكيفَ تكتسب المفاهيم معناها، بفَهْم — مثل ذلك الخاص ببيرس — للموضوعية في الفكر كتقاربٍ بين المعتقَدات من قِبل المراقبين المثاليين (أو المراقبين المثاليين تحت ظروفٍ مثالية) يعزِّز تحيُّز المذهب الطبيعي.
في الحالة الأولى، يتمثَّل الاستخدامُ الذي تكتسب منه المفاهيمُ معانيَها في صُنع، وتحطيم، وإعادة صُنع المجتمع والثقافة. وفي الحالة الثانية، يتمثَّل في جهدنا لاكتساب وكيلٍ للمعرفة المحرَّمة — أي المعرفة التي قد نمتلكُها إذا لم نكُن أرواحًا متجسِّدة وكائناتٍ حيةً فانية، مما لا يؤيِّد ادِّعاءاتنا بنفاذ البصيرة إلا بواسطة قدراتنا على التنبُّؤ والتحكُّم. نحن معتادون على إخضاع هاتَين الحالتَين للضوابط المعرفية نفسها. وعلى العكس من ذلك، علينا أن نعترفَ بأنها مختلفةٌ كمثل الاختلاف بين النظر في المرآة والتحديق في الظلام.
أما الفكرة المميزة الثانية للبراجماتية الأمريكية فتتمثَّل في نظرية وليام جيمس للحقيقة. تؤكِّد هذه النظرية أنَّ تمثيلَ الحقيقة وتجربةَ الرغبة مرتبطان داخليًّا. ثمَّة عنصرٌ يتعلق بما نُريد أن تكونَ الحالُ عليه تحديدًا، وحتى حتمًا، والذي يدخُل في أحكامنا على ما تكون عليه الحالُ بالفعل.
وفي المقابل، فإن فهم طريقة سَير الأمور، سواء في الطبيعة أو في المجتمع، هو أن تُدرِك ما الذي يمكن أن تصير إليه، تحت الظروف المختلفة. في الطبيعة، نحن نُختزل إلى تدخُّلاتٍ محدودة في عالم لا نكاد نسيطر عليه أو نفهمه. وفي المجتمع والثقافة، نجد أن كلَّ ما يبدو ثابتًا لا يعدو كونَه سياسةً متجمدة أو صراعًا متقطعًا. أما الاختراعات، والصراعات، والتسويات — في الفكر وفي الممارسة — فهي كلُّ ما هنالك؛ فليس هناك شيءٌ آخر. إن الظل الناقص للخطوات التالية، والذي يتفاعل مع أفكارنا الأكثر عموميةً حول الذات والمجتمع، يُمثِّل البقيَّة البراجماتية لفكرة ما يُمكِن تحقيقُه في تجربتنا الاجتماعية.
أما مفهوم ديوي للتجربة — وهو ثالث التعاليم المميزة للبراجماتية الأمريكية — فهو يزوِّد مثالًا آخر على خيانةٍ لمنظورٍ راديكالي من قِبل مساوَمةٍ متعلِّقة بالمذهب الطبيعي. وفي هذا المفهوم، تتنازَع فكرتان من أجل السيادة؛ إذ لا يُمكِنُهما العيشُ في سلام.
هناك فكرة تتمثل في صورة العامل الإنساني الذي يُقذف به إلى عالَمٍ مقيَّد لكنه مفتوحٌ على الرغم من ذلك — وهو عالَمٌ يُمكِن فيه لكل شيءٍ أن يصبح شيئًا آخر ولا شيءَ مستديم. إنَّ الخاصية الأكثر أهمية لمثلِ هذا العالم هو أنه يسمَح بالتجديد؛ بالأشياء الجديدة حقًّا، بمعنى أنها لا تكتفي بمجردِ تحقيقِ احتماليةٍ كانت قابعةً وراء الستار بالنسبة إلى العالَم الحقيقي، في انتظار الأحداث التي تعمل كتلميحٍ لها كي تخطُوَ إلى خشبة مَسرَح الواقع. أمَّا الفكرة الثانية فهي رؤيةُ الفرد ككائنٍ حيٍّ واعٍ، مقولبًا في قصةٍ تطوُّرية ليس هو الشخصية الرئيسية فيها.
تُمثِّل الأفكار والترتيبات أدوات، تسمح له بالتعامل مع الموقف الذي يكون فيه؛ أما خصيصتُها الأكثرُ أهميةً فهي طبيعتُها ذاتُ الدَّور الفعَّال. إذا أردنا أن نأخذَ بجدية منظور الإنسان ككائنٍ حيٍّ محدَّد الموقع؛ أي صانع الآلات باعتباره هو نفسه أداة؛ أداة للتطوُّر الطبيعي. وحتى في أشد التجارب استشعارًا في حياته، فسيكون الألعوبة غير الواعية للقوى المجرَّدة غير المبالية بمخاوفه والمدمِّرة لها. وبهذه الروح، يعرض شوبنهاور تجربتنا الجنسية والرومانسية باعتبارها الوسائلَ القاسية التي تُجبِرنا بها الطبيعة، قبل أن تَطحنَنا، على خدمة أهدافها. ليس هناك منظورٌ يتَّسق مع المذهَب الطبيعي للإنسانية ومأزِقها، والذي يُمكِن أن يكون متماسكًا أو كاملًا، ما لم نكن راغبين في دفعه إلى أقصى حدود هذه النتيجة المُزعِجة.
لا يُمكِن أن تكون هاتان الفكرتان صحيحتَين في الوقت نفسه. لنفترِض أن الأرجحيَّة مالت في النهاية إلى الفكرة الثانية؛ صانع الآلات الذي هو نفسه أداة، والعقل المصمَّم لكي يخدم بفعاليةٍ حيلَ ذاك الكائن الحي الفاني، المسجون ضمن عالمٍ طبيعيٍّ غير عابئ بمخاوفه. وفي هذه الحالة، فإن الفكرة الأولى — التي تتمثل فيها الذات كعاملٍ مقاوم، والتي تشُق طريقها عَبْر بحرٍ من الاحتمالات — يجب أن تتضاءل. وفي هذه الحالة، سيكون تطبيع الإنسان هو تجريده من إنسانيته؛ فالدوافع التي أدَّت بنا إلى البحث عن سلوانٍ أو هروبٍ في الفلسفة الدائمة ستكتسب قوةً جديدة.
أما مفهوم ديوي للتجربة، مثل الخطِّ الكامل للبراجماتية التاريخية ونظيراتها من الشُّعب الأخرى من الفلسفة الحديثة والمتعلِّقة بالمذهب الطبيعي، فيدَعُ هذا الالتباسَ من دون حل. ومن خلال فِعل ذلك، فهو يُضعِف بشدةٍ عرضَه الأكثر خصبًا؛ أي منظور العامل وهو يكافح بين التقييد والاحتمال، واستخدام الاحتمالات لتخفيف القيود.
أما البراجماتية المردكلة، وهي الأكثر إخلاصًا لنواياها الخاصة، فيجب أن تحلَّ هذا الالتباس بشكلٍ حاسم لمصلحة العامل وطموحاته. لكن كيف؟ تحتوي الصورة المتعلِّقة بالمذهب الطبيعي للكائن الحي الفاني على حقيقةٍ قوية. ويجب على أي فلسفةٍ تنحازُ للعامل ألا تُنكِر هذه الحقيقة. لكن عليها، على أي حال، أن تُظهِر كيف يُمكِنُنا أن نُعيد توجيهَ الفِكر وأن نُعيد تنظيمَ المجتمع بحيث تُصبِح رؤيةُ العامل القادر على استخدام المصادفة ضد القيود أكثَر حقيقية، كما تُصبِح صورةُ صانعِ الآلات الذي تحوَّل إلى أداةٍ للعمليات الطبيعية التي لا تُبالي بمخاوفه أقلَّ حقيقية.
ليست القضية هي أيُّ الفكرتَين تحملُ قَدْرًا أكبر من الحقيقة اليوم بالأحرى، تتمثَّل القضية في كيف يُمكِن جعل الفكرة الأولى تحمل قَدْرًا من الحقيقة أكبر مما تحملُه الفكرة الثانية غدا؛ كيف يُمكِنُنا أن نصنع غدًا تحملُ فيه الفكرة الأولى حقيقةً أكثر من الثانية. إن الصراع على المستقبل هو الأمر المهدَّد بالضَّياع في الخلاف الذي يكتنفُ هذا المنظورَ للتجربة.
ومن ثَم، فإن بلايا هذه الأفكار المميزة الثلاث تُمثِّل إشاراتٍ مُبلغة على موارَبةٍ أساسية. أما تأثير هذه الموارَبة فهو حرمانُنا من الوسائل التي نتمكَّن بها من خدمة قضية التجريبية الديمقراطية بصورةٍ أفضل، وأن نحسِّن بصورةٍ أفضلَ التمرُّد ضد الفلسفة الدائمة.
الموضوعات الرئيسية: القوة، والاحتمال، والمستقبلية، والتجريبية
إن الموضوع الأول هو القوة. إن العامل الإنساني، الذي يتشكَّل ويتقيَّد بالسياق والتقليد، وبالترتيبات الراسخة والمسلَّمات المشرَّعة، والمثبَّت إلى جسدٍ ذاوٍ، والمُحاط في كلٍّ من الولادة والموت بأحجياتٍ لا يُمكِنه حلُّها، والذي يفتقر بشدةٍ إلى شيءٍ لا يعلمه، والذي يخلط بين اللامحدود الذي يتُوق إليه وبين سلسلةٍ لانهائية من الرموز التافهة، والذي يطلب الطمأَنة من الأشخاصِ الآخرين، ومع ذلك يختفي داخلَ نفسِه ويستعمل أشياء كدروعٍ ضد الآخرين، والذي يسير نائمًا في أغلب الأوقات ومع ذلك يكون مهمومًا أحيانًا ولا يكِل ولا يتعَب دائمًا، يعرف قَدَره ويُصارِعه حتى لو بدا أنه يتقبَّله، ويُحاوِل التسوية بين طموحاتِه المتناقِضة لكنه يعترفُ في النهاية، أو في أعماقه، وبصورةٍ مستمرة، بأنه لا يُمكِن إجراء مثل هذه التسوية، أو إذا كانت ممكنةٍ فهي لا تدوم؛ هذا هو الموضوع الذي لا مجال للهروب منه.
إن المعرفة التي يُمكِننا الحصولُ عليها عنه وعن قيوده ومعانيه هي المعرفة الحميمة والثاقبة القريبة الشَّبه بالمعرفة التي يُمكِن لله أن يمتلكَها عن خلقه. مثل هذه المعرفة التي يُمكِنُنا اكتسابُها عن الطبيعة الواقعة خارج ذواتنا، أو حتى عن أنفسِنا ككياناتٍ طبيعية تقع خارج عالم الوعي — بمعنًى آخر، عن الحياة النظرية — ستكون أقلَّ اكتمالًا وأقلَّ موثوقية. ستكون مفتوحةً على تناقُض، ليس في محتوى ادِّعاءاته وتعهُّداته — مثل مساعينا الإنسانية — ولكن في أكثر إجراءاته ومفاهيمه أساسية. إن أسبابَ هذا الضعفِ في معرفتِنا بالطبيعة لهي طبيعيةٌ وخارقةٌ للطبيعة في الوقت نفسه.
يتمثَّل السببُ الطبيعي لهذا الضعف في أننا لم نُخلَق كآلهة بل ككائناتٍ طبيعيةٍ سريعة الزوال، مع مجالٍ محدودٍ من الفهم والخبرة. وكلما ازداد بُعدنا عن المدى الذي يظلِّل فيه الفكر الفعل ويجسِّد الفعل الفكر، زادت ضرورةُ أن نستنبطَ الحقيقةَ غير المرئية من الإشارات الغامضة. وحينئذٍ يصبح اختبار النجاح عمليًّا حتى عندما يبدو أنه نظري؛ أي إنه عندما نعمل على جزءٍ من الطبيعة على أساس استدلالاتنا، فإن ما يحدُث لا يكون متعاوضًا مع ما خمَّنَّا وجوده. وعلى أي حال، فعند مناقشة مميزات النظريات المتنافسة، على الرغم من أنَّنا قد نتخيَّل أنفسَنا فلاسفةً يستمتعون بالمنظر من عَلٍ، فإننا في الحقيقة محامون يُجادِلون بغموضٍ يتعذَّر إنقاصه، ويمنعون حلولًا بديلة بدافع الحاجة العملية؛ أحيانًا الحاجة إلى إحداثِ تأثيرٍ ما في الطبيعة؛ ودائمًا الحاجة إلى وضعِ مفاهيمِنا العلمية وأدواتِنا لاستخدامِ ولوصفِ كيفَ سيبدو أيُّ جزء من العالم الطبيعي إذا كانت تلك الأدواتُ والمفاهيم كافيةً لوصفه.
إن السببَ الخارقَ للطبيعة للضعف هو أن الميزة الأكثر أهميةً للعامل — أي قُدرته على أن ينتشر، وألا يتوافق بالكامل، وعلى أن يحتويَ داخلَ نفسه مصادرَ يتعذَّر كبحُها من التجاوز والسمو — تُحدِث نتائجَ مختلفةً جدًّا عندما تطبَّق على العوالم الإنسانية وغير الإنسانية. في العالم الإنساني، يجعل ذلك من إعادة البناء أمرًا ممكنًا، في جميع الأحوال. أما الدوافِع والمصالِح التي لا يدعمُها النظام الحالي فتُصبِح بذورًا لنظامٍ آخر. وهذا النظام الآخر قد يختلف في النوعية وكذلك في المحتوى عن النظام الذي حل محلَّه؛ فقد تكون له علاقةٌ مختلفة بالحرية البنَّاءة للعملاء الفرديين أو المُجتمِعين الذين يؤمنون به.
أما الموضوع الثاني فهو الاحتمال. عند تطبيقِها على العالم الطبيعي، فإن المقولات الشكلية للضرورة، والإمكانية، والاحتمال ليس لها أيُّ معنًى مستقلٍّ عن أفكارنا حول كيفية عمل الطبيعة. هناك أحد فروع العلوم الطبيعية على وجه الخصوص — هو علم الكون (الكوزمولوجيا) — يتعلق بصورةٍ مباشرةٍ بالمعنى الذي يكون فيه الضروريُّ ضروريًّا؛ والمُمكِن مُمكِنًا؛ والمحتمَل محتمَلًا. إن المفهوم الدقيق للضرورة، أو الإمكانية، أو الاحتمال هو مجرَّد تلميحٍ اختزالي إلى نظريةٍ بعينها أو إلى فصيلةٍ من النظريات.
في أي مجموعةٍ من الأفكار حول الطبيعة، ستُمثل بعضُ الطرق التي تسير بها الأمور على أنها أكثر «ضرورة» من غيرها، بمعنى أن تحديدها يعتمد على عددٍ أقلَّ من الشروط. وعلى أيِّ حال، فحتى الأكثر ضرورةً من الأحداث والعلاقات الضرورية ستُصاب بعدوى أحد عناصر التكلُّف؛ أي وجود طريقٍ بعينه فقط؛ لأنه كذلك. وحتى كوزمولوجيا «الحالة الثابتة» لا يُمكِنها أن تُوضِّح لماذا يتعين على الكون، أيِّ كون، أن يُصمَّم بحيث يمتلك خاصيةَ التولُّد الذاتي أو الإعاشة الذاتية. ولأن الكون أصبح على هيئةٍ بعينها بدلًا من أخرى، فهذا عنصرٌ يتعذَّر تغييره للاحتمال في الكوزمولوجيا، والذي هو أشد مساندةً لضرورة وجود علاقاتٍ ثابتة في الكون. والمعنى الدقيق الذي تكون فيه هذه العلاقات ضروريةً أو غيرَ ضرورية لا يُمكِن استنباطُه من أي مُعجَمٍ مستقلٍّ للمقولات الشكلية؛ فهذا المعنى يعتمد على مادة وتضمينات أفكارنا حول الكون وتاريخه — أو طريقته في ألا يكون له تاريخ، أو أن يكون سرمديًّا، إذا كان الزمن مجرَّد وَهْم.
وعلى أي حال، في تجربتنا الإنسانية للإنسانية، يتخذ الاحتمالُ معنًى خاصًّا. ولهذا المعنى الخاص أهميةٌ محوريةٌ للفلسفة التي من شأنها أن تحرِّر فهمَنا من قيود المذهب الطبيعي. ليس هذا الاحتمالُ مجرد تخمينٍ تافه؛ بل هو ثقلٌ يضغَط علينا بشدَّة. نحن نُكافِح من دون جدوى لإنكارِه أو التقليلِ من قيمته. وهذا الثقلُ هو المجموع التراكُمي لعددٍ من العناصر المتميِّزة.
ثمَّة مكوِّنٌ ثانٍ يتمثَّل في عجزنا — عند دراسة أيِّ جزء من الطبيعة — عن تحديد، بشكل حاسم وقاطع، أي نظرية هي الصحيحة. ليس الأمر أن معرفتَنا محدودةٌ فقط، بل إن جهودَنا لوضع فرضياتٍ وطرقٍ ثابتة ملطَّخة بتناقُضاتٍ غيرِ قابلة للحل.
إن تجربة الاحتمال الناتجة عن اتحاد هذه الحقائق الأربع تهدِّد بسَحْقنا، وهي تُزعِجنا وتُرعِبنا بسبَب تناقُضِها الظاهر مع إحساسنا الذي يتسم بنفس القوة بكَوننا روحًا متجسِّدة ومتجاوِزة للسياق. ومن بين الأدوات التي قمنا بنشرها لمحاربتها بأكثر الصور استدامةً في تاريخ الأفكار، كانت الفلسفة الدائمة. علينا أن نتخلَّى عن هذه المعركة ضدَّ تجربة الاحتمال؛ فلا يُمكِنُنا إجراؤها إلا بتكلفةٍ مدمِّرة لقدراتنا على البناء الذاتي، بالإضافة إلى وضوح بصيرتنا.
يتمثَّل الموضوع الثالث في المستقبلية. وما إن كان الزمن حقيقيًّا في العالم الواسع للطبيعة، والذي تظل معرفتُنا به بعيدةً ومتناقضةً في الوقت نفسه، لهو موضوعٌ سيظل مثيرًا للخلاف على الدوام. وكونُ هذا الزمن حقيقيًّا في الوجود الإنساني ليس، على أي حال، فرضيةً تخمينية؛ فهو ضغطٌ نُواجِهه بقوةٍ متزايدة، ما بقينا واعين وغير مخدوعين، في رحلتنا من الولادة إلى الموت. إن الخاصية المؤقتة لوجودنا هي نتيجة لتجسُّدنا، والعلامة المميزة لمحدوديتنا، والشرط الذي يمنَح السمُو أفضليَّته.
إن السعيَ لما وراء البنية الراسخة الذي يمثِّل، لذلك السبب بالذات، البدايةَ المحتملَة لبنيةٍ أخرى، حتى لبنية تنظِّم إعادة صنع ذاتها، هو أن تعيش من أجل المستقبل. تمثِّل الحياة من أجل المستقبل طريقةً للعيش في الحاضر باعتبار أنه لا يتحدَّد برُمَّته بالظروف الحالية لوجوده. نحن لا نستسلم بالكامل أبدًا؛ فنحن نُنجِز عملَنا المتمثِّل في الخضوع السلبي، وفي القنوط الأبكَم، كأننا نعلَم أنَّ النظامَ الراسخَ لم يكن ليدوم للأبد، وأنه لا يمتلكُ حقًّا نهائيًّا في ولائنا. إن التوجُّه نحو المستقبل — أو المستقبلية — يُمثِّل شرطًا محددًا للشخصية.
يجب أن يتوقَّف المستقبل عن أن يكون ورطةً ويجب أن يتحوَّل إلى برنامج؛ علينا أن نُردكلَه لتمكينِ أنفسِنا. وذاك هو سبب الاهتمام بطرقِ تنظيم الفكر والمجتمع التي تقلِّل من تأثير ما حدث قبل ذلك على ما قد يحدُث في المستقبل. مثل هذه الابتكاراتِ الفكريةِ والمؤسَّساتيةِ تجعل التغيير في الفكر أقلَّ اعتمادًا على ضغط الشذوذات غير المتقنة، والتغيير في المجتمع أقل اعتمادًا على ضربات الأذى غير المتوقَّع. في أيِّ موقفٍ تاريخيٍّ بعَينه، يكون للجهدِ المبذولِ للعَيش من أجلِ المستقبلِ عواقبُ من حيث كيفية تنظيمنا لأفكارِنا وكيفية ترتيبِنا لمجتمعاتنا. هناك بِنيةٌ للمُراجَعة المُنظمة للبِنى. أما مكوِّناتها، على أي حال، فليست سرمدية — فنحن نقوم بلَصقِها معًا بالمواد المنقوعة في الزمن والموجودة في المتناوَل.
إن الموضوع الرابع هو التجريبية، وهو أقلُّ قُربًا لأن يكون فكرةً منفصلة من توليفة الموضوعات الثلاثة الأخرى. أما ما يُضيفُه إليها فهو مفهوم حول الجديد وصنعه. لنتدبَّر المشكلة ضمنَ سياق الإنتاج وعلاقته بالعلم. يتمثَّل فهمُ طريقةٍ ما لسير الأمور في إدراك تحوُّلاتها المحتمَلة؛ ما الذي يُمكِنها أن تتحوَّل إليه تحت الظروف المختلفة أو كنتيجةٍ للأحداث المختلفة. وهذه التحوُّلات المتعلِّقة بالموقف الراسخ — وهي الظلُّ الخافتُ الدالُّ على الخطوات القادمة — هي ما نَعنيه، أو يجب أن نَقصده، بالمُحتمَل. وبوسعنا تحويلُ بعضِ هذه الاختلافات المتخيَّلة إلى أشياء. وبعد ذلك، لا يُصبِح العلم قاعدةَ الإنتاج بل الإنتاج نفسه.
هناك طريقةٌ لتسريع إنتاج الجديد، تتمثَّل في تحويل الطريقة التي يعمل بها الناس معًا إلى تجسيدٍ اجتماعيٍّ للتخيُّل؛ حيث تُحاكي تعاملاتُهم بعضهم مع بعض حركاتِ الفكر التجريبي. ولتحقيق هذه الغاية، يتمثَّل المتطلب الأول في أن نوفِّر الطاقة والوقت اللازمَين لأي شيء لا نستطيع تَكرارَه حتى الآن. أما ما يُمكِنُنا تَكرارُه فسنُعبِّر عنه في صورة معادَلة وبعد ذلك نجسِّده في صورة ماكينة. وهكذا، فنحن نحوِّل تركيز الطاقة والانتباه بعيدًا عما يُمكِن تَكرارُه، وباتجاه ما لا يمكن تَكرارُه حتى الآن.
أما السياسة، وخصوصًا السياسة الديمقراطية، فتحمل التجريبية إلى مستوًى آخر. وهي تفعل أكثر من تنظيم ميدانٍ متميزٍ من الحياة الاجتماعية، بجانب ميدانِ الإنتاج. وهي تضَع الشروطَ التي يُمكِنُنا من خلالها أن نغيِّر كل الميادين الأخرى. والمعيار الجوهري الذي يُمكِن من خلاله قياسُ نجاحنا في الاقتراب من أمثولةٍ تجريبيةٍ في السياسة هو النجاح في جعل التغيير أقلَّ اعتمادًا على الأزمة. إن الكارثة — والتي كثيرًا ما تظهَر في صورة انهيارٍ اقتصادي أو صراعٍ مسلَّح — يُمكِن أن تدمِّر أيَّ نظام. وحتى في المجتمعات المدقرطة جزئيًّا في العالَم المُعاصِر، فإن من يُصلحِون النظامَ الاجتماعيَّ الراسخ سيحتاجون في العادة إلى الاعتماد على الأزمات كحليفٍ لهم. إن جعل السياسة أمرًا تجريبيًّا يعني أن تستغنيَ عن الحاجة إلى هذا الحليف، وذلك لتنظيم الصراع على سيادة واستخدامات القوة الحكومية — وفي الحقيقة على كل الشروط الراسخة التي يُمكِنُنا بواسطتها أن يطالبَ أحدُنا الآخر — أي إن الترتيبات والممارَسات الحالية تُضاعِف الفرص لمراجعتها الخاصة؛ ومن ثَم يُصبِح التغيير داخليًّا.
إن مصلحتَنا في جعل التغيير داخليَّ المنشأ تمتلك العديد من الجوانب، عن طريق تأثيرها المباشر، فهي تخدمُ مصلحتَنا في أن نكون سادةَ السياق العرَضي الجزئي الذي نعمل ضمن حدوده؛ أي ألا نجعلَ هذا السياقَ مفروضًا علينا كحقيقةٍ طبيعية أو قَدَر لا يُمكِن مقاومته. أما من خلال تأثيراته غير المباشرة، فهو يعزِّز طائفتَين أخريَين من المصالح. الأولى مصلحتُنا في تدمير الانقسامات والتسلسُلات الهرَمية الاجتماعية المتجذِّرة، التي تستند دائمًا إلى مؤسَّساتٍ ومعتقداتٍ معزولةٍ نسبيًّا عن الهجوم المستمر؛ أما الثانية فمصلحتُنا في تعجيل التقدُّم العملي عن طريقِ تحسينِ قُدرتِنا على إعادةِ توحيدِ الناس، والآلات، والأفكار.
وبالتالي، فإن التجريبية في السياسة أعمقُ في مداها وأكثر عموميةً في نطاقها من التجريبية في الإنتاج. وعلى أي حال، فهذه التجريبية السياسية تمثِّل في حد ذاتها نوعًا من الأفكار الأكثر عموميةً والممارسات الأكثر طموحًا؛ أي فكرة عدم الانحباس مطلقًا في السياق الحالي، وممارسة استخدام المُتاح من الاختلافاتِ الأصغرِ لخلقِ الاختلافات الأكبر التي لم تظهَر حتى الآن. تمثِّل التجريبية بادئًا للوجودية؛ فهي تتعلق بتغيير سياق الترتيب الراسخ والإيمان المفترض، قليلًا قليلًا وخطوةً فخطوة، في أثناء قيامنا بتأدية أعمالنا.
وعند النظر إليها في هذا الضوء، تمثِّل التجريبية الحلَّ لمشكلةٍ ميتافيزيقية بعينها. والمشكلة هي أننا يجب أن نُنظِّم التجربة والمجتمع بحيث لا يفعلان أي شيء مطلقًا سوى ألا يقوم أي تنظيمٍ منفردٍ للتجربة والمجتمع بإنصاف قدراتنا المتمثلة في نفاذ البصيرة، والابتكار، والاتصال. ينقسم حلُّ هذه المشكلة إلى جزأَين؛ يتمثل الجزء الأول في تطوير طريقة للتنقُّل ضمن السياق الراسخ، والتي تسمح لنا بأن نتوقَّع ضمنَ السياق تلك الفرصَ التي لم تحقِّقها حتى الآن وحتى قد لا تسمح بها؛ أما الجزء الثاني فيتمثل في ترتيب المجتمع والفكر بحيث إن الفَرق بين إعادة إنتاج الحاضر والتجريب بالمستقبل يتضاءل ويَذْوي.
تتمثل النتيجة في تجسيد الدافع التجريبي في شكلٍ من الحياة والفكر الذي يمكِّننا من التسوية بصورة أكثر اكتمالًا بين الارتباط والتفوُّق، وحينئذٍ سنصبح أكثر إنسانيةً وأكثر ربانيةً في الوقت نفسه.
قراءتان مغلوطتان للبراجماتية
لقد تحيَّزَت الرؤية للعامل الإنساني، غيرَ مستسلمةٍ للظروف المهينة؛ بينما أصرَّ التحيُّز على المحاولة المُضللة للعثور على قاعدةٍ للفكر والحكم تعلو على منظور الإنسانية. وكانت النتيجة هي منع البراجماتية من الالتزام برؤيتها، ومن تجسيدِ بديلٍ أكثر صلابةً وقوةً للفلسفة الدائمة.
علينا أن نُنقِذ الرؤية من التنازلات المتعلقة بالمذهب الطبيعي التي عملَت على تقويضِها في تاريخ البراجماتية الأمريكية. أما إذا كنا سنختار استخدام واسمة البراجماتية على مُنتج هذا الخلاص فسيبقى سؤالًا مفتوحًا، وأنا أقترح أن نُجيب عنه بصورةٍ إيجابية بِناءً على مجموعة من الأُسس البراجماتية.
تمثِّل هذه الفكرة لبسًا بين فكرةٍ سلبيةٍ جيدة — والقائلة بعدم وجود نقاطٍ ثابتةٍ في تاريخ المعرفة والتجربة — وبين فكرةٍ سلبيةٍ سيئة — تقول بأننا لا نستطيع أن نرى، أو نفكِّر، أو نخلُق أكثر مما تسمَح به البِنية الراسخة للمجتمع. تمثِّل الفكرةُ السلبيةُ السيئة إنكارًا مباشرًا لموضوع المستقبلية أو التجاوز. وهي تمثِّل أيضًا الادِّعاءَ الرئيسيَّ الذي يطرحُه رابعُ الخياراتِ الأربعةِ المرفوضة التي استكشفناها في جزءٍ سابقٍ من هذا الكتاب.
وهكذا، فإن مبادرات الطراز الأول الأكثر أهمية تأتي حُبلى بالمنظورات المستقبلية البديلة؛ فهي عبارةٌ عن نبوءاتٍ بالإضافة إلى كونها إصلاحات، ووكلاؤها وأنصارها ليس لهم اختيارٌ سوى شنِّ الحرب على أيٍّ مما يكذِّب نبوءاتها في حالتها. ترقى مثل هذه الممارسة إلى كونها تفنيدًا حيًّا لفكرة كوننا سجناء — سواء محظوظين أو منحوسين كما تقتضيه الحال — في العالم الاجتماعي والثقافي الذي نجد أنفسنا فيه.
أما الأفكار التي تنوِّر مثل هذه الإبداعات فتجمع حتمًا في أنفسها عناصرَ المقترحات من الطراز الأول ومن الطراز الأعلى، فإذا كانت، على سبيل المثال، نظرياتٍ جديدةً في العلم، فقد تشير ضمنًا إلى تغيُّرات في ممارسة ذلك العلم ومفهومه الذاتي، وكذلك في افتراضاته حول الضرورة، والإمكانية، والاحتمال. وإذا كانت إصلاحاتٍ اجتماعية، فقد تترك أثَرًا في فهمِ الناسِ مصالحَهُم بالإضافة إلى تأثيرها في تنظيمِ المجتمع المؤسَّساتي. وفي كلٍّ من الحالتَين، ستأتي مبادرةُ الطراز الأول مُزيَّنةً بإصلاحٍ من طرازٍ أعلى من الأفكار أو الترتيبات.
ولذلك فإن ما يتعيَّن علينا أن نُنكِرَه ليس الطموح التنبُّئي لخطابٍ من رتبةٍ أعلى، والذي يُظهِر قوَّتَه من خلال قوة المقترحات التي ينوِّرها. ما يتعيَّن علينا أن نرفُضَه هو الخَوَاء المهووس للخطابات التلوية، والذي يكشف عُقمَه من خلال فشَله في تقديم أيٍّ من هذه المقترحات.
أما القراءة الانكماشية للبراجماتية فهي، وبفعل تناقضٍ ظاهر، مجرَّد مراوغةٍ عقيمة؛ فهي ترفُض الطموح باسْمِ التواضُع، وهي ترفُض المتناوَل من أجل التأثير. وعلى أي حال، فأبطالها متميِّزون عن صناديدها الفلسفيين بفعل صَمتِهم المُبرمَج. وبعد أن تُفهَم بواسطة خطابٍ سامٍ تتمثل رسالتُه الوحيدة في عدم جدوى كل الخطابات التلوية وفي القيمة الحَصْرية للمقترحات من الطراز الأول، فهي تترك الميدان بالتالي، بحرمانها من أيٍّ من هذه المقترحات، للقوى المُهيمِنة في المجتمع وفي الفكر. ونتيجةً لفشلها في إدراك انفتاح الحد الفاصل بين المشروعات من النمط الأول ومن المراتب الأعلى، فهي تبقى ناقصةً في الأنواع ذاتها من الأفكار التي تخلَع عليها القيمةَ الأسمى.
وفي مثل وجهة النظر هذه، كانت الفرضيةُ الرئيسية للبراجماتية شيئًا متعلقًا بالخط المستدام الأخير للدفاع خلال التراجُع الطويل للفكر الغربي من الثقة المتعجرفة في قُدرتنا على رؤية العالم بعينَي الله. وفي الحقيقة، هناك الكثير في كتابات البراجماتيين الأمريكيين الكلاسيكيين مما يتلاءم مع مثل هذا التفسير. وعلى أي حال، فذلك هو بالتحديد الجزءُ الأكثر تعرُّضًا للفساد بفعلِ أوهامِ المذهب الطبيعي.
ومن المهمِّ، على أيِّ حال، الاتِّجاه الذي نتخذُه في أثناء تبديدها؛ ما الذي نفعله بحياتنا ومجتمعاتنا من يومٍ لآخر. وهذه الثنائيات هي في الحقيقة هلاوس؛ فهي تنشأ عن محاولات الخروج من نطاق الفِعل ومن ثَم النظر إلى أنفسنا من الخارج، بصورةٍ تأمُّلية، بدلًا من النظر من الداخل، بشكلٍ نَشِط. وقد ساهَم كلُّ ما هو ثمينٌ تقريبًا في فلسفة السنوات المائتَين الأخيرة، سواء بصورةٍ مباشرة أو غيرِ مباشرة، في الحملة ضدَّها.
قام الفلاسفة البراجماتيون الكلاسيكيون، مثل هيغل، وبيرغسون، أو أي عددٍ من أقرانهم الآخرين، بالضغط بشكلٍ خاطئ من أجل تحويل تبديد الثنائيات إلى طريقةٍ لفهم وممارسة الفلسفة بوصفِها ضربًا من العلم الفائق المتعلق بالمذهب الطبيعي. وبدَورِها، تعمل القراءة الحنينية-البطولية للبراجماتية على تحويل حملتِها ضدَّ النِّسبوية والتاريخانية المتعلقَين بالقراءة الانكماشية إلى إحياءٍ لذكرى ذلك الخطأ.
وبسبب هذا الخطأ، نحن نُجازِف بالتعرُّض لخسارةٍ مضاعفة؛ فإحدى الخسارتَين هي فقدان الوضوح فيما يتعلق بحالتنا. لا يعني اشتمالُنا ضمنَ الطبيعة بالضرورة أنه بوُسعنا أن نرسمَ خريطةً لهذا الاشتمال، وأن نصِفَ حالتَنا من الخارج كأننا لسنا مَن نحنُ عليه في الحقيقة. يمكننا أن نوسِّع، من خلال التنظير وصنع الآلات، مجالَ عملِ جهازٍ للفَهم والتفكُّر، والذي يُبنى على مقياس كائنٍ حيٍّ قصير الديمومة وموجودٍ في وضعٍ معيَّن. وعلى أي حال، لا يُمكِننا أن نفعلَ ذلك إلا بواسطة الخطوات المحدَّدة الموضع لكنها تراكُمية.
أما ما يستتبع هذه الخسارة للوضوح حول حالتنا فهو فقدان التوجُّه في أفعالنا. نحن لا نستطيع رؤية العالم بعينَي الله، وبرغم ذلك فبإمكاننا أن نغيِّر حالتنا — ليس فقط عناصر ظروفنا، بل والعلاقة التي بيننا وبينها. إن إنتاجَ ضربٍ من التفكير يُمكِنه أن يدعم ويوجِّه الفعل التحوُّلي مع الاستغناء في الوقت نفسه عن أوهام العلم الفائق المتعلِّقة بالمذهب الطبيعي يمثِّل أحدَ طموحاتِ البراجماتيةِ المردكلة. وهو أيضًا النتيجة المطلوبة للثنائيات التي ثارت الفلسفة ضدَّها.
تبصُّراتٌ براجماتية وأخطاءٌ أمريكية
إن البراجماتية، على أي حال، ليست مجرَّد مذهبٍ مشروح في الكتب. إنها الفلسَفة الأكثر تمييزًا للبلد الذي أصبح القوَّة المُهيمِنة في العالم؛ وبالتالي لا يكفي قبولها بناءً على كلماتها باعتبارها سلسلةً من المقترحات التصوُّرية، والتي تم تحويلها بفعل تحيُّزات المذهب الطبيعي بعيدًا عن الدوافع الإصلاحية التي تبعث فيها الحياة. ومن المُفيد أيضًا أن نفهَمها في ضَوء خلفيةٍ من التجربة الوطنية والمشروع الوطني الذي منحته صوتًا فلسفيًّا.
وعند النظر إليها في هذا الضوء — كما كانت الحال في العالم الأوسع خارج نطاق فلسفة أساتذة الجامعة — زوَّدَت البراجماتية مجموعةً من النظريات المتعلقة بالمعنى، والحقيقة، والتجربة أقل من كَونها طرحَت مجموعةً من المواقف لحل المشكلات البراجماتية للحياة والمجتمع. وفي هذا السياق، لم تكُن الصعوبة مع البراجماتية هي إغواء الخلط بين التعاطُف مع العلم وبين الاستسلام للمذهب الطبيعي، بل إنها تمثَّلَت في إغواء السماح بتقويضِ محتوى طريقتها بفعل عيوب الثقافة الوطنية التي تحدَّثَت عنها البراجماتية. لم يكن الخطأ هو المذهب الطبيعي؛ بل كان وجهة النظر التي أطلقتُ عليها في فِقرةٍ سابقة اسمَ الكمالية الديمقراطية — بالإضافة إلى الظاهراتية والمذهب الطبيعي، وهي إحدى الطرق الرئيسية التي تشتَّت من خلالها انتباهُ الفكر الحديث، وانحرفَت جهودُه لطرحِ بديلٍ متكامل للفلسفة الدائمة.
يجب أن تضَع كلُّ ثقافةٍ الحدودَ الفاصلة بين الملامحِ القابلة للتعديل للحياةِ الاجتماعية والطبيعةِ الباقية للوجودِ الإنساني. وعندما نقلِّل من حجمِ مدَى تمثيل النظام الكامل للمجتمع والثقافة لسياسةٍ متجمِّدة — أي الاحتواء وإيقاف القتال — سنُصبِح عبيدًا لمخلوقاتِنا الخاصة غير المعروفة، والتي نسجُد لها كأنها طبيعية، بل وحتى مقدَّسة. ولاستبدالِ المفردات السياسية بأخرى لاهوتية، نحن نرتكبُ إذن خطيئةَ عبادة الأوثان، بتقييد الروح اللامحدودة ضمنَ مجالِ رؤيةِ تراكيبِها المحدودة.
ومن الناحية الأخرى، إذا أنكَرنا جهلَنا ومحدوديتَنا، وتخيَّلنا أننا قادرون على الهروب منهما بواسطةِ أفعالِ المساعدةِ الذاتية أو التعاويذِ الذاتية، فنحن لا نُخاطِر بفقد وضوحنا فقط، بل بأنفسنا أيضًا. نحن نستبدل القوة الإصلاحية الحقيقية بادِّعاءٍ يبدأ بسجنِنا. إن الفلسفة الدائمة — وبدرجةٍ أقلَّ كلٌّ من الظاهراتية، والمذهب الطبيعي، والكمالية الديمقراطية باعتبارها هروبًا ناقصًا منها — هي في حد ذاتها تُمثِّل ضروبًا من التفوُّق الخاطئ والتحرُّر الوهمي.
ثمَّة عنصرٌ رئيسيٌّ في الثقافة الأمريكية يكبَح الطبيعة المتقلِّبة للحياة الاجتماعية، وفي الوقت نفسه يُضخِّم مدى قدرة الفرد على الهروب من نتائجِ فَنائيتِه، وهَشاشتِه، وجهلِه المُطبِق بالسياق النهائي للحياة الإنسانية.
وعلى أي حال، من بين أجزاء مشروع التمكين والحرية الإنسانية نجد تقليلَ اعتمادِ التغيير على حدوثِ كارثة. وكلما زاد هذا الاعتماد، تضاءلَت فرصتُنا لدمج التعاطي مع عالمٍ معيَّن بالمسافة الحرجة من فرضياته؛ وزادت فرصةُ تلك المؤسَّسات والعادات لجعل فُرصنا للتعاون العملي والارتباط الانفعالي رهينةً لمخطَّط للتقسيم والهَرَمية الاجتماعية. وفي كلٍّ من هاتَين الطريقتَين، سيجعلُنا الهوَس المؤسَّساتي أقلَّ تحرُّرًا، وأقلَّ ربانية، وأقلَّ إنسانية. لن نكون قادرين على التعاطي إلا عن الطريق السماح لأنفسنا بأن نُهمَّش؛ ولن ننجح في الارتباط بالآخرين إلا من خلال أن نُصبِح سادةً أو تابعين، كما لن ننجح في تأكيد حريتنا إلا عن طريق خيانة مرتكَزاتنا.
إن الفشل في الإقرار بشكلٍ كافٍ بالطبيعة المتقلِّبة للحياة الاجتماعية يتعايش، في هذه الرؤية، مع سوءِ فَهمٍ لقدرتنا على التعامل مع الموت والضعف؛ فالفرد يتخيَّل أنه يستطيعُ رفعَ نفسه إلى الأعلى، بمفرده، من خلال أفعالٍ متكرِّرة من الاعتماد على الذات وبناء الذات. وهو يقوم بتجميع الأشياء بحيث يعتمد بصورةٍ أقلَّ على الناس؛ كما يلعب ويتلاعب بالممارَسات التي يتمنى أن تُقوِّيَه ضد القدَر وتُهدِّئ من شعوره بالرعب، ولكونه متلهِّفًا لإحراز قَدْرٍ متواضعٍ من النجاح والاستقلالية، فهو يحلُم بنفسه في عالمه الصغير — عمله، وممتلكاته، وأسرته — وكأنه ملِكٌ لفترةٍ قصيرة، متوَّج ذاتيًّا ومصطفًى ذاتيًّا. وبكل هذه الطرقِ جميعِها، يحتال لرفعِ نفسِه فوقَ كلٍّ من مخاطر الحياة والخوف من الموت. وهنا يصبح العالَم التاريخي للمؤسَّسات والممارَسات بمنزلة خلفية لدَورات الوجود المنفرد، وهي وجهةُ نظرٍ تقلِّل بصورةٍ جذريةٍ وخطيرة من تقديرِ مدى كونِ جهودِنا في بناءِ الذاتِ واقعةً تحت رحمة الحظ الأعمى، والنظام الاجتماعي، وما يمكِن للآخرين أن يمنحونا أو يحرمونا، عن طريق النِّعَم غير الملموسة وكذلك المساعدة الملموسة.
صحيح أنه، في التجربة الأمريكية، تُوجَد فكرةُ صناعة الذات هذه بجانبِ ثروةٍ عظيمة من أشكال الارتباط، والعمل التعاوني الطوعي، والتي تمتَد، عَبْر سلسلة من الدوائر المركزية، حول مجال رؤية الفرد ومخاوفه. وعلى أي حال، فإن المشاركة الطوعية تُشبِه فوَرانَ الطاقة وشهامة الأفراد الذين يقفون بصلابةٍ على أساسِ وجودهم الخاص. وهي ضربٌ من الوعي الذي يجيء ويذهب؛ ومن ثَم يُصبِح أقوى أو أضعف.
وعلى الرغمِ من اقترانِها فيما مضى بالمذهَب الطبيعي كمذهبٍ فلسفي، تزوَّجَت البراجماتية ثانيةً بهذه الكمالية الديمقراطية باعتبارها التعبيرَ الفلسفيَّ عن مجموعةٍ من المواقف الوطنية. كان سعر الزواج الأول هو إضعاف قوة الموضوعات المستبطنة للقوة، والتفوُّق، والمستقبلية، والتجريبية عن طريق توليفها مع أفكارٍ مناهضة لها؛ أما سعر الزواج الثاني فتَمثَّل في إفساد التعبير عن، وردكلة، تلك الموضوعاتِ نفسِها على يدَي ما هو في الحقيقة هَرطقةٌ غربية. وهي هَرطقة بمعنى أنها تُحول وتُفسد، من خلال خطئها في تحديد الحدود الفاصلة بين الملامح المتقلِّبة والثابتة لوجودنا، وهي طريقةٌ للتفكير في الإنسانية والتاريخ الذي ظل يفاجئ العالم طوال القرنَين الماضيَين.
وهذه الهرطَقة مسلَّحة الآن بالولايات المتحدة، وترتبط بها بقوَّة. ومن مصلحة الإنسانية مقاومتُها وأن تَحرِم داعميها من امتيازات قسطنطين.
وإذا أُريد للبراجماتية أن تدفع قُدمًا موضوعاتها الحيوية المتعلِّقة بالقوة، والاحتمال، والمستقبلية، والتجريبية، فعليها أن تُطهِّر نفسها من شَراكتها مع هذه الكمالية الديمقراطية الطائفية، بالإضافة إلى ارتباطها بالمذهب الطبيعي. قد لا تشبه النتيجة الفلسفة البراجماتية التي قدَّمها لنا التاريخ، ومع ذلك فهي تستحقُّ اسمَ البراجماتية إذا حقَّ لأي شيء أن يسمَّى كذلك لأنها، ومنذ البداية، تتحدَّث عن الأمور الأكثر أهمية، والأكثر وعدًا، في ذلك التقليد من الفِكر.